الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (59)
* * *
* قالَ اللَّه عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59].
* * *
قوله: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وعندي مكتوبٌ فِي نسختي قبل قولِه: {الَّذِي خَلَقَ} [هو]، ومكتوبةٌ داخل القوس ومشكولة أَيْضًا، وهذا لَيْسَ بصحيح، فـ (هو) ليستْ منَ القُرْآنِ.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [هو {الَّذِي خَلَقَ}]، قدَّر المُفَسِّر هَذَا المبتدأَ ليَجْعَلَ الجملةَ مستأنَفةً منفصِلة عمَّا قبلَها من حيثُ الإعرابُ، مع أَنَّهُ يجوزُ فِيهَا وجهٌ آخرُ؛ أنْ تكونَ صفةً لِقَوْلِهِ:{الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} ، يَعْنِي: وتوكَّلْ عَلَى الحيِّ الَّذِي لا يموتُ الَّذِي خلقَ السَّمواتِ والْأَرْضَ، فيَكُون فِي قوله:{الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} بيانٌ لصفتِه الذَّاتيَّة، وَفي قولِهِ:{الَّذِي خَلَقَ} بيانٌ لصفتِه الفعليَّة، وبهذا يَتَحَقَّق أنْ يَكُونَ عز وجل أهلًا للاعتمادِ والتوكُّل؛ لِأَنَّ مَن هَذَا وَصْفُه وهذا فِعْلُه جَديرٌ بأنْ يُخَصَّ بالتوكُّلِ، أمَّا عَلَى ما ذهبَ إليه المُفَسِّر رحمه الله فَهُوَ يَجعَل الجملةَ مستأنَفةً، وَهِيَ أَيْضًا وإنْ كانتْ مستأنفةً من حيثُ الإعرابُ؛ فإنها مِن حيثُ المعنى متَّصِلَة بما قبلها، تدلُّ عَلَى كمالِ قُدرته، وأنه جَديرٌ بأن يُخَصَّ بالتوكُّل، تبارك وتعالى.
قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أَوجَدَهَا، وإنما يُسَمَّى الإيجادُ خَلقًا إذا كَانَ
مسبوقًا بتقديرٍ؛ لِأَنَّ أصلَ الخَلْقِ التقديرُ، لَكِنَّه يُطلَق عليه وعلى الفعلِ، فإذا أُطلق الخَلْقُ عَلَى الفعلِ صارَ معناهُ أَنَّهُ فِعْلٌ بتقدير، فيَكُون الإحكامُ سابقًا، ثم الفعلُ عَلَى مِنهاج ذلك الإحكامِ، فَخَلَقها مُحْكَمَة، ومَن تَدَبَّرها وتأمَّلَها وجدَ فِيها غايةَ الإحكامِ.
قوله: {وَمَا بَيْنَهُمَا} ومِمَّا نراه مما بينهما الشَّمْس والْقَمَر والنجوم، وغير ذلك؛ لأنَّ القَوْلَ بأن هَذِهِ فِي نفس السَّموات لَيْسَ عليه دليلٌ من الكِتَابِ ولا من السُّنةِ، وإنما ظاهر القُرْآنِ يَدُلّ عَلَى أنها فِي فَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ والْأَرْضِ، والواقعُ يَشْهدُ لذلكَ أَيْضًا، فإنهم وَصَلُوا إِلَى الْقَمَرِ، ولو كَانَ فِي نفسِ السَّمَاءِ ما وصلوا إليه؛ لِأَنَّ اللَّه يقول:{وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32]، فإذا كانت السَّمَاءُ محفوظةً حَتَّى عن أشرفِ الرُّسُلِ وأشرفِ الملائكةِ إِلَّا باستئذانٍ، فمَن دونَهم من باب أَوْلَى.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: قوله تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 15 - 16]، ما معنى قولِهِ:{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} ؟
الجواب: يَعْنِي فِي جِهَتِهِنّ، يَعْنِي ليستْ مظروفاتٍ له، والمظروف الجهة، كما سيأتينا إنْ شاء اللَّهُ فِي قوله:{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان: 61]، نفس الشَيْء.
وقوله عز وجل: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} يقول المُفَسِّر رحمه الله: [من أيامِ الدُّنْيا، أي فِي قَدْرِها؛ لِأَنَّهُ لم يكنْ ثَمَّ شمس، ولوْ شاءَ لَخَلَقَهُنَّ فِي لمَحَةٍ، والعدول عنه لتعليمِ خَلقِه التثبُّت]، العدول: عَدَلَ يَعدِل عَدْلًا وعُدُولًا، يقول رحمه الله:[في ستةِ أيامٍ من أيام الدُّنْيا] هَذَا هو القَوْل المشهورُ، وهو الراجِحُ، وَأَمَّا مَن قَالَ: فِي ستَّة أيامٍ من أيامِ الآخِرةِ، وإن اليومَ كألفِ سنةٍ، أو من قَالَ: إن المرادَ بالأيامِ مطلَق الزمنِ، أي فِي لحظاتٍ، فكَذَلِك أَيْضًا قول مرجوحٌ؛ لِأَنَّ القُرْآنَ إِنَّمَا يخاطِب النَّاسَ بما يَعرِفونَ،
فالصحيحُ أن المرادَ سِتَّة أيامٍ من أيامِ الدُّنْيا كما قَالَ المُفَسِّر رحمه الله، أوَّلها يومُ الأَحَد، وآخِرها يوم الجُمُعة، فَإِنَّهُ بِهِ تم خَلْق السَّموات والْأَرْض وخُلِق آدمُ فِي آخِرِهِ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: أخبرنا اللَّه سبحانه وتعالى بنصِّ القُرْآنِ بأنَّ اليومَ عندَه كألفِ سنةٍ {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47]، ألا يُرَجِّح هَذَا قولَ مَن قَالَ: إنها من أيامِ الآخِرَةِ؟
الخَلْق نفسُه من صفاتِ اللَّهِ، لكِن الأيَّام الَّتِي أضافَ اللَّهُ الخَلْقَ إليها وجعلَه فِي هَذه الأيامِ معلومة لنا، وَأَمَّا قوله:{وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ} قال: {يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ} لا نَدري عنه يومًا وَاحِدًا أو أيَّامًا، حَتَّى {يَوْمًا} قد يقول قائل: إِنَّهُ يومٌ معيَّن عند اللَّه كألفِ سنةٍ، لو قال:(وإن اليوم عند ربك) وأتى بـ (أل) الجِنْسِيَّة فيُمْكِن أنْ يُقالَ، فالأقربُ هو هَذَا واللَّهُ أَعْلَمُ، حَتَّى المسألة ليستْ هي بالأمرِ اليقينِ، لكِن الَّذِي يَتَرَجَّح حَسَبَ مُقْتَضَى اللفظِ العربيّ، وأننا خُوطِبنا باللفظِ العربيّ، وأن الأَصْلَ حَمْلُ اللفظِ عَلَى ما دلتْ عليه اللغةُ إِلَّا بدليلٍ، فهَذَا الأَصْلُ، والواجبُ أنَّ القُرْآنَ تكونُ دِلالتُه بِمُقْتَضَى اللغةِ العربيَّةِ ما لم يوجدْ دليلٌ يَصْرِفُه.
وقولُهُ رحمه الله: [أي فِي قَدْرِها؛ لأَنَّهُ لم يكنْ ثَمَّ شَمْس] وتقدير الأيام بالشَّمْسِ، والشَّمْسُ غيرُ موجودةٍ حين الخَلْقِ؛ لِأَنَّ الشَّمْسَ إِنَّمَا خُلِقَتْ بعدَ ذلك؛ لقولِه تَعَالَى:{وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت: 12]، بعدما خَلَقَها أوحَى فِيها أمرَها، وهذا يَشْمَل كلَّ ما يَتَعَلَّق بالسَّمَاءِ، فعلى هَذَا يَكُونُ المرادُ بقولِه:{سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي فِي قَدْر هَذِهِ الأيَّام الستَّة.
ثم أَوْرَدَ المُفَسِّر رحمه الله جوابًا عن سؤالٍ يَفْرِضُه الذِّهنُ، وهو أنْ يقولَ قائلٌ: لماذا لم يَخْلُقْهُنَّ اللَّهُ عز وجل بكلمةٍ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، يَكُون عَلَى مرادِ اللَّهِ سبحانه وتعالى؟
أجاب المُفَسِّر رحمه الله بأنه فَعَلَ ذلك لتعليمِ خَلْقِه التثبُّتَ، هذَا ما جَرَى عليه أهلُ العلمِ؛ أنَّ اللَّه جلَّ وَعَلَا خَلَقَها فِي ستَّةِ أيامٍ ليُبين للعبادِ أنَّ المقصودَ الإحكامُ، لا الإسراعُ، فيَتَثبت النَّاس فيما يَفعلُون، حَتَّى فيما قَدِروا عليه، فَإِنَّهُ يَنبغي أنْ يُلاحِظوا فِيهِ الإحكامَ دونَ الإسراعِ فِي تنفيذِه.
ورأيتُ كَلامًا لبعضِهم حَسَنًا؛ قَالَ: إن خلق السَّمواتِ والْأَرضِ له أسبابٌ، وهو عبارة عن تكوينٍ، والتكوينُ هذَا يَحتاجُ إِلَى مدَّةٍ، مثلَما يَنْشَأ الجنين فِي بطنِ أُمِّه شيئًا فشيئًا فِي مدَّةٍ، كَذَلِك هذَا الخلْقُ له أسبابٌ كَوَّنَتْه، هذه الأَسْبابُ كانتْ فِي هَذِهِ المدَّةِ: فِي سِتَّة أيام، لَكِنَّ هؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِهذَا القَوْلِ يرجِّحون القَوْلَ بأن المرادَ بالأيامِ أيامُ الآخِرة الطويلةِ، حَتَّى تكون التطورات الَّتِي أدَّتْ إِلَى الكمالِ مناسبةً، وعندي أن هذَا لَيْسَ بلازمٍ؛ لِأَنَّ اللَّه قادِرٌ عَلَى أنْ يَجعَلَ هذه الأَسْبابَ الَّتِي مِن شأنِها أنْ تَمتَدَّ لِعِظَمِ المخلوقِ أنْ يَكُونَ ذلكَ بهذه السرعةِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
وإنما التعليلَ الأخيرَ يَكُونُ معناه سَبَب تأخُّرها، وأنها لم تَنْتَهِ إِلَّا فِي سِتَّةٍ؛ لِأَنَّها تحتاجُ إِلَى تَطَوُّرات، هذه التطوراتُ شيئًا فشيئًا حَتَّى تَنتهِيَ إِلَى الكمالِ، كما هو معروفٌ فيما نُشاهِد مِمَّا يخلُقه اللَّه سبحانه وتعالى من غيرِ السَّمواتِ والْأَرْضِ، نجد أن هذه المخلوقات لا تأتي دَفْعَةً، وإنما لها أسباب وأحوال تَتَطَوَّر إليها، حَتَّى تَصِلَ إِلَى درجةِ الكمالِ.
قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} : {ثُمَّ} هذه هل هي للترتيبِ الذِّكري أو المعنويّ؟ المعنويّ؛ لِأَنَّ هذَا هو الأَصلُ أنها للترتيبِ المعنويّ، لا للترتيب الذكريِّ، والفرقُ بينهما أنَّهُ في الترتيبِ الذكريِّ لا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ ما بعدَها متأخِّرًا عمَّا قبلها،
بل قد يَكُون قبله ولَكِنَّه ذُكِرَ بعده، هذَا يُسمِّيه العلماء الترتيب الذكريّ، ولَكِنَّهم لا يَلْجَئُون إليه إِلَّا عندَ الضرورةِ، إذا لم يُمْكِنِ الترتيبُ المعنويُّ قالوا: هو ترتيبٌ ذِكْرِيٌّ، وأنشدوا عليه البيتَ المشهورَ الَّذِي لا أعلمُ قائِلَه، وهو
(1)
:
إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أبُوهُ
…
ثُمَّ قَد سَادَ بعدَ ذَلِكَ جَدُّهُ
قالوا: إنَّ هذَا من بابِ الترتيبِ الذكريِّ؛ لِأَنَّ سِيادةَ الجدِّ متقدِّمةٌ عَلَى سيادةِ الأبِ، وسيادةَ الأبِ متقدِّمَةٌ عَلَى سيادةِ الِابْنِ، هذَا هو المعروفُ والمعهودُ، وإن كَانَ قد يَكُونُ الأمرُ بالعكسِ؛ قد يَسُودُ الحفيدُ وبسيادتِهِ يسودُ أبوه ثم يسود جدُّه، لكِن المعروف بالعكسِ.
عَلَى كلِّ حالٍ هذَا الترتيبُ فِي الآية ترتيبٌ معنويٌّ؛ لأنَّهُ الأَصل، ولا يُلْجَأُ إِلَى الأوَّلِ إِلَّا عند الضرورةِ.
وقوله عز وجل: {اسْتَوَى} يَعنِي عَلَا عَلَى العرشِ، وهذا العلوُّ عُلُوٌّ خاصٌّ، لَيْسَ كالعلوِّ عَلَى سائرِ المخلوقاتِ؛ لأنَّ اللَّه سبحانه وتعالى عالٍ عَلَى جميعِ المخلوقاتِ علوًّا مُطلَقًا، لكِن هذَا العلوّ عَلَى العرش علوٌّ خاصٌّ، وأنه من الصِّفاتِ الفعليَّة، وأن أهل السنَّة والجماعَة يؤمنون بذلكَ عَلَى الوجهِ الَّذِي يَليق باللَّهِ عز وجل، لا يُكَيِّفُونَ ولا يُحاوِلونَ أنْ يُكَيِّفوا أَيْضًا؛ لأنَّ ذلكَ أمرٌ مُستحيلٌ، وهو يدلُّ عَلَى كمالِ العالي؛ لِأَنَّ هذه المادة {اسْتَوَى} تدلّ عَلَى الكمالِ مِن حيثُ هي، تقول: استوَى الثَّمَرُ بمعنى كَمُلَ نُضْجُه، وتقولُ: استوى الرجلُ بمعنى كَمُلَ عَقْلًا: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص: 14]، هنا إذا تَعَدَّتْ بـ (على) صارتْ دالَّةً عَلَى العلوِّ، لكِن متضمِّنة للكمالِ، فعلى هذَا يَكُونُ (استوى) بمعنى عَلَا علوًّا خاصًّا عَلَى وجهِ الكمالِ.
(1)
من شواهد مغني اللبيب (ص 159). وانظر الجنى الداني (ص 426).
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} هو فِي اللُّغَةِ سَرِيرُ المَلِك]، هَذَا العرش، يَعنِي لَيْسَ كلّ كرسيٍّ يُسَمَّى عرشًا، كرسيُّ المُعَلِّم لا نُسمِّيه عرشًا، لكِن الكُرسِيّ الخاصّ بالمَلِك يُسَمَّى عرشًا، هذَا هو الأَصل فِي اللُّغة، قَالَ اللَّه تبارك وتعالى عن مَلِكَةِ سَبَأ:{وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23]، وَقَالَ عز وجل:{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف: 100]، فِي قِصَّة يُوسُفَ، لكِن المراد بالعرش هنا ما هو أعظمُ من ذلكَ، هو عبارة عن هذَا المخلوقِ العظيمِ الَّذِي وَسِعَ السَّمواتِ والْأَرضَ والكُرسيّ؛ لأنَّهُ جاء فِي الحديث:"مَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَا فِيهِنَّ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كحَلْقَةٍ أَلْقَاهَا مُلْقٍ فِي أَرضِ فَلَاةٍ"، (حلْقة) يَعنِي حَلْقة المغْفَر، أو الدِّرع، وَهِيَ بالنسبةِ للفلاةِ لا شَيْء، "وَمَا الْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ إِلَّا كَحَلْقَةٍ أَلْقَاها مُلْقٍ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ"
(1)
. إذَن ما يَعلَم قَدْرَه إِلَّا اللَّه عز وجل.
وَهُنَا مِنَ التَّعَمُّق والتَّنَطُّعِ أنْ نَبْحَثَ ونسألَ عن ماهيَّة هذَا العرشِ، يَعْنِي من أيِّ شَيْءٍ هو؛ من ذهبٍ، من فضةٍ، من زَبَرْجَد، من كذا، وهذَا وردتْ فِيهِ آثارٌ لَكِنَّها ليستْ بصحيحةٍ، وليست واردةً عن معصومٍ، ولا يَنبغِي أَيْضًا الخوضُ فِي ذلك؛ لأنَّه ما لنا وله من أين مادته، المهمُّ أنْ نَعرِفَ عِظَمَ هذَا العرشِ وأنه هو الَّذِي اسْتَوَى عليه اللَّه عز وجل.
يقول المُفَسِّر رحمه الله: [{الرَّحْمَنُ} بَدَل من ضمير (استوى)، أي استواء يَلِيق به]، قوله:{اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} يعْنِي لا تَقُل: إن الرَّحمن فاعل (استوى)؛ لأنَّهُ سبقهما ما يدل عَلَى رجوعِه إليه {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} ، فكَلام المُفَسِّر يقول: إِنَّهُ لا يُعرَبُ عَلَى أنَّهُ
(1)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (2/ 635).
فاعل (استوى)؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ ما يَرجع إليه الضميرُ فِي (استوى)، ولَكِن لا مانعَ من أنْ نَجْعَلَهُ فاعلًا عَلَى أن يَكُونَ إظهارًا فِي مَقامِ الإضمارِ، وإلَّا صحيحٌ أنَّ ظاهرَ السياقِ يَقتضى أن يَكُونَ (خلق السَّموات ثم استوى)، يَعْنِي (هو)؛ لِأَنَّ الفاعلَ ضَمير مُسْتَتِرٌ؛ ويَكُون (الرَّحمن) بدلًا؛ كما قَالَ المُفَسِّر رحمه الله، هذَا وجهٌ، لَكِننا نقولُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَيّن؛ لجوازِ أنْ يَكُونَ (الرَّحمن) -كما تَقَدَّمَ- فاعلًا، عَلَى أنَّهُ إظهار فِي مَقامِ الإضمارِ.
وذكروا فِيهِ أَيْضًا وَجْهًا ثالثًا، وهو أنْ يَكُونَ مبتدأً، وخبره {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} ، وأن يَكُونَ خبرَا لمبتدأٍ محذوف تقديرُه: هو الرَّحمن، ولَكِن ما ذَهبْنَا إليه أَوْلَى، ويَكُون فائدة الإضمار هنا بيان أن هذَا الاستواءَ والعلوَّ الخاصَّ لَيْسَ كعُلُوِّ المتجَبِّرينَ المتكبِّرينَ، بل هو علوّ رَحمَن واسع الرَّحمة؛ لأنَّ عادةَ البشرِ أو الملوكِ إذا اسْتَوُوا عَلَى عُرُوشِهم أنْ يَكُونَ لديهم فِي الغالبِ مِنَ الجَبَرُوت والعَظَمة ما يَتَخَيَّلُونه إذا استووا عَلَى عروشهم، ولَكِن اللَّه سبحانه وتعالى معَ عُلُوِّهِ العظيمِ عَلَى عرشِه العظيمِ هو رحمنٌ واسعُ الرَّحمةِ تبارك وتعالى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} .
وقول المُفَسِّر: [أي استواء يَليق به] السؤال الأوَّل عَلَى هذه الجملة: هل هَذِهِ الجملةُ تدلُّ عَلَى أن المُفَسِّر رحمه الله لم يحرف؟
أنا راجعتُ عِدَّة مواضع يقول: [استواء يليق به]، وفِي رأيي أنها فِي الحقيقةِ لا تُثبِت ولا تَنفي؛ لأَنَّهُ ما ذَكَرَ إِلَّا صفةَ الاستواءِ فقطْ، يَعنِي لم يَتَعَرَّضْ إِلَّا لِأَنَّ صفة الاستواء تَلِيقُ بِهِ، لكِن معنى الاستواء ما تَكَلَّمَ عنه، لكِن فِي الحقيقةِ أنَّا أَرَى أن هذَا يُومِئُ إِلَى مَذْهبِ أهلِ السنَّة والجَماعَةِ؛ لأنَّهُ لو كَانَ يَرَى أن {اسْتَوَى} بمعنى استولَى ما قَالَ:[استواء يليق بِهِ]؛ إذ لا يُمْكِن أنْ يَكُونَ المعنى استولَى
استيلاءً يَلِيق بِهِ، وإنما يَكُون مثل هذَا التعبيرِ فيما إذا جُعل الاستواءُ صفةً، ليستْ صِفَة ملك، بل صِفَة فعل، فيقول:[استواء يليق بِهِ]، لكِن مع هذَا لَيْسَ هذَا التفسيرُ بكاملٍ، وكان عليه أن يقولَ: عَلَا عَلَى وجهٍ يَليق به.
وَلَوْ قِيلَ: إن المُفَسِّر يجمع بَيْنَ الرأيينِ؟
نقول: لا، لو أرادَ استوى بمعنى استولَى لصرَّحَ بِهِ، مثلما قَالَ فِي قوله تَعَالَى:{وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22]، فسَّرَها بقولِه: جاءَ أمرُ رَبِّكَ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: المُفَسِّر رحمه الله يُؤَوِّلُ آياتِ العُلُوّ، فكيف نُوَجِّه قولَه:[استواء يليق به]؟
على كلِّ حالٍ كَلامه هنا لا يدلُّ لا عَلَى إثباتٍ ولا عَلَى نفيٍ، لكِن فيما أَعتقِدُ أنَّهُ يدل عَلَى التفسيرِ، بمعنى العلوِّ؛ لِأَنَّ الاستيلاءَ لا يُقال: إِنَّهُ استيلاء يَلِيق بِهِ، لا يُتَصَوَّر هذَا، لو أراد استولَى لقالَ: استوى بمعنى استولَى، مثل قولِه سبحانه وتعالى:{وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22]، فقد فسَّره بقولِه: جاء أمرُ ربِّك، لكِن معَ ذلك ما فسَّرها كما يَنْبَغِي، وكان الَّذِي يَنبغي أن يقولَ:{اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} عَلَا عليه علوًّا يَلِيق بِهِ، وأنا تَتَبَّعْتُ الَّتِي قبلها فِي مواضعَ وجدتُه يقول هذَا، فأقول: إني استغربتُ هذَا، معَ أنَّهُ هو لا يُقِرُّ بالعلوِّ الذَّاتيِّ، وهذا من الغرائبِ، يَعْنِي تعتبر طَريقة متناقضةً بالنسبةِ للمؤلِّف.
عَلَى كلِّ حال قوله: [استواء يليق به] معناه صحيحٌ، لكِن يحتاج إِلَى تكميلٍ، وهو أن يصرِّح ويوضِّح معنى الاستواء، {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} علا عليه عَلَى وجهٍ يَليق به.
فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: أليسَ اللَّهُ عاليًا عَلَى جميعِ المخلوقاتِ؟
فالجواب: بلى، لكِن هذَا العلوّ علوٌّ خاصٌّ بالنسبة للعرشِ، وقد مرَّ فِي العقيدةِ، ولا حاجةَ إِلَى التكرارِ أن أهل التعطيلِ حَرَّفوا معنى الاستواءِ إِلَى معنى الاستيلاءِ، وبَيَّنَّا هناك أن هذَا التحريفَ باطلٌ من عدة أوجهٍ لُغَوِيَّة وشرعيَّة وعَقليَّة، وأنه يَلْزَم عَلَى هذَا التفسيرِ لوازمُ باطلةٌ، لا تليق باللَّهِ سبحانه وتعالى.
وقوله: {الرَّحْمَنُ} أي المتَّصف بالرَّحمةِ، وَهِيَ إذا أُفردتْ عن الرَّحيم دلتْ عَلَى الصِّفةِ والفعلِ، والرَّحيم أَيْضًا إذا أُفردَتْ عنها دلَّ عَلَى الصِّفةِ والفعلِ، وإذا اقترنتا فُسِّر الرَّحمنُ بما يَتَعَلَّق بالصِّفةِ، والرَّحيم بما يَتعلَّق بالفعلِ، فعلى هذَا هنا انْفَرَدَت {الرَّحْمَنُ} فتَشْمَل الصِّفةَ والفعلَ؛ لِأَنَّ (فَعِيل) تدلُّ عَلَى إيقاعِ الفعلِ، سميع بمعنى سمع الصوت، رحيم بمعنى رحم الخَلْق، والرَّحمن يُشْبِهُها كلمة غَضْبَان، يَعنِي مُمْتَلِئًا غَضَبًا، كَذَلِك الرَّحمن يَعنِي واسِع الرَّحمةِ، ولهذا فسَّرهُ بعضُ السلفِ بقولِه: الرَّحمن ذو الرَّحمةِ العامَّةِ، والرَّحيم بالمؤمنينَ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: كيف الجمعُ بَيْنَ قولِه سبحانه وتعالى فِي آية الكُرسيّ: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255]، وبين قولِه تَعَالَى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ؟
الجواب: لا يوجدُ خلافٌ بينهما، فالكرسيُّ شاملٌ للسماواتِ والْأَرْضِ، يَعْنِي لِعِظَمِه وكِبَرهِ يَكُون واسعًا لهما جميعًا، أي لكل السَّموات والْأَرضِ، والعرش فوقَه.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{فَاسْأَلْ} أيُّها الْإِنْسَان {بِهِ} بالرَّحمنِ {خَبِيرًا} يُخْبِرُك بصفاتِه]، المُفَسِّر رحمه الله جعلَ الخطابَ فِي قولِه:{فَاسْأَلْ} لَيْسَ للرسولِ صلى الله عليه وسلم بل لجميعِ مَن يَصِحُّ خِطابُه؛ لِأَنَّ الأَصْلَ أنَّ الخطابَ الَّذِي يُفْرَدُ فِي القُرآنِ لجميعِ النَّاسِ، إِلَّا إذا دلّ الدليلُ عَلَى أَنَّهُ خاص بالرَّسولِ؛ لِأَنَّ القرآنَ نَزَلَ للجميعِ، فَهُوَ يخاطب الكلَّ ما لَمْ يدلُّ دليلٌ عَلَى أنَّهُ خاصٌّ بالرَّسولِ، مثل:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]،
هَذَا معروفٌ أنَّهُ خاصٌّ بالرَّسولِ صلى الله عليه وسلم، ومثل:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة: 41]، صرَّح أنَّه ينادي الرَّسول وحدَه، {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} [المائدة: 67]، {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} [الأحزاب: 45].
{فَاسْأَلْ} أيُّها الْإِنْسَان {بِهِ} بالرَّحمنِ {خَبِيرًا} يَعْني بذاتِهِ وأسمائِهِ وصفاتِه وأفعالِه وأحكامِه.
وقوله: {فَاسْأَلْ بِهِ} قد يقول قائلٌ: إن المتبادَر أنْ يقولَ: اسأَلْ عنه خبيرًا؛ لِأَنَّ السؤالَ بمعنى الاستفهامِ يُعَدَّى بـ (عن)، فهل تقول: سألتُ بفلان أو عن فلان؟ تقول: سألتُ عن فلانٍ، فكيف نُجِيبُ عن التعديَةِ بـ (الباء)، مع أن المتبادر أن يتعدى بـ (عن)؟
الوجه الأول: أنْ تكونَ (الباء) بمعنى (عن)، وهذا واضحٌ: فاسأل عنه خبيرًا.
الوجه الثَّاني: أن تكونَ (الباء) مُتَعَلِّقَةً بمحذوف تقديره: معتنيًا أو مهتمًّا بِهِ، حال من الضمير المستتِر فِي قولِه:{فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} . وعندي أَيْضًا أَنَّهُ يوجد احتِمَال أنَّ المعنى: فاسألْ تجب بِهِ خبيرًا، يَعْنِي كأَنَّه ضمَّن السؤالَ ما يَدُلُّ عَلَى الجوابِ، مثل ما قِيلَ في:{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1]، سأل سائلٌ وأُجيبَ بعذابٍ واقعٍ، ويَكُون عُدِل عن (عن) بـ (الباء)؛ لِأَنَّ (عن) إِنَّمَا تدل عَلَى مجرَّد السؤال، و (الباء) تَدُلُّ عَلَى الإجابةِ أَيْضًا. وعلى كلِّ حالٍ فالمعنى أن الرَّحمنَ الَّذِي خلقَ السَّمواتِ والْأَرضَ واستوى عَلَى العرشِ اسْأَلْ عنه خبيرًا يُخْبِرُكَ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هل يَصِحُّ أن يَكُون (به) متعلِّقًا بـ (خبيرًا)؟
نقول: صحيحٌ، إذا قُلْنَا: متعلقة بـ (خبيرًا) فواضح ولا نحتاج إِلَى أيِّ تقديراتٍ، يَعنِي فاسألْ خبيرًا بِهِ يُخْبِركَ عنه، ويَكُون هذَا وجهًا رابعًا، وهذا الوجهُ فِي الحقيقةِ عندي الآنَ أَنَّهُ أحسنُ الأوجهِ، وليس فِيهِ تكلُّفٌ، ويَكُون تقديمُه عليه لمُرَاعَاةِ الفواصلِ، والأَصْلُ: فاسأل خَبيرًا به.
لَوْ قَالَ قَائِل: هل يُمْكِنُ أَنْ نَحْمِل معنى قولِهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} عَلَى التعظيمِ؟
يُمكِن أنْ تتضمن هَذَا بمعنى {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} ، يَعْنِي: اسألْ مَن هو مِن أعلمِ النَّاسِ خِبرةً بما يُخْبِرُكَ بِهِ معناهُ، إِنَّمَا أخبرناك بذلكَ ونحنُ أعلمُ مَن يُخبِرك بِهِ، فكأنه من بابِ التعظيمِ والمبالغةِ، قَالَ:{فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} ولَيْسَ المرادُ حقيقةَ السؤالِ، إِنَّمَا المراد التعظيم، يَعْنِي: ما أعظمَ مَن أَخبرَكَ خِبرةً. وهذَا وجهٌ جيِّدٌ، ولا تمُانِعُهُ الآيةُ.
لَكِنْ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: مَنِ المرادُ بِهذَا الخَبيرِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أنْ نَسْأَلَهُ؟
الخبيرُ هو اللَّهُ، فكأنه عز وجل يقولُ: فاسألْ بِهِ خبيرًا، يَعنِي خُذِ الخِبْرَةَ والعلمَ منِّي؛ لأنّي خبيرٌ بنفسي، هذَا المعنى، ومنه قولُ عائشةَ رضي الله عنها:"عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ"
(1)
تعني نفسَها حينما سُئِلَتْ عن مسألةٍ.
فالمعنَى: اسألْ عنِ اللَّهِ سبحانه وتعالى خَبيرًا بِهِ وهو نفسُه.
(1)
أخرجه مسلم: كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، رقم (349).