الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (2)
* * *
* قالَ اللَّه عز وجل: {لَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2].
* * *
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} من شأنِهِ أنْ يُخْلَق {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} سوَّاه تَسويةً].
قوله تَعَالَى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} هَذِهِ صفة لِقَوْلِهِ: {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} فذكر اللَّه سبحانه وتعالى إنزال الفرقانِ، وهو تشريعٌ وتنظيمٌ، ثُمَّ أَعْقَبَهُ بقوله:{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إشارة إلى أَنَّهُ يَجِب العمل بما جاء في هَذَا الفُرقان؛ لِأَنَّهُ جاء من مالك السَّمواتِ والأرضِ، والمالك له حق التصرُّف في مَمْلُوكِهِ، بأن يُشَرِّعَ له ما شاءَ وينظِّم له ما شاء، وهَذِهِ هي الْفَائِدَة من قولِهِ:{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ} بعد قولِه: {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} فأتى بالتشريع أولًا، أو بدستورِ التشريعِ كما يقولون، ثُمَّ أَتَى بعد ذلك بعموم المُلْك؛ لِأَنَّهُ عز وجل إذا كان هو المالِكَ العامَّ للسماوات والأرض لَزِمَ أنْ يَكُونَ مما شَرَعَهُ حَتْمًا على المملوكينَ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا الملُك مُلك أَعيانٍ فقطْ أو ملك أعيانٍ وتَصَرُّف؟
فالجواب: مُلك أعيانٍ وتصرف؛ لِأَنَّ المَلِكَ قد يَكُونُ مَلِكًا للعَيْنِ دون التصرُّف فيها، وقد يَكُون مَلِكًا للتصرف دون العَين، يعني: قد يملك الإنْسَان
التصرُّفَ في العين دون ذاتها، أو يملك عين الشَيْء دون التصرُّف فيه، فالمالك للشَيْء الَّذِي لم يَتَعَلَّقْ به حقُّ أحدٍ هَذَا مالِكٌ للعين والتصرف فيها، والموقوف عليه مالك للعين، لكِن لا يملك التصرف المطلَق فيها؛ لا يبيع ولا يَهَب ولا تورَث عنه، فالمستأجر مالك للمنفعة، أي التصرف في المنفعة فقط، دون العين، أَمَّا اللَّه عز وجل فإن له ملك السَّموات والأرض أعيانهما والتصرف فيهما.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: لم يذكر ملك من فيهما؟
قُلْنَا: السَّموات والأرض يَدْخُلُ فيهما كلُّ من فيهما؛ لِأَنَّ مَنْ في السَّموات والأرض هم مِنَ السَّمواتِ والأرضِ، فأصلُهم مِنَ السَّموات والأرض، فالإنْسَان خُلِقَ من طين، والحيوانات الأخرى فيما يبدو -واللَّه أعلم- أنها خُلقت مِنَ الأرض، لَكِنَّنا لا نَعْلَم عنها شيئًا؛ لأنَّ المهمَّ أن نَعرِفَ أصلنا، أمَّا هَذِهِ فخَلَقَها اللَّه لنا، قال تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29].
قوله: {وَلَدًا} بمعنى: مَوْلُودًا، وقوله:{وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} أعمُّ من قوله: {لَمْ يَلِدْ} ، لَكِنْ مع ذلك نفى اللَّه عن نفسه اتِّخاذ الولد والولادة، فَهُوَ عز وجل لم يَلِدْ ولم يَتَّخِذْ ولدًا من عباده، وفي هَذَا إبطال لقول النَّصارى الَّذِينَ قالوا: إنَّ المسيح ابنُ اللَّه، ولقول اليهودِ الَّذِينَ قالوا: عُزَيْرٌ ابنُ اللَّهِ، وللمشركين الَّذِينَ قالوا: الملائكة بنات اللَّه، فاللَّه سبحانه وتعالى ما وَلَدَ شيئًا، ولم يَتَّخِذْ أحدًا من خلقه ولدًا.
وقد ذكرنا فيما سبق أن اللَّه تَعَالَى إذا نَفَى عن نفسِهِ صفة فليس المراد بذلك نفي الصِّفة فقط، بل نفي الصِّفة وإثبات كمال ضِدِّها، والضدُّ هنا كمال قُدْرَته وغِناه، وأنه غير محتاجٍ إلى الولدِ؛ لكمالِ غِنَاهُ عن غيرِهِ، فلا يحتاج للولد ولا اتِّخاذ الولد إلَّا مَن كان محتاجًا له، أَمَّا من كان غنيًّا عنه قادرًا على ما يريد فهذا لا يَتَّخِذُ ولدًا.
قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} اللَّه سبحانه وتعالى ليس له شَريكٌ في المُلْك، فما شَارَكَه أحدٌ؛ لا أحدٌ مِنَ الملائكة ولا أحد مِنَ الأنبياء، ولا أحد مِمَّن دونهم، المُلْكُ للَّه وحدَهُ، لا شَريكَ له فيه، وفي هَذَا إبطالٌ للذين أشركوا باللَّه في الربوبيَّة، مثل الَّذِينَ يقولون: إن بعض الأولياء يَتَصَرَّفُونَ بالكون، هَؤُلَاءِ لا شكَّ أنَّهم خاطئون، وأنَّهم كاذِبون أيضًا، فهم خاطئون في عقيدتهم، كاذبون فيما أَخبَروا به، فاللَّه عز وجل ليس له شريكٌ في المُلْكِ.
فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: أَلَسْنَا نملِك بيوتَنا وثِيَابَنا ومواشيَنا، فهل هَذَا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ للَّه شريكٌ؟
فالجواب: لا؛ لِأَنَّ مِلْكَنَا لهَذِهِ الأشياءِ ليس مِلكًا مُطْلَقًا، صحيح أنا مالك لبيتي، ومالك لثوبي، ومالك لسيارتي، ومالك لماشيتي، لكِن مِلكي لهَذِهِ الأشياءِ ليس مِلكًا مطلقًا، بدليل أنني مقيَّد بالشرعِ في التصرُّف في هَذِهِ الأشياءِ، فأنا لا أملِك مثلًا أنْ أقومَ عليها فأُحْرِقها، وحرام عليَّ ذلك، كذلك لا أملِك مثلًا أن أَشُقَّ على الحيوانِ في الحمل والركوب وغير ذلك، إذَن فكوني مالكًا لا يَقتضِي أن أكونَ شريكا للَّه سبحانه وتعالى في ملكه؛ لِأَنَّ مِلكي هَذَا مقيَّد بحسَب إذنِ الشارع لي، فلا أتصرف فيه إلَّا بما أَذِنَ اللَّه سبحانه وتعالى.
قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} يقول المُفَسِّر: [مِن شأنِهِ أنْ يُخْلَقَ]، و {كُلَّ} للعموم.
لكِن المُفَسِّر قيَّدها بقوله: [من شأنه أن يُخْلَق]؛ لكي لا يدخل القُرْآنُ أو نفسُه.
فَلَوْ قَالَ الإِنْسَانُ: هل خَلَقَ اللَّه نفسَه.
قُلْنَا: مستحيلٌ أن يَخْلُقَ نفسَه، لَكِنَّهُ مع ذلك نقول:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} مَن شأنُه أن يُخْلَقَ، أَمَّا ما ليس من شأنِه أنْ يُخْلَقَ كذات اللَّه وصفات اللَّه فهذا ليس داخلًا مِنَ الأَصْل؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى خالِقٌ، والخالقُ غير المخلوق، وصفات الخالق ليستْ مخلوقةً؛ لِأَنَّ الصِّفة تابعة للذَّات. ولهذا كأن المُفَسِّر رحمه الله حينما يقول:[من شأنه أن يُخْلَق]، يُنَبِّهك لِتَرُدَّ بِهَذِهِ الكلمة على من قالوا: إنَّ القُرْآن مخلوق، فتقول: القُرْآن ليس من شأنه أن يُخلَق؛ لأَنَّه من صفات اللَّه سبحانه وتعالى، وصفات اللَّه تَعَالَى غير مخَلوقةٍ.
ولَكِنْ يَنبغي أن لا نقيِّد الآية بهذا، نقول: هو خلق كل شَيْءٍ، والخالق لا يمكن أن يَكُونَ هو المخلوقَ، فإذا كان لا يمكن دَلَّ ذلك عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى غيرُ مخلوقٍ، وعَلَى أَنَّ صفاتِه أيضًا غير مخلوقةٍ؛ لِأَنَّ الصِّفة تابعة للموصوف، وحينئذٍ لا نَحتاج أن نقولَ: من شأنِه أن يُخْلَقَ؛ لأننا إذا قُلْنا: من شأنه أن يخلق قيَّدنا الآيةَ الكريمةَ، ويمكن أن يَحتجَّ علينا الَّذِي يقول بخلق القُرْآنِ فيقول: مَن قَالَ لك: إنَّ الآية مقيَّدة بهذا، فنحن نقول: خلق كلَّ شَيْءٍ على سبيل الإطلاق، وعلى سبيل العموم، وهذا لا يَقتضي أن يَكُون القُرْآن مخلوقًا؛ لِأَنَّ الخالق غير المخلوق، والقُرْآن من صفات اللَّه، وصفات الخالق قطعًا غير مخلوقةٍ؛ لِأَنَّ الصِّفاتِ تابعةٌ للذاتِ.
إذَنْ فلو احتجَّ علينا المُعْتَزِلة والجَهْمِيَّة الَّذِينَ يقولون: إن القُرْآن مخلوقٌ فبماذا نُجيبهم؟
نجيبهم بأحد وجهين:
الوجه الأول: ما أشار إليه المُفَسِّر؛ وهو أن يقال: إن هَذَا من باب العامِّ المراد به الخاصُّ، يعني: كلّ شَيْء من شأنه أن يخلق، هَذَا وجهٌ، وبهذا أجاب كثير مِنَ
السلف، وقالوا: إذا قَالَ قائل: إنَّ القُرْآن مخلوق واستدلَّ بقوله سبحانه وتعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} فقل له: إن اللَّه قَالَ عن رِيح عادٍ: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} ومع ذلك هي ما دمرتِ السَّمَاء ولا الأرضَ ولا المساكِنَ {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25].
والبعض الآخر مِنَ العلماءِ يقول: الآية على عُمومها، والقُرْآن غير داخلٍ إطلاقًا حتَّى نحتاج إلى إخراجه؛ لأَنَّه إذا كان خالِقًا فالخالق غير المخلوق، والقُرْآن كَلام اللَّه، وكَلام اللَّه من صِفاتِه، وصفات الخالِقِ غير مخلوقةٍ؛ لِأَنَّ الصِّفة تابعة للموصوفِ.
قوله: {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} الفاء تَدُلُّ على الترتيب، و (قدَّرَه) بمعنى سَوَّاه؛ لِأَنَّ الخَلْق قد يوجد لكِن بدون تسويةٍ، فاللَّه تَعَالَى خَلَقَ كل شَيْء {فَقَدَّرَهُ} أي: سوَّاه، والدليل على أنَّ التقدير هنا بمعنى التسوِيَة قولُه تَعَالَى:{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى: 2]، وعلى هَذَا فالترتيب في قوله:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ} حسَب الواقع، فالترتيب واقعي؛ لِأَنَّ التسوية تكون بعد الخَلْق، فأنت عندما تُوجِدُ بناءً فإنك أولًا تُوجِدُ الهيكل، ثُمَّ تُدخِل التعديلات والتسويَة، هكذا اللَّه عز وجل خلق كلَّ شَيْءٍ فقدَّره؛ أي: سوَّاه تسويةً مناسبةً لِمَا خُلِقَ له.
وقال بعضُهم إن معنى {قَدَّرَهُ} أي: قضاه، فتدلّ الآية على القضاء والخَلْق. وعلى هَذَا القول الَّذِي يَجعل التقديرَ بمعنى القضاءِ يَكُون في الآية ترتيبٌ غير واقعيٍّ، والسَّبب أنَّ التقدير بمعنى القضاء سابِقٌ للخلق؛ لِأَنَّ اللَّه يَقضي أولًا ثُمَّ يخلُق ثانيًا، ولَكِن الأَصْل أن يَكُون الترتيب واقعيًّا وأن الخَلْق قبل التقدير. ويدُلُّ على ذلك أيضًا الآية الكريمة:{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى: 2]، فالقُرْآن يفسِّر بعضُه بعضًا.
فعلى ذلك نجعل التقدير هنا بمعنى التسوية. وكونه يأتي ترتيبه على خلاف الواقع هَذَا وإن جاء في اللغة العربية لَكِنَّهُ خلاف المعهود، وإلَّا فقد قيلَ:
إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ
…
ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهُ
(1)
فالسيادة للجَدِّ هي الأُولى، وهي في الترتيب هنا هي الأخيرة. فالأقرب والأَولى ما مشَى عليه المُفَسِّر مِن أنَّ التقدير هنا بمعنى التسويةِ؛ لِأَنَّ كَلام اللَّه تَعَالَى يفسِّر بعضه بعضًا.
* * *
(1)
انظر ضياء السالك (3/ 172 - 173)، والأشموني (2/ 418).