الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (4)
* * *
* قالَ اللَّه عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الفرقان: 4].
* * *
لمَّا ذكر اللَّه سبحانه وتعالى ما يعود إلى التَّوحِيدِ انتقلَ إلى ما يعود إلى الرِّسَالة؛ وذلك لِأَنَّ الشهادة: أشهد أنْ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ وأشهدُ أن مُحَمَّدًا رسول اللَّه.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا} أي ما القُرْآن {إِلَّا إِفْكٌ} كَذِب {افْتَرَاهُ} مُحَمَّدٌ {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} وهم من أهل الكِتَاب]، هَذَا الأَصْل الثَّاني مِنَ الأُصُول: التَّوحِيد وإثبات الرِّسالة، وإثبات الرِّسَالة لا شكَّ أَنَّهُ أَحَدُ شَطْرَيِ التَّوحِيدِ: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللَّهُ وأشهد أنَّ مُحَمَّدًا رسول اللَّه، ولا يُمكِن أن يُعْبَدَ اللَّه سبحانه وتعالى إلَّا بما جاءت به الرسُل؛ لِأَنَّ العِبَادَة طَريق للمرءِ إلى ربه، وهل يمكن أن نَتَوَصَّل إلى اللَّهِ بطَريقٍ لم يَجْعَلْه طَريقًا؟
فالجواب: لا، وهذا الطَّريق الَّذِي جَعَلَه اللَّه طَريقًا إليه جاء بواسطة الرُّسُل، إذَن فالعِبَادَة لا بدَّ لها من رسالةٍ، ولا يمكِن أن يُعبَد اللَّه بمجرَّد العقل؛ لِأَنَّ العِبَادَة طَريق يوصِّل إلى اللَّهِ، وهذا الطَّريق لا يمكن إلا بوضعٍ مِنَ اللَّهِ، واللَّه سبحانه وتعالى جَعَلَه بواسطةِ الرسُلِ.
والمكذِّبون للرسُل أيضًا قَدَحُوا بالرُّسُل وبما جاءوا به {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} هنا صرَّح بالاسْم الظاهر، قَالَ أوَّلًا:{وَاتَّخَذُوا} لِيَعُمَّ جميع المشركينَ مِنَ العرب وغيرهم، وهنا قال:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني منَ العربِ الذينَ رَدُّوا رسالةَ النَّبيِّ عليه الصلاة والسلام.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{إِنْ هَذَا} أيْ: ما القُرآن]، المُفَسِّر رحمه الله دَقيقٌ في التفسيرِ، فسَّر لنا {إِنْ} وفسَّر لنا اسْمَ الإشارةِ. {إِنْ} بمعنى (ما) فهي نافيةٌ، (هذا) يقولُ رحمه الله:[القُرْآن]، فالمشارُ إليه إذَنِ القُرْآنُ. فقوله:{إِنْ هَذَا} أي: ما هَذَا القُرْآن {إِلَّا إِفْكٌ} انْظُر -والعياذُ باللَّهِ- أَتَوْا بالحصرِ، يعني لا يمكن أن يَكُونَ إلَّا إِفْكًا، لا يمكِن أنْ يَكُونَ فيه صِدْقٌ، فأَتَوْا بالحَصْرِ عن طَريقِ النفي والإثباتِ {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ} ، ولا يُمْكِن أنْ يَكُونَ صِدْقًا.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{إِلَّا إِفْكٌ} كَذِبٌ]. {افْتَرَاهُ} يعني اخْتَلَقَه، أي النَّبي عليه الصلاة والسلام، {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} يقول رحمه الله:[مِن أهلِ الكِتَابِ]، ومنه أيضًا الرجلُ الَّذِي قالوا: إِنَّهُ يُعَلِّمُه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103]، يقولون: إن هَذَا ليسَ مِنَ اللَّهِ، بل هو من مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام افتراهُ معَ مُساعدةِ غَيْرِه، يقول اللَّه سبحانه وتعالى مُبْطِلًا لِكَلامِهِم:{فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [كُفْرًا وكَذِبًا]، المُفَسِّر رحمه الله فَسَّرَ الظُّلْمَ بالكفرِ؛ لأنَّ الكفرَ ظُلْمٌ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، ثُمَّ هو ظُلْمٌ بالنسبةِ للرسولِ عليه الصلاة والسلام لِأَنَّهُ اعتداءٌ عليه، ووَصْفٌ له بالكَذِبِ، ولو أنَّ إنْسَانًا وصفَ أحدًا مِنَ النَّاسِ بالكَذِبِ لَقُلْنَا: إنَّه ظالمٌ له ومُعْتَدٍ عليه.
قوله: {وَزُورًا} الزُّور في الأَصْل كل ما انحرفَ عن الصراط المستقيم، كل انحراف فَهُوَ زُور {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ} [الكهف: 117]، تميل،
فكل مَيل فَهُوَ زُور، وفي الحديث:"مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ"
(1)
، الزور المراد به كلّ قول منحرِف، فالزُّور إذَن الكذِب، فهُمْ مِن أكذبِ النَّاسِ، بل أكذب النَّاسِ فيما قالوا، فقولهُم:{إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} ليسَ فيه شَيْء مِنَ الصدق، بل هو كذِب وظُلم وعُدوان على الرَّسول صلى الله عليه وسلم.
ثم نقول لهم: إذا كان مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم هو الَّذِي افتراهُ، وأعانَه عليه قوم آخرونَ، فأْتُوا بسورةٍ من مِثْلِه، قَالَ سبحانه وتعالى:{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 34]، وقال:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]. ثُمَّ إن مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم عاش فيهم قبل الوحي أربعينَ سنةً وما قَالَ يومًا مِنَ الأَيَّام: إِنَّهُ يُوحَى إليه، والَّذِي يريد أن يكذِبَ فَإِنَّهُ يكذب في عُنفوان شَبابِه لِيَكْسِبَ الأتباعَ من أول الأمرِ، فلمَّا لم يكنْ هَذَا إلَّا بعد مُضِيِّ أربعين سنةً دلَّ ذلك عَلَى أَنَّ دعواهم يُكَذِّبها الواقع.
أيضًا فإن هَذَا الوحي جاء والرَّسول صلى الله عليه وسلم في سنِّ الأربعينَ، ولا يمكِن أن يَكُون الكذِب يَتَجَدَّدُ له في هَذَا السنّ، ثُمَّ إننا نقول: ممَّا يبيِّن أَنَّهُ زور أن هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يقولون: إِنَّهُ افتراه هم بأنفسهم يشهدون للرسول صلى الله عليه وسلم بالصدق، وكانوا يُسَمُّونه الأمين، ولا يشكُّون في صِدقه، ولا يشكون في عدالته صلى الله عليه وسلم فأين كانوا من قبلُ؟ !
* * *
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور، والعمل به في الصوم، رقم (1903).