الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (38)
* * *
* قالَ اللَّه عز وجل: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان: 38].
* * *
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{وَ} اذْكُرْ {عَادًا} قومَ هُودٍ {وَثَمُودَ} قومَ صالحٍ، {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} اسْم بِئْرٍ، ونبيُّهم قيل: شُعَيْب، وقيل: غيرُه، كانوا قعودًا حولَها فانهارتْ بهم وبمنازلهم، {وَقُرُونًا} أقوامًا {بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا}، أي بين عاد وأصحاب الرَّسِّ].
قوله عز وجل: {وَعَادًا وَثَمُودَ} يقول المُفَسِّر رحمه الله: إنها على تقدير (اذْكُر)؛ لِأَنَّهُ لم يذكر فعلًا بحيثُ يُحالُ العملُ عليه، وعادٌ قومُ هودٍ، وكانوا في الأحقافِ في جنوب الجزيرة العربية، وكانوا ذوي قوَّة وشِدَّة، حتى إنهم قالوا:{مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} فقال اللَّه سبحانه وتعالى مجيبًا لهم: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ} ، انْظُر {الَّذِي خَلَقَهُمْ} لها فائدة؛ لأَنَّهُمْ مخلوقون ضعفاء {هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15]، وبماذا أُهْلِكُوا؟ أهلكوا بألطفِ الأشياءِ، وهي الريحُ؛ رِيحٌ دَمَّرَتْهُم، قال تَعَالَى:{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25].
قوله: {وَثَمُودَ} فيها قراءتانِ: (وَثَمُودًا){وَثَمُودَ} بدون تنوينٍ، فعلى قراءة التنوينِ يَكُون غير ملاحَظ فيها اسْم القبيلة، يعني ليس فيها تأنيث، وعلى قراءة
عدم التنوين {ثَمُودَ} منعت من الصرف للعلميَّة والتأنيثِ، فأَسْماء القبائل كلها يُحْذَى بها هَذَا الحَذو، يعني يجوز أن تمنعها من الصرف باعتبارِ اسْم القبيلة، ويجوز ألَّا تَمْنَعَها إذا لم يكنْ فيها مسوِّغ غير التأنيث المعنويّ؛ لِأَنَّهَا ليستْ فيها سَبَبٌ.
وثمود هم قوم صالحٍ، كذَّبوا صالحًا وعَقَرُوا الناقةَ الَّتِي جعلها اللَّه سبحانه وتعالى آية، وأخيرًا أُهلِكوا بصيحةٍ ورَجفةٍ، صِيحَ بهم مع الرَّجْفَة، فماتوا والعياذُ باللَّهِ {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر: 31]، وفي آية أخرى:{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 78].
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هل نبيّ اللَّه صالح عربيّ؟
فالجواب: الظاهرُ أَنَّهُ عربيّ، وهُود أيضًا، لكنهما ليسا من العرب المستَعْرِبَة الَّذِينَ هم بنو إسماعيل من العربِ العاربةِ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: لكِن ذكر ابنُ كثيرٍ
(1)
حديثًا عن أبي ذرٍّ قال: يا رسول اللَّه، كم الأنبياء؟ فذكر فيه:"وَأَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ: هُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ، وَنَبِيُّكَ يَا أَبَا ذَرٍّ"
(2)
؟
فالجواب: الأَسْماء تدل على أنها عربيَّة، لكِن لا أدري عن هَذَا الحديث، لكنِ المعروف أَنَّهُ لا يوجَد إلا هَؤُلَاءِ الأربعة، حتى شُعَيب لا أدري عنه إلا مِن هَذَا
(1)
تفسير القرآن العظيم (2/ 470)، ط. دار طيبة.
(2)
أخرجه ابن حبان (2/ 76، رقم 361 - الإحسان). وقال ابن كثير عقبه في التفسير: "قد روى هَذَا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم ابن حِبَّان البُسْتي في كتابه الأنواع والتقاسيم، وقد وسمه بالصحة، وخالفه أبو الفرج ابن الجوزي، فذكر هَذَا الحديث في كتابه الموضوعات، واتهم به إبراهيم بن هشام هذا، ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل مِنْ أجْل هَذَا الحديث، فاللَّه أعلم".
الحديثِ، أمَّا هود فمعروف عند المؤرِّخين أَنَّهُمْ عَرَب عاربةٌ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هل أحدٌ تَعَرَّض لتعريبِ أَسْماءِ الأنبياءِ، أي معرفة معناها؟
فالجواب: من المعروف أنَّ الأعلامَ قد تكونُ أَسْماء جامدةً، ليس لها اشتقاقٌ، لكنْ فيما يبدو لي -واللَّه أعلم- أن أَسْماء الأنبياء في الغالبِ لها معانٍ، لكِن لا أعرِفُ عنها شيئًا.
قوله: {وَأَصْحَابُ الرَّسِّ} الرَّسُّ اسْم للبئر؛ إمَّا للبئر مطلقًا، أو لبئر غير مَطْوِيَّة، ولم يبيِّنِ اللَّه سبحانه وتعالى مَنْ أصحابُ الرسِّ، ولذلك اختلفَ المفسِّرون فيهم اختلافًا كثيرًا، فقيل: إنهم -كما يقول المُفَسِّر رحمه الله قومُ شُعَيْب، ولكنَّ هَذَا ليسَ بصحيحٍ، وقيل: إنهم من قومِ ثَمود، ولَيْسُوا قومَ ثمود، وعلى هَذَا فيَكُونُ عَطْفُهم على ثمودَ من بابِ عَطْف البعضِ على الكلِّ، ولَيْسُوا هم ثمود أصحاب البئر، يعني بئر الناقة؛ لِأَنَّهُ معروفٌ أَنَّهُمْ ثمود مستقِلُّون، وهلاكهم معروف، وجوابهم لرسولهم معروف، فالأَصْل في العطف التغايُر.
وقيل: إنَّ أصحابَ الرَّسِّ -ورجَّحه ابنُ جَرِير
(1)
- هم أصحابُ الأُخدود الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى في سورة البُرُوج، ولكن الأَولى التوقُّف في تَعْيِينهم؛ لِأَنَّ اللَّه عز وجل لم يُعَيِّنْهُم، ولكننا نَعْلَم أن هَؤُلَاءِ القوم كانوا معلومينَ للعربِ حين نُزُولِ القُرْآنِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تعالى لم يَكُنْ لِيَضْرِبَ لهم المَثَلَ بقومٍ لا يَعرِفون ما جَرَى عليهم، الآن نحن نَتَكَلَّم عن تعيينهم بأشخاصهم، أو بقبائلهم، نقول: الأَولى التوقُّف.
لكنْ لماذا سُمُّوا أصحابَ الرَّسِّ؟
(1)
جامع البيان في تأويل القرآن (19/ 270)، ط. الرِّسَالة.
قيل: إنهم رَسُّوا نبيَّهم، يعني دفنوه في هَذِهِ الرسِّ، يعني في البئر، فسُمُّوا بأصحاب الرسِّ من باب إضافة الشَيْءِ إلى العملِ الشَّنيع المنكَر.
وقيل: إنهم كانوا حولَ هَذِهِ البئرِ، وإن اللَّه سبحانه وتعالى خَسَفَ بهم وببئرهم، فانهارت البئرُ بمَن حولها، فذهبوا عن آخِرِهِم. وكيفيَّة العقوبة الَّتِي جرتْ عليهم أو كيفية العمل الَّذِي عمِلوه فأُهلِكوا به على الأوَّل تكونُ الإضافة إشارة إلى الفعلة القبيحة الَّتِي فعلوها، فكانت سَبَبًا في إهلاكهم، وعلى الثَّاني تكون إشارة إلى نوع العقوبة الَّتِي عُوقِبوا بها، فتكون من باب الإضافة إلى العقوبةِ.
نقرأ كَلام المُفَسِّر رحمه الله: [{وَأَصْحَابُ الرَّسِّ} اسْم بئرٍ، ونبيُّهم قيل: شُعيب، وقيل: غيرُه، كانوا قعودًا حولَها فانهارتْ بهم وبمنازلهم]، المُفَسِّر رحمه الله اقتصرَ على ذكر كيفيَّة إهلاكهم، فهم أُضيفوا إلى البئرِ؛ لِأَنَّ إهلاكَهم كان بما حولها، قال المُفَسِّر رحمه الله:[{وَقُرُونًا} أقوامًا {بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} أي بينَ عادٍ وأصحابِ الرَّسِّ]، هَذَا ما ذهب إليه المُفَسِّر، ويَحتمِل أنَّ الإشارةَ تعودُ إلى ما سبقَ من قومِ نوحٍ، يعني من قوم نوح إلى أصحاب الرسِّ قرون كثيرة أَهلَكهم اللَّه سبحانه وتعالى.
وقول المُفَسِّر رحمه الله: [{وَقُرُونًا} أقوامًا] كأنه يقول رحمه الله: إن المرادَ بالقرنِ الجِيل، والقوم والأُمَّة الَّتِي كانت في عصرٍ وَاحِدٍ، وهذا أحد الأقوالِ في القرن؛ أن المراد به الأُمة والطائفة الَّذِينَ كانوا في عصر وَاحِدٍ، وعلى طَريقٍ وَاحِدةٍ، واستدلوا بقول النَّبي صلى الله عليه وسلم:"خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ"
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، رقم (2652)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، رقم (2533).
ويُطلَق القرنُ على الزمنِ، واختلفوا في مِقدارِه؛ فمنهم مَن قال: إِنَّهُ مئة، وهذا هو المشهور، ومنهم من قال: مئة وعشرونَ، ومنهم من قال: ثمانونَ سنة، وهَذِهِ الأقوال الَّتِي تُقَدِّرُ بالزمنِ هي مقارِبةٌ للأقوالِ الَّتِي تقدِّر بالأُمَّة؛ لِأَنَّ الغالبَ أن مثل هَذَا الزمن يَفنى به الأوَّلون ويأتي بعدَهم قومٌ آخرونَ، ولهذا قال النَّبي صلى الله عليه وسلم في آخِرِ حياتِه:"أَرَأَيْتُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مئة سَنَةٍ مِنْهَا، لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ"
(1)
، فهذا مما يُشِيرُ إلى أن القرنَ مئة سنةٍ، ولكنَّ السياقَ هنا يدل عَلَى أَنَّ المرادَ بالقرون الأُمم؛ لِأَنَّ الإهلاك للقرونِ يَكُون لأهل الأزمان، فالآيةُ هنا سياقها يدلّ عَلَى أَنَّ المراد بالقرونِ الكثيرةِ الأممُ، وما أكْثَرَ القرونَ الَّتِي أَهْلَكَهَا اللَّه سبحانه وتعالى بين نوحٍ وأصحاب الرَّسِّ، وقد جاء في الحديث الَّذِي رواه أبو ذَرٍّ وهو حَسَنٌ، وصحَّحه الحاكِم
(2)
أن عدد الرُّسُلِ ثلاثُ مئة وبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وأمَّا الأنبياء فكثيرون؛ مئة وأربعة وعشرون ألفًا، هَذَا عددٌ كبيرٌ، فإذا كان غالب الرُّسُل مُكَذَّبًا، فمعنى ذلك أن القرونَ الَّتِي أُهْلِكت كانتْ كثيرةً، والنَّبي صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا: رأى الأنبياء، فرأى النَّبيَّ ومعَه الرَّهْطَ، والنَّبيَّ ومعه الرجلُ والرجلانِ، والنَّبي وليس معَه أحدٌ
(3)
، ممَّا يدلّ عَلَى أَنَّ غالبَ الأنبياءِ كُذِّبَ فيما سَبَقَ ولم يَتْبَعْه إلَّا القليل، وهذا نوحٌ كما هو معروف لبِث في قومِه ألفَ سنةٍ إلا خمسينَ عامًا، قال اللَّه تَعَالَى:{وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40]، هَذِهِ المدَّة العظيمة وهو يكابدهم ويناظرهم
(1)
أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة، باب ذكر العشاء والعتمة، ومن رآه واسعا، رقم (564)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تَأْتِي مئة سَنَةٍ، وَعَلَى الأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ الْيَوْمَ"، رقم (2537).
(2)
مستدرك الحاكم (2/ 652، رقم 4166).
(3)
أخرجه البخاري: كتاب الطب، باب من لم يرق، رقم (5752)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، رقم (220).
ويجادلهم ويَقُولُونَ: {يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [هود: 32]، أي: لن نُطِيلَ، الَّذِي عندك ائتِ به -والعياذ باللَّه- ونحن الآنَ إذا كابَدْنَا وَاحِدًا في الدعوةِ إلى اللَّهِ لِمُدَّة دقيقةٍ وَاحِدةٍ تَطَاوَلْنَاها، نقول: لماذا لم يَسْتَجِبْ من أوَّل مرَّة دعوناه فيها؟ ! والرُّسُلُ - عليهم الصلاة والسلام- الَّذِينَ وَعَدَهُمُ اللَّهُ بالنصرِ {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]، يكابِدون أقوامَهم ثم لا يؤمن إلا القليلُ منهم.
فالحاصِل أننا نقول: هَؤُلَاءِ القرون العظيمةُ الكثيرةُ كلُّها أهلكها اللَّه عز وجل بتكذيبِها لِرُسُلهم، أفلا يَكُون قادرًا على أن يُهلِك المكذِّبين للرسول؟ بلى، هو قادرٌ عليه، وهذا هو الَّذِي حَصَلَ، لكِن اللَّه تَعَالَى جعل إهلاكَ أعداءِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم على يد الرَّسولِ {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 14 - 15]. فهَذِهِ المصالح العظيمة لو أُهلكت قريشٌ بعذابٍ من عند اللَّه لم تَحصُل، ولهذا إذا هلك عدوُّك على يدِك كان أشفَى لك وأشدَّ سرورًا وفرحًا أن اللَّه يُهلِكه على يدك، أمَّا إذا هَلَكَ بعذابٍ من اللَّه فهذا لا شكَّ أن اللَّه كَفَاكَ شَرَّهُ ولكنْ كونه على يدِك أبلغ وأشدّ فَرَحًا وسرورًا.
* * *