المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (70) * * *   * قالَ اللَّه عز وجل: {إِلَّا مَنْ - تفسير العثيمين: الفرقان

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌الآية (1)

- ‌الآية (2)

- ‌الآية (3)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (4)

- ‌الآية (5)

- ‌الآية (6)

- ‌الآيتان (7، 8)

- ‌الآية (9)

- ‌الآية (10)

- ‌الآية (11)

- ‌الآية (12)

- ‌الآيتان (13، 14)

- ‌الآيتان (15، 16)

- ‌الآيات (17 - 24)

- ‌الآية (25)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (26)

- ‌فائدتان:

- ‌الآية (27)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (28)

- ‌الآية (29)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (30)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (31)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (32)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (33)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (34)

- ‌الآية (35)

- ‌الآية (36)

- ‌الآية (37)

- ‌الآية (38)

- ‌الآية (39)

- ‌الآية (40)

- ‌الآيتان (41، 42)

- ‌الآية (43)

- ‌الآية (44)

- ‌الآيتان (45، 46)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (47)

- ‌الآية (48)

- ‌الآية (49)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (50)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآيتان (51، 52)

- ‌الآية (53)

- ‌الآية (54)

- ‌الآية (55)

- ‌الآية (56)

- ‌الآية (57)

- ‌الآية (58)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (59)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (60)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (61)

- ‌الآية (62)

- ‌الآية (63)

- ‌الآية (64)

- ‌الآية (65)

- ‌الآية (66)

- ‌الآية (67)

- ‌الآيتان (68، 69)

- ‌الآية (70)

- ‌الآية (71)

- ‌الآية (72)

- ‌الآية (73)

- ‌الآية (74)

- ‌الآية (75)

- ‌الآية (76)

- ‌الآية (77)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

الفصل: ‌ ‌الآية (70) * * *   * قالَ اللَّه عز وجل: {إِلَّا مَنْ

‌الآية (70)

* * *

* قالَ اللَّه عز وجل: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70].

* * *

قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ} هلْ هَذَا الاستثناءُ مُتَّصِلٌ أو مُنْقَطِعٌ؟

الاستثناءُ متَّصِلٌ، يَعْنِي: من تابَ من دعاءِ غيرِ اللَّهِ معَه، ومَن تابَ من قَتْلِ النفسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بالحقِّ، ومَن تاب منَ الزِّنا، أمَّا الأول، وَهُوَ التوبةُ من دعاءِ غيرِ اللَّهِ معَه، فلا شُبْهَةَ فِيهِ ولا إشكال؛ لِأَنَّهُ حقٌّ للَّه، فإذا تابَ الْإِنْسَانُ منه إِلَى اللَّهِ قَبِلَهُ إذا كانتِ التوبةُ نَصُوحًا، ولا حاجةَ إِلَى أنْ يَسْتَأْذِنَ أحدًا، فلا شك أنَّه لا يحتاج أن يَستأذن ويَسْتَرْخِص مِنَ الصَّنَم.

قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} منهم]، وقوله رحمه الله:[مِنهم] أيْ من فاعلِ هَذِهِ الأمورِ الثَّلاثَةِ: الشِّرك وقَتْل النَّفْس والزِّنا، وإنَّما قَيَّدها بذلك لقرينةِ السياقِ، ولِئَلَّا تَتكَرَّر معَ ما بعدَها.

وما هي التوبةُ؟ التوبةُ هي الرجوعُ إِلَى اللَّهِ عز وجل، وقد ثَبَتَ فِي الحديثِ الصحيحِ فِي قصةِ الرجلِ الَّذِي قتلَ تسعًا وتسعينَ نفسًا ثم سألَ عابدًا: هل له من توبةٍ؟ فَقَالَ العابدُ: لَيْسَ لكَ توبةٌ، فالعابدُ جاهلٌ، واستعظمَ تسعًا وتسعينَ نفسًا، قَالَ: لَيْسَ لكَ توبةٌ، فَقَالَ: نُكْمِل بكَ المئة، فَقَتَلَهُ، وهذا من الجرِيرَةِ الَّتِي يَجُرُّها الْإِنْسَانُ

ص: 295

عَلَى نفسِه إذا أَفتى بغيرِ علمٍ، ثم سألَ عالِمًا: هل له من توبةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، ومَن يَحُولُ بينَكَ وبينَ التوبةِ؟ ! ولَكِنَّه أرشدَهُ إِلَى أنْ يَخْرُجَ من قريتِه هَذِهِ إِلَى قريةٍ أخرى يَكْثر فِيهَا الصالِحُون

(1)

إِلَى آخِرِ الحديثِ، فإذا كَانَ هَذَا فِي بني إسرائيلَ، فما بَالُكَ بهَذه الأُمَّةِ الذينَ وَضَعَ اللَّهُ عنهم الآصَارَ والأغلالَ، يقولُ اللَّهُ تَعَالَى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [يوسف: 111]، والنَّبي عليه الصلاة والسلام لم يَقُصَّها علينا مِنْ أجْلِ أنْ نَفْهَمَ القصةَ فقطْ، لَكِنْ لِنَعْتَبِرَ بِهَا، وإلَّا لكانتْ لَغْوًا، أمَّا كونُها فِي شريعةٍ منسوخةٍ فإنَّ مثلَ هَذِهِ الأمورِ لا يَدْخُلُها النسخُ، يَعْنِي كون اللَّه يتوب عَلَى مَن تاب هَذَا من صفاتِه الَّتِي لا تَتَخَلَّف، ثم إنَّ نَسْخَها لا يُمْكِن أنْ يُنْسَخَ إِلَى أسوأ فِي هَذِهِ الحالِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الأُمَّة أكملُ مِن غَيْرِها، فقد رفعَ اللَّهُ عنها الآصارَ والأغلالَ، ولو كانتِ التوبةُ لا تُقْبَل مِنَ القاتلِ لكانَ هَذَا مِن أعظمِ الآصارِ والأغلالِ الَّتِي عَلَى هَذِهِ الأُمَّة، ولهذا بنو إسرائيلَ ما يَقُصُّ اللَّهُ علينا شيئًا من قَصَصِهِم، ولا كَذَلِك النَّبي صلى الله عليه وسلم إِلَّا للتحذيرِ مما يُكرَه والترغيبِ فيما يُجَبّ.

والتوبةُ مِن قَتْلِ النفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ هل يَتَعَلَّقُ بِهَا حقٌّ آخَرُ لغيرِ اللَّهِ؟

الجواب: نعم يَتَعَلَّق بِهَا حقانِ آخرانِ، أَحَدُهما حقُّ المقتولِ: الميِّت، والثَّاني حقُّ أولياءِ المقتولِ، فلا تَصِحُّ التوبةُ إِلَّا بتمكينِ ذَوِي الحقوقِ أنْ يأخذوا بِحُقُوقِهِم. فنقولُ: الميِّت لا يُمْكِنُ الوصولُ إِلَى أَخْذ بحقِّه، لا يمكن لِأَنَّهُ مات ولا نعلم عنه وربما نعلم فِي الحقيقة أحيانًا إذا لم يَمُتْ حَتَّى أَبَاحَ صَاحِبَهُ، ربما نَعْلَمُ لَكِنْ فِي الغالبِ أَنَّهُ لا يعْلَم، وَأَمَّا أولياءُ المقتولِ فالتمكينُ مِن حَقِّهِم مُمْكِنٌ، فيذهب إليهم ويُسَلِّم

(1)

أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، رقم (3470)، ومسلم: كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله، رقم (2766).

ص: 296

نفسَه لهم، ويقول: أنتُمُ الآنَ بالخيارِ: تُريدون الدِّيَة، تُرِيدون القَتْل، تُرِيدون العَفْوَ.

إذَنْ نقول: التوبةُ مِن قتلِ النفسِ يَتَعَلَّق بِهَا حقَّانِ آخرانِ غير حق اللَّه؛ حقٌّ مُمْكِنٌ تحقيقُه، وهو حقّ الوَرَثَة: أولياء المقتول، وحقٌّ يمكِن أو لا يمكِن، وهو حقُّ المقتولِ؛ فإنْ أمكنَ تحقيقُه فِي الدُّنْيا وأسقطه فذاك، وإلَّا فإن اللَّه سبحانه وتعالى إذا عَلِمَ من هَذَا القاتلِ أَنَّهُ تابَ إليه توبةً نصوحًا فإنَّ مِن تمامِ توبةِ اللَّهِ عليه أنْ يعطيَ المقتولَ حقَّه حَتَّى لا يأخذَ من حَسَنات القاتلِ شيئًا.

لَوْ قَالَ قَائِلٌ: إذا لم يَتُبِ القاتلُ هل هو تحتَ المشيئةِ؟

نقول: إذا لم يَتُبِ القاتلُ فعليه الوَعِيدُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّه سبحانه وتعالى، فالقتلُ من الكبائرِ، فَهُوَ تحتَ المشيئةِ، لَكِنْ لا نجزم أَنَّهُ سَيُغْفَرُ له.

ننتقل إلى الزِّنا فِي قولِهِ: {وَلَا يَزْنُونَ} هل يَتَعَلَّقُ بِهِ حقٌّ آخرُ سِوَى حقِّ اللَّهِ؟ وهل يَحتاجُ إذا تابَ أنْ يَستبيحَ أو أنْ يَسْتَحِلَّ المزنيّ بِهِ أو لا يَحْتَاجُ؟

إذا كَانَ باختيارِها وهي الَّتِي جَنَتْ عَلَى نَفْسِها، إذا كانتْ ذاتَ زوجٍ فنَعَمْ، لَكِنْ إذا لم يَكُنْ لها زوجٌ فإذا كَانَ باختيارِها فلا حقَّ لها؛ لِأَنَّهَا هي الَّتِي انتهكتْ عِرْضَها، وإذا كانتْ مُجْبَرَةً فلها حَقٌّ، فلا بدَّ مِنِ استحلالهِا. وقد يقالُ: إن التوبةَ إذا صارتْ نَصُوحًا وتابَ إِلَى اللَّهِ فلا حاجةَ إِلَى الاستحلالِ؛ فإن اللَّه تَعَالَى يتوبُ عليه كما ثَبَتَ فِي الحديثِ الصحيحِ؛ أنَّ الحدَّ يَكُونُ كفَّارةً للذَّنْبِ

(1)

، ولم يَذْكُرِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا فوقَه بدونِ استحلالٍ، فمَن نظر إِلَى أن هَذَا فِيهِ حقّ انتهاك عِرْضِها وإكراهها عَلَى الفاحشةِ وسُوء سُمْعَتِها وسمعة أهلها قَالَ: لا بدَّ مِنِ اسْتِحْلَالَهَا من هَذَا الأمرِ؛

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الحدود، باب الحدود كفارة، رقم (6784)، ومسلم: كتاب الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها، رقم (1709).

ص: 297

لِأَنَّهُ أمرٌ عظيم، ومَن نظرَ إِلَى عُمُوماتِ الأدلَّة الدالَّة عَلَى أنَّ الزانيَ إذا أُقيمَ عليه الحدُّ وإذا تابَ تابَ اللَّهُ عليه قُلْنَا: إنَّ اللَّه تَعَالَى يَتَحَمَّل عنه حقَّ هَذِهِ المرأةِ المزنيّ بها؛ وعلى هَذَا فاستحلالُه أَوْلَى وأحسنُ.

إذَن نقول: الأوَّل حقٌّ للَّه مَحْض، ولا إشكالَ فِيهِ، والثَّاني حقٌّ للَّه ولغيرِه، ولا إشكالَ فِيهِ، والثالث حقّ لغيرِ اللَّه، ولَكِن مَن نظرَ إِلَى عموماتِ الأَدلَّة الدالَّة عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بشرطٍ أنْ يَسْتَحِلَّ مَن زنا بِهَا قَالَ: لا حاجةَ إِلَى الاستحلالِ، ولَكِن الأَوْلَى والأحوط أنْ يَسْتَحِلَّ كما تَقَدَّمَ.

لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هل يُفَرَّق بَيْنَ البِكْر والثَّيِّب؟

نقول: كله وَاحِدٌ.

ولَوْ قَالَ قَائِلٌ: ذكر الفقهاءُ أن البِكر تُعْطَى بغِشاء البَكَارة؟

هَذَا من جهةِ المالِ، وليسَ من صحَّة التوبة، لكِن لا بدَّ أنْ يُبْذَلَ لها النقصُ الَّذِي حَصَلَ، مثل ما لو أتلفَ مالها، وإذا لم يَبْذُلْ تَصِحّ، ويَكُون ذنبًا آخرَ مستقِلًّا، وقد نقول: إِنَّهُ من تمامِ التوبةِ، ولا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ هَذَا الفعلَ ناشئٌ عن ذلكَ، إِنَّمَا عَلَى كل حالٍ هَذَا لا يَدْخُلُ فِي مسألةِ العِرض، إِنَّمَا يدخل فِي مسألة المالِ، فالبكارة من جهةِ المالِ، لا من جهةِ العِرضِ.

قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ} وشروط التوبة خمسة:

الأول: النَّدَم عَلَى الذنب، أي عَلَى فِعلِه.

الثَّاني: الإقلاع عن الذَّنب والإقلاع عن المعصيَةِ، ويَشْمَل إعادةَ الحقِّ؛ لِأَنَّهُ ما دام الحقّ عندك ما أَقْلَعْتَ، ولهذا نقول: لَيْسَ بشرطٍ إذا كَانَ الحق لآدميٍّ أن نزيدَ

ص: 298

لأنَّ هَذَا الشرطَ دخلَ فِي قولنا: الإقلاع.

الثالث: العَزْم عَلَى عدمِ العودةِ، لو قَالَ قائل: العَزْم عَلَى عدمِ العودةِ ألا يَدْخُلَ فِي الإقلال عن الذنبِ؟

الجواب: لا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قد يُقْلِع ويقول: أنا اليوم لن أفعلَ، لكِن غدًا أفعله.

الرابع: الإخلاصُ للَّه؛ لِأَنَّ الْإِنْسَان قد يتوب رِياءً.

لَوْ قَالَ قَائِلٌ: العزم عَلَى عدم العودة ألا يدخُل أَيْضًا فِي الإخلاصِ؟

نقول: الكَلام عَلَى أنْ تكونَ التوبةُ للَّهِ هَذَا معنى الإخلاصِ، وإلَّا فَإِنَّهُ إذا أخلصَ سَيُقْلِع وسيَنْدَم، وهكذا فِي كل الشروطِ ما عدا أن تكونَ فِي الوقتِ، لكِن المراد أن يَكُون الحامِل لها الإخلاص، يَعْنِي أَنَّهُ ما تاب رِياءً ولا سُمعةً ولا خوفًا من سلطانٍ.

لَوْ قَالَ قَائِلٌ: قد يَكُون العَزْم عَلَى ألَّا يعودَ إخلاصًا؟

نقول: لا يَلْزَمُ، يُمْكِن أن يَعْزِمَ عَلَى ألَّا يعودَ نَظَرًا لأنَّ السُّلطة قويَّة ولا يستطيع، فلا بدَّ من الإخلاصِ، فكل عملٍ صالح لا بدَّ فِيهِ مِنَ الإخلاصِ.

الخامس: أن تكونَ التوبةُ فِي وقتِ قَبُولهِا، أمَّا كونها فِي مَحَلِّها فهي بالنسبةِ لكلِّ وَاحِدٍ أنْ يتوبَ قبلَ أنْ يُعَايِنَ المَوْتَ؛ لِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 18]، وبالنسبةِ لِعُمُوم النَّاسِ أنْ تكونَ قبلَ طلوعِ الشَّمْسِ مِن مَغْرِبِها، فإن بعد طلوعِ الشَّمْسِ من مغربِها لا تُقْبَل لو تابَ الْإِنْسَان.

لَوْ قَالَ قَائِلٌ: كيفَ يُجْمَعُ بَيْنَ قولِهِ: {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} وبينَ آياتِ التوبةِ؟

ص: 299

نقول: الآيةُ الَّتِي ذَكَرْتَ فِي قولِه تَعَالَى: {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} هَذِهِ لغيرِ التائبينَ، وهَذِهِ الآيةُ معَ آياتِ التوبةِ لَيْسَ فِيهَا إشكالٌ.

فَلَوْ قِيلَ: كيف الجوابُ عن قوله عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]؟

نقول: هَذَا جزاؤه، وقد قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6]، ومعَ ذلكَ إذا أَسْلَمُوا وتابوا قُبِلَت تَوْبَتُهم، فنقول: حَتَّى الشرك وَرَدَ فِيهِ الخلودُ الأبديّ، ومعَ ذلكَ لو تابَ منه قُبِلَتْ توبتُه، هَذِهِ مثلها، لكِن الكَلام عَلَى أَنَّهُ إذا تابَ هل نقولُ: إن التوبةَ قُبلتْ مُطْلَقًا أو نقول كما قَالَ ابن القيِّم مثلما فَصَّلْنا: إن التوبةَ يَتَعَلَّقُ بِهَا ثلاثةُ أشياءَ ولابد من تَحْقِيقِها.

فَلَوْ قِيلَ: كيف الجواب عن قول ابنِ عبَّاس رضي الله عنهما عمَّن سألَه: أَلِمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا من توبةٍ؟ قال: لا

(1)

؟

الجواب: هَذَا يُحْمَلُ مثلما قَالَ ابن القَيِّم

(2)

عَلَى أَنَّهُ لا يَجِدُ له توبةً بالنسبةِ لحقِّ

المقتولِ؛ لِأَنَّ اللَّه يقول: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]، وحقيقةً فَإِنَّهُ بالنسبةِ للميِّت ففِي الغالبِ لا يُمْكِنُ الوصولُ إِلَى تحقيقِ التوبةِ، والسَبَب لِأَنَّهُ فاتَ، ولا يُمْكِن استحلالُه، كما تَقَدَّم، وَأَمَّا بالنسبةِ لحقِّ اللَّهِ فلَا شَكَّ فِيهِ أبدًا.

(1)

أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، رقم (4762)، ومسلم: كتاب الإيمان، رقم (3023).

(2)

انظر مدارج السالكين (1/ 395 وما بعدها).

ص: 300

لَوْ قَالَ قَائِلٌ: قوله فِي سُورَةِ طه: {فَلَا يَصُدُّنَّكَ} [طه: 16] وَفي سورة القَصَص {وَلَا يَصُدُّنَّكَ} [القصص: 87] ما الفرقُ بَيْنَهُما؟

نقول: آيةُ طه قوله تَعَالَى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا} {مَنْ} هَذَا الفاعل {مَنْ لَا يُؤْمِنُ} ، إذَن هل الفعلُ مُفْرَد أو مجموعٌ؟ مفردٌ، وإذا كَانَ مفردًا يُبنى عَلَى الفتحِ لاتصالِهِ بنونِ التوكيدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بينه وبين التوكيدِ شَيْءٌ، وَأَمَّا قوله:{وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ} الَّتِي قبلَها {فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ} يَعْنِي المجرمين، فَهُوَ عائد إِلَى جمعٍ، فيَكُون الفعل الآنَ غيرَ مباشرٍ لنونِ التوكيدِ، أصله يصدوننك، فحذفت النون للجازمِ، وبقِيت عندنا (الواو) ساكنة والنون المشدَّدة ساكن أَوَّلها، فحذفت الواو لالتقاء الساكنينِ، ثم بَقِيَت الدال عَلَى ما هي عليه.

لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هل يَلْزَمُ التائبَ مِنَ الزِّنا أنْ يَطْلُبَ إقامةَ الحدِّ عَلَى نفسِهِ مثلما فعلَ ماعزٌ والغَامِدِيَّة؟

نقول: لا يَلْزَمُ، بلِ الأَوْلَى أنْ يَسْتُرَ عَلَى نفسِهِ، وفِعْلُ هَؤُلَاءِ اجتهادٌ مِنهم، ولا مانعَ منه، والرَّسول صلى الله عليه وسلم لاحِظ أَنَّهُ يراعي أشياءَ يَفْعَلُها الْإِنْسَان اجتهادًا ولا يُنْكِر عليه إذا كانتْ غيرَ مخالفةٍ للشرعِ، مثل الصدقة عن الميِّت، والحجّ عن الميتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذلكَ مِمَّا لم يَأْمُرْ بِهِ الرَّسول عليه الصلاة والسلام، فهَذَا جائزٌ وليس من المشروعِ.

لَوْ قَالَ قَائِلٌ: إذا كَانَ الذنبُ مثلًا غِيبَةً لأحدٍ، هل يَلْزَمُ أنْ نَطْرُق عليه بابَه ونقول له: واللَّهِ يا أخي قدِ اغتبناكَ ونريدُ أنْ نَسْتَحِلَّكَ؟ وإذا كَانَ مالًا: افرض أَنَّهُ مال، أخذ من إنْسَانٍ مالًا وتاب إِلَى اللَّهِ، هل يَلْزَمُ أنْ يَذْهَبَ ويقول: هَذَا مالك؟ يَلْزَمُه؛ لِأَنَّ من تمامِ التوبةِ أن يُعِيدَ المالَ، والرَّسول صلى الله عليه وسلم يقول: "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ

ص: 301

وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ"

(1)

، فإذا اغتابَه فليسَ هناكَ فَرْقٌ بَيْنَ المالِ والعِرض والرَّسولُ عليه الصلاة والسلام جَمَعَ بينهما، إذَن نقول: اذْهَبْ إليه واسْتَحِلَّهُ. وإلى هَذَا ذهبَ الفقهاءُ رحمهم الله، فالمذهَبُ أنَّهُ إذا تابَ مِنَ الغِيبة يَجِب عليه أن يُخْبِرَ المغتابَ ويقول له: أنا حَصَلَ مِنِّي كذا وكذا، فأَرْجُوكَ أنْ تَسْمَحَ لي.

القَوْل الثَّاني: لا؛ لأنَّ الغِيبة عبارةٌ عن قَدْحٍ فِيهِ وَرَدُّها بِمِثْلِها، وذلك بأنْ تُثْنِيَ عليه فِي المكانِ الَّذِي اغْتَبْتَهُ فِيهِ بما يُزِيلُ هَذِهِ الغِيبةَ، وهذا رَدُّه فِي الحقيقةِ؛ لأنَّ كَوْنَك تَذْهَب إليه وتقول له: حَلِّلني هَذَا لَيْسَ بِرَدِّ اعتبارهِ الَّذِي سَقَطَ حينما اغتبتَه فِي المجلِسِ، فلا يزول إذا حلَّله، بل يَبْقَى، فرَدُّ الغِيبة أنْ تُثْنِيَ عليه بالخيرِ فِي مقابلِ الثناءِ بالسُّوء، وهذا أصحُّ؛ لأنك فِي الحقيقةِ لو ذَهَبْتَ تُعْلِمُه يُمْكِن أنْ تأخُذَهُ العِزَّة بالإثم ويقول: لا، ثم إنَّك لو قلتَ له: إنِّي قلتُ: فلان بخيلٌ، قَالَ: لا، ما قَالَ: بخيل فقطْ، بلْ قَالَ: بخيل وشِرِّير وفاسِق وفاجِر؛ لِأَنَّ الشيطانَ يقولُ له هَذَا، فيَتَصَوَّر أنَّ الأمرَ أكْثَرُ من هَذَا، ولا يُسَامحِك، فما دام ما وَصَلَه العلمُ فلا حاجةَ لأنْ تُخْبِرَه، نعم لو وَصَلَهُ العلمُ وعَرَفْتَ أنَّ الرجلَ قد أُخْبِرَ عنك بأنَّك اغْتَبْتَه فهنا لا بدَّ أنْ تَسْتَحِلَّه.

فالخُلاصة أن يقالَ: إنَ المغتابَ إن كَانَ عالمًا بِغِيبَتِكَ فَهُوَ الآنَ قد صارَ فِي نفسِهِ عليك شَيْءٌ، فلا بدَّ أنْ تَسْتَحِلَّه لِيَزُولَ ما فِي نفسِهِ، وإنْ كانَتْ ما بَلَغَتْهُ، يَعْنِي أنَّك ما تَكَلَّمْتَ إِلَّا بِهَذَا المجلِسِ، وعَرَفْتَ أَنَّهُ ما وَصَلَهُ العلمُ، فهنا لا حاجةَ إِلَى أنْ تَذْهَبَ وتقول له، وإنما تُثْنِي عليه بالخيرِ مقابلَ ثنائِكَ عليه بالشرِّ، وهذا القَوْلُ هو الصحيحُ، وهو اختيارُ شيخِ الإسلامِ ابن تيميَّة رحمه الله.

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى، رقم (1739).

ص: 302

قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} التوبةُ تَقَدَّم الكَلامُ عَلَيْهَا، والإيمانُ فِي اللغةِ: التصديقُ والإقرارُ، ولَكِنه فِي الشرعِ تصديقُ القلبِ المستلزِم للقَبول والإذعانِ، وليسَ مجرَّد التصديقِ، بل هو تصديقٌ مُسْتَلْزِمٌ لهذا، فإن لم يَسْتَلْزِمْهُ فليسَ بإيمانٍ، فيقبل ما جاء بِهِ الشرعُ ويُذْعِن له فيُصَدِّقه إنْ كَانَ خبرًا ويقوم بِهِ إن كَانَ طَلبًا.

وقوله: {وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} هنا ذَكَرَ العملَ ووَصَفَهُ بالصلاحِ؛ لِأَنَّ العملَ غيرُ الصالحِ لا يَنْفَعُ صاحِبَهُ، والعمل الصالح ما جمع شرطينِ، وهما الإخلاصُ للَّه والمتابعةُ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فإنْ لم يَكُنْ فِيهِ الإخلاصُ فليسَ بمقبولٍ، وإنْ لم يَكُنْ فِيهِ المتابَعَةُ فليسَ بمقبولٍ، ففي الصحيحِ من حديثِ أبي هُريرة أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكتُهُ وشِرْكَهُ"

(1)

، هَذا دليلٌ على أنَّ غيرَ المُخْلِص فِيهِ مَرْدُودٌ، وَأَمَّا غيرُ المُتَابِع فِيهِ فلقولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"

(2)

، ويَجْمَعُهُمَا قولُ اللَّهِ عز وجل:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].

قوُله رحمه الله: [منهم] أي من فاعلِ هَذِهِ الأمورِ الثَّلاثَةِ: الشَرك وقَتْل النفسِ والزِّنا، وإنما قَيَّدَها بذلكَ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ، ولئَلَّا تَتكَرَّرَ معَ ما بَعْدَهَا.

قوله عز وجل: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} هَذَا مُسْتَثْنًى من قولِهِ: {يَلْقَ أَثَامًا} ، وما أُبدل منه، يَعْني {إِلَّا مَنْ تَابَ} فَإِنَهُ لا يَلْقَى أثامًا، ولا يُضَاعَف

(1)

أخرجه مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير اللَّه، رقم (2985).

(2)

أخرجه البخاري: كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، رقم (2697)، ومسلم: كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، رقم (1718).

ص: 303

له العذاب، ولا يَخْلُد فِيهِ، وتَقَدَّمَ أن شروطَ التوبةِ خمسةٌ: الإخلاصُ للَّهِ، والندَمُ عَلَى ما وَقَعَ، والعَزْم عَلَى أنْ يُقْلِعَ عنها، وأنْ يَعْزِمَ عَلَى ألَّا يعودَ، وأن تكونَ فِي وَقْتِها، أي فِي الوقتِ الَّذِي تُقْبَل فِيهِ التوبةُ، وتَقَدَّمَ أَيْضًا أنَّ هَذَا الاستثناءَ يَشْمَلُ كلَّ الذنوبِ الثَّلاثَة: الشِّرك، وقَتْل النفسِ، والزِّنا، وأنَّ ما ذُكِرَ عنِ ابنِ عباس رضي الله عنهما أنَّ القاتلَ لا تَوْبَةَ له، فإنْ أرادَ عَلَى وجهِ الإطلاقِ فليسَ بصحيحٍ، وإن أرادَ لا توبة له فيما يَتَعَلَّق بحقِّ المقتولِ فهذا صحيحٌ، عَلَى أنَّنا نقولُ: لا يَبْعُدُ أَنَّهُ إذا تابَ توبةً نصوحًا أنْ يَتَحَمَّلَ اللَّهُ تبارك وتعالى عنه حقَّ المقتولِ فيُرْضِيه.

لَوْ قَالَ قَائِلٌ: ما رَأيُكم فِي قولِ ابنِ القَيِّم رحمه الله فِي إعلامِ الموقِّعين

(1)

أنَّ الحدودَ تَسْقُطُ بالتوبةِ، استدلَّ بحديثِ النَّسائي، وفيه أَنَّ امْرَأَة وَقَعَ عَلَيْهَا رَجُلٌ فِي سَوَادِ الصُّبْحِ وَهِيَ تَعْمِدُ إِلَى المَسْجِدِ عَكُورَةً

(2)

عَلَى نَفْسِهَا، فَاسْتَغَاثَتْ بِرَجُلٍ مَرَّ عَلَيْهَا، وَفَرَّ صَاحِبُهَا، ثُمَّ مَرَّ عَلَيْهَا ذَوُو عَدَدٍ، فَاسْتَغَاثَتْ بِهِمْ فَأَدْرَكُوا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَتِ اسْتَغَاثَتْ بِهِ، فَأَخَذُوهُ، وَسَبَقَهُمُ الْآخَرُ، فَجَاءُوا بِهِ يَقُودُونَهُ إِلَيْهَا، فَقَالَ لَهَا: أَنَا الَّذِي أَغَثْتُكِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْآخَرُ. قَالَ: فَأتَوْا بِهِ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام، فَأَخْبَرَتْهُ أنَّهُ وَقَعَ عَلَيْهَا، وَأَخْبَرَ الْقَوْمُ أَنَّهُمْ أَدْرَكُوهُ يَشْتَدُّ، فَقَالَ: إِنَّمَا كُنْتُ أُغِيثُهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَأَدْرَكُوني هَؤُلَاءِ فَأَخَذُونِي. قَالَتْ: كَذَبَ، هُوَ الَّذِي وَقَعَ عَلَيَّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"انْطَلِقُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ". فَقَامَ الرَّجُلُ مِنَ النَّاسِ فَقَالَ: لَا تَرْجُمُوهُ وَارْجُمُونِي، فَأَنَا الَّذِيُ فَعَلْتُ بِهَا الْفِعْلَ. فَاعْتَرَفَ، فَاجْتَمَعَ ثَلَاثَةٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهَا، وَالَّذِي أَغَاثَهَا، وَالمَرْأَةُ، فَقَالَ:"أَمَّا أَنْتِ فَقَدْ غُفِرَ لَكِ"، وَقَالَ لِلَّذِي أَغَاثَهَا قَوْلًا حَسَنًا،

(1)

(3/ 15)، ط. دار الكتب العلمية.

(2)

أي قد غُلبت على نفسها.

ص: 304

فَقَالَ عُمَرُ: أَرْجُمُ الَّذِي اعْتَرَفَ بِالزِّنَى؟ فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لَا، إِنَّهُ قَدْ تَابَ إِلَى اللَّهِ"

(1)

.

هذا صحيحٌ، ففِي القُرْآنِ قَالَ تَعَالَى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34]، لا يُقامُ عليه الحدُّ إذا تابَ قبلَ القُدْرةِ عليه، إذا كَانَ هَذَا فِي قُطَّاع الطَّريقِ وذَنْبُهم من أعظمِ الذنوبِ، فهذا من باب أَوْلَى، إِلَّا حدّ القَذْف، فهو حقٌّ للآدميّ فلا يَسْقُط إِلَّا بإسقاطِ المقذوفِ، فاعترافُ الرجلِ علامةٌ عَلَى التوبةِ، أو أن الرَّسول صلى الله عليه وسلم علِم منه ذلك، المهمُّ أَنَّهُ إذا تابَ قبلَ القُدْرَة فَإِنَّهُ لا يُقامُ عليه الحدُّ.

قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ} المذكورةَ {حَسَنَاتٍ} فِي الآخِرَةِ]، يُبَدِّلها، التبديلُ: جَعْلُ شَيْءٍ مكانَ شَيْءٍ، وهذا التبديلُ هل هو تبديلٌ قَدَريَ أو تبديل جَزائيّ؟

اختلف فِي ذلك أهلُ العلمِ؛ فمِنهم مَن قَالَ: إِنَّهُ تبديل قَدَريّ، ومنهم مَن قَالَ: إِنَّهُ تبديل جزائيٌّ، كيف ذلك؟ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ تبديل قَدَرِيّ يَقُولُونَ: إن معنى تبديلِ السيئاتِ حسناتٍ أَنَّهُ لمَّا آمنَ وعَمِلَ عملًا صالحًا صارَ بَدَل الشرك إيمانٌ، وصار بدل الزنا وقتل النفس عَمَل صالح، معناه أن هَذَا الإيمانَ والعملَ الصالحَ صار بدلًا عن الكفرِ والزنا وقتل النفس، فالمعنى أن إيمانَه وعَمَلَه الصالحَ الَّذِي فَعَلَه هو الحسناتُ الَّتِي أبدلَ اللَّهُ السيئاتِ بِهَا، فيَكُون هَذَا التبديل قَدَرِيًّا.

وقيل: بل هو جزائيٌّ، بمعنى أنَّ هَذِهِ المعاصيَ نفسَها تكون حسناتٍ، يبدِّل اللَّه السيئاتِ السابقةَ يَجْعَلُها حسناتٍ، بالإضافة إِلَى حسناتِه الأخيرة الَّتِي قُدِّرَتْ له

(1)

أخرجه النسائي في الكبرى (6/ 474، رقم 7270).

ص: 305

فَفَعَلَها، وكيف ذلك؟ يَقُولُونَ: لأنَّ هَذِهِ السيِّئاتِ لمَّا تابَ منها صارَ له بكلِّ توبةٍ من هَذه السيئاتِ حسنة، فأُبدِلَتِ السيئاتُ حسناتٍ بالتوبةِ منها، ولأنه كلَّما تَذَكَّر ما سبقَ من أعمالِه السيئةِ أحدثَ لها توبةً، فصارت هَذِهِ الأعمالُ السابقةُ حسناتٍ بالتوبةِ منها، والصحيحُ شُمُولُ الآيه لهذا وهذا، وأن الآيةَ شاملةٌ للأمرينِ، فإنَّ مَن تابَ وآمَنَ وعمِل عملًا صالحًا تَبَدَّلَتْ سيئاتُه السابقةُ فصارتْ حسناتٍ، لَكِنَّها لَيْسَ هي الأُولَى نفسها، وكَذَلِك إذا تابَ منها جُوزِيَ عَلَى هَذِهِ التوبةِ بالثوابِ، فصارت السيئاتُ بالتوبةِ منها حسناتٍ.

وكَلامُ المُفَسِّر رحمه الله يَميلُ إِلَى الثَّاني؛ إِلَى أن هَذَا التبديل تبديل جزائىٌّ؛ لِقَوْلِهِ: {فِي الْآخِرَةِ} ؛ لِأَنَّهُ لو كَانَ قَدَرِيًّا ما كَانَ فِي الآخرةِ؛ إذ التبديلُ القَدَرِيّ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الدُّنْيا؛ لِأنَّهُ عَمله، والصحيح شمولُ الآيةِ للأمرينِ، فبالإيمانِ والعَمَلِ الصالِحِ تبدَّلَتْ أعمالُهُ إِلَى أعمالِ صالحةٍ، وبالتوبةِ من السيئاتِ صارتِ السيئاتُ السابقةُ حسناتٍ؛ لِأَنَّهُ يَزدادُ بهَذهِ التوبةِ رِفْعَةً ومَقَامًا عند اللَّهِ سبحانه وتعالى.

قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أيْ: لَم يَزَلْ مُتَّصِفًا بِذَلِكَ]، (كان) هنا -كما مرَّ- مجرَّدةٌ من الزمنِ، والمرادُ بِهَا اتصافُ اسْمِها بِخَبَرِها صفة لازمة، ولهذا قَالَ رحمه الله:[أي لم يَزَلْ متَّصِفًا بذلك] أي بالمغفرةِ والرَّحمةِ. والغَفُورُ صِيغةُ مبالغةٍ، أو صفة مُشَبَّهَة، وكلاهما يدلّ عَلَى الثُّبُوتِ والدوامِ والكثرةِ. والمَغْفِرَة: سَتْرُ الذنبِ معَ التجاوُزِ عنه، يَعْنِي ستر الذنبِ وإسقاط عُقُوبَتِه، وليسَ مجُرَّد الستر؛ لِأَنَّها مأخوذة مِنَ المِغْفَر، وبِالمغفرِ يَكُونُ السترُ والوِقَايَةُ.

وَأَمَّا الرَّحيمُ: فَهُوَ ذو الرَّحْمَةِ الواصلةٌ إِلَى المرحومينَ؛ لِأَنَّهَا تدل عَلَى الفعلِ معَ الصِّفةِ أيضًا، والرَّحمة صفةٌ من صفاتِ اللَّهِ عز وجل يَكُون بِسَبَبِها الإنعامُ والإحسانُ

ص: 306

إِلَى الخَلْقِ بجَلْب المنافعِ ودَفْعِ المضارِّ، وَأَمَّا مَن فسَّر الرَّحمةَ بالإحسانِ أو بإرادته فقولُه خطأٌ؛ لأنَّ إرادةَ الإحسانِ أَثَرٌ من آثارِ الرَّحمةِ، وكَذَلِك الإحسانُ، وليس هو الرَّحمةَ.

لَوْ قَالَ قَائِلٌ: قوله: {غَفُورًا} صفة مُشَبَّهَةٌ، معَ أنها منصوبةٌ ولم تَعْمَلْ؟

نقول: لَيْسَ بلازمٍ أنْ تعملَ، وَأَمَّا نَصْبُها فللعامِلِ.

لَوْ قَالَ قَائِلٌ: وَرَدَ حديثٌ ما معناه: ما يزال العبدُ يَرَى سَيِّئاتِه تُوضَع فِي كِفَّة موازين حسناته حَتَّى يَتمنَّى أنْ لو أكْثَرَ منَ السيِّئات؟

الجواب: لا أعرِف هَذَا الحديثَ، لكِن نظرًا إِلَى تبديلِ السيئاتِ بالحسناتِ يُمْكِن من هَذَا الوجهِ.

* * *

ص: 307