الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (29)
* * *
* قالَ اللَّه عز وجل: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 29].
* * *
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} أي القُرْآن {بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي}].
قوله: {لَقَدْ أَضَلَّنِي} اللام مُوَطّئَة للقَسَم، و (قد) للتحقيقِ، فالجملة إذَن مؤكَّدة بثلاثةِ مؤكِّدات: القسم و (اللام) و (قد)، وهو يؤكد في هَذَا اليوم أن ذلك الخليل أضلَّه تأكيدًا يُراد به لومُ نفسه، ولكن ذلك لا ينفعه الآن، لو كان هَذَا التأكيد في الدُّنْيا لَنَفَعَه، أَمَّا الآن فلا ينفعه، ولكنَّه يزيد في تحسُّره.
قوله: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} يقول المُفَسِّر رحمه الله: [أي القُرْآن]، وهو بناءً منه عَلَى أَنَّ المرادَ بالظالمِ كما سَبَقَ هو عُقْبَة بن أبي مُعَيْط، فيَكُون المراد بالذكر القُرْآن، وإذا قُلْنا بالعموم -وهو الراجح- يَكُون المراد بالذكر الكِتَاب المنزَّل على ذلك الرَّسولِ، ففي عهد موسى التوراة، وفي عهد عِيسى الإنجيل، وكذلك في العُهُود الأُخْرى الكُتُب المنزَّلة على الرُّسُل.
قوله: {بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} هَذَا الظرف له فائدته العظيمة، يعني بعد أن حصل لي الذكر وعَلِمته وفهِمته؛ حَصَلَ الإضلالُ، وهذا أبلغ ممَّا لو أضلَّه عن أمرٍ متوقَّع
غير واقع، هَذَا أمر واقع أقرَّ بأن الذِّكر جاءه وقامتْ عليه الحجَّة وأضلَّه هَذَا الخليل بعد إذ جاءه.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [بأنْ رَدَّني عنِ الإيمان به، قال اللَّه تَعَالَى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ} الكافِر {خَذُولًا} بأنْ يَتْرُكَه ويَتَبَرَّأ منه عند البلاءِ].
قوله: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} كأنَّ المُفَسِّر رحمه الله مشَى عَلَى أَنَّ هَذِهِ الجملة ليستْ من قول الظالمِ، وأن قول الظالمِ انتهى عند قولِه تَعَالَى:{بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} ، وعلى هَذَا فيَنْبَغِي الوقفُ على قوله:{لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} فتقف ثم تستأنِف وتقول: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} .
وقوله: {الشَّيْطَانُ} يُرادُ به الجِنْسُ؛ لِأَنَّ الشياطينَ كثيرونَ، قال اللَّه تَعَالَى:{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء: 210]، وقال عز وجل:{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65]، فالمراد به هنا الجِنس، وهم أنواع.
والظاهرُ -واللَّه أعلم- أنَّ لكلِّ نوعٍ من المعاصي شيطانًا؛ كشيطان الشركِ، وشيطانِ الجحودِ، وشيطان البخلِ، وغيرِ ذلك، فلكلِّ نوعٍ شيطانٌ هَذَا ما يَظْهَر، واللَّه أعلَمُ.
وقوله: {لِلْإِنْسَانِ} المراد به على كَلام المُفَسِّر رحمه الله الكافِرُ، وهو عُقْبَةُ بنُ أبي مُعَيْطٍ، أو عامٌّ؛ لِأَنَّ هَذَا الكَلام من كَلام اللَّه سبحانه وتعالى ليس من كَلام الظالم، فيَحتمِل أنْ يَكُونَ عامًّا للكافرِ والمؤمنِ؛ فإن الشيطان أيضًا يُغوِي المؤمنَ، ثم بعد ذلك يَتَخَلَّى عنه، فالظاهرُ أنَّ المرادَ بالإنْسَانِ هنا الجنس، يعني المؤمن أو الكافر، وإنَّما قُلْنا: إن ذلك هو الظاهِر لِأَنَّهُ كما يُغوِي الكافرينَ بالكفرِ كذلك يُغْوِي المؤمنينَ بالفِسْقِ.
وقوله: {خَذُولًا} هَذِهِ إمَّا أن تكون صفةً مشبَّهةً، وإما أن تكون صيغةَ مبالغةٍ، وعلى الأمرينِ يَكُون وصفُ الشيطانِ بالنسبةِ للإنْسَانِ الخِذلان، أو يَكُون خذلان الشيطان للإنْسَانِ دائمًا؛ لِأَنَّ المبالَغةَ تَقتضي الكثرةَ، والخِذلان معناه إذلال الإنْسَانِ في مَوْطِنٍ يَحتاج معَه إلى النصرِ، فهذا الخذلان أنك تتخلَّى عن إنْسَانٍ في موطِنٍ يحتاج فيه إلى النصرِ، والشيطانُ عندما نتأمَّل ما ذكر اللَّهُ عنه في القُرْآنِ نجِد أَنَّهُ يخذُل الإنْسَانَ في مواطن النصرِ، فزَيَّنَ لِقُرَيْشٍ أنْ يَخرجوا لقتالِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فخرجوا {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} [الأنفال: 48]، زيَّن للإنْسَان الكفر، {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} [الحشر: 16]، هَذَا في الدُّنيا، وفي الآخرة:{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} بمُغيثِكم {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إِبْراهِيم: 22]، هَذَا أيضًا خِذلان عظيمٌ، فالشيطان في مواطِنِ النصرِ يخذُل الإنْسَانَ ويتبرَّأ منه.
وهذا الوصف {وَكَانَ الشَّيْطَانُ} نقول: هل كان في عِلم اللَّه، أو كان فيما مَضَى وانتهى؟ تقدَّم قريبًا نظيرها (كان) مجرَّدة عن الزمن، يعني أن (كان) تارَةً يُراد بها الدلالة على الزمنِ، وتارةً يُراد بها مجرَّد الحَدَث، يعني مجردة عن الزمنِ، فتقول مثلًا:(كان زيدٌ قائمًا) يعني فيما مضَى، ثم جلس، وأيضًا مثل قولِه عز وجل:{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96]، وقولِه:{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 27]، ليس المعنى (كان) فيما مضَى، بل المعنى أنَّ هَذَا وصفٌ للَّهِ مستمِرٌّ.