الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (74)
* * *
* قالَ اللَّه عز وجل: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
* * *
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا} بالجمعِ والإفرادِ]، {وَذُرِّيَّاتِنَا} جَمْعٌ، و (ذُرِّيتِنَا) إفراد. ثم قَالَ المُفَسِّر رحمه الله:[{قُرَّةَ أَعْيُنٍ} لنا بأن نرَاهُمْ مُطِيعِينَ لكَ {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} فِي الخيرِ].
بعد أنْ ذكرَ اللَّه عز وجل صلاحَ هَؤُلَاءِ فِي أنفسِهِمْ، ذَكَرَ أنَّهم أَيْضًا يَسْعَوْنَ فِي إصلاحِ غيرِهِمْ مِمَّن يتَّصِلُ بهم من الأزواجِ والذرِّيَّة، فقال:{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا} ، وَفِي هَذَا دليلٌ واضحٌ عَلَى أنَّ دأبَ المؤمنينَ دُعَاء اللَّهِ، وَأَمَّا مَن قالَ:(عِلْمُه بحالِي يَكْفِي عن سُؤَالِي) فهذا قولٌ باطلٌ وليسَ بصحيحٍ؛ لأننا نقولُ: إن اللَّه وصفَ الرُّسُلَ وأتباعَهم بأَنَّهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ، وهم يعلمون علمَ اليقينِ بأنَّ اللَّه يعلمُ بحالِهم، ومَن قَالَ مثلَ هَذَا القَوْل فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى استكبارِهِ عن دعاءِ اللَّهِ عز وجل وعَدَم خُضُوعِهِ لِرَبِّهِ، وإلَّا فمِنَ المعلومِ أن اللَّهَ عالمٌ بحالِ كلِّ أحدٍ، فلماذا لم تَقُلْ: يا ربِّ؟ ولَكِنَّ هَذَا -والعياذُ باللَّه- من الطرق الشيطانيَّة الَّتِي أَرْسَلَها الشيطانُ عَلَى مُتَّبِعِيهَا من الصُّوفيَّة وغيرهم.
قوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا} الهِبَة بمعنى العَطِيَّة.
قوله: {مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا} هل (مِنْ) للتبعيضِ أو لبيانِ الجِنْسِ؟ لبيانِ الجنسِ، فهم لا يَقُولُونَ: بعض أزواجنا تهَب لنا منهم قُرَّةَ أَعْيُنٍ، بل الجميع، ولَكِنها للبيان، فـ (من) بيانيَّة وليستْ تَبْعِيضِيَّة.
وقوله: {مِنْ أَزْوَاجِنَا} جمع زوجٍ، فيَشمَل الذَّكَرَ والأُنثى، فقوله:{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ} الرجل يقوله؛ لأن (الذين) للمذكَّر، والمرأة تقوله أَيْضًا؛ لأن الخطاب أو التحدُّث بصيغةِ جمعِ المذكَّر يشمل المؤنَّث أَيْضًا، فالمرأة تقوله والرجل يقوله أيضًا.
قوله: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا} قراءتانِ
(1)
: "ذُرِّيَتِنَا" و {وَذُرِّيَّاتِنَا} ، أمَّا عَلَى قراءة {وَذُرِّيَّاتِنَا} فالوجهُ فِيهَا ظاهر لفظًا ومعنًى، أَمَّا لفظًا فلِمُنَاسَبَةِ الجمعِ قبلها:{مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا} ، وَأَمَّا معنًى فلأنه أشملُ، فشموله ظاهِرٌ مِنْ أجْلِ الجمعِ، وَأَمَّا "ذُرِّيَّتِنا" فإنها لا تَتَلاقَى معَ ما قبلَها من حيثُ الصِّيغةُ؛ لِأَنَّهَا مفرَدةٌ، لَكِنَّها تُلاقيها من حيثُ المعنى؛ لِأَنَّهَا مفرد مضاف، والمفرد المضاف للعموم، ويَدُلُّ عَلَى أن المفردَ المضافَ للعمومِ من القُرْآنِ قولُه سبحانه وتعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، يقينًا أن المرادَ بالنعمةِ هنا الجمعُ؛ لِأنَّهُ قال:{وَإِنْ تَعُدُّوا} والنعمة الوَاحِدةُ أوَّلًا: لا تُعَدُّ، والشَيْء الثَّاني: تُحْصَى، واللَّه يقول:{لَا تُحْصُوهَا} فهذا مثالٌ واضح جِدًّا عَلَى أن المفردَ المضافَ يَكُون للعمومِ والشمولِ، إذَن (ذُرِّيَّتنا) عَلَى قراءةِ الإفرادِ يلاقي ما قبله من حيثُ المعنى؛ لِأنَّهُ يشمل جميع الذُّرِّيَّة.
ومَنِ المرادُ بالذُّرِّيَّة؟
(1)
الحجة في القراءات السبع (ص: 266).
المراد بالذرَّية الأولادُ؛ ذُكُورُهُم وإناثُهم، وأولاد الأبناءِ دونَ أولادِ البناتِ، فإن أولاد البناتِ لَيْسُوا من الذريةِ لُغةً ولا شرعًا عند كثيرٍ مِنَ الفقهاءِ، وقيل: بل أولادُ البناتِ من الذُّرِّيَّة؛ لأن اللَّه سبحانه وتعالى قَالَ فِي إِبْراهِيم: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ} [الأنعام: 84 - 85]، وعيسى ولد بنت وليس ولدَ ابنٍ، فجعله اللَّهُ مِن الذريةِ، فدلَّ هَذَا عَلَى أنَّ أولادَ البناتِ من الذريةِ، ولَكِنَّنا نقولُ: لَيْسَ فِي الآية دَلالةٌ؛ لأنَّ عيسى عليه الصلاة والسلام أُمُّهُ أبوه، يَعْنِي لَيْسَ له نَسَبٌ من قِبل الأبُوَّةِ، مُنْقَطِع؛ ولهذا المرأة المُلَاعِنة -أوِ المُلَاعَنة- إذا نفَى زوجُها ولدَها منه صارتْ هي أُمًّا أبًا، فالصوابُ أن الذرية لا يَدْخُلُ فِيهَا أولادُ البناتِ، هَذَا من حيثُ ناحية اللُّغَة والشَّرْع.
أما من حيثُ الوَقْفُ والهِبَةُ، وَمَا أَشْبَهَ ذلكَ مِمَّا يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْإِنْسَانُ بنفسِهِ، وله الحرِّيَّة فِيهِ، فهذا حَسَبَ ما ينصّ عليه، لو قَالَ مثلًا: هَذَا وَقْفٌ عَلَى ذُرِّيَّتِي الذكور والإناث، ومَن مات منهم عن ولدٍ فنصيبه لولدهِ، يَكُون هَذَا للجميعِ.
وكَذَلِك لو قَالَ: هَذَا وَقْفٌ عَلَى ذُرِّيتي ومَن تَفَرَّعَ منهم، وليس له إِلَّا بنات، فيدخل أولاد البناتِ بِلَا شَكٍّ، أو قَالَ مثلًا: عَلَى ذُرِّيَّتِي، وأولاد البنات يَنزِلون منزلة أُمَّهَاتهم، فكَذَلِك إذا نصَّ عَلَى الشَيْءِ أو دلَّت القرينةُ عليه دَخَلَ أولادُ البناتِ، لكِن هَذَا الدخول بِحَسَبِ ما تَقْتَضِيهِ الصِّيغة عُرْفًا أو نُطْقًا، لا بِحَسَب الشرعِ واللُّغة العربيَّة.
قوله: {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} ما معنى قرَّة العَيْن، قرة العين هل معناها الاستقرارُ، يعني أنَّها مأخوذة من الاستقرارِ، أو مأخوذة من القُرّ، وهو البَرْد؛ لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إن دُمُوع العين الحزينة حارَّة، والعَيْنُ القَرِيرَة باردةٌ؟
هَذَا هو الأقربُ، وليس منْ الاستقرار، وليس المعنى أنَّ الْإِنْسَانَ إذا فَرِحَ قَرَّت عينُه، وإذا حَزِنَ اضْطَرَبَتْ وتحركتْ، لَيْسَ الأمر كَذَلِك، لَكِنها من القُرّ الَّذِي هو البرودة؛ لأن الْإِنْسَان إذا حَزِنَ حَمِيَتْ عَيْنُه، ولهذا يقالُ: دموع الحزينِ حارَّة، فالمعنى السرور والاطمئنان، وَمَا أَشْبَهَ ذلك، وكُني بالعينِ لِأَنَّهَا تَتَأثَّر.
وقول المُفَسِّر رحمه الله: [بأنْ نرَاهُمْ مُطِيعِينَ لكَ] هَذَا فِي الحقيقةِ من جُملةِ ما تَقَرُّ بِهِ عينُ المؤمِن، أن يَرَى أزواجَهُ وذرِّيَّاتِهِ مُطِيعِينَ للَّه، والغريبُ أنَّ الْإِنْسَانَ المسلمَ إذا رأى أزواجَهُ وذرياتِه مطيعينَ للَّه تَقَرُّ عينُه وإنْ كَانَ هو فَاسِقًا، الغريب أن الوالدَ يَفْرَح أن وَلَدَهُ يصيرُ مُطيعًا للَّه مُجتَنِبًا للمعاصي، وهو فاسِقٌ، ويُحِبّ أنَّ وَلَدَهُ يصلي مع الجَماعَةِ، ولو كَانَ هو لا يصَلي، وكَذَلِك يحبُّ أنَّ وَلَدَهُ لا يشرب الدخَانَ، ولو كَانَ هو يشرب الدخانَ؛ لأن المسلمَ مَجبولٌ عَلَى مَحبَة طاعةِ اللَّهِ رحمه الله، فهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يقولون:{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} يَعْنِي بأن نراهم مطيعينَ لكَ، هَذَا وَاحِد. والصواب أَيْضًا (ولنا)؛ لأن الْإِنْسَانَ أَيْضًا إذا كَانَ ولدُه وزوجتُه موافِقِينَ لطاعتِهِ تَقَرُّ عينُه، هَذَا إذا أُضيفت إِلَى طاعةِ اللَّهِ، لكِن إذا كانوا مطيعينَ للَّهِ وعاصِينَ له تَقَرُّ عينُه من وجهٍ، إذا ذَكَرَ طاعتهم للَّه وقيامَهم بطاعةِ اللَّهِ رَضِيَ وفَرِحَ، وإذا رآهُم عاصِينَ له فإن هذا يسوءه، كأنْ يقولَ للولدِ: اجْلِسْ فِي القهوةِ وانتظِرِ الرِّجالَ، ولَكِنَّه يخرج، ويقول للمرأةِ: أَصْلِحِي الطعامَ، ولَكِنَّها لا تُصْلِحُه، فلَا شَكَّ أن هَذَا الشَيْءَ يَسُوءُه، ولا تَقَرّ عَيْنُه بِهِ، معَ أن هَذَا الأمرَ معصيةٌ للَّهِ.
يَعْنِي لَوْ شِئْنَا لَقُلْنَا: إن قولَه رحمه الله: [بأنْ نَراهُمْ مُطِيعينَ لكَ] يَشْمَلُ حَتَّى طاعتهم لأبيهم وطاعة المرأة لِزَوْجِها، يَشمَل هَذَا وهذا، وكَذَلِك قيامُ الرجلِ بما يَجِب لزوجتِهِ يدخلُ فِي ذلكَ، فلو شِئنا أنْ نقولَ هَذَا لَقُلْنَاه، لَكِنَّه خِلافُ ظاهرِ الكَلامِ،
فالصوابُ أن نراهم مُطيعينَ لكَ قائمينَ بما يَجِبُ عليهم لنا؛ لأنَّ بذلك يَتِمُّ قَرار العَيْن.
قَالَ سبحانه وتعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} : {إِمَامًا} يَعْنِي قُدْوَةً، والإمامُ هو القُدْوَةُ الُمَّتبَعُ.
وقوله: {لِلْمُتَّقِينَ} سَبَقَ الكَلامُ عَنِ التَّقوَى عِدَّةَ مَرَّاتٍ، وأن المرادَ بالتقوى اتِّخاذ وِقاية من عذابِ اللَّهِ، وذلكَ بِفِعْلِ الأوامرِ واجتنابِ النواهي، ومعنى كونه للمتَّقين إمامًا أي قُدوةً، لاتِّصافهم بالتقوَى، واتصافهم بالعلمِ؛ لِأَنَّهُ لا يُمْكِنُ أن يَكُونَ الْإِنْسَانُ قُدوةً إِلَّا إذا عُلِم فِيهِ العلمُ والتقوى، فإذا لم يكنْ عالمًا لم يَثقِ النَّاسُ بِهِ من حيثُ العلمُ، فالجاهلُ لا يَقْتَدُونَ بِهِ، وإذا كَانَ عالمًا لكِن عنده انحرافٌ قوليّ، أو عمليّ، أو اعتقاديّ، فَإِنَّهُ أَيْضًا لا يَكُون قدوةً للمتَّقين، لا لعدمِ عِلْمِه، ولكن لِعَدَمِ نُصْحِه.
فهذا الدعاء {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} يَتَضَمَّنُ ثلاثةَ أمورٍ: العلم والتقوى والتأثير؛ لأنَّ مَن لم يَكُنْ عَالمًا لم يَكُنْ قُدْوَةً، ومَن لم يكنْ مُتَّقِيًا لم يكنْ قُدوةً، ومَن لم يكنْ مُؤَثِّرًا لم يكن قدوةً أَيْضًا، والتأثير بالقَوْلِ والفعلِ له دورٌ كَبيرٌ، تَجِدُ مثلًا رجلينِ متقاربينِ فِي العلمِ لَكِنَّ أحدَهما يَصْرِفُ اللَّهُ القلوبَ إليه فيَتَّخِذُونَه قُدوةً، والآخر لا يحصُل له هَذَا الأمرُ، فلهذا نقولُ: نَزِيدُ عَلَى العلمِ والتقوَى التأثيرَ، والتأثيرُ كما هو معروفٌ يَكُونُ سَبَبه قوَّة البيانِ والفَصَاحَة، إذا كَانَ التأثير بالقَوْلِ، ويَكُون سَبَبه أَيْضًا الاستقامة وحُسْن السُّلُوك، إذا كَانَ تأثيرًا بالفعل. وعلى كلِّ حالٍ فلا تَتِمُّ الإمامةُ إِلَّا بهَذه الأمورِ الثَّلاثَةِ: العِلْم والتقوى والتأثير بِالْقَوْل أو بالفِعْلِ.
وفِي الآية إشكالٌ لفظيٌّ، وهو قوله:{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} لأنَّ (اجعلنا)
فِعل يَنْصِبُ مَفْعُولينِ، أحدُهما مبتدأ والثَّاني الخبرُ، ومن شروطِ المبتدأ والخبرِ أنْ يَكُونَا متطابقينِ إفرادًا وتثنيةً وجَمعًا، هنا المبتدأ جمع، أي فِي قوله:(واجعلنا) فـ (نا) جمع {لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (إمامًا) هَذَا الخبر، وهو المَفْعُول الثَّاني، وهو مفرَد، فيبقى إشكالٌ وهو عَدَمُ مطابقةِ الخبرِ للمبتدأِ، والمطابقة أنْ يقالَ: واجْعَلْنا للمتقينَ أَئِمَّةً، فما هو الجوابُ عَنْ هَذا؟
بعضُهم قَالَ: إنَّ (إمامًا) لفظٌ صالح للمفردِ وغير، مثل فُلْك وجُنب وأشياءَ كثيرة من هَذَا النوعِ، وعلى هَذَا لا إشكالَ لأنَّ (إمامًا) بمعنى أَئِمَّة، صالحة للجَمع.
ومنهم مَن قَالَ: إنَّ (نا) فِي قوله: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} نائبةٌ عن كلِّ وَاحِدٍ، لَيْسَ عن المجموعِ، يَعْنِي اجْعَلْ كلَّ وَاحِدٍ مِنَّا إمامًا، يَعْنِي كل وَاحِدٍ يدعو بمفردِهِ، فعلى هَذَا لا إشكالَ أَيْضًا إذا جَعَلْنَا الضميرَ فِي (اجعلنا) لَيْسَ عائدًا للمجموعِ، إِنَّمَا عائد لكلِّ فردٍ مِنَ الجميعِ، فلا إشكال فِي المسألةِ، وهذا أقربُ؛ لأنَّ كلَّ وَاحِدٍ مِنَ المؤمنينَ لا يَسأَلُ اللَّهَ سبحانه وتعالى أنْ يَجْعَلَ المجموعَ أئمَّةً، هو يريد أن يجعلَ كلَّ وَاحِدٍ إمامًا.
وفي هَذَا دليلٌ عَلَى فَضيلةِ الإمامةِ فِي الدينِ، ومنها إمامةُ المساجِدِ، فإنَّ الإمامَ فِي المسجدِ إمامٌ للمتَّقين؛ لأن الَّذِينَ يأتون للصلاةِ متَّقون إنْ شاء اللَّهُ، فَهُوَ إمام لهم، فيدلّ ذلك عَلَى فضيلةِ تولِّي الإمامةِ فِي المساجِدِ، وأمرُ ذلكَ معلومٌ، يَعْنِي فضل الإمامة فِي المساجد معلوم، ولو لم يَكُنْ منها إِلَّا أنَّ الْإِنْسَانَ يَكُون قُدوةً، وأن الإمامة تُعِينه عَلَى أداءِ الصلاةِ، فالإمامُ لا تَفُوتُه الصلاةُ كلَّ يومٍ، وغيرُه تفوتُه أو يفوته بعضُها، كَذَلِك الإمامُ إذا تكلَّم يَسْمَع له أكْثَر، وكم من إنْسَانٍ ما بَرَزَ وظهرَ إِلَّا بسَبَبِ إمامتِهِ، لاسِيَّما إذا تَوَلَّى الخَطابة.
المهمُّ أنَّ إِمَامَةَ المساجِدِ يَنْفِرُ النَّاسُ مِنها معَ الأسفِ، الآنَ تَجِدُ حَتَّى بعض طَلَبَة العلمِ لا يُمْكِن أنْ يَتَوَلَّوْا إمامةَ مسجدٍ، حَتَّى معَ الضرورةِ إِلَى ذلكَ، وهذا يُتِيحُ الفُرصةَ لمِن هم دُونَهم فِي العلمِ والاستقامةِ وحُسْن التوجيهِ والإرشادِ والقُدوة أنْ يَتَوَلَّوْا إمامةَ المساجدِ، حتى إِنَّ منهم مَن يخرُج عَلَى ما اعتادَهُ أهلُ البلدِ، مثل أنْ يَجْهَرَ بِالْبَسْمَلَةِ ويَقْنُت فِي صلاةِ الفجرِ، وهذا وإنْ كَانَ جائزًا عندَ بعضِ أهلِ العلمِ أو مُسْتَحَبًّا، لَكِنِ السنَّة عَلَى خِلافه، والسنَّةُ أَوْلَى، لاسيَّما إذا كَانَ الْإِنْسَانُ فِي بَلَدٍ لا يَفْعَلُون هَذَا، لكِن أولئك يَرَوْنَ أنَّهم عَلَى حقٍّ، وأن الْإِنْسَانَ يَجِبُ أنْ يَتَمَسَّكَ بالحقِّ مَهْمَا كَانَ الأمرُ، وهم مَعْذُورون؛ لأَنَّهُمْ مُجْتَهِدون، ولَكِننا نَأسَفُ لطلبةِ العلمِ أنْ يُفْسِحُوا المجالَ لمثلِ هَؤُلَاءِ، فالمُسْتَحَبُّ المؤكَّد الَّذِي يَنبغي أنْ يَتَوَلَّوْا هم هَذهِ الإمامةَ؛ ليَنْتَفِعُوا ويَنْفَعُوا غيرَهم ويَسُدُّوا الفراغَ الَّذِي رُبَّما يَشْغَلُه مَن لا يُوثَقُ فِي دينِه وعملِه.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: لو أنَّ الأوقافَ تقومُ بحملةِ توعيةٍ وإرشادٍ للناسِ فِي فضلِ وأهميَّةِ الإمامةِ لِأَجْلِ ألَّا يَنْفِرَ طُلَّاب العلمِ مِنَ الإمامةِ؛ لأنَّ الأشخاصَ الَّذِينَ يَرْغَبُون فِي الإمامةِ يأتيهم مثلًا آباؤهم أو أقاربهم ويَقُولُونَ لهم: كيف تَتَحَمَّل الجَماعَةَ يومَ القيامةِ؟ !
نقول: صحيحٌ، بعض النَّاسِ يَظُنُّون أنَّ الإمامَ مسؤولٌ عن جماعتِهِ، ولَكِنه لَيْسَ مَسْؤُولًا أبدًا، هو مسؤولٌ عن صلاتِه، صحيح أن عليه مسؤولية من جهةِ إتمامِ الصلاةِ، يَعْنِي مثلًا إذا صليتُ وحدِي ممكِن أن أَقْتَصِر عَلَى الواجباتِ فقطْ، لكِن إذا كنت إمامًا لغيري لا يجوز أن أَقْتَصِرَ عَلَى الواجباتِ، يَجِبُ أنْ آتيَ بالصلاةِ كاملةً، وهَذِهِ مسألة أَيْضًا يَجِب أنْ يُلاحِظَها الأئمَّة؛ لأن بعضَ النَّاسِ يقولُ: ما دام
أني إمامٌ أنا سآتي بأدنى الواجبِ، نقول: نعم، لو كنت تُصَلِّي وحدَكَ فلا حرجَ عليكَ أن تَقْتَصِرَ عَلَى أدنى الواجبِ، ولا حرجَ عليك أنْ تُطَوِّلَ ما شئتَ كما قَالَ الرَّسول صلى الله عليه وسلم
(1)
لَكِنْ إذا كنتَ إمامًا فأنتَ الآن فِي ولايةٍ، والوَلِيّ عَلَى الشَيْءِ يَجِبُ عليه أنْ يَفعَلَ ما هو أحسنُ، قَالَ سبحانه وتعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152].
فما دام أنك وَلِيّ يَجِب عليكَ أنْ تفعلَ فِي صلاتِكَ أكملَ ما يَكُونُ، فلا تَقْتَصِرْ عَلَى الواجِبِ. والفقهاءُ رحمهم الله يَقُولُونَ: يُكْرَهُ سُرعةٌ تَمنَعُ المأمومَ فعلَ ما يُسَنّ، وتَحْرُم السرعةُ الَّتِي تَمْنَع المأمومَ فِعلَ ما يَجِبُ. هَذَا صحيحٌ، لكِن أنا عندي أن السرعةَ الَّتِي تمنعُ المأمومَ فعلَ ما يُسَنّ ليستْ مكروهةً فقطْ بل حرام؛ لأنك الآن وليّ، ويَجِب عَلَى الوليِّ أنْ يفعلَ ما هو الأَصْلحُ لمِن وُلِّيَ عليه، ولَا شَكَّ أن الأَصْلحَ هو اتِّبَاعُ السُّنَّةِ مثلما قُلْنَا فِي الأمورِ الَّتِي يُخَيَّر فِيهَا الْإنْسَان، فالأمورُ الَّتِي يخيَّر فِيهَا الْإِنْسَان إن كانتْ مِنْ أجْلِ ما يَتَعَلَّق بنفسِهِ فالتخييرُ الَّذِي يَشتهي يَفْعَله، كالتخييرِ فِي خِصال الكفَّارة مثلًا إطعام عَشَرة مساكين أو كِسْوَتهم أو تحرير رَقَبَة، وإذا كَانَ التخيير فيما يتعلق بمصلحةِ الغيرِ فالتخييرُ تخييرُ مصلحةٍ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هل عَلَى الإمامِ مسؤوليةٌ من جهةِ الذينَ لا يُصلُّون مع الجماعَةِ؟
الإمامُ لَيْسَ عليه مسؤولية فِي هَذَا إِلَّا مثل ما عَلَى غيرِه، كل إنْسَان رأى مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرهُ، ولا تزيد مسؤوليتُه أبدًا، فَهُوَ مثل غيرِه، لو كَانَ فِي المسجدِ إنْسَانٌ وَجِيهٌ كَلِمَته مسموعةٌ صارَ عليه من السلطةِ أكْثَر من الإمامِ، نحن نقول: هو مثل غيرِهِ بِحَسَبِ
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء، رقم (703)، ومسلم: كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، رقم (467).
الحالِ، فالْإِنْسَانُ الَّذِي يَقْدِر أنْ يُغَيِّرَ بِيَده يُغَيِّر بيده، والَّذِي لا يَقْدِر يغيِّر بلسانِهِ، والَّذِي لا يقدِر يغيِّر بقلبِه.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هل واجبٌ عَلَى الإمامِ قِيَامه بالعددِ؟
قُلْنَا: لا يَجِب عليه العددُ أبدًا.
وَلَوْ قِيلَ: هَذَا من التعاونِ.
نقول: كل النَّاسِ يريدون أنْ يَتَعَاوَنوا عَلَى هَذَا الأمرِ، حَتَّى لو فُرِضَ أن الرجلَ قَالَ: إن كنتُ إمامًا أَلْزَمْتُ نفسي بِهَذَا، فهل هَذَا من الخيرِ أو من الشرّ؟ الحمدُ للَّه إن كَانَ من الخيرِ فليكنْ مما يدعو إِلَى الإمامةِ ويُشَجِّع عَلَيْهَا، والحقيقة أن اللَّه عز وجل جعلَ للأشياءِ شُرُوطًا {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، لا يُهدَى الْإِنْسَانُ سَبِيلَه إِلَّا بعدَ أنْ يُجاهِدَ فِيهِ، لكِن لا يُمْكِن أنْ تَصلَ إِلَى شيْءٍ بِهِ السرورُ والأُنْسُ والحُبُور عَلَى جَناحِ الرِّيح! فلا بد من شوكٍ ومن حَصًا ومن كلِّ شَيْء:"حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ"
(1)
.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: الآن توجد للإمامةِ مُرتَّبات وعدم قيامه بالعدد، فقطْ يَرْكَع الركعاتِ صار كأنه من الجَماعَةِ، فما دام ما شعّ النُّور وصارَ المسجدُ مدرسةً، فما فائدةُ الإمامِ؟
لَيْسَ بلازمٍ، لَكِنْ لا يوجدُ شكٌّ أنَّهُ مِنَ الكمالِ أنْ يَكُونَ الإمامُ عالِمًا أو طالِبَ علم يَستطيع أنْ يَتكلَّم، لَكِنْ إذا لم يكنْ.
أنا أقول: إِنَّهُ يَجِب أنْ نَسُدَّ الفَراغَ عن غَيْرِنا؛ لأَنَّهُمْ إذا كَثُر الأجانبُ عِندَنا
(1)
أخرجه مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم (2822).
وصارتْ مساجدُنا كلها أئِمَّة أجانبَ فالإمامُ يؤثِّر، ولولا أن النَّاسَ عِنْدَهم تَمَسُّك وعدم ثِقَة بالأجانبِ وعندهم ثقةٌ كبيرةٌ فِي المواطنينَ لكانَ كل الَّذِينَ يصلون وراء هَؤُلَاءِ الأجانبِ يَجْهَرُون بِالْبَسْمَلَةِ ويَقْنُتُونَ فِي الفجرِ، وهكذا، لكِن الحمد للَّه أَنَّهُمْ إِلَى الَانَ ما صارَ لهم قَبُول فِي البلدِ، وهَذِهِ من نعمةِ اللَّهِ، وإلَّا كانوا يؤثِّرون تأثيرًا بالغًا، فالإمام لَا شَكَّ أَنَّهُ يؤثِّر في مَن خَلْفه، نحن نقولُ: يَجِب عَلَى المواطنينَ عِندنا أن يَسُدُّوا هَذَا الفراغَ لِئَلَّا يَشْغَلَه مَن لا يُوثَق بِهِ، وبعضهم يُدَخِّنُونَ، لكِن الدخان أهون من العَقِيدة؛ لأن المشكِلة فِي العقيدةِ، الآن المهمُّ هو العقيدةُ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: الأوقافُ لها لوائحُ ويَجِب عَلَى الإمامِ كذا وكذا، فصارتِ الإمامةُ وظيفةً؟ هي وظيفةٌ، حَتَّى الفقهاء يُسَمُّونها وظائف، وإذا قُلْنَا: إِنَّهُ يَجِب عَلَى الإمامِ كذا بِمُقْتَضَى الإمامةِ، هل هَذَا يَمْنَع أَيْضًا لأنك أنتَ إذا ما قمتَ بِهَذَا قامَ بِهَا الأجنبيُّ.
لَوْ قِيلَ: الأَجْنَبِيُّ يُرْشِدُ النَّاسَ وسيقول كَلِمَةَ خَيْرٍ؟
قُلْنَا: ما الَّذِي يُدْرِيكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ كَلِمة خير.
لَوْ قِيلَ: هَذَا واضح.
نقول: قبل أن يتكلم وهو غير معروف لك ليس بواضح.
ثم أَيْضًا هَذَا الإمام نفسُه قد لا يَكُونُ عِنْدَهُ إدراكٌ، فهذا الَّذِي يقولُ كَلِمَةَ خير يمكن أنْ يأتيَ بحديثٍ موضوعٍ؛ كقولهِم: الَّذِي يَتْرُكُ الصلاةَ له خَمْسَةَ عَشْرَةَ خَصْلَةً
(1)
(1)
قال الحافظ في لسان الميزان (7/ 366) في ترجمة محمد بن علي بن العباس البغدادي العطار: "زعم المذكور -صاحب الترجمة- أن ابن زياد أخبره عن الربيع، عن الشافعي، عن مالك، عن سُمَيّ، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه: من تهاون بصلاة عاقبه اللَّه بخمس عشرة خصلة. . . الحديث. وهو ظاهر البطلان من أحاديث الطرقية".
وهو حديث موضوعٌ، ما الَّذِي يُدْرِيكَ، واتقاءُ الشرِّ قبلَ الوُقُوعِ فِيهِ أحسنُ مِن علاجِه بعدَما يَقَع.
لَوْ قِيلَ: الأَصْلُ الإباحةُ، والرَّسول صلى الله عليه وسلم لم يَمْنَعْ أحدًا؟
أولًا ما أظُنُّ أنَّ أحدًا يَتكلَّم والرَّسول صلى الله عليه وسلم حاضرٌ، هَذِهِ وَاحِدةٌ، وكَذَلِك أَيْضًا ما عَهِدنا أنَّ أحدًا يتكلَّم معَ وجودِ الأئمَّة، والشَيْء الثَّاني نحن لا نقول: إن الحقَّ يَجِب أنْ يمنع لكِن نقولُ: مَنْ يقولُ: إن هَؤُلَاءِ يريدون الحق؟ نجدُ كثيرًا يتكلمونَ وإذا انْتَهَوْا قالوا: أَعْطُونا. فهَؤُلَاءِ يَجِبُ أَنْ يُمْنَعُوا ويُضْرَبُوا أيضًا، فهم يَصطادون الدُّنْيا بالدِّين، فبعدما يُوَجِّه يقولُ: واللَّهِ أنا فِي الحقيقةِ مستح منكم وخجلان، لكِن عليَّ كذا وكذا. أنت مستحٍ وخجلان فلماذا تَعِظُهم وتقول: أَعْطُوني قروشًا؟ ! وهَذِهِ حَصَلَتْ عندنا بالجامعِ، وتحصُل عند غيرِنا، ونَسْمَع عن هَذَا، وهذا الشخص لَيْسَ معروفًا، وإذا كَانَ معروفًا لا يُمْنَع، وأنا لم تَأْتِنِي تبليغاتٌ من هَذِهِ، لكِن أَجْزِم جَزْمًا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ الَّذِي لا تَعْرِفُونَه، فلا تَسْمَحُونَ لهم.
المهم أن هَذَا غير مانعٍ من تولِّي الإمامةِ، وأنت إذا كُنْتَ غيرَ إمامٍ وتَوَلَّى الإمامةَ غيرُك هل سَيَسْمَح للناس أن يَتكلَّموا؟ أبدًا، أنا قَصْدي أن الإمامةَ فِيهَا مصالحُ كثيرةٌ بالنسبة للشخصِ نفسِه؛ لِأنَّهُ يَقْدِر أنْ يَتكَلَّم بما يشاءُ ويوجِّه النَّاسَ، وعندما لا يَكُون إمامًا لو جاء يتكلم قَالَ له الإمام: لا تَتَكَلَّم، لكِن لو صارَ هو الإمامَ هل أحدٌ يَمْنَعُه ويقول له لا تتكلم؟ إذَن يَنْفَع النَّاس بِعِلْمِه، ثم هي أَيْضًا ممَّا يُعِين عَلَى الطاعةِ، فأنا أشعُر بِهَذَا عندَما كنتُ غيرَ إمامٍ، فيَفُوتني بعضَ الأحيانِ بعضُ الصلاةِ، وأتكاسَلُ، وأحيانًا أذهَبُ إِلَى هَذَا المسجدِ، وأحيانًا أذهب إِلَى هَذَا المسجدِ، لكِن لمَّا صِرْتُ إمامًا لم تَفُتْنِي صلاةُ الجمَاعَةِ.
لَكِنْ لَوْ قِيلَ: الَّذِي جَعَلَهُ مُنْضَبِطًا الإمامةُ فهل يَنْقُصُ أَجْرُه؟
لا ينقص أبدًا؛ لأن كونَ الْإِنْسَانِ يَصيرُ له مُشَجِّعَات عَلَى الخير لا يُبْطِل هَذَا أَجْرَه، ما جَعَلَ اللَّهُ المُرَغِّبات الَّتِي فِي الكِتَابِ والسنَّة عَلَى الخيرِ إِلَّا لأجلِ أنْ يُسْعَى له.
لَكِنْ لَوْ قِيلَ: بعض النَّاس يَأْتُون الصلاةَ مُبَكِّرين بدونِ إمامةٍ، لماذا لم تُبَكِّر إِلَّا لمَّا صِرْتَ إمامًا؟
المسألةُ ليستْ مسألةَ التبكيرِ، المسألة أنها تُعِينني لَيْسَ عَلَى التبكير فقطْ ولَكِن عَلَى إدراكِ الجَماعَةِ أَيْضًا إذا كنت لا أُبَكِّر، فهذا ممَّا يُعِينُ، أليس اللَّه جعلَ للناسِ من الغنيمةِ شيئًا، وأليس الأئمَّة والمؤذِّنون جعلَ لهم رصدًا من بيتِ المالِ، وأليس النَّبي عليه الصلاة والسلام يُشَجِّع بإعطاءِ المؤلَّفة قلوبهم وغير ذلك؟
فكون الْإِنْسَان يَكُون له مُشَجِّعات عَلَى الخيرِ لا يُبْطِل أجرَه، فالأَصْل والكَلامُ عَلَى النِّيَّةَ، إذا كنتَ تَفْعَل هَذَا للدنيا فهَذَا صحيحٌ يؤثِّر فيك كثيرًا، أَمَّا إذا يَسَّرَ اللَّه لكَ من أسباب الطاعة ما يُعِينُكَ عَلَيْهَا؛ فهذا طَيِّبٌ، ولا يَنْقُصُ الأجرُ، بل إن الرَّسول صلى الله عليه وسلم يُشَجِّعُ عَلَى ما يُعِينُ:"تَسَحَّرُوا؛ فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً"
(1)
وكان يَصُبُّ عَلَى رأسِه الماءَ وهو صائمٌ مِنَ الحَرِّ
(2)
، كل هَذَا يُعِينُه عَلَى الطاعةِ، فالمشَجِّعَاتُ عَلَى الخيرِ لا تَنْقُصُ الخيرَ، الكَلام عَلَى النيَّة فقطْ، إنْ فعلتَ هَذَا الشَيْءَ للدنيا فيَكُون صحيحًا وحَبِطَ عَمَلُكَ.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الصوم، باب بركة السحور من غير إيجاب، رقم (1923)، ومسلم: كتاب الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه، واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر، رقم (1095).
(2)
أخرجها أبو داود: كتاب الصوم، باب الصائم يصب عليه الماء من العطش ويبالغ في الاستنشاق، رقم (2365).
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: ما حُكْمُ مَن يُبَكِّر ويُسْرِع لإدراكِ الجَمَاعَةِ خَجَلًا مِنَ النَّاسِ؟
إذا كَانَ يُرائِي النَّاسَ فهَذَا شَيْءٌ ثانٍ، حَتَّى الَّذِي لَيْسَ بإمامٍ قد يَرَى أَنَّهُ يُفقَد فِي الجمَاعَةِ ويحب ألا يُفْقَدَ، ولو لم يكن إمامًا، فالكَلام عَلَى النيَّة، إذا كَانَ يَخْجَل من النَّاس فهذا لَا شَكَّ أَنَّهُ يَنْقُص الأجرَ، لكِن إذا كَانَ يقولُ: أنا أُسْرِع لأقومَ بالواجبِ عليَّ ولا أُربك النَّاسَ، مرَّة أتقدَّم ومرة أتأخَّر، فهَذَا طيِّب، فهذا أسرع لإحسانِ عَمَلِهِ.
لَوْ قَالَ قَائِل: بعضُ الأئمَّة عوامُّ، ولا يَستطيعونَ أنْ يَتكَلَّمُوا، مع أنَّهُ يصلي خلفهم طلَّابُ عِلْمٍ، ولا يُمْكِن أنْ يتركوا الإمامةَ، فيوجد أربعة شباب من طلاب العلم يصلون خلفَ إمامٍ عاميٍّ؟
نقول: نحن نريد أن يأتوا هَؤُلَاءِ عندنا، وإنْ كَانَ تلاميذُنا هَذِهِ السنَةَ أَحْسَن ونَفَعَ بعضُهم فِي التراويحِ، وقاموا ببعضِ الواجب، لكِن نَحْتَاج المزيدَ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الأئمَّة مَنْ صَلَّى بهم إمام لا يُمْكِن أنْ نقولَ له: تَأَخَّر لأنَّ اختيارنا الأَوْلى عند ابتداءِ الإمامةِ، فإذا وُجد إمامٌ لا يمكن أنْ نَعْزِلَه إِلَّا بسَبَبٍ شرعيٍّ، ولنْ يَرْضَى، ولو كَانَ مُتَطَوِّعًا، لكِن يجوز عَزْلُه إذا رَضِيَ، فليس هناك مانعُ، لاسيما إذا كَانَ الَّذِي سَيَتَوَلَّى الإمامةَ خيرًا منه، فإذا كَانَ الَّذِي سَيَتَوَلَّى خيرًا منه فهذا طيِّبٌ، لكِن الإمام الأول هل يجوز أن يأخذَ المرتَّب؟ نعم؛ لأن هَذَا تنازَلَ له؛ لأن المرتبَ للثاني، والثَّاني تنازلَ عنه، وهَذِهِ وَقَعَتْ حسبَ ما سَمِعْتُ، مؤذِّن الجامع الكبيرِ فِي الرياضِ ابن ماجد كَانَ يؤذِّن فِي مسجدٍ فِي أحد الجِهات، ولمَّا عُمِر هَذَا المسجد الجديد الكبير طَلَبُوا منه أن يَكُونَ هو المؤذِّنَ، لكِن إمامه الأول لم يكن راضيًا بذلكَ، فجعلوا له المرتَّب والوظائف الَّتِي للمسجدِ وهذا جعلوا له مُرَتَّبًا جديدًا.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: بعضُ الأئمَّةِ عنده ظرُوف فِي البيتِ مثلًا، كأنْ يَكُونَ كبيرًا فِي السنِّ أو شيئًا من هَذَا القَبيل، يقول: أنا أريد أن أُصَلِّيَ أوقاتي الَّتِي أستطيعُ أن أَحْضُرَ فِيهَا إِلَى المسجدِ، ويجعل شخصًا آخرَ من أهلِ البلدِ يساعده، هل يجوز هذا؟
لا يوجد مانعٌ إذا قَالَ لشخصٍ: إذا تَخَلَّفْتُ فَصَلِّ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: بعضُهم يقول: الإمامةُ ارتباطٌ ولا أستطيعُ السفرَ؟
هَذَا أكْثر ما يَعْتَذِرون بِهِ، يَقُولُونَ: واللَّهِ الإمامةُ تَربُط وتُشْغِل، وأنا أريدُ يومًا أتمشَّى هنا ويومًا أتمشى هنا؟ أنا أقولُ:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4]، كلُّ هَذِهِ عَقَبَات الأَصْلُ عَدَمُها، فأنتَ اجْزِمْ واحْتَسِبِ الأجرَ مِنَ اللَّهِ، وسَيُسَاعِدُكَ اللَّهُ ويُهَيِّئ اللَّهُ لكَ مِن أمرِكَ يُسْرًا.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: رَجَّحْتُمْ أنَّ الأذانَ أفضلُ منَ الإمامةِ؟
إِذَا قُلْنَا: إنَّ الأذانَ أفضلُ مِنَ الإمامةِ فلَيْسَ معنى ذلكَ أنَّ الإمامةَ لَيْسَ فِيهَا فضلٌ، ثم نقولُ: جزاك اللَّهُ خيرًا كنْ مؤذِّنًا وإمامًا، فإذا كنتَ حَريصًا عَلَى الخيرِ فكنْ مؤذِّنًا وكن إمامًا.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: ما معنى حديث: "الْإِمَامُ ضَامِن"
(1)
؟
حديث: "الْإِمَامُ ضَامِنٌ" الحديث فِيهِ مقال، لكِن إذا صحَّ فالمعنى أنَّ الإمامَ مسؤولٌ عمَّن وَرَاءَهُ، يَعْنِي ضامنًا لهم، فيَجِبُ أنْ يَكُونَ فِي صلاتِه مثلَما قُلْنَا قبل قليلٍ: أن يأتي بِهَا عَلَى الوجهِ الأكملِ إذا صَلَّى بهم، أَمَّا ما وراء ذلك فليسَ عليه شَيْءٌ،
(1)
أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة، باب ما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت، رقم (517)، والترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء أن الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، رقم (207).
فلو صلَّى وَاحِدٌ مُحْدِثًا فالإمامُ لَيْسَ عليه شَيْءٌ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هلِ الأحسنُ أخذُ المُرَتَّب أم عدم أَخْذِه، خاصَّةً أنَّ الإمامَ غيرُ محتاجٍ، لكِن جَماعَة المَسْجِد قالوا: لا بدَّ أن تأخُذَه حَتَّى لا يَنْقَطِعَ عنِ المسجِدِ؟
نرى أنَّ الأحسنَ أن يأخذَ المرتَّب، وكذلك الوظائف الَّتِي عَلَى المسجدِ، فَهُوَ عَلَى خيرٍ، يَأْخُذه ما دامتْ نِيَّته أصلًا أنَّهُ ما جاءَ إِلَّا للَّه، أليسَ الرَّسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه يَأْخُذُون مِنَ الغنائمِ، وهل يوجدُ أحدٌ أخلَص منهم؟ ! لا، لم يَقُولوا: نحن لن نأخذَ من الغنائمِ، هَذَا شَيْءٌ جاءَ مِن بيتِ المالِ "إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا المَالِ شَيْءٌ وَأنتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ، فَخُذْهُ"
(1)
.
وإذا شِئْتَ فَخُذْهُ واصْرِفْهُ فِي شَيْءٍ نافعٍ لَكَ، يَعْنِي حقيقة الأمر مثلما قالوا: إنَّك لو لم تَأْخُذْ أنتَ يَتَعَطَّل المَسْجِد، وإذا جاء إمامٌ جديدٌ بعدَكَ يَحتاج إِلَى معاملةٍ جديدةٍ، وكَذَلِك أَيْضًا الوظائف، بعضُ النَّاسِ يقولُ: واللَّه أنا لن أُطَالِبَ النَّاسَ، أقول: أَعْطُوني حقِّي، مثل بَعْض الصُّبَر الَّتِي تكون للإمامِ أو المؤذِّن، نقول: هَذَا باختيارِكَ، يَعْنِي كونك تأخذ أو لا تأخذ هَذَا شَيْءٌ ثانٍ، لكِن نظرًا لأنك إذا تركتَه وتناساهُ هَؤُلَاءِ ذهب لَيْسَ عليك فقط؛ لأنك أنتَ تقول: لا أُريده، بل يذهب عَلَى غيرِك أَيْضًا؛ لأنَّ الإمامَ فِي الحقيقةِ وأيضًا المؤذن كلاهما لَيْسَ مُسْتقِلًّا بما يُعْطَى من كلِّ وجهٍ.
* * *
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الزكاة، باب من أعطاه اللَّه شيئا من غير مسألة ولا إشراف نفس، رقم (1473)، ومسلم: كتاب الزكاة، باب إباحة الأخذ لمن أعطي من غير مسألة ولا إشراف، رقم (1045).