المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌موقف العثمانيين من رجال التصوف - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ١

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌الإهداء

- ‌شكر واعتراف

- ‌مقدمة الطبعة الثالثة

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌حول المصادر

- ‌تنبيهات

- ‌الفصل الأولتراث القرن التاسع (15) م

- ‌المؤثرات في الحياة الثقافية

- ‌بين العلماء والأمراء

- ‌التاريخ والسير

- ‌الأدب واللغة

- ‌التصوف وعلم الكلام

- ‌ أحمد النقاوسي:

- ‌ عبد الرحمن الثعالبي وأحمد الجزائري:

- ‌ ابن زكري:

- ‌ محمد السنوسي:

- ‌ الحوضي:

- ‌ التازي:

- ‌ محمد الفراوسني والمرائي الصوفية:

- ‌ عيسى البسكري:

- ‌ بركات القسنطيني:

- ‌ أبو عصيدة البجائي:

- ‌العلوم والمنطق

- ‌القراءات والتفسير والفقه

- ‌ أحمد الونشريسي

- ‌كتاب الافتتاح للقسنطيني

- ‌الفصل الثانيالتيارات والمؤثرات

- ‌العلاقات بين الجزائريين والعثمانيين

- ‌فئات المجتمع

- ‌دور المدن

- ‌الحياة الدينية والأدبية والفنية

- ‌الجهاد أو الإحساس المشترك

- ‌الثورات ضد العثمانيين

- ‌الفصل الثالثالمؤسسات الثقافية

- ‌ الأوقاف

- ‌ المساجد

- ‌الزوايا والرباطات

- ‌المدارس والمعاهد العليا

- ‌المكتبات

- ‌الفصل الرابعالتعليم ورجاله

- ‌سياسة التعليم

- ‌وسائل التعليم

- ‌ المعلمون:

- ‌ أجور المعلمين:

- ‌ التلاميذ:

- ‌ تعليم المرأة:

- ‌ الكتب:

- ‌المناهج

- ‌ في التعليم الابتدائي:

- ‌ في التعليم الثانوي:

- ‌ المواد المدروسة:

- ‌ حوافز التعليم وأهدافه:

- ‌بعض كبار المدرسين

- ‌سعيد قدورة

- ‌ علي الأنصاري السجلماسي:

- ‌ سعيد المقري:

- ‌ عمر الوزان

- ‌الفصل الخامسفئة العلماء

- ‌مكانة العلماء ووظائفهم وميزاتهم

- ‌تنافس العلماء وأخلاقهم

- ‌علاقة العلماء بالحكام

- ‌هجرة العلماء

- ‌العلماء المسلمون في الجزائر

- ‌من قضايا العصر

- ‌الفصل السادسالمرابطون والطرق الصوفية

- ‌حركة التصوف عشية العهد العثماني

- ‌موقف العثمانيين من رجال التصوف

- ‌حالة التصوف

- ‌سلوك بعض المتصوفين

- ‌بعض المرابطين وأهم الطرق الصوفية

- ‌ أحمد بن يوسف الملياني

- ‌ محمد بن علي الخروبي

- ‌ عبد الرحمن الأخضري

- ‌ محمد بن علي أبهلول:

- ‌ محمد بن بوزيان والطريقة الزيانية:

- ‌ محمد بن عبد الرحمن الأزهري والطريقة الرحمانية:

- ‌ أحمد التجاني والطريقة التجانية:

- ‌ الحاج مصطفى الغريسي والطريقة القادرية:

- ‌ الطريقة الطيبية في الجزائر:

- ‌ الطريقة الدرقاوية والطريقة الحنصالية:

- ‌عبد الكريم الفكون ونقد المتصوفين

- ‌المحتوى

الفصل: ‌موقف العثمانيين من رجال التصوف

‌موقف العثمانيين من رجال التصوف

رحب معظم المرابطين بالعثمانيين للأسباب التي ذكرناها، كما أن هؤلاء قد شعروا بأن أقرب الناس إليهم هم رجال الدين والتصوف (1). ومنذ بداية العهد لاحظنا أن العثمانيين كانوا يطمئنون إلى المرابطين أكثر من غيرهم فليجأون إليهم ويتبركون بهم ويطلعونهم على خططهم ونحو ذلك مما يدل على الثقة المتبادلة بين الطرفين. فهذا بيري رايس العثماني يذكر أنه هو وعمه قائد الغزوة، كمال رايس نزلا سنة 901 هـ بمدينة بجاية ولجآ إلى زاوية الشيخ محمد التواتي الذي كان يبلغ من العمر مائة وعشرين سنة وأن الشيخ قد أعطى كلا منهما رمزا يشير إلى مستقبله فأعطى كمال رايس عودا صلبا علامة على قرب تخليه عن مهمته وأعطى بيري رايس عودا طريا علامة على نضارة مستقبله. وظلا شتائين في بجاية حبا في الشيخ التواتي بينما كانا يذهبان في الصيف للغزو والجهاد، وأنهما كانا يحسان بالأمن في بجاية لحماية الشيخ لها.

وهناك روايات كثيرة عن علاقة أحمد بن يوسف الملياني بالعثمانيين والزيانيين. فقد كان هؤلاء يخشون دعوة الملياني بعد أن اشتهر أمره والتف الناس حوله كقطب من أقطاب الطريقة الشاذلية فحاولوا الحد من نشاطه ووضعه تحت نفوذهم، فدعا عليهم دعاء يذكرنا بدعاء محمد الهواري على أهل وهران، وقد حاول الزيانيون حرق الملياني، ولكن النار لم تلتهمه كما يذكر ذلك مترجموه الذين يعتبرون برودة النار من كراماته، ثم سجنوه وبعد مكوثه في السجن فترة خرج منه ودعا عليهم من جديد بتخريب ملكهم. وفي

(1) يذهب بعض المرابطين الجزائريين إلى أن أصولهم أندلسية. ولا سيما مرابطو بلاد زواوة مثل عائلة ابن علي الشريف واليماني الصهاريدي، أو أنهم قدموا من الساقية الحمراء مثل بعض عائلات دلس وشرشال وبني مناصر وجرجرة وأولاد بلقاضي بكوكو. انظر (المجلة الآسيوية)، 1859، 265.

ص: 464

هذه الأثناء التي اشتد فيها الخلاف بين الزيانيين والملياني كان العثمانيون يخططون للاستيلاء على تلمسان ويبحثون لهم عن حليف ونصير، وهل هناك أفضل من الملياني وحزبه؟ وتذكر الروايات أيضا أن عروج قد زار الملياني واتفق معه سرا على عدة أمور منها إعلان الملياني وأتباعه تأييدهم للعثمانيين بينما تعهد عروج بعدم التعرض للملياني ولنسله ولمن تعلق به. وسواء كان هذا اللقاء شخصيا، كما تذهب إحدى الروايات، أو بواسطة، كما تذهب رواية أخرى، فإن تحالف العثمانيين مع حزب الملياني في تلك الظروف يعتبر أمرا مؤكدا تقريبا.

وقد أثمر هذا التحالف والتزم به الطرفان طيلة العهد العثماني. فقد ظل الملياني وأتباعه مؤيدين للعثمانيين كما حافظ هؤلاء على التزامهم له ولطريقته وأولاده وأتباعه. وتذكر المصادر أن خير الدين باشا قد أرسل من الجزائر، بعد نجاح الخطط العثمانية، هدايا ثمينة إلى أحمد بن يوسف فبارك الشيخ عمله، ثم جاء ابنه (ابن أحمد الملياني) وهو الشيخ ابن مرزوقة إلى الجزائر فأهداه خير الدين أيضا هدايا تليق بمقامه واعترف به خليفة لوالده في رئاسة الطريقة الشاذلية ونشر دعوتها. وظلت هذه العلاقة بين العثمانيين والطريقة اليوسفية على أحسن ما يرام إلى آخر العهد المدروس. فقد قيل إن حسين باشا (آخر الباشوات) كان متزوجا من إحدى حفيدات الملياني (1). ومن أصدقاء الملياني الذين كانوا أيضا على علاقة طيبة بالعثمانيين الشيخ محمد بن عبد الجبار المسعودي الفجيجي التلمساني. فقد كان شاعرا صوفيا وصاحب كرامات، على ما يذكر مترجموه، وكانت له زاوية خاصة أنشأها في بلاده (حدوش) كما أنشأ مسجدا وبيتا للفقراء، واشتهر أمره حتى صار قطبا صوفيا (2). وكان من أتباع الملياني وتلاميذه أيضا محمد بن شعاعة. وكان مثله متعاونا مع الأتراك، وكانوا هم بدورهم يعظمونه ويعفونه من الضرائب

(1) انظر بودان (المجلة الإفريقية)1925.

(2)

زار محمد الفجيجي صديقه الملياني أثناء محنته مع بني زيان. وقد توفي الفجيجي سنة 950. انظر (البستان)، 287.

ص: 465

ويعطونه من جزية أهل الذمة، كما أوقفوا عليه الأوقاف. وكان مثل شيخه متهما بالإلحاد من بعض فقهاء عصره (1).

ويبدو أن العثمانيين قد اتبعوا مع الشيخ محمد بن المغوفل نفس الطريقة التي اتبعوها مع الشيخ الملياني، وكان ابن المغوفل من مشاهير صلحاء الشلف في أوائل القرن العاشر حتى أعطيت له مشيخة الشلف. وأثناء إقامته للتعبد والزهد في بومليل ثم ندايلة جاءه من حدثه عن خطط العثمانيين في الاستيلاء على تلمسان وطلبوا منه التوجه معهم إلى هناك فرفض ولكنه أرسل معهم ولديه علامة على الرضى والتأييد. ويحتاج سياق هذه القصة إلى شيء من التفعيل، فمترجمو ابن المغوفل يذكرونها للدلالة على كرامة الشيخ لأن (سلاطين العجم ..) في ظاهرهم مجاهدين وفي سرهم لبلاد الإسلام (يعني تلمسان) قاصدين (2)) فاستشاروه في ذلك فكاشفهم في الحين بالحقيقة، فاعترفوا له وطلبوا منه المشي معهم فأبى. ولا يذكر هذا المصدر أن إباء الشيخ كان معارضة منهم للهجوم على تلمسان (بلاد الإسلام). وبذلك يكون ذهاب ولديه مع العثمانيين كرهائن وليس كمباركين لحركتهم، أو أن إباءه كان اعتذارا منه عن المشاركة الشخصية مع تأييده للهجوم، مكتفيا بإرسال ابنيه رمزا فقط. ومهما كان الأمر فإن القصة في حد ذاتها تدل على مكانة المرابطين في بداية العهد العثماني وعلى موقف العثمانيين من كبارهم. وقد سقنا من قبل قصة ضرب العثمانيين في قسنطينة عائلة ابن عبد المؤمن بعائلة الفكون (3).

وشاع في الجزائر التحالف بين العثمانيين والمرابطين حتى عرف الناس أن هناك سياسة عامة متبعة، فكثرت الأضرحة والقباب ودخلت الطرق

(1) عن محمد بن شعاعة انظر بودان (نشرة جمعية وهران)، 1930، 77.

(2)

من تعليق على نسخة من أرجوزة ابن المغوفل التي سنعرض إليها في الجزء الثاني، مخطوطة بالمكتبة الوطنية بالجزائر.

(3)

تذهب الرواية إلى أن عبد المؤمن قد خدعه العثمانيون بإقامة ضيفة له في قسنطينة ثم سموه وسلخوا جلده وملأوه بالتبن وأرسلوا به إلى باشا الجزائر.

ص: 466

الصوفية من المشرق ومن المغرب، وجاء الدعاة الحقيقيون والأدعياء المزيفون ينشرون أفكارهم وأورادهم بين الناس. وأصبحنا لا نكاد نجد مدينة أو قرية بدون العديد من الزوايا والأضرحة والمشاهد. وعند كل بناية أناس يتبركون ويدعون ويزورون ويتقربون، يقيمون الحضرة ويقدمون الهدايا ويذبحون الذبائح، آتين من كل فج. وأصبح المشاهد المحايد لا يعرف وهو أمام ذلك هل يشاهد مآدب أو مآتم، وهل العابدون يعبدون الله أو يعبدون الشيوخ والمرابطين. وهكذا غرقت الجزائر في هذا العهد في التصوف والدروشة فأصبح العلماء (الفقهاء) يتباهون بأخذ الطرق والأذكار والخرقة والسبحة والمصافحة والأسودين (التمر والماء)، وأصبح الحكام يظهرون كل الاحترام والتبجيل لأهل التصوف الحقيقي والكاذب معا. أما العامة فلا تسأل عن أحوالها وعقائدها ومستواها الخلقي والاجتماعي.

لكن بعض رجال الدين قد عارضوا بشدة تسلط العثمانيين بينما وقف بعضهم وسطا تارة يؤيدونهم كمسلمين مجاهدين، ما داموا عادلين، وتارة ينصحونهم عندما ينحرفون أو يسيئون الحكم. ومن الصنف الأول أحمد بن ملوكة التلمساني. فقد قيل إنه اطلع على ما ارتكب عروج عند احتلال تلمسان من فظائع. وبعد خروج عروج إلى جبال بني سناسن خاف أهل تلمسان من عودته والانتقام منهم من جديد فالتجأوا إلى الشيخ أحمد بن ملوكة واشتكوا له ما وقع بهم وما يخشون وقوعه، فانقبض الشيخ واشتد غضبه حتى ضرب الأرض بيده وهو يدعو:(اللهم لا تعده إلى تلمسان! إن اتكالنا عليك). وتذهب الرواية إلى أن الله قد استجاب إلى دعاء الشيخ، لأن

عروج قد مات مقتولا (1). وقد أشرنا من قبل إلى سخط الشيخ ابن للو على

(1) ابن عسكر (دوحة الناشر)، 232، ويفهم من كلام ابن سليمان في (كعبة الطائفين) أن معظم المرابطين في تلمسان ونواحيها كانوا ضد الأتراك. ومنهم شيخه موسى اللالتي ناظم قصيدة حزب العارفين، والشيخ عبد الرحمن اليعقوبي دفين زاويته بندرومة، فقد أخبر عنه (أي اليعقويى) أنه زار أبا مدين بتلمسان وسأله (إبدال دولة الأتراك من آل يافث لكثرة جورهم) وأن أبا مدين كلمه من قبره قائلا (إن قبلتها يا =

ص: 467

القائد حفيظ حاكم تلمسان العثماني وخروج الشيخ من تلمسان تماما. وقد ضيق العثمانيون على الشيخ أحمد التجاني مؤسس الطريقة التجانية، فخرج من الجزائر بأهله وبعض أتباعه وقصد المغرب مهاجرا حيث توفي. وقد أعلم السلطان أنه هرب من جور (الترك وظلمهم)(1).

ومن الصنف الثاني (أصحاب الموقف الوسط) عدد من المرابطين الذين لم يؤيدوا العثمانيين كل التأييد، ولم ينقموا عليهم كل النقمة. ومن هؤلاء الشيخ العبدلي، الذي ذكرته المصادر بأنه كان يعظ الحكام العثمانيين عندما يرى منهم ما لا يليق. فقد ذكر صاحب كتاب (كعبة الطائفين) أن سيدي العبدلي كان رجلا صالحا وأنه كان ينجد المسلمين وأهل الذمة عند ارتكاب العثمانيين في تلمسان مواقف تعسفية، وأنه كان يذهب إلى القائد العثماني محمد بن سوري في مقره يعظه ويطلب منه مطالب في صالح أهل البلاد. وتذكر بعض المصادر أن باي قسنطينة حسن بوحنك كان لا يعتقد في الأولياء وأنه كان عنيدا متمردا فلقيه المرابط الشيخ الشليحي فوقعت له معه كرامة مذكورة في مكانها، فما كان من الباي إلا أن تراجع عن موقفه من الأولياء والصالحين وأعطى للمرابط الشليحي قصرا في المكان المعروف باسم (الأربعين شريف) الذي أصبح يعرف فيما بعد باسم (دار الشليحي). كما أنشأ له الباي المذكور زاوية في أولاد عبد النور وأعفاها من الضرائب (2).

وأمثال الباي حسن بوحنك كثير في العهد العثماني. ذلك أن العقيدة في رجال الدين، خصوصا المرابطين، كانت قوية عند العثمانيين كما أسلفنا. فالبحارة منهم كانوا يذهبون، عند خروجهم للغزو، إلى الأولياء والصالحين لنيل بركاتهم. وكانوا يطلقون من البحر عند ذهابهم وإيابهم طلقات مدفعية

= عبد الرحمن نعطها لك، فأبى) فقال له أبو مدين:(اصبر، في هذا الوقت لم نجد من يصلح لها ويتكفل بها، وسيأتي الله بالفرج). 1/ 285.

(1)

الناصري (الاستقصا) 8/ 105، وكان خروج التجاني من الجزائر إلى المغرب نهائيا سنة 1211.

(2)

أحمد المبارك (تاريخ حاضرة قسنطينة).

ص: 468

معينة احتراما لهم. وإذا هرب منهم أحد الجناة إلى قبة أو ضريح ولي فإن اللاحقين به يتوقفون عند ذلك ولا يتابعونه. وهناك كرامات وعقوبات تروى ضد من خالف هذا التقليد. من ذلك ما روى عن كرامة محمد الهواري ضد مصطفى بوشلاغم باي وهران بعد فتحها الأول، الذي أمر أحد جنوده بإلقاء القبض على شخص لجأ إلى قبة الهواري فانتفخت بطن الجندي، وعاد الإسبان إلى وهران في عهد بوشلاغم أيضا (1). ومن الأحداث التاريخية المعروفة أن الباشا عطشى مصطفى قد هرب، عندما شعر بالخطر، إلى ضريح المرابط ابن علي مبارك بالقليعة لينجو بحياته من مطارديه، ولكن أعداءه عرفوا هدفه فأغلقوا باب الضريح في وجهه إلى أن وصل المطاردون له وقتلوه خنقا. وقد ذهب أحد كبار العثمانيين إلى أحد المرابطين وشاوره في أمر الاستيلاء على السلطة في الجزائر فاقترح عليه أن يتصدق بخمسين دولارا وأن يذبح أربع شياه ويوزعها على الفقراء ثم يتوجه إلى مدينة الجزائر (وكان عندئذ خارجها) ووعده بالفوز في مهماته. فأخذ هذا المسؤول، بعد أن فعل ما أوصاه به المراد، برنس المرابط معه معتقدا أنه سيحميه من كل شر. ومع ذلك فإنه حين وصل قصر الباشا ألقي عليه القبض وأعدم (2).

لذلك كان العثمانيون يتقربون إلى المرابطين بشتى الوسائل كبناء المشاهد والزوايا والوقف عليها. وقد عرف عن الباي محمد الكبير أنه اعتنى ببناء مشهد الولي محمد بن عودة والولي أحمد بن يوسف (3). وله غير ذلك من الآثار الدينية التي مرت بنا. وهناك عدد من الباشوات الذين كانوا

(1) جاء في رحلة ابن زرفة أن المسلمين كانوا يعرفون أنه لولا دعوة الهواري لما أخذ الاسبان وهران، ولذلك كانوا عند الفتح الثاني يقرأون مدة شهر لسيدي الهواري ويطلبون منه الرأفة. انظر (الرحلة القمرية) في هوداس، (المجموعة الشرقية)، الجزائر، 1905، 101.

(2)

جوزف بيتز (حقائق عن الدين والعادات عند المسلمين)، انكلترا، 1704، 154.

(3)

ابن سحنون (الثغر الجماني)، مخطوط، 12.

ص: 469

يسلكون سياسة التقرب من المرابطين. وقد أشرنا إلى مواقف يوسف باشا وحسين خوجة الشريف ومحمد بكداش. وكان بايات قسنطينة يعفون عددا من الزوايا والأضرحة من دفع الضرائب. ومنها زاوية عبد الرحمن الأخضري في بنطيوس. كما تنص الوثائق على ضرورة احترام الناس لعائلته ونسله. فقد وجد أحد الباحثين ما يؤكد ذلك في وثائق كتبت بعد وفاة الأخضري بمائة وأربع عشرة سنة، وجميعها ممهورة بخواتم بايات قسنطينة (1). كما وجد باحث آخر وثائق تتعلق بمنح حقوق من الباشوات إلى أصحاب زاوية بني بومسعود وبني مقران في الجزائر الشرقية، سنة 1093 وسنة 1112، ووثائق أخرى تعفي عائلة سيدي عيسى بن سيدي مؤمن ومرابطي أولاد سيدي علي بن محمد الشريف من الضرائب (2).

وقد عرف عن العثمانيين أيضا أنهم كانوا يكثرون من الهدايا والعطايا لرجال الدين عامة، وخصوصا المرابطين، إرضاء لهم وتقربا منهم. وكان بعض المرابطين يطلبون الهدية طلبا. وفي كتاب (منشور الهداية) للفكون نماذج كثيرة على طلب المرابطين العطايا والهدايا من المسؤولين وعلى تورط أدعياء الولاية في الفساد والتحلل نتيجة تحالفهم مع الحكام الظلمة. وقد أشار الورتلاني أيضا إلى عدد من هذه العلاقات. وكان رجال الدولة أحيانا يشترون صمت هؤلاء الأدعياء بالتغاضي عن أعمالهم ولو كانت مضرة بالأخلاق العامة وحتى بالدين. وكان بعض الباشوات يمنحون في مناسبات

(1) لوسياني - ترجمة (السلم المرونق) للأخضري، 15. وقد أشار المترجم إلى وجود حوالي سبع وثائق في نفس الموضوع، آخرها مكتوبة سنة 1246 (1830) وعليها خاتم الحاج أحمد، باي قسنطينة. انظر أيضا (العقد الجوهري) لابن داود، مخطوط. وقد ذكر علي الشابي أن لديه وثيقة تثبت إعفاء بايات قسنطينة أيضا لأولاد الراعي الشابيين نواحي عنابة، من الضرائب أيضا. انظر (المجلة التاريخية المغربية) ينار 1979، 77 هامش.

(2)

فيرو (المجلة الإفريقية)، 1868، 348 وما بعدها، وكذلك نفس المصدر، سنة 1866، 195. انظر أيضا فيدرمان (المجلة الإفريقية)، 1865، 285 بالنسبة لإعفاء بايات التيطري الأشراف والمرابطين هناك من دفع الضرائب أيضا.

ص: 470

معينة جزءا من جزية أهل الذمة إلى الأشراف والعلماء والمرابطين (1).

وكان بعض المرابطين والدراويش بدورهم يرشون الولاة ونحوهم ليسكتوا عن ابتزازهم لأموال الناس والتعدي على الحرمات والأعراض. فقد روى أن المرابط قاسم بن أم هانئ كان له رعايا وأتباع كثيرون في قسنطينة ونواحيها وكان له (فقراء يرقصون ويشطحون ولعابهم يسيل، وربما يتضاربون). وقد قيل عنه إنه أنكر التأثير لله وادعى أنه هو الذي يملك التصرف. وكان أصحابه يدفعون الرشى إلى الحكام (2). وكان الشيخ طراد في عنابة صاحب طريقة ولما توفي تولاها ابنه ودخل في خدمة الأمراء وصار يعطيهم الجبايا والخراج للاستعانة بهم على الفريق الذي يعارضه (3).

ومن جهة أخرى كان الشيخ أحمد بوعكاز قد انتصب الاتخاذ الطريقة والشيخوخة وإعطاء العهد وإقامة الحضرة وقد جاءته الناس بالجبايا من شرق قسنطينة وغربها من إبل وشاه وخيل وبقر حتى صار أهل قسنطينة يقصدونه في ركب، نساء ورجالا، حاملين إليه ما استطاعوا من الرغيف إلى الكساء. وكان بوعكاز يدعي أنه يولي الخطط المخزنية لأرباب الدولة أو ينتزعها منهم. فكان أهل هذه الخطط يعطونه لكي يوليهم المناصب كقائد جيش قسنطينة وغيره. (وهذه عادته وعادة أمثاله) فهو وأمثاله كانوا يقولون أرسلني الأولياء لأحفظ المكان أو أنا شاوش الصالحين (4). وهكذا يظهر أن العلاقة كانت وطيدة بين المسؤولين العثمانيين وبعض المرابطين والدراويش. وكل طرف كان يستفيد من الآخر.

ولا شك أن هذا الصنف من المرابطين لا يمثل المتصوفين الحقيقيين.

ذلك أن من سمات المتصوف والزاهد والمرابط الحقيقي الابتعاد عن الدنيا

(1) ديفوكس (التشريفات)، 39، 51.

(2)

الفكون (منشور الهداية)، مخطوط.

(3)

نفس المصدر. والغالب أن الشيخ طراد كان من أتباع الطريقة الشابية.

(4)

نفس المصدر.

ص: 471