المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

لا تكاد المؤسسات الثقافية في العهد العثماني تخرج عن المسجد - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ١

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌الإهداء

- ‌شكر واعتراف

- ‌مقدمة الطبعة الثالثة

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌حول المصادر

- ‌تنبيهات

- ‌الفصل الأولتراث القرن التاسع (15) م

- ‌المؤثرات في الحياة الثقافية

- ‌بين العلماء والأمراء

- ‌التاريخ والسير

- ‌الأدب واللغة

- ‌التصوف وعلم الكلام

- ‌ أحمد النقاوسي:

- ‌ عبد الرحمن الثعالبي وأحمد الجزائري:

- ‌ ابن زكري:

- ‌ محمد السنوسي:

- ‌ الحوضي:

- ‌ التازي:

- ‌ محمد الفراوسني والمرائي الصوفية:

- ‌ عيسى البسكري:

- ‌ بركات القسنطيني:

- ‌ أبو عصيدة البجائي:

- ‌العلوم والمنطق

- ‌القراءات والتفسير والفقه

- ‌ أحمد الونشريسي

- ‌كتاب الافتتاح للقسنطيني

- ‌الفصل الثانيالتيارات والمؤثرات

- ‌العلاقات بين الجزائريين والعثمانيين

- ‌فئات المجتمع

- ‌دور المدن

- ‌الحياة الدينية والأدبية والفنية

- ‌الجهاد أو الإحساس المشترك

- ‌الثورات ضد العثمانيين

- ‌الفصل الثالثالمؤسسات الثقافية

- ‌ الأوقاف

- ‌ المساجد

- ‌الزوايا والرباطات

- ‌المدارس والمعاهد العليا

- ‌المكتبات

- ‌الفصل الرابعالتعليم ورجاله

- ‌سياسة التعليم

- ‌وسائل التعليم

- ‌ المعلمون:

- ‌ أجور المعلمين:

- ‌ التلاميذ:

- ‌ تعليم المرأة:

- ‌ الكتب:

- ‌المناهج

- ‌ في التعليم الابتدائي:

- ‌ في التعليم الثانوي:

- ‌ المواد المدروسة:

- ‌ حوافز التعليم وأهدافه:

- ‌بعض كبار المدرسين

- ‌سعيد قدورة

- ‌ علي الأنصاري السجلماسي:

- ‌ سعيد المقري:

- ‌ عمر الوزان

- ‌الفصل الخامسفئة العلماء

- ‌مكانة العلماء ووظائفهم وميزاتهم

- ‌تنافس العلماء وأخلاقهم

- ‌علاقة العلماء بالحكام

- ‌هجرة العلماء

- ‌العلماء المسلمون في الجزائر

- ‌من قضايا العصر

- ‌الفصل السادسالمرابطون والطرق الصوفية

- ‌حركة التصوف عشية العهد العثماني

- ‌موقف العثمانيين من رجال التصوف

- ‌حالة التصوف

- ‌سلوك بعض المتصوفين

- ‌بعض المرابطين وأهم الطرق الصوفية

- ‌ أحمد بن يوسف الملياني

- ‌ محمد بن علي الخروبي

- ‌ عبد الرحمن الأخضري

- ‌ محمد بن علي أبهلول:

- ‌ محمد بن بوزيان والطريقة الزيانية:

- ‌ محمد بن عبد الرحمن الأزهري والطريقة الرحمانية:

- ‌ أحمد التجاني والطريقة التجانية:

- ‌ الحاج مصطفى الغريسي والطريقة القادرية:

- ‌ الطريقة الطيبية في الجزائر:

- ‌ الطريقة الدرقاوية والطريقة الحنصالية:

- ‌عبد الكريم الفكون ونقد المتصوفين

- ‌المحتوى

الفصل: لا تكاد المؤسسات الثقافية في العهد العثماني تخرج عن المسجد

لا تكاد المؤسسات الثقافية في العهد العثماني تخرج عن المسجد والمدرسة والزاوية والمكتبة. ومعظم هذه المؤسسات كانت للتعليم أكثر مما كانت للثقافة بمفهومها اليوم. ولم يكن من بين هذه المؤسسات جامعة أو معهد عال رغم أن بعض المساجد والمدارس والزوايا كانت تبث تعليما في المستوى العالي. ولم تعرف الجزائر عندئذ المسرح ولكن وجد ما يشبهه كخيام القراقوز وحلقات المداحين وحلبات المصارعة. أما الصحافة فلم يكن لها وجود قبل العهد الفرنسي، وكذلك المطبعة. وسنحاول في هذا الفصل أن ندرس دور مؤسسات التعليم من كتاتيب ومساجد وزوايا ومدارس، بالإضافة إلى المكتبات العامة والخاصة. أما التعليم كنظام ومنهج فسندرسه في الفصل الموالي. ولكن أكبر مؤسسة كانت تغذي هذه المؤسسات جميعا هي‌

‌ الأوقاف

. ولذلك رأينا أن نفتح هذا الفصل بإلقاء الضوء على دورها في هذا المجال.

الأوقاف

1 -

يعتبر الوقف من أهم مظاهر الحضارة الإسلامية. فهو أساسا يعبر عن إرادة الخير في الإنسان المسلم وعن إحساسه العميق بالتضامن مع المجتمع الإسلامي. وهو بهذا المعنى شرعة اتبعها المسلمون منذ أوائل الإسلام، ولكن بتطور الزمن تكاثر وتعددت أوجهه وأغراضه. وقد تطور خاصة في العهد العثماني نتيجة اعتبارات سياسية واقتصادية ليس هنا محل ذكرها. وكانت الجزائر من بين المناطق الإسلامية التي شملها هذا التطور. ويقوم الوقف على مبدأ شرعي وعلى صيغة قضائية ملزمة. فالقاضي

ص: 227

عادة هو الذي يقوم بكتابته بصيغة معينة وبحضور الواقف والشهود، مع تحديد قيمة الوقف وتعيين أغراضه وكيفية الاستعادة منه وانتقاله وعوامل نموه وتخصيص المشرفين عليه وشروطهم، مع ذكر تاريخ الوقف وتوقيع الشهود والقاضي. فللوقف إذن وثيقة شرعية يستند عليها ويلتزم باحترامها الواقف وأهله والمستفيدون منه، وكذلك السلطة.

ولكن هذه الوثيقة لم تكن دائما محل احترام. فقد يسيء الوكيل التصرف في الوقف، وقد تتدخل السلطة فتحول فوائده إليها ، ولذلك كان إهمال الأوقاف مصدر شكوى من المسلمين، وخاصة رجال الدين. ومن ذلك شكوى أحمد بن ساسي البوني أوائل القرن الثاني عشر من أن ناظر الوقف قد بذره حتى كاد ينضب. فهو يقول عن أحباس عنابة شاكيا إلى الداي محمد بكداش:

حبسها قد أسرفا

ناظره فأشرفا

والشرع فيها باطل

والظلم فيها هاطل (1)

ومن ذلك شكوى الورتلاني. وهو يتحدث عن قسنطينة، من أن ولاتها أهملوا الأوقاف، فضعف فيها العلم (2). ونفس الشكوى كررها بصورة أوضح في حديثه عن بسكرة. فقال إن الترك قد استولوا فيها على الأوقاف (فأصبحوا يأكلون منها وينتفعون بها كالأملاك الحقيقية. وهي ليست لهم وليسوا من أهلها، ولكنهم تمردوا وطغوا وجعلوا جميع الخطط الشرعية لهم ظلما. وهذا سبب اندراس العلم وأهله من كل وطن يوجد فيه ذلك)(3). وأخبر أحمد الزهار أن الأتراك قد جاروا (وأخذوا جمبع ديار الحرمين التي كانت بيد الفقراء وأخرجوهم منها) وذلك في

(1) ابن ميمون (التحفة المرضية) ورقة 23، انظر فيه كذلك قصيدة ابن آقوجيل في نفس المعنى عن أحباس مدينة الجزائر. وهو يعني بكلمة (حبسها) وقفها وبكلمة (أشرف) هلك وفنى.

(2)

الورتلاني (الرحلة)، 686.

(3)

نفس المصدر، 110.

ص: 228

عهد علي باشا سنة 1223 (1).

2 -

وللوقف نظام داخلي دقيق. فالوكيل (أو الناظر) هو المشرف الرئيسي عليه، وهو الذي يسهر على تطبيق ما جاء في الوقفية من شروط، وهو المسؤول على تنمية الوقف واستعماله في الأوجه المعينة له. والباشا (أو الباي في الأقاليم) هو الذي كان يعين الوكيل بناء على مواصفات معينة كالأخلاق الفاضلة والنزاهة والعلم والسمعة الطيبة بين الناس. ومن الممكن تغيير الوكيل عندما تشتهر عنه أمور مخلة بنظام الوقف أو بالأخلاق العامة. وإذا كان الوقف في عائلة ولي صالح فمن الممكن أن تظل الوكالة وراثية في أبنائه، غير أن هذا ليس مطلقا. فقد يتدخل الباشا أو الباي لتعيين وكيل آخر ليس من أبناء الولي إذا دعت الضرورة. ولا يخضع الوكيل إلا لمراقبة ضميره والرأي العام وموقف العلماء، فإذا أشيع عنه الفساد والانحراف واستعمال الوقف في غير وجهه تدخل الباشا أو الباي لتنحيته (2).

ومن الأمثلة على تدخل السلطة في هذا الموضوع ما فعله صالح باي في قسنطينة. فقد وصلته الأخبار بأن التقصير قد وقع في أوقاف المساجد وعاث فيها الوكلاء فسادا ونهبا وإهمالا فعطلت عن وظائفها وأصبحت مرابط للدواب. فأمر الباي أن تضبط الأمور في الحال. وقد وضع لذلك سجلات يشرف عليها القضاة والمفتون، وأمرهم أن يبحثوا، بالإضافة إلى ذلك، عن الأوقاف سواء التي انقرضت أو التي ما زالت ولكن في حالة سيئة، كما قرر محاسبة الوكلاء في كل ستة أشهر، وعهد إلى (المجلس العلمي)، المكون من العلماء وصاحب بيت المال، بالنظر في شؤون الأوقاف وفائضها في كل سنة، على أن يستعمل الفائض في شراء عقار آخر يصبح بدوره وقفا، وهكذ (3). وقد اتبع الباي محمد الكبير في معسكر طريقة مشابهة. فقد جاء

(1) الزهار (مذكرات)، 103.

(2)

ديفوكس (المجلة الإفريقية)، 1862، 370.

(3)

شارل فيرو (المجلة الإفريقية)، 1868، 124. وتوجد الوثيقة التي أصدرها صالح باي مترجمة في هذا المصدر. انظر كذلك فايسات (روكاي)، 1868، 361.

ص: 229

في إحدى الوثائق أنه تتبع أوقاف مدرستي تلمسان (التي استولت عليها الأيدي ونسي الناس أنها أوقاف) وأعاد للمدرستين الأراضي التابعة لهم (1).

والوقف كما يكون تحت إشراف وكيل بعينه يكون تحت إشراف لجنة أو مجلس أو إدارة معينة. وسنتحدث بعد قليل عن الأوقاف الموضوعة تحت إدارة جماعية، كأوقاف مكة والمدينة وسبل الخيرات والأندلس والأشراف. ومهما كان الأمر فإن وكيل الوقف، حتى في الإدارة الجماعية، يعينه الباشا نفسه أو الباي. ولذلك كثر التزلف للباشا رغبة في الحصول على هذا التعيين. وللوكيل مرتب معين من الوقف، ولكنه كان مع ذلك يتصرف في مدخوله بطرق معروفة كدفع الهدايا للباشا وكبار المسؤولين ودفع مرتبات الموظفين في المؤسسة التي يشرف عليها والقيام بلوازم المؤسسة نفسها. وكان على الوكيل أن يقدم تقريرا دوريا إلى العلماء يذكر فيه نمو أو نقصان الوقف وحالته. ولكن هذا التقرير لم يكن هاما ولا مصيريا لأن الوكيل كان يشتري سكوت الناقدين بسهولة (2).

وأنواع الوقف كثيرة وليس من السهل حصرها. فهناك من يوقف عقارا من أرض أو دكان أو دار أو نحو ذلك. وبعضهم كان يوقف عينا أو بئرا لأبناء السبيل، ومن يوقف غلة حقل من الحقول أو غلة مجموعة من الأشجار، وهلم جرا.

ويستعمل الوقف في أغراض كثيرة. منها العناية بالعلم والعلماء والطلبة الفقراء والعجزة واليتامى وأبناء السبيل. ومن أهم أغراضه العناية بالمساجد والمدارس والزوايا والأضرحة. كما أن من أغراضه العناية بفقراء فئة معينة كفقراء الأندلس وفقراء الأشراف أو بطلبة خصوصيين كالشبان الأتراك أو

(1) ابن سحنون (الثغر الجماني) مخطوط، ورقة 12.

(2)

(طابلو) وزارة الحربية الفرنسية 2/ 1838، 220. انظر أيضا الملاحظات التي كتبها مارسيل ايمريت عن أهمية الوقف في التعليم وأعمال البر في (مجلة التاريخ الحديث والمعاصر)، 1954، 200. وقد رجع في ذلك إلى وثائق وتقارير رسمية.

ص: 230

بفقراء مدينة بعينها كفقراء مكة والمدينة أو العناية بمذهب كالوقف على نشر وتدريس المذهب الحنفي. ومن جهة أخرى قد ينص الواقف على قراءة حزب معين من القرآن أو سور منه كسورة الإخلاص، أو كتاب أو ذكر معين مثل (تنبيه الأنام) مع تحديد النقود لكل نوع. وكان بعضهم يوقف للقراءة على نفسه أو على زوجه أو ولده. وهناك من كان يوقف على شراء الزيت للإنارة العامة، أو للإنارة خلال شهر معين مثل شهر رمضان (1). وكانت بعض الأوقاف لصالح الإنكشارية وأخرى كانت لصالح الطرقات العامة والعيون والمياه الصالحة للشرب (2).

ويظهر من ذلك أهمية الوقف في الحياة الدينية والعلمية والاجتماعية (3). فهو مصدر العيش للزوايا والأضرحة وغيرها من المؤسسات الدينية. كما أنه مصدر الحياة والنمو للمساجد والمدارس والكتاتيب ومعيشة العلماء والطلبة. ومن جهة أخرى لعب الوقف دورا بارزا في الحياة الاجتماعية بتضامن المجتمع وترابطه وتوزيع ثرواته على فقرائه والعجزة منه، كما أظهر تضامن فئات معينة كالأشراف وأهل الأندلس. وكان الوقف، بالإضافة إلى ذلك، يلعب دورا في التأثير الديني والسياسي خارج الحدود كإرسال النقود سنويا إلى فقراء مكة والمدينة مع ركب الحج (4).

ولكن ليس كل وقف يجر أموالا طائلة على الوكيل أو الناظر. فهناك

(1) ديفوكس (المجلة الإفريقية) 1866، 380.

(2)

(طابلو) وزارة الحربية الفرنسية 2/ 1838، 221.

(3)

عن الأوقاف كمصدر اقتصادي في الدولة خلال العهد العثماني انظر أطروحة ناصر الدين سعيدوني (النظام المالي للأيالة الجزائرية) كلية الآداب، جامعة الجزائر، 1974، مخطوط، وهي الآن مطبوعة.

(4)

كان أمين بيت المال هو الذي يعين على (الصرة) التي تحتوي على الذهب المرسل - كصدفة - إلى فقراء الحرمين. وقيمة هذه الصرة تختلف من سنة إلى أخرى. انظر الزهار (مذكرات)، 144 وكذلك (طابلو) وزارة الحربية الفرنسية 2/ 1838، 221. وليس كل دخل مؤسسات مكة والمدينة في الجزائر يرسل كصدقة، بل ان أكثره يصرف في عين المكان.

ص: 231

أوقاف لا تكاد تفي بالحاجة الموقوفة لها. وكان الوقف كالشجرة يحتاج إلى التعهد المستمر لكي يزداد دخله، فإذا توقف الوكيل عند استغلاله فقط توقف الوقف تدريجيا عن الإيفاء بالحاجة. لذلك كانت بعض المؤسسات الدينية والعلمية تعاني نتيجة ضآلة دخلها وإهمال الوكلاء، بل إن بعض المؤسسات تلفت من عدم العناية بأوقافها أو من عدم حصولها على أوقاف جديدة. ولكن بعض المؤسسات كانت تتمتع بأوقاف ضخمة مما جعلها مصدر ثروة لمن يتولاها، لذلك كان يكثر في هذه الحالة التنافس على تولي وكالة هذه المؤسسات، مثل الجامع الكبير بالعاصمة الذي كانت أوقافه ضخمة ومداخيله عالية.

3 -

والواقفون في الجزائر لا حصر لهم بجنس أو طبقة أو مذهب.

ولذلك وجدنا فيهم الرجال والمرأة، والعثمانيين والحضر، والأحناف والمالكية. ولعل الفرق بين واقف وآخر هو النية الحسنة والثروة. قالفقراء قلما يوقفون لأنهم أنفسهم كانوا في حاجة إلى مداخيل الوقف. وهكذا كاد الوقف ينحصر في طبقة الأغنياء ومتوسطي الحال. ومن هؤلاء الباشوات والبايات الذين كانوا يجلسون على كرسي الحكم والنفوذ، ومنهم الكراغلة الذين كانوا يتولون الشؤون الإدارية والاقتصادية وغيرها في إطار الدولة، ومنهم الحضر الذين كانوا يمارسون التجارة والصناعة. وكان من بين الواقفين أيضا المدنيون والعسكريون. والوازع وراء الوقف عند هؤلاء جميعا هو وازع الخير والحماس للدين والعلم وإصلاح المجتمع، وأحيانا كان الوازع هو السمعة والرغبة في الخلود والذكر الحسن في الحياة أو بعد الممات. وقد كان الوازع أحيانا ماديا أو دنيويا كإبعاد الثروة عن بعض الورثة أو الاحتفاظ بها تحت اسم الوقف حتى لا تؤول إلى الدولة التي كانت تستولي على الأملاك التي لا ورثة لها وتضعها تحت إشراف بيت المال (1).

(1) عن الأوقاف عامة بمدينة الجزائر انظر أيضا أطروحة جيرارد بوسون دي جانسون (مساهمة في دراسة الأوقاف بمدينة الجزائر) سنة 1950. وعن مهمة (بيت المال) انظر (طابلو) وزارة الحربية الفرنسية 2/ 1838، 224.

ص: 232

وقد وجدت أثناء البحث في الوثائق، العديد من الوقفيات التي أوقف فيها أصحابها أملاكهم على أنفسهم ثم على ذريتهم ثم على ذرية ذريتهم، وهكذا، قبل أن تؤول الأوقاف إلى إحدى المؤسسات الدينية كالمسجد أو أملاك الحرمين الشريفين. وقد شاع هذا النوع من الوقف في العهد الأخير على الخصوص، كما نلاحظ اشتراك النساء والرجال فيه، ولعل نسبة النساء فيه أكثر. كل ذلك كان لمنع الدولة من الاستيلاء على أملاك الواقف عند وفاته أو عند انقراض نسله. ونذكر من ذلك وقفية محمد المازوني التي نص فيها على أنه أوقف أولا على نفسه ثم على ابنته ثم على ذريتها، وأنه إذا انقرض نسله منها تؤول الوقفية إلى الجامع الكبير بالبليدة. ونصها، بعد الديباجة (أشهد المكرم الحاج محمد المزوني وأشهد على نفسه لدى الشيخ القاضي وشاهديه أنه حبس ووقف لله تعالى جميع البحيرة الكائنة في باب الزاوية مع ما يخصها من الماء، أولا على نفسه ينتفع بغلتها واستغلالها مدة حياته. وبعد وفاته يرجع ذلك على بنته عائشة تستغلها مدة حياتها، وبعدها على ذريتها وذرية ذريتها ما تناسلوا وامتدت فروعهم في الإسلام، يستغلون جميع ما ذكر طبقة بعد طبقة، وإن قرضوا عن آخرهم وأتى الحمام على جميعهم يرجع ذلك على أولاد أخيها محمود، على حسب ما ذكره، وإن قرضوا (كذا) عن آخرهم يرجع ذلك على جامع (كذا) الأعظم من بلدة البليدة ..) وتاريخ هذه الوقفية حوالي 1235 (1). وكان هذا النوع من الوقف شاملا حتى الباشوات والبايات (2).

وهكذا، فلا يكاد يوجد باشا ظل في الحكم مدة طويلة نسبيا إلا وقد بنى جامعا (أو مسجدا) أو كتابا أو زاوية أو وقف الأوقاف على ما بناه. ولعل هذا يخالف ما قيل من أن العثمانيين في الجزائر لم يكونوا مهتمين بشؤون الدين. إن الآثار تدل على أن الحكام العثمانيين كانوا يشعرون ببعض الواجب

(1) انظر الأرشيف ملف (366) 48 - 228 MI وفي هذا الملف عدد كبير من الوقفيات على هذا النحو.

(2)

انظر الأرشيف ملف (216) 37 - 228 MI .

ص: 233

الديني والاجتماعي نحو المجتمع الذي كانوا يحكمونه. حقا إن منشآتهم العلمية لم تتطور فتصبح جامعات شهيرة ومعاهد راسخة القدم، ولكن الحد الأدنى من العناية بهذه المنشآت يدل على نوايا بعضهم الحسنة والخيرة. ويبدو أن قصر المدة التي كان يبقاها كثير منهم في الحكم والعنف الدموي الذي كان يتسم به الحكم نفسه والانقلابات المتوالية هي التي كانت السبب في عدم تطور هذه المنشآت ومنع الكثير منهم من وقف أوقاف جديدة عليها وتعهدها بالعناية والتنمية. ومن الغريب أن بعض أوقاف المساجد ونحوها قد أوقفها عثمانيون كانوا في السابق على الدين المسيحي ولكنهم رضوا بالإسلام دينا، أمثال الحاج حسين ميزمورطو (1) وعلي بتشين، بل إن هناك مساجد وأوقافا قد أمر بها الوجق كله مثل الجامع الجديد الذي وضعت أوقافه تحت مؤسسة (سبل الخيرات العثمانية الحنفية).

ومن سوء حظ هذه المؤسسات أن الباشا الجديد كان في أغلب الأحيان خصما لسلفه فلا يحرص على استمرار سياسة خصمه الدينية أو العلمية أو الخيرية. فهو يبدأ من الصفر. وهكذا دواليك. فالمنشآت إذن ظلت فردية أو تنسب إلى الأفراد، كما أن الوقف في طبيعته كذلك. ولم تقم مؤسسة عامة تتعهدها الدولة والمجتمع بقطع النظر عن أشخاص الحكام وتطور المجتمع. والوقف في الحقيقة كان، بالنسبة للدولة، هو وزارة الثقافة والتعليم والدين والشؤون الاجتماعية مجتمعة اليوم، رغم أنه لم يكن هناك وزارة بهذا العنوان ولا بهذا المحتوى الشامل. فقد كان التعليم، كما سنرى، لا يهم الدولة، ولكنه يهم كل أفراد المجتمع بمن فيهم الحكام،

(1) كان له دور هام في سياسة الجزائر العامة. فقد تولى الباشوية (تمثيل السلطان) والدايليك (الحكم الحقيقي) ثم تخلى عن الوظيفة الأخيرة إلى نائبه (كاهيته) إبراهيم خوجة. وعندما تآمر عليه هذا عاد إلى الجمع بينهما وهرب إبراهيم خوجه بحياته. وقد تولى (ميزمورطو) فيما بعد قبطان الأسطول العثماني ومات في جزيرة شكيو التي انتصر فيها. انظر بيتز (حقائق)122. وقد تحدث عنه أيضا ابن حمادوش وابن المفتي. ويقال إن الحاج حسين كان مريضا وضعيف البنية، ولذلك كان الأوروبيون يسمونه ميزمورطو أي نصف الميت. أما المسلمون فيسمونه الحاج حسين.

ص: 234

فهو حر أو خاص كما نقول اليوم.

ومن أقدم الواقفين العثمانيين في الجزائر خير الدين بربروس وخادمه الذي أعتقه، وهو عبد الله صفر، فقد بنى الأخير الجامع المعروف بجامع سفير (صفر) سنة 940 (1534 م) وأوقف عليه وقفا بلغ عشر زويجات، وهي تقدر بحوالي مائة هكتار من الأرض، وكذلك أوقف عليه خير الدين نفسه قطعة أرض هامة (1). وسنتعرض للجامع نفسه عند الحديث عن المساجد. وعندما أسس الباشا الحاج حسين ميز مورطو جامعا أوقف عليه أراضي ودكاكين وسوقا وأوكل عليه مجلس إدارة أملاك مكة والمدينة. وقد وزع الوقف على إصلاح الجامع وتنظيفه وأداء الصلوات فيه، وقراءة الذكر والحديث. فخصص ستين دينارا للخطيب وأربعين للإمام وخمسة وثلاثين للمدرس المالكي والمحدث، وثمانية للمسمع، وأربعة لقراء كتاب (تنبيه الأنام)(2) وخمسة وثلاثين لإدارة الوقف، بالإضافة إلى حصص للمؤذنين والحزابين وقارئي (المحمدية) والمنظفين، كما نص عليه أن يتعمل باقي دخل الوقف في شراء حاجات الجامع. أما الفائض منه فيعود إلى أملاك مكة والمدينة (3). وقد قام عبدي باشا أيضا ببناء مسجد جامع وأوقف عليه أوقافا جعلها تحت إدارة أملاك مكة والمدينة. كما نص في وقفيته على أن الفائض من وقف الجامع يؤول إلى هذه الأملاك. ومن الباشوات الذين اشتهروا بالوقف على المساجد والمدارس ونحوها: محمد بن بكير، والحاج محمد بن محمود، ومحمد بكداش الذي بنى زاوية للأشراف وأوقف عليها، ومحمد باشا الذي جدد جامع السيدة، وخضر باشا الذي بنى مسجدا يحمل اسمه، وكذلك حسين باشا الأخير الذي بنى جامع خطبة خاصا به.

وبالإضافة إلى الباشاوات أوقف البايات والوزراء والكتاب (الخوجات)

(1) ديفوكس (المجلة الإفريقية) 1870، 189.

(2)

كتاب في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ألفه عبد الجليل بن محمد بن أحمد بن عظوم القيرواني المتوفى سنة 971 م. وبروكلمان 2/ 691.

(3)

ديفوكس (المجلة الإفريقية) 1869، 31.

ص: 235

وكبار الضباط عدة أوقاف على مجموعة من المنشآت. وقد اشتهر بالعناية بالوقف وتنظيمه وبالقضايا الدينية والعلمية في قسنطينة صالح باي الذي سبق ذكره. كما اشتهر في معسكر الباي محمد الكبير الذي سبق ذكره أيضا. فكلاهما حكم في أواخر القرن الثاني عشر، وكلاهما حاول أن يمثل (عصر التنوير) في الجزائر العثمانية. وسنعرف المزيد عن آثارهما عند الحديث عن المنشآت نفسها. كما اشتهر الباي حسن (المعروف بوحنك) باي قسنطينة الذي أنشأ سنة 1156 الجامع الأخضر وأوقف عليه عدة أوقاف. وقد دفن في نفس الجامع إثر وفاته سنة 1167 (1). أما من غير البايات فهناك رضوان خوجة، قائد الدار، الذي قيل إنه اشتهر بالورع وأسس زاوية له في قسنطينة وأوقف عليها. وقد توفي سنة 1220. وسنتحدث عن هذه الزاوية فيما بعد. كما أوقف الحاج محمد خوجة، أحد كتاب قصر الباشا، أوقافا ضخمة سنة 1190 على مدرسة عليا (أو معهد) ومسجد وزاوية. ومن جهة أخرى بنى مصطفى بن مصطفى، آغا الصبايحية، زاوية لسكنى الطلبة وأوقف عليها. وكذلك فعل ساري مصطفى بن الحاج محمد، بيت المالجي (2). فقد بنى أيضا مدرسة لتعليم الأطفال، وهناك غير هؤلاء. على أن معظم الأوقاف الرسمية وشبهها كانت تذهب إلى الزوايا والجوامع القائمة مثل الجامع الكبير بالعاصمة وضريح عبد الرحمن الثعالبي.

وهناك وثائق عديدة تثبت أن النساء كن يشتركن في الوقف أيضا. فأخت خضر باشا، وهي السيدة قمر بنت القائد محمد باي، قد أوقفت على جامع أخيها الباشا بعد وفاته (3). كما أن السيدة مريم، وهي من عائلة ابن نيكرو الأندلسية قد أوقفت أوقافا على الجامع المعروف باسمها (جامع السيدة مريم). وتتمثل الوقفية في ثلاثة منازل وأربعة عشر

(1) انظر شير بونو (روكاي)، 1856 - 1857، 102. وكذلك دورنون (تاريخ قسنطينة) في (المجلة الإفريقية) 1913، 290.

(2)

من وظيفته حمل صدقة مكة والمدينة سنويا مع ركب الحج باسم (أمين الصرة).

(3)

ديفوكس (المجلة الإفريقية)، 1869، 25.

ص: 236

دكانا (1). وخصصت السيدة حنيفة بنت مصطفى خوجة، وهي زوج الحاج محمد خوجة سابق الذكر، أوقافا على الزاوية التي بناها زوجه (2). أما السيدة دومة بنت محمد فقد أوقفت أواني طبخها النحاسية لفائدة ضريح عبد الرحمن الثعالبي على أن يكون إصلاح هذه الأواني من مدخول آخر تملكه.

4 -

ومن أشهر مؤسسات الوقف الجماعية إدارة (سبل الخيرات) الحنفية (3). وكانت مؤسسة شبه رسمية. فهي التي كانت تشرف على جميع الأوقاف المتعلقة بخدمة المذهب الحنفي من زوايا ومدارس ومساجد وموطفين وفقراء. وكانت تديرها جماعة يعينها الباشا نفسه. وقد كان على رأسها، حوالي سنة 1108، الحاج حسن آغا بن محمد التركي والحاج إبراهيم بن الحاج حميدة الأندلسي. ومن بين المشرفين عليها سنة 1209 الحاج خليل (معزول آغا). وكانت مؤسسة سبل الخيرات تقبل الأوقاف الموجهة لخدمة الفقراء والعلماء والطلبة والعجزة، كما كانت تقوم بإنشاء المؤسسات الجديدة لنفس الغرض وتشرف عليها وتوجهها وتنميها. ذلك أن كثيرا من الواقفين كانوا يعهدون بوقفهم إلى إدارة سبل الخيرات.

ومن أبرز ما قامت به إنشاؤها للجامع الجديد أو الحنفي المسمى أحيانا بجامع الصيد البحري، وهو الذي ما يزال قائما إلى اليوم. وسنتحدث عنه في المساجد. وكان جامع كجاوة (كتشاوة) من أهم المساجد التابعة لإدارة سبل الخيرات أيضا، وكذلك جامع على بتشين وجامع باب الجزيرة وزاوية

(1) نفس المصدر، 31، وكذلك الزهار (مذكرات)، 31.

(2)

ديفوكس (المجلة الإفريقية)، 1868، 286.

(3)

أسس (سبل الخيرات) شعبان خوجة باشا سنة 999. وكانت هذه المؤسسة تشرف على إدارة أوقاف ثمانية مساجد على الأقل وتقوم بمصالح الأوقاف لعدد من الأغراض الخيرية والدينية انظر (طابلو) وزارة الحربية الفرنسية 2/ 1838، 223. وكذلك جورج ايفير (المجلة الإفريقية) 1913 - 240. وقد بنى شعبان خوجة أيضا الجامع الحنفي المعروف اليوم باسم (الجامع الجديد).

ص: 237

(مدرسة) شيخ البلاد. وكانت مؤسسة سبل الخيرات ذات نفوذ كبير في المجتمع والدولة وذلك لأهمية الأوقاف التي كانت تتلقاها والمنشآت التي كانت تشرف عليها، وهي التي كانت أيضا مكلفة بدفع مرتبات حوالي ثمانية وثمانين طالبا أو قارئا ملحقين بالمساجد التي تحت إدارتها، كما كانت تقدم الصدقات للفقراء وترعى حاجات المساجد التسعة التابعة لها.

وإدارة أوقاف مكة والمدينة كانت لا تقل أهمية عن مؤسسة سبل الخيرات، رغم أن الأولى أكثر ثروة حتى قال بعضهم إنها كانت تشمل ثلاثة أرباع الأوقاف العامة (1). ويذهب بعضهم إلى أن مؤسسة مكة والمدينة أقدم من مؤسسة سبل الخيرات فهي تعود حسب هذا الرأي إلى ما قبل العهد العثماني. وكانت مؤسسة مكة والمدينة تدار أيضا من قبل مجلس من أربعة أشخاص وقد تتسع لأعضاء آخرين. وكان على رأس هذا المجلس وكيل يعينه الباشا أيضا، كما كان لها وكلاء في المدن الجزائرية الأخرى. وكانت مؤسسة مكة والمدينة تدير بعض الأوقاف المحلية سواء كانت مالكية أو حنفية، وهي الأوقاف التي يؤول فائضها إلى فقراء المدينتين الشريفتين (2).

وتدل الإحصائية التالية على أهمية مؤسسة مكة والمدينة في الحياة الاجتماعية. فقد ثبت أن هذه المؤسسة كانت تملك في آخر العهد العثماني الأوقاف التالية: 840 منزلا، 258 دكانا، 33 مخزنا، 82 غرفة، 3 حمامات، 11 كوشة، 4 مقاهي، فندق واحد، 57 بستانا، 62 ضيعة، 6 أرحية، 201 إيجار. ومما يذكر أن معظم هذه الأوقاف قد خرجت أو ألحقت

(1) وجد السيد جان ديني 340 دفترا من الأرشيف تتعلق بأوقاف مكة والمدينة، بينما لم يجد سوى 43 دفترا تتعلق بأوقاف سبل الخيرات. وقد كان مجلس أوقاف مكة والمدينة يتكون في العادة من اثنين تركيين عسكريين واثنين مدنيين من أهل الحضر، وغالبا من أهل الأندلس، انظر عن هذا المجلس، الأرشيف دفتر (169) 31 MI 228، وكذلك دفتر (176) 32 228 MI.

(2)

جاء في (طابلو) وزارة الحربية الفرنسية 2/ 1838. 223. أن ثلاثة من المساجد الحنفية (البالغة كلها أربعة عشر) كان يشرف عليها وكيل أوقاف مكة والمدينة.

ص: 238

بمصالح الدولة الفرنسية بعد الاحتلال مباشرة (1).

ولمؤسسة مكة والمدينة أهمية سياسية أيضا، فقد كانت تمثل وجه الجزائر في العالم الإسلامي وكان ركب الحج الجزائري يحمل كل سنة كمية هائلة من النقود والذهب والفضة والألبسة وغيرها إلى فقراء مكة والمدينة وخدام الحرمين الشريفين، وفي حديثنا عن العلماء والأشراف سنعرف أن إمارة ركب الحج كانت قضية معقدة تتدخل فيها السياسة والعلم والدين (2). وكان لعواصم الأقاليم أيضا أوقاف خاصة بأملاك مكة والمدينة على غرار ما كان في مدينة الجزائر. وكان ركب حجيج كل إقليم يحاول أن يتفوق على نظرائه في الثروة والجاه. ومن أشهر من حمل صدقة مكة والمدينة من قسنطينة، بعد عبد الكريم الفكون، القاضي أحمد العباسي. وقد اشتهر الباي محمد الكبير بحبه للجاه والسمعة فكان يهادي علماء المشرق، ولا سيما علماء مكة والمدينة، عن طريق ركب الحج الذي كان ينطلق من عاصمته معسكر ثم وهران (3).

وقد كان مهاجرو الأندلس يعيشون وضعا خاصا في الجزائر قبل اندماجهم في المجتمع الجديد نهائيا. فقد كانوا في البداية لاجئين يبحثون عن أماكن للاستقرار ووسائل للعيش والأمن. وبتقادم الزمن استقروا في المدن الساحلية وأخذ بعضهم يسهم في الحروب البحرية ضد الإسبان، كما

(1) ديفوكس (المجلة الإفريقية) 1860، 471، قارن ذلك بما جاء في (طابلو) وزارة الحربية الفرنسية 2/ 1838 من أن عدد المؤسسات التابعة لمكة والمدينة بلغت 1419، سنة 1838 بينما ما ذكره ديفوكس بلغ مجموع 1558 أما عن أوقاف الأندلس بالأرشيف فانظر دفتر (346) 46 - 228 MI .

(2)

كانت عائلة الفكون (من قسنطينة) هي التي تتولى إمارة ركب الحج الجزائري كل سنة. ومن أشهر رجالها في القرن الحادي عشر عبد الكريم الفكون الذي سيأتي الحديث عنه. أما حامل (الصرة) الرسمية فقد كان هو أمين بيت المال، كما ذكرنا.

(3)

عن أوقاف الأقاليم ومدخولها ووكلائها انظر الأرشيف دفتر (181) 32 - 228 - MI وما يعده، ثم دفتر (216) - 37 - 228 MI .

ص: 239

أن بعضهم قد مارس التجارة والتعليم والصنائع المختلفة والزراعة. ولكن هذه الأعمال لم تمنع من شعورهم بالحاجة إلى التضامن كفئة خاصة. لذلك أسسوا بتشجيع من السلطة التي كانت تتعاطف معهم، عدة مؤسسات خيرية كانوا يهدفون من ورائها إلى التضامن فيما بينهم من جهة وإلى خدمة فقرائهم من جهة أخرى. فلقد أسسوا جمعية لهذا الغرض أشرفت بدورها على إقامة مسجد وزاوية ومدرسة خاصة بهم. وكانت هذه الجمعية الأندلسية مكونة من ستة أشخاص كلهم من المهاجرين الأندلسيين. وقد اشتروا دارا كبيرة وحولوها بالبناء والإصلاح إلى المدرسة والمسجد المذكورين وأوقف أغنياؤهم على ذلك الأوقاف التي بلغت، حسب بعض الإحصاءات، ستين مؤسسة وقف. وقد عينوا لذلك وكيلا، وهو الشيخ محمد الآبلي. ومما يلاحظ أن كثيرا من الأوقاف كانت مشتركة بين الحرمين والأندلس أو بين الجاح الأعظم بالعاصمة والأندلس، وظلت هذه الجمعية الأندلسية وأوقافها الكثيرة إلى الاحتلال الفرنسي الذي قضى على الجمعية واستولى على أوقافه (1). وكان الأندلسيون يتمتعون بمكانة خاصة في المجتمع الجزائري وخصوصا لدى العثمانيين حتى أن بعضهم كان يعين على أوقاف حنفية عثمانية، مثل حميدة الأندلسي الذي كان عضوا في لجنة إدارة سبل الخيرات، ومثل سليمان الكبابطي الذي عينه خضر باشا على أوقاف جامعه، ومثل محمد بن جعدون الذي عينه محمد عثمان باشا وكيلا على أوقاف جامع سوق اللوح، وسنعرف أن عائلات أندلسية، مثل عائلة ابن نيكرو، قد اشتهرت وتنفذت في العهد العثماني (2).

(1) تأسست الجمعية الأندلسية سنة 1033 (1623 م). انظر ديفوكس (المجلة الإفريقية) 1868، 279. قارن أيضا بما جاء في (طابلو) وزارة الحرية الفرنسية 2/ 1838، 223.

(2)

ومع ذلك فقد كان مهاجرو الأندلس محل استغلال من البعض ولم يسلموا أيضا من غارات الأعراب ولا سيما في أول هجرتهم. ونعرف أن المرابط محمد بن ساسي البوني كان يفرض ضريبة خاصة على مهاجري الأندلس في عنابة.

ص: 240

وكان الأشراف كذلك من الفئات المتميزة في المجتمع ولهم أوقاف خاصة. وهم أيضا من الفئات التي كانت تتعاطف مع العثمانيين. وقد شاع في هذا العهد ادعاء الشرف بكثرة حتى أنك لا تكاد تجد عالما أو صالحا قد اشتهر أمره بين الناس إلا واسمه مقرون بعبارة (الشريف) أو (الحسنى)، وبعضهم كان يدعي أنه من شرفاء مكناس أو فاس أو من شرفاء الساقية الحمراء. وقد استوى في هذا الادعاء، علماء وصلحاء الحواضر والبوادي على السواء. وهي ظاهرة تدل بدون شك على ما وصل إليه التخلف الحضاري. فإن أصحاب هذه الدعوى كانوا يعيشون على الماضي وكانوا يبحثون عن شيء يدفنون فيه أنفسهم أو يتمايزون به عن غيرهم بعد أن ضاع منهم كل شيء، فلم يجدوا سوى الشرف وادعاء الصلاح والتصوف. ومن الغريب أن ادعاء الشرف قد شاع حتى بين بعض باشوات الجزائر الذين لا صلة لهم بهذا الموضع. فقد ادعى أحمد البوني وعبد الرحمن الجامعي المغربي وغيرهما أن محمد بكداش باشا كان شريفا من بني هاشم (1).

ومهما كان الأمر فقد كان للأشراف في الجزائر نقابة خاصة ونقيب يسمى (نقيب الأشراف) يتمتع بمكانة مرموقة لدى رجال الدولة والمجتمع. حتى أن مبايعة الباشا كانت لا تتم إلا بحضوره إلى جانب العلماء والديوان، ولا شك أن هذا التقليد كان اتباعا لما كان يجري في إسطانبول نفسها من مراسيم سلطانية، ومن أشهر العائلات التي تولت هذه النقابة في الجزائر عائلة المرتضى وعائلة الزهار (2). وكان لأوقاف الأشراف وكيل خاص أيضا، وليس هو النقيب المذكور، لأن النقابة منصب معنوي أما الوكالة فقد كانت منصبا إداريا.

(1) انظر فصل العلماء من هذا الجزء.

(2)

كان الأشراف أيضا يتزوجون فيما بينهم وقد تزوج أحد أفراد عائلة ابن علي مبارك بالقليعة من عائلة نقيب الأشراف في وقته (الزهار). انظر عقد هذا الزواج في سعد الدين بن أبي شنب (الحوليات الشرقية): 1955، والظاهر أن أوقاف الأشراف لم تكن كبيرة انظر (طابلو) وزارة الحربية الفرنسية، 2/ 1838، 224. ولم نجد نحن في الأرشيف ما يدل على أهمية وقف الأشراف أيضا.

ص: 241

وكان ظهور فئة الأشراف يعود إلى أوائل القرن الحادي عشر (17 م) وقد بنى لهم محمد بكداش باشا سنة 1121 زاوية خاصة بهم، ولعل هذا كان من أسباب تعاطفهم معه ونسبته إلى حضرتهم، ونصت وقفية الباشا على هذه الزاوية على أن لا يقيم فيها سوى الشريف غير المتزوج ولا يتولى فيها الإمامة والدرس أو الخطابة ونحو ذلك من الوظائف إلا الشريف أيضا، وفي حالة عدم توفر الشريف يبحث عن إنسان ورع للقيام بالوظيفة الشاغرة، كما نصت الوقفية على أن الوكيل هو الذي يتولى تصريف شؤون الوقف، وأن الفائض منه يوزع على فقراء الأشراف المولودين في الجزائر وأنه لا يجوز للوكيل أن يأخذ شيئا من الوقف لنفسه إلا عند الضرورة القصوى، وفي هذه الحالة يصير هو كالشريف الفقير، ولم يكن هذا الوقف خاصا بالرجال، فهو لهم وللنساء والأطفال أيضا. ولا يجوز لنقيب الأشراف أن يتدخل في شؤون الزاوية، ذلك أن وضعه بالنسبة إليها هو وضع أعيان الأشراف الذين عليهم أن يجتمعوا مع الوكيل مرة في السنة في الزاوية للنظر في إدارة الوكيل وأحوال الوقف. وهؤلاء كانوا يمثلون المجلس الذي له البت في كل أمور الزاوية وحاجاته (1).

ومن مؤسسات الأوقاف في العهد العثماني مؤسسة (بيت المال) التي كان يشرف عليها أمين يسمى أحيانا (ييت المالجي) ، وأمانة بيت المال وظيفة رسمية إذا قيست بوظيفة الوكلاء السابقين. ولذلك كان الباشا يعين أحد القضاة أيضا ليساعد أمين بيت المال في إدارة المؤسسة، ذلك أن هذه المؤسسة كانت من جهة سياسية ومن جهة أخرى خيرية. فقد كانت تشرف وترعى جميع أموال اليتامى والغائبين والأملاك التي تصادرها الدولة وكذلك التركات. وكانت أيضا تقوم بأعمال خيرية وإنسانية واجتماعية كدفن فقراء المسلمين وتوزيع الصدقات على حوالي مائتي فقير كل يوم خميس، وتقديم الهدايا في كل عيد إلى الباشا وحاشيته وخدمه. وبالإضافة إلى ذلك كانت

(1) ديفوكس (المجلة الإفريقية) 1868، 104.

ص: 242

تصون الأملاك الواقعة تحت طائلتها، كما كانت تدفع شهريا مبالغ مالية معينة إلى خزانة الدولة (1).

وتعتبر أوقاف الجامع الكبير وبعض الزوايا بالعاصمة، وأوقاف الجامع الكبير في قسنطينة ومعسكر وتلمسان والمدية من المؤسسات الغنية في المجتمع الجزائري، وهي لذلك كانت وسائل للنفوذ والإثراء لمن يتولى وكالتها من العلماء، ونحوهم (2). وقد كانت عائلة قدورة متولية وكالة أوقاف الجامع الكبير بالعاصمة مدة طويلة، واستطاع سعيد قدورة أن يبني زاوية ومدرسة من فائض أوقاف الجامع الكبير. ومن الزوايا كثيرة الدخل في العاصمة زاوية الولي دادة، وزاوية أحمد بن عبد الله الجزائري، وزاوية عبد الرحمن الثعالبي، وكانت جميع الطبقات الاجتماعية توقف على زاوية الثعالبي، بل إن بعض البلدان، مثل تونس، كانت ترسل إليها حمولة زيت كبيرة سنويا. أما في قسنطينة فقد كان للجامع الكبير أوقاف هائلة بلغ دخلها على عهد صالح باي 491 ريالا بينما صرفها بلغ 408 ريالات، وقد سبق أن وصفنا ثروة زاوية الشيخ المجاجي (آبهلول) نواحي تنس، وهي الزاوية التي كانت تطعم حوالي ألف وثلاثمائة رجل (بالرغائف والثريد والزبدة والعسل) والتي كانت قصعتها تحتوي على ثلاثين (نوعا من الطعام واللحم)(3).

وقبل أن نختم الحديث عن الأوقاف نشير إلى أن اليهود كانوا أيضا يستغلون الأوقاف عن طريق الكراء ونحوه، بل لقد وجدت في الأرشيف أن

(1)(طابلو) وزارة الحربية الفرنسية 2/ 1838، 224، انظر أيضا ناصر الدين سعيدوني، (النظام المالي للجزائر في الفترة العثمانية) الجزائر 1979، 103 وما بعدها.

(2)

أظهر الأرشيف أن هناك أوقافا ضخمة باسم الجامع الأعظم وكان بعضها مشتركا بينه وبين أوقاف مكة والمدينة، أو بينه وبين أوقاف الأندلس، وكثيرا ما كان الواقفون يوقفون أولا على أنفسهم وذريتهم، فإذا انقرضوا تؤول الأوقاف إلى الجامع الكبير كما لاحظنا في وقف محمد المازوني بالبليدة. وقد كانت الجوامع الكبيرة في المدن الإقليمية تخضع لنفس المعاملة التي يخضع لها الجامع الأعظم في العاصمة.

(3)

أبو حامد المشرفي (ياقوتة النسب الوهاجة) مخطوط.

ص: 243

أحد اليهود قد أخذ مبلغا من أملاك الحرمين، كما وجدت أن أحد النصارى كان مكلفا بكنس ميضات جامع عبدي باشا، وكان يأخذ نصيبه من وقف هذا الجامع (1). ومن جهة أخرى وجدت أن معظم الأوقاف تنص على مسائل وأغراض دينية كالطواف بالكعبة باسم الواقف وقراءة أذكار أو أحزاب من القرآن الكريم على الواقف، وقلما وجدنا منها ما ينص على شؤون العلم كالتدريس والكتب. وبالإضافة إلى ذلك وجدنا أن كثيرا من الأوقاف كانت مشتركة بين عدة مؤسسات كالجامع الأعظم والأندلس والطلبة والأسرى والفقراء ونحو ذلك.

وفيما يلي إحصاء للأوقاف الدينية أجري حوالي سنة 1184:

الأوقاف المشتركة بين الحرمين والأندلس

62

الأوقاف المشتركة بين الحرمين والجامع الأعظم

69

البيوت والدور للحرمين خاصة

74

المخازن للحرمين خاصة

76

الأعالي للحرمين خاصة

81

أوقاف جامع ميزمورط

130

أوقاف جامع عبدي باشا

134

أوقاف جامع علي باشا

142

أوقاف جامع خضر باشا

139

أوقاف الفقراء والأسرى والطلبة

48 (2)

وهكذا تتضح أهمية مؤسسة الوقف في الجزائر خلال العهد العثماني.

فقد كانت تؤدي وظائف عديدة أهمها في هذا المجال خدمة الدين والتعليم. كما كانت عنوانا على التضامن الاجتماعي. وكانت تمثل بالنسبة لأوقاف مكة والمدينة الوجه السياسي للجزائر أيضا. وقد ظهر من النماذج التي سقناها أن

(1) انظر الارشيف دفتر (168) 31 - 228 MI ودفتر (287) 41 - 228 MI.

(2)

من الأرشيف دفتر (168) 31 - 228 MI وفيه أيضا بيانات وافية من أوقاف أخرى مخصصة لأغراض شتى كالحمامات والكوش والبحاير والرحى والحوانيت الخ.

ص: 244