الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لكِن لَيْسَ معنى ذلك أنك تتركُ الواجبَ، فحاوِلْ أنْ تُصْلِحَ أمرَكَ، وأن تُصْلح أمرَ غيرِكَ.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أن مِن عادةِ الكفارِ إنكارُ ما لا يَعرِفون، سواء كَانَ عمليًّا أو اعتقاديًّا؛ لِقَوْلِهِ:{وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} .
الْفَائِدَة الثَّانية: أن تعطيلَ الجهْمِيَّة وشُبههم أعظمُ مِن تعطيلِ هَؤُلَاءِ، فإذا كَانَ هَؤُلَاءِ كفرهم بإنكارِ الرَّحمنِ فكيف بمَن يُنكِر جميعَ الأَسْماءِ من الجَهْمِيَّة ونحوهم! ومعروفٌ أن المُعْتَزِلةَ لا ينكرون الأَسْماءَ، لكِن ينكرها غُلَاةُ الجهميَّة، ومعلوم أن الَّذِي ينكر الأَسْماءَ أعظمُ مِنَ الَّذِي ينكر اسْمًا وَاحِدًا، والكفار يُقِرّون باللَّهِ ويقرون بالرَّحيمِ، لم ينكروا إِلَّا الرَّحمنَ، قالوا: ما نعرِف إِلَّا رحمنَ اليَمَامَةِ.
الْفَائِدَة الثالثة: أن الشرعَ لا يُقاس بالهوى والعقل، وإنَّما الشرعُ متبوعٌ وليس بتابعٍ.
الْفَائِدَة الرابعة: أنَّ نفورَ المدعوّ من الدعوةِ لا يَستوجِب التوقُّف، ولا يَمنع الدعوةَ، وهَذِهِ الْفَائِدَة مهمَّة جِدًّا؛ لِأَنَّهَا مجال نقاش أو تساؤل من بعض الإخوان.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: قولُه تَعَالَى: {فَذكرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9] يقولُ بعض المفسِّرين: يَعْنِي تذكِّر الشخصَ إذا كانتِ الذكرَى نافعةً، فإذا رأيتَه لم يَنتفِعْ فاتْرُكْهُ لوقتٍ آخرَ ترى فِيهِ انتفاعَه، فهل تترك الدعوةَ عامَّةً فِي الوقتِ الحاضرِ أم ماذا؟
الجوابُ: هَذَا عَلَى كل حالٍ تَبَعَ الحِكْمَة؛ {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل: 125]، قد يَكُون لَيْسَ من الحِكْمَةِ أنك تدعوه فِي وقتٍ قد يَكُونُ فيه ضَجِرًا
أو مالًّا أو مُتْعَبًا، فلا يَكُون مناسبًا للدعوة، فاتْرُكْه وائْتِهِ فِي وقتٍ آخرَ، أَمَّا قوله تَعَالَى:{فَذكرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} فالعلماءُ مختلِفون هل (إنْ) شرطيَّة أو أنَّها لبيانِ حالهِم، يَعْنِي إن كانت الذكرى سَتَنْفَعُهم فذَكِّرْهُم، يَعْنِي هَؤُلَاءِ لَيْسَ فيهم خيرٌ، ولا تنفعهم الذكرى، مثلما تقول: عَلِّمه إذا كَانَ العلمُ يَنْفَعه، ولَكِن عَلَى كل حالٍ الأَصْل أن الشرطَ مقصودٌ، وأيضًا قوله عليه الصلاة والسلام:"حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ"
(1)
من هَذَا النوع، فهَذَا منَ الحِكْمَةِ، وليس المعنى: لا تحدِّثُونهم بما لا يعرفون؛ لِأَنَّهُ قَالَ: "أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ"، فالمعنى: اسْلُكُوا سبيلَ الحِكمةِ.
الْفَائِدَة الخامسة: أن عَلَى الداعي ألَّا يَرْبِطَ دَعْوَتَه بنتائجها، بمعنى أَنَّهُ لا يقولُ: إنْ وَجَدْتُ نتيجةً وإلَّا وقفتُ.
الْفَائِدَة السادسةُ: أن عدمَ استجابةِ المَدْعُوِّينَ للداعي لا يدلُّ عَلَى فسادِ قَصْدِهِ أو عَمَلِهِ، ولا يدل أَيْضًا عَلَى تقصيرِهِ، يَعْنِي إذا دعا الْإِنْسَانُ ولَكِنَّه لم ينجحْ، فلا يجوزُ لنا أنْ نَتَّهِمَهُ ونقول: هَذَا لو كانتْ نيَّتُه صالحةً لانتفعَ النَّاسُ بِهِ. إذَن هَذِهِ فائدة عظيمةٌ؛ لِأَنَّهُ ربما يَكُونُ من بعض النَّاس اعتراضٌ عَلَى الداعي، يقول: هَذَا الداعي نيَّته باطلةٌ، لو أن نِيَّته صحيحةٌ ما نفرَ النَّاسُ منه. فهَذِهِ فائدةٌ طيِّبةٌ.
الْفَائِدَة السابعة: تسليةُ الدُّعاة إذا قُدِّرَ أَنَّهُمْ لم يَنْجَحُوا مثلًا، فيقال: هَذَا النَّبي عليه الصلاة والسلام دعا هَؤُلَاءِ القومَ، وزادهم نفورًا، لَكِنْ كانتِ العاقبةُ له، فأنتَ اصْبِرْ وستكون العاقبة للمتَّقين.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم، كراهية أن لا يفهموا، رقم (127).
الْفَائِدَة الثامنة: إثبات صفةِ الرَّحمةِ وإثباتُ اسْمِ الرَّحمنِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ أنكروه.
الْفَائِدَة التاسعة: أن المعاصيَ يجرُّ بعضها بعضًا؛ لِقَوْلِهِ: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} .
الْفَائِدَة العاشرة: أن السجودَ من أسبابِ الرَّحمةِ، ولهذا قال:{اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} ، سواء السجود العامّ أو السجود الخاصّ، فَإِنَّهُ من أسباب الرَّحمةِ، ولهذا لم يقل: اسجدوا للَّه، بل قال:{اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} يَعْنِي لتصلوا إِلَى رحمةِ هَذَا المسجودِ له.
الْفَائِدَة الحاديةَ عشْرةَ: وجوب امتثالِ أوامرِ الرَّسولِ عليه الصلاة والسلام، مأخوذ من ذمِّ المشركين بعدم استجابتهم لأمر الرَّسول صلى الله عليه وسلم بالسجود للَّه.
الْفَائِدَةُ الثَّانيةَ عشرةَ: بُلُوغ المشركينَ الغايةَ فِي الاستكبارِ، ولهذا ما قالوا: لا نريدُ السجودَ، بل قالوا:{أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} يَعْنِي: عَلَى فَرْضِ أَنَّنا يُمْكِنُ أنْ نَسْجُدَ فلا يُمْكِن أن نسجدَ لِأَمْرِكَ.
الْفَائِدَتان الثالثةَ عَشْرَةَ والرابعةَ عشْرةَ: أَنَّهُ لا يجوزُ للإنْسَانِ أنْ يَقِيسَ الحقَّ بقائِلِهِ، وإنَّما يُعْرَف الحقُّ بالحقِّ، لا بالقائلِ؛ لِأَنَّ بعضَ النَّاسِ إذا قُلْنَا مثلًا: هَذَا قاله فلانٌ، قَالَ: مَن فلان بالنسبةِ لفلانٍ؟ فيريدون أنْ يعرفوا الحقَّ بالرِّجالِ، والواجبُ -كما قَالَ النَّوَوِيُّ وغيرُه- أنْ يُعْرَفَ الرِّجالُ بالحقِّ.
فكأنَّهم يَقُولُونَ: لو فُرِضَ أَنَّنا سَجَدْنا، ما سَجَدْنا لأمرِكَ، فيَكُون فِي هَذَا أَيْضًا دليلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أنْ يَنقادَ للحقِّ مهما كَانَ قائلُه، حَتَّى لو كَانَ من أَرْذَلِ النَاس فِي نظرِه، فالواجبُ عليه أنْ يَنقادَ للحقِّ لِأَنَّهُ حقٌّ، لا لأنَّ قائلَهُ ذاكَ الرجُل.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: لمَّا قرأ الرَّسولُ عليه الصلاة والسلام سُورةَ النَّجْم هل صَحيح أنَّ
الكفَّارَ سَجَدُوا
(1)
لسجود النَّبي صلى الله عليه وسلم؟
نقول: صحيح، لَكِنْ هل ذلك مِنْ أجْلِ ما ذُكِر أو لِقُوَّة ما أَخَذَهُمْ، يَعْنِي لمَّا كَانَ فِيها التهديدُ فِي الأوَّل {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى} [النجم: 33 - 34] وقبلها أَيْضًا ذمّ الأصنامِ إِلَى آخِره، ثم جاءت أوصاف اللَّه {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} [النجم: 48]، ثمَّ جاءَ التهديدُ بِذِكْرِ الأمثالِ فِي الأُمَم السابقينَ، فكأنَّ هَذَا أخذَ بألبابهم حَتَّى نَسُوا ما هُمْ عَلَيْهِ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: كيف كَانَ كُفَّار مكَّة يَطَّلِعُون عَلَى القُرْآنِ؟
فمعروفٌ أنَّ الرَّسولَ كَانَ يَقْرَأُ وأَبو بكرٍ كَانَ يقرأ، وكان الصغارُ والنساءُ مِنَ الكفَّار يأتون إِلَى أبي بكرٍ يَستمِعون لقراءَتَهُ، ويَسْتَمِعُون أَيْضًا لقراءةِ النَّبيِّ عليه الصلاة والسلام، فهم يطَّلِعُون لأنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم يُبَلِّغُها والصحابة يبلِّغونها.
* * *
(1)
أخرجه البخاري: أبواب سجود القرآن، باب سجود المسلمين مع المشركين والمشرك نجس ليس له وضوء، رقم (1071).