الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إيجابيٌّ، والدفع سلبيٌّ، وغالبًا يَكُون السلبيُّ أهونَ مِنَ الإيجابيِّ، فانتقل اللَّه عز وجل في بيان عَجْز هَذِهِ الآلهةِ وأنها لا تصلُح مِنَ الأدنى إلى الأعلى، هَذَا بالنسبة للتفصيلِ، أمَّا بالنسبة للإجمالِ فقال:{لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا} .
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأولى: أَنَّهُ يَنْبَغِي للإنْسَان أن يسوق للخصم ما يقر به لزوما حتى تقوم الحجة عليه، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جعلوها آلهةً لا يمكن أن يَدَّعوا أنها تخلق، ولا يمكن أن يدَّعوا أنها غير مخلوقة؛ لأَنَّهُمْ يعرِفون أنها موجودة وليستْ من قبل.
فهل يمكن أن يدَّعوا بأنها تنفع أو تضُر؟
نقول: يُمْكِنُ أنْ يَدَّعوا ذلك، وفعلًا يَدَّعون ذلك، يقولون: إن الأولياء يَنفعون، وإنهم يضرون، وإن مَن لم يذبحْ لهذا الوليِّ أو ينذِر له فَإِنَّهُ يضرُّه. وهَذِهِ دَعْوى، فإذا ادَّعوا هَذَا يُطَالَبُون بالدليلِ، والدليل أنْ يقالَ لهم مثلًا: ادعوا هَذَا الوليَّ بأمرٍ معيَّن وانظروا هل يجلِب لكم ذلك أو لا يجلِبه؟ وذلك مِثلما أَنَّهُمْ يُطَالِبُونَ الرسُل بأشياءَ معيَّنةٍ، يقولون مثلًا لمَّا قالتْ لهم الرُّسُل: إن اللَّه يحيي المَوْتى: {ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجاثية: 25]، مع أن الرُّسُل ما قالت لهم: إن البعث في الدُّنْيا حتى يقولوا: {ائْتُوا بِآبَائِنَا} ، إِنَّمَا قالت لهم: إن البَعْث بعد المَوْت، وهذا غير ما طالَبَ به هَؤُلَاءِ الخُصماء للرسل، فقولهم:{ائْتُوا بِآبَائِنَا} هو في الحقيقة مكابَرة وطَلَب دليلٍ لشَيْءٍ لم يَقُلْه الرسُلُ عليهم الصلاة والسلام، إذ لم يقولوا: إنهم يُبعَثون الآنَ.
فعلى كلِّ حالٍ هَذِهِ الدَّعْوَى -وهي أَنَّهُمْ يملكون نفعًا أو ضَرًّا- دعوى تحتاج إلى بيِّنة، أَمَّا دعوى المَوْت والإحياء فهي أيضًا أوضحُ في البُطلان، بل ربما تُدَّعَى؛
لِأَنَّ الَّذِي حاجَّ إِبْراهِيم في ربِّه قَالَ له: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258]، فربما تُدَّعَى، وفي مناظرة إِبْراهِيم صلى الله عليه وسلم يمكن أنْ نَنْتَفِعَ بها هنا- دليلٌ على أَنَّهُ إذا ادَّعى المبطِل دعوى فإننا، نَنْقُلُه إلى ما هو أوضحُ؛ لِأَنَّ المقصود ليس المجادَلة، إِنَّمَا المقصود إقامة الحجَّة على بُطلان هَذَا الأمر، وهو إذا بطل ولو من دليلٍ وَاحِدٍ كفَى، ولا حاجة أن نُبْطِله مِنَ الدليل الَّذِي يُعَيِّنه الخَصم، قد نبطِله من دليل آخرَ، فإِبْراهِيم صلى الله عليه وسلم لو أراد أن يحاجَّ هَذَا الرجُلَ ويجادل هَذَا الرجل لقال له: لستَ تُحْيي وتميت، وإنَّما تفعل سَبَب الإحياء والإماتة، لَكِنَّه عليه الصلاة والسلام ذهب إلى دليل أوضحَ وأبينَ، ولا تُمكِن المحاجَّة فيه، قطعًا للنزاع والمجادَلة، فالإنْسَان الَّذِي يجادِل قَابِلْهُ بدليلٍ لا يمكنه دَفْعُه، فقال:{فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258]، وهذا إلزامٌ لا يتمكَّن معه أن يَدَّعِيَ شيئًا، ولهذا قَالَ اللَّه سبحانه وتعالى:{فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].
المهم الآن قوله: {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا} هو مُسَلَّم، ولا يمكِن دَعْوَى نفيِه حتى عند العابدين، قَالَ تَعَالَى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]، وقال تَعَالَى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، فحتى عند العابدين لا يمكن أن يَدَّعُوا هَذِهِ الصِّفة المنفِيَّة.
قوله: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} لا يمكن أيضًا أن يَدَّعوا أنها ليست مخلوقة وأَنَّهُمْ صَنَعُوها بأيديهم، يقول إِبْراهِيم لهم:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].
قوله: {وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} .
قُلْنَا: إِنَّهُ يمكن أن يُدَّعَى خلافُ هَذَا النفي، وجوابنا عنه من أمرين: إما إبطال هَذِهِ الدعوَى بعينها ونقول: هَذَا أمرٌ لا يمكِن، وإذا شئتم فادْعُوا، وإمَّا أنْ يقالَ:
ننتقِل عن هَذَا النفي، ولا ننتقل عن هَذَا النفي لعدم إيمان به، بل يَجِب علينا أن نؤمن بأَنَّهُمْ لا يملكون ذلك، لكِن عند المخاصَمة ننتقل إلى أمر أعظم وأَبْيَنَ وأوضحَ، مثلًا لو نزلتْ أمطارٌ كثيرةٌ مُغْرِقَة، أو حصلتْ زلازلُ يُمْكِن أن نقولَ لهمُ: ادْعُوا هَذِهِ الأصنامَ وانظروا هل تمسك السَّمَاء وهل تتوقف الأرض عن الزلازل، وما أشبهَ ذلك، لَكِنْ مهما كان لو ادَّعَوْا ما يدعون فإننا ننتقل عند المجادَلة إلى أمرٍ أوضحَ لا يَتَمَكَّنُونَ من نفيِهِ.
* * *