الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (61)
* * *
* قالَ اللَّه عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61].
* * *
قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{تَبَارَكَ} تَعَاظَمَ]، وتَقدَّم أَنَّهُ لا يَنبغي الاقتصارُ فِيهَا عَلَى تَعَاظَمَ؛ فإنَّها تدُلّ عَلَى كثرةِ الخيراتِ وسَعَتِها؛ لِأَنَّ هَذِهِ البُرُوجَ الَّتِي سَتَأْتِي فِيهَا مِنَ الخيرِ للناسِ والمصلحةِ والمنفعةِ ما يُناسِبُ هَذَا الوصفَ.
وكلمة {تَبَارَكَ} مبالَغةٌ مِنَ البَرَكَةِ لزيادةِ (التاء)، وَهِيَ تقالُ للَّه عز وجل، والعامَّة عندنا يقولونها لغيرِ اللَّهِ، يَقُولُونَ: تباركتَ علينا، وَمَا أَشْبَهَ ذلكَ، فبعضُ النَّاسِ يَقُولُونَ: إن هَذَا الوصف خاصٌّ باللَّهِ، ولا يجوزُ أنْ تقولَ للإنْسَانِ: تباركتَ، ولَكِن الَّذِي نرَى أنَّهُ لا بأسَ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يريدون بـ (تباركت) أن اللَّه وضعَ فيك بركةً، لا أنَّها بركة ذاتيَّة، فلا بأس بِهَا، والعِبرة بالمعاني، واللفظ إذا لم يكنْ فِيهِ محذورٌ شرعيٌّ فلا بأسَ به.
وقوله عز وجل: {الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} هل قوله: {جَعَلَ} بمعنى صيَّر أو بمعنى وَضَعَ؟ بمعنى وضعَ، وعلى هَذَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وهو قوله:{بُرُوجًا} .
قوله عز وجل: {بُرُوجًا} جمع بُرْج، والبرج فِي الأَصْلِ البناءُ العالي المرتفِع، وهَذِهِ البروجُ الشاملةُ للنجومِ لِعُلُوِّها هي فِي الحقيقةِ مثل الأبنيَةِ الشامِخَةِ العاليةِ، يقول المُفَسِّر رحمه الله [اثْنَي عَشَرَ]، هَذِهِ بَدَلٌ من {بُرُوجًا} ، يقول:[اثني عشر: الحَمَل، والثَّور، والجَوْزاء، والسَّرَطَان، والأَسَد، والسُّنْبُلة، والميزَان، والعَقْرَب، والقَوْس، والجَدْي، والدَّلْو، والحُوت] اثنا عشر برجًا، بدأ المُفَسِّر رحمه الله بالحمل لِأَنَّهُ وقتُ اعتدالِ الزمانِ الربيعيّ؛ لِأَنَّهُ إذا حلَّتِ الشَّمْسُ أوَّل يومٍ من بُرج الحَمَل تَساوَى الليلُ والنهارُ ربيعًا عند ابتداءِ برج الحمل، يَعْنِي يَكُون الليل اثنتَي عشْرةَ ساعةً، ويَكُون النهار اثنتَي عشْرةَ ساعةً.
هناك ثلاثةُ بُرُوج -الحمَل والثَّور والجوزاء- إذا تَمَّت الجوزاءُ وبدأَ السرطانُ انتهى الليلُ فِي القِصَرِ، والنهار فِي الطُّول، يَعْنِي أن الشَّمْس تَنتهي إِلَى البُروج الشماليَّة بعد هَذِهِ الثَّلاثَة: الحمل والثور والجوزاء، ثم بعد ذلكَ تَنصرِف الشَّمْس إِلَى الجنوبِ: السَّرَطَان والأسد والسُّنبلة، هَذِهِ الثَّلاثَة إذا مضت تَساوَى الليل والنهارُ خريفًا بعد انتهاءِ طُولِ النهارِ. والميزان والعقرب والقوس هَذِهِ الثَّلاثَة إذا انْتَهَتْ يَنْتَهِي طُولُ الليلِ وقِصَر النهار، ثم تعود الشَّمْسُ فِي الجَدْي والدَّلْو والحُوت، إذا انتهى الحوت تَساوَى الليلُ والنهارُ ربيعًا.
وقدْ اختلف النَّاسُ هل يُبْدَأ بالحَمَل لِأَنَّهُ أحسنُ أيامِ السنةِ، حيث إن فِيهِ الاعتدالَ الربيعيَّ، أو يُبْدَأ بالميزان؛ لِأَنَّهُ هو وقتُ اعتدالِ الزمانِ الخريفيِّ المعروف والمشهور. والأَكْثَرُ الَّذِي مَشَى عليه المُفَسِّر رحمه الله أَنَّهُ يَبْتَدِئ بما فِيهِ الاعتدالُ الربيعيُّ، لكِن بعض النَّاس يَبتدِئ بالطرفِ الثَّاني ويزعُم أن هَذِهِ هي طَريقةُ العربِ، واللَّه أَعْلَمُ، لكِن الَّذِي أَرَى أنَّ التقاويمَ أَكْثَرُها يبدأ بِهَذَا، ويَقُولُونَ: إن العرب يَبْتَدِئون
منْ الِاعتدالِ الخريفيّ، وإن العَجَمَ يبتدئون من الاعتدالِ الربيعيّ، وكون العجم يبتدئون من الاعتدال الربيعي هَذَا واضحٌ، والعجم -إيران وتوابعها- تؤرِّخ ابتداء السنة بالحمل؛ لِأَنَّ السنينَ عندهم شمسية ويَبْدَأونها ببُرج الحَمَل.
يقول المُفَسِّر رحمه الله: [وهي مَنازل الكواكبِ السبعةِ السَّيَّارة؛ المِرِّيخ، وله الحَمَل والعقرب. والزُّهْرَة، ولها الثَّور والميزان. وعُطَارِد، وله الجَوزاء والسُّنْبُلة. والْقَمَر، وله السَّرَطان، والشَّمْس، ولها الأَسَد. والمُشْتَرِي، وله القَوْس والحُوت. وزُحَلُ، وله الجَدْي والدَّلْو].
على كلِّ حالٍ هَذَا التقسيمُ الأخيرُ لا أعرِف وجهَه، ولا أَدري عنه، لكِن هَذِهِ البُرُوج الشَّمْس تَقْطَعُها فِي السنَةِ كما سمِعنا قريبًا، والْقَمَر يَقْطَعُها فِي الشهرِ، كل شهر يَقطع الْقَمَر هَذِهِ البروجَ، وله منازل: ثمانٍ وعشرونَ منزِلةً، تَشتَمِل عَلَى هَذِهِ البروجِ الاثْنَي عَشَرَ، أمَّا الشَّمْس فإنما تَقْطَعُها فِي السنة. وهَذِهِ البُرُوج يدلّ عَلَى عَظَمَتِها أن اللَّهَ قال:{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان: 61].
وقوله: {فِي السَّمَاءِ} المراد بِهِ العُلُوّ، وليس المراد بِهِ السَّقْف المحفوظ، بل هو العُلُو؛ لأنَّ هَذِهِ البروج دُونَها.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{وَجَعَلَ فِيهَا} أَيْضًا {سِرَاجًا} هو الشَّمْس {وَقَمَرًا مُنِيرًا} ، وَفِي قراءة: سُرُجًا
(1)
بالجمعِ، أي نيِّرات، وخصَّ الْقَمَرَ منها بالذِّكر لنوعِ فضيلةٍ]، عَلَى هَذِهِ القراءة خص الْقَمَر منها بالذِّكر لنوع فضيلة، يقول رحمه الله: عُطِفَ القمر عَلَى سُرُج وهو منها لنوعِ فضيلةٍ، ولَكِن عَلَى قراءةِ الإفرادِ المرادُ بالسراجِ الشَّمْسُ، وسُمِّيَتْ سِراجًا والْقَمَر مُنِيرًا؛ لِأَنَّ الشَّمْسَ نورها ذاتيّ وحارّ،
(1)
كتاب الحجة في القراءات السبع (ص 466).
والْقَمَر نوره مكتسَب مِنَ الشَّمْس، فليسَ بنفسِه سِراجًا، وإنَّما هو مُنيرٌ أو نورٌ، لَكِنَّ نورَه مكتسَب.
وعلى قراءةٍ (سُرُج) يقول المُفَسِّر رحمه الله: [يعني نيِّرات] ومنها الْقَمَر نيِّر، لكِن خصَّه لنوع فضيلةٍ، لكِن أقول: إن كَلامَ المُفَسِّر رحمه الله فِيهِ نَظَرٌ، فعطفُ الْقَمَرِ المنيِّر عَلَى السُّرُج من بابِ عَطْفِ المُتَغَايِرَيْنِ، لا من بابِ عطفِ الخاصّ عَلَى العامّ، فالْقَمَرُ لَيْسَ من السُرُج، {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 16]، فالشَّمْسُ بلَا شَكٍّ سراجٌ، ولَكِن الْقَمَر نُور، فعليه لا يَكُونُ منها، ولا يحتاج إِلَى الجوابِ الَّذِي ذكر المُفَسِّر: خصَّ الْقَمَر لنوع فضيلةٍ، بل نقول: إن هَذَا لَيْسَ من بابِ التخصيصِ، ولَكِن من بابِ عطفِ المُتَغايِرَيْنِ، لكِن قراءة الجمع (وَجَعَلَ فِيهَا سُرُجًا) تدلّ عَلَى أنَّ غير الشَّمْسِ من الكواكبِ فِيهِ حرارة وفيه إضاءة أَيْضًا، لَكِنها لا تصل إِلَى الْأَرْض لِلْبُعد، ولَكِن هَذِهِ الآية تدلّ عَلَى أنَّ فِيهَا الحرارة والإضاءة. وإنَّما ذكر السُّرُج والْقَمَر المنيِّر مع البروج لِأَنَّ البروج منازلُ، وهَذِهِ الأشياء نازلةٌ، فذكر المنازل والنازِل جميعًا، وكلاهما مما يدلّ عَلَى آياتِ اللَّهِ سبحانه وتعالى العظيمة الَّتِي لا يُمْكِن أنْ يُقابِلَها أيُّ أحدٍ.
* * *