الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (25)
* * *
* قالَ اللَّه عز وجل: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} [الفرقان: 25].
* * *
قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} أمر اللَّه عز وجل أن يذكرَ هَذَا اليومَ العظيمَ، وهو يوم تَشَقُّقِ السماءِ بالغَمام لِنُزُول اللَّه سبحانه وتعالى.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ} من كل سماء {تَنْزِيلًا} هو يوم القيامة، ونصبه بـ (اذْكُر) مقدَّر، وفي قراءة بتشديد شينِ تَشَّقَقُ بإدغام التاء الثَّانية في الأَصْل فيها، وفي أخرى: (نُنْزِلُ) بنونين، الثَّانية ساكنة وضم اللام ونصب (الملائكة)].
القراءات:
في {تَشَقَّقُ} قراءتان: أولًا: القراءة المشهورة {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} ، القراءة الثَّانية:"تَشَّقَقُ"، وأصلها تَتَشَقَّق، فأُدغمت التاء في الشين فصارت تَشَّقَقُ، وأيهما أبلغ:{تَشَقَّقُ} أم "تَشَّقَقُ"؟ "تَشَّقَقُ" أبلغُ
(1)
.
وأما {وَنُزِّلَ} ففيها قراءتانِ سَبعيَّتان: {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ} على أنها فعل ماضٍ، و {الْمَلَائِكَةُ} نائب فاعل، والثَّانية "نُنْزِلُ المَلائكَةَ" على أنها فعل مضارع والملائكة مفعول به، والفاعل هو اللَّه
(2)
.
(1)
الحجة في القراءات السبع (ص: 265).
(2)
المصدر السابق نفس الصفحة.
ومن بلاغة القُرْآن أن القراءات يُستفاد منها إما التفسير وإما زيادة المعنى، فقراءة "تَشَّقَقُ" فيها زيادة المعنى، وعلى قراءة:"نُنْرِلُ المَلائكةَ" فيها تفسير؛ لِأَنَّ قوله: {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ} مبني للمجهول، فالفاعل غير معلوم، وَأَمَّا قوله:"نُنْزِلُ المَلائكَةَ" فمبنيَّة للفاعل، فالفاعل فيها معلوم، وعلى هَذَا إذا سُئلت: مَنِ الَّذِي ينزل الملائكة؟ تقول: هو اللَّه، والدليل أمر مفهوم بالأذهانِ، ودليل آخر من لفظ الآية، القراءة الثَّانية:{الْمَلَائِكَةُ} .
قوله: {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ} كل سماء أكْثَر ملائكة من السَّمَاء الَّتِي تحتها، كذلك أيضًا هَؤُلَاءِ الملائكة الَّذِينَ يُحيطون بالعالم، كل دائرة أكْثَر عددًا من الدائرة الَّتِي قبلَها، وإنما يُنزَّلُونَ بَيانًا لعظمةِ اللَّهِ عز وجل وإحاطة بالخَلْق، وحينئذٍ يَصدُق قول اللَّه تَعَالَى:{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33]؛ لأَنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ معَ إحاطةِ الملائكة بهم أن يهربوا من أهوالِ هَذَا اليومِ.
وقوله: {تَنْزِيلًا} مصدر نُزِّل، وهو كما أسلفنا يدل على أَنَّهُمْ ينزلون شيئًا فشيئًا، لا ينزلون جملةً، فتنزل ملائكة السَّمَاء الدُّنْيا أولًا، ثم الثَّانية، ثم الثالثة، إلى السابعة، وأشرنا إلى الآية الَّتِي في سورة الرَّحمن دفعًا لقولِ بعضِ النَّاسِ الَّذِينَ يفسِّرونها بهَذه الأقمار الصناعيَّة أو المراكب الفضائيَّة الَّتِي صعِد النَّاس بها إلى الفضاء، ويزعمون أن قولَ اللَّه سبحانه وتعالى:{لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} إلا بعِلمٍ، وأن هَذَا العلم أَوصَلَهم إلى النفوذِ، وهذا لا شكَّ تحريفٌ للقرآنِ، ولا حاجةَ إلى أن نَتَكَلَّف فنقول: كل ما يحدث فإن في القُرْآن له شاهد، لا حاجة إلى هَذَا التكلُّف؛ لِأَنَّ هَذِهِ الحوادث شواهدها حصولها، متى حَصَلَت فإننا نؤمنُ بها، سواء دلَّ عليها القُرْآنُ
أو سكت عنها القُرْآن، إلَّا إذا دل القُرْآن على نفيِها؛ فَإِنَّهُ لا يجوز لنا أن نُصَدِّقَها، وكل ما يحدث من هَذِهِ الاختراعات وهَذِهِ الصناعات فَإِنَّهُ داخلٌ في قوله تَعَالَى:{وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} بعد أن قال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} قال: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]، هَذِهِ الآية يدخل فيها كل ما حَدَثَ وكل ما يحدُث من مثل هَذِهِ الأمور، وَأَمَّا أن نحرِّف القُرْآن إلى ما يوافق هَذَا الواقع فهذا حرامٌ علينا، ولا يجوزُ، وأمَّا قوله:{إِلَّا بِسُلْطَانٍ} فليس المراد به العلم، المراد به السُّلطة الَّتِي تتمكَّنون بها من النفوذ، لِأَنَّ السلطان في كل موضع بحسَبه، وأصله السلطة الَّتِي يتمكَّن بها الإنْسَان من الوصول إلى ما يريد، فمثلًا إذا كانت في دعوى مدَّعٍ نقول: لا سلطان لك بهذا، يعني لا حُجَّة لك، كما قال اللَّه تَعَالَى:{إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} [يونس: 68]، يعني ما عندكم من حُجة؛ لِأَنَّ الحُجَّة السلطة يتمكن بها المدَّعي من إثباتِ دَعْوَاهُ، ثم إن الآية {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، وهَؤُلَاءِ لم ينفُذوا من أقطار السَّموات، حتى لو قُلْنا: إنهم نَفَذُوا من أقطار الأرض وخرجوا عن محيط الأرضِ، فإنهم لا يستطيعونَ أن ينفُذوا من أقطارِ السَّموات، ثم إن الآيةَ ظاهرةٌ في التحدِّي {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} ، والتحدي بما يُمكِن غير صحيحٍ، لِأنَّهُ يُبْطِل التحديَ، ثم إن قوله:{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} [الرَّحمن: 35]، يكذِّبه الواقع، يعني يكذب دَعْوَى هَؤُلَاءِ الواقع؛ لأَنَّهُمْ صعِدوا إلى الفضاءِ ووَصَلُوا إلى ما وصلوا إليه ولم يرسَل عليهم شُوَاظٌ من نار ولا نُحاس.
فالمهمُّ أنا قصدي بذلك أن بعض النَّاس من أهل العلم بالطبيعة يحاولون أن يُوجِدوا لكل حادثٍ دليلًا خاصًّا من القُرْآن، وهذا لا يجوز؛ لِأنَّهُ يَصرِف القُرْآنَ
عمَّا أراد اللَّه به، ويَقتضي أنْ يَتلاعَب النَّاس بالقُرْآن، ثم إنهم قد يَستدِلُّون بالآيات الكريمة على ما رأوْا من النظرياتِ، وتأتي بعد ذلك نظريات أخرى تُبطِلها، فيَكُون القُرْآن حينئذٍ باطلًا حسَب ما استدلَّ به الأوَّلون، ونحن -وللَّه الحمد- في غِنًى عن هَذَا الأمر، فهَذِهِ الأمور والحوادث الَّتِي تحدث من صنائع الإنْسَان أمرٌ لا حاجة إلى إقامةِ الدليلِ عليه من القُرْآنِ، لِأَنَّ واقعها يُثْبِتُها.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هم يريدون إثباتَ إعجازِ القُرْآنِ؟
فالجواب: إعجاز القُرْآنِ يَكفي أن نقولَ فيه: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]، وَأَمَّا الحقائق إذا دل عليها القُرْآن فلا بأسَ، لكنْ كوننا نُحرِّف القُرْآن مِنْ أجْل أن نُخضِعَه للدلالة على هَذَا الأمر فلا، فمثلًا لو استدلَّ أحد على تطوُّر الجنين وخِلقته بالآية الكريمة وبالحديث الصحيح فهذا لا بأسَ، فالشَيْء الَّذِي يدلُّ عليه القُرْآنُ لا بأس به، لكِن شَيْء يحرَّف القُرْآنُ مِنْ أجْلِه فلا.
المهمُّ أن اللَّه سبحانه وتعالى يخلُق الشَيْء ولا نعلمه في وقتنا نحنُ، وهذا يَجري على كل هَذِهِ الحوادث، فقبل أن تقعَ لا يعلمها الإنْسَانُ، وبعد وُقُوعها يعلمها؛ لِأنَّهُ قال:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} وهذا شَيْء معلوم {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]، يعني أشياء لا تعلمونها، وفعلًا خلق اللَّه سبحانه وتعالى أشياء ما كانوا يعلمونها في عهد الرَّسول عليه الصلاة والسلام وسيخلق أشياءَ لا نعلمها نحن في وقتنا، ويخلق اللَّه سبحانه وتعالى إلى آخِر الدَّهر شيئًا لا يعلمه مَن سبق، لكِن يعلمه مَن أَدْرَكَهُ؛ لِأَنَّ كونه يخلق معناه يُوجِد، والموجود لا بد أن يُعلم؛ فاللَّه يتحدث عن أمرٍ سيَكُونُ لنا {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} فإذا كان يتحدث عن أمرٍ سيَكُون لنا فمعنى ذلك سنَعْلَمُه إذا خَلَقَه اللَّه جَلَّ وَعَلَا.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: استدلَّ بعضهم بأن الأعصاب الخاصَّة بالإحساس موجودة في القشرة الرقيقة الَّتِي على العظم، يقول تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56]، هل يقالُ: هَذَا من بيان إعجازِ القُرْآنِ؟
هَذَا أيضًا غير صحيحٍ؛ لِأَنَّ أحوال الآخِرة لا تُقاس بأحوال الدُّنْيا، والإنْسَان مثلًا لو احترقَ الآنَ جلدُه وانكشطَ وأحرقنا اللحمَ يتعذب الإنْسَان بلا شكَّ، ولا يقال: نجربه، بل يتعذب الإنْسَان به يقينًا.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: إذا دخلت إبرة في جسم الإنْسَان فَإِنَّهُ عند دخولها يُحِسّ، ثم بعد ذلك لا يُحِسّ؟
نقول: صحيح، هَذَا معقول، وكل الداخليّ في الغالب ليس فيه إشكال، ولهذا لا يحس الإنْسَان بنزول الطعام في بطنِه.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: يقول اللَّه سبحانه وتعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، فهَذِهِ الأحداث لا بد أن تكون في القُرْآن؟
فالجواب: لا إشكال، لكِن قوله سبحانه وتعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ما المراد بالكِتَابِ؟ المقصود اللوح المحفوظ، قال عز وجل:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} ، لكِن قوله عز وجل:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، أوضح إن أرادوا أن يستدلوا، قال سبحانه وتعالى:{تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} لكننا نعلم أن التبيان إما مجمَل وإما مفصَّل، والقضية المشهورة عن الشيخ مُحَمَّد عبده رحمه الله مع الرجل النصراني حينما سأله عن كيفية صنع الطعام الَّذِي قُدم لهم في المطعم، قال النصراني:
القُرْآن تبيان لكل شَيْء، أين يوجد في القُرْآن كيف يُصنع هَذَا الطعام؟ فقال: هَذَا موجود في القُرْآن. فدعا الطباخ وقال: كيف تصنع هَذَا الطعام؟ قال: أصنعه بكذا وكذا، فقال: هكذا الطَّريق في القُرْآن، فإن اللَّه عز وجل يقول:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وكل قومٍ ذِكْرُهم خاصٌّ بهم، فأنا سألتُ هَذَا الرجلَ لأني لا أعلم، فالقُرْآنُ قد يَدُلُّنا على الشَيْءِ مباشرةً أو بالوسيلةِ والطَّريقةِ، فكل شَيْءٍ لا تَعلمه فالطَّريق إلى الوصول إليه أن تسألَ أهلَ ذِكْره، فالمرادُ أهلُ العلمِ، لكِن هل المراد أهل العلم الشرعيّ أو كل علم بِحَسَبه؟ لنفرِضْ أننا خصصناه بالعلم الشرعيِّ أفلا يُقاس غيرُه عليه؟ فهي إما أن تدل على العمومِ وتكون شاملةً لمثل هَذِهِ القضية بدلالة التضمُّن، وإما بدلالة الشمول المعنويّ، لا اللفظيِّ، وهو القياس، يقول اللَّه سبحانه وتعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل: 43 - 44]، فهذا يدل عَلَى أَنَّ المرادَ العلمُ الشرعيُّ، والآية الثَّانية:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]، وهو عامٌّ، لم يَقُلْ: بالبيِّنات والزُّبُر. ومثلما قلت: إن كانتْ شاملة لكلِّ شَيْءٍ وأن أهل كل ذِكر بِحَسَبه فهي شاملةٌ، وإلا فهي شاملةٌ شمولًا معنويًّا، وهو القياس، فنقول: إذا كان اللَّه أحالَنا على أهل الذكر الشرعيّ لمعرفة الحُكْم الشرعيِّ، فكذلك نحن نتحوَّل إلى أهلِ العلمِ غيرِ الشرعيِّ لمعرفةِ هَذَا العلمِ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: قوله تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، هَذِهِ الآية ذُكرت على العمومِ، وأوَّلها يبيِّن أن المراد العلمُ الشرعيُّ؟
لكِن مثلما ذكرنا الآن أن العموم قدْ يَكُون شمولًا لفظيًّا وقد يَكُون شمولًا، معنويًّا، فهم لا يَستوون، لكِن الَّذِي يُثنى عليه أهل العلم الشرعيّ، والشمول اللفظيُّ