الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (44)
* * *
* قالَ اللَّه عز وجل: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44].
* * *
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ} سَمَاعَ تَفَهُّمٍ {أَوْ يَعْقِلُونَ} ما تقولُ لهم، {إِنْ} ما {هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} أخطأُ طَريقًا مِنها؛ لِأَنَّهَا تنقادُ لمِن يَتَعَهَّدُها، وهم لا يطيعون مولاهم المنعِمَ عليهم].
قوله: {أَمْ تَحْسَبُ} الخطاب إما للرسول عليه الصلاة والسلام وإما لكل مَن يتأتَّى خِطابُه مِمَّن يصِحُّ خطابُه، وقوله:{أَمْ} بمعنى (بل) وهمزة الاستفهام، لكِن هل هي متَّصِلة أو منقطِعة؟ هي منقطعة؛ لِأَنَّهَا بمعنى (بل)، والمتصلة هي الَّتِي تكون بين أمرينِ متعادلينِ، مثل قوله سبحانه وتعالى:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [المنافقون: 6]، هَذِهِ متَّصلة، فالَّتِي تأتي بين شيئينِ متعادلينِ يُسمُّونها متصلةً؛ لِأَنَّهَا تصل الأوَّل بالثَّاني، وإذا لم تكنْ كذلكَ فهيَ منقطِعة، فقوله هنا:{أَمْ} ليس فيها معادِل، فتكون إذَن منقطِعةً بمعنى (بل) وهمزة الاستفهام.
وقوله: {تَحْسَبُ} بمعنى تَظُنّ {أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} يعني أَنَّهُمْ لا يسمعون ولا يعقلون، وما المرادُ بالسمعِ؟ يقول المُفَسِّر رحمه الله هنا:[سماع تفهُّم] وإنما قيَّده بسماع التفهُّم لأَنَّهُمْ يسمعون سَمْعَ إدراكٍ، لكنَّه لا ينفعهم؛ لأنَّهم
لا يتفهَّمون، ولو أن المُفَسِّر أبقَى الآيةَ على إطلاقها بدون تقييدٍ لكانَ أَولى، ويَكُون نَفَى السمع لانتفاءِ فائدتِه؛ لِأَنَّ ما لا يُستفاد منه كالمعدومِ، فهم لا يَسمعون وإنْ كانوا يدرِكون ما يقالُ إدراكًا حِسِّيًّا، لكنَّهم لعدمِ انتفاعِهِم بهذا السماعِ صاروا كالذينَ لا يَسمعونَ.
وقوله: {أَوْ يَعْقِلُونَ} يقول المُفَسِّر رحمه الله: [ما تقول لهم] وفي هَذَا نَظَرٌ ظاهرٌ، بل المراد: يعقلون كل ما ينفعهم، يعني أَنَّهُمْ ليس عندهم عقلٌ لمِا تقول ولا لغيرِه، فالعقلُ هنا ليس العقلَ الَّذِي هو الذكاء، وهو إدراك الأمورِ، فإنهم يعقِلون بهذا المعنى، لكِن المراد العقل الَّذِي يمنع صاحبَه ويعقِله مِنَ التصرُّف بما لا يليق، هَذَا العقل الحقيقيّ، وليس العقل أنْ يُدرِكَ الإنْسَانُ المعقول، فإنَّ العقلَ الَّذِي معناه أنْ يُدْرِكَ المعقولَ هو مَناط التكليفِ، وليس مَناط المدحِ أو الذمِّ. فالآنَ صار العقلُ عقلينِ:
أحدهما: مناط التكليف، الَّذِي به يدرِك الإنْسَان ويتميَّز عن الحيوانِ.
والثَّاني: العقل الَّذِي هو مَناط المدح، وهو الَّذِي يَمنَع صاحبَه ممَّا لا يَليق، والمنفيُّ عن الكفَّار هو الثَّاني، الَّذِي هو العقل بمعنى ما يَمنع صاحبَه عمَّا لا يليق، أمَّا الأوَّل الَّذِي هو إدراك المعقولات فهذا ثابتٌ لهم، ولذلك كُلِّفوا وخُوطِبوا بالشرعِ، ولولا ذَلِكَ لمَا كُلِّفوا ولمَا وَجَبَ عليهم التزامُ الشرعِ.
هل العقل الَّذِي نفاه اللَّه عن الكفَّار يَقتضي نفيَ الذكاء عنهم؟
لا، هم أذكياء يَفهَمون الَّذِي يَنفَعهم، ويفهمون الَّذِي يضرُّهم، لكنَّهم ما عقَلوا، يعني ما مَنَعَهم هَذَا العقل عمَّا لا يليقُ، فلذلك صحَّ أنْ نقولَ: إنهم لا يعقِلون، فأبو جهل مثلًا عاقل أو غير عاقل؟ نقولُ: بالنسبة إلى العقل الَّذِي هو مناط تكليف
فَهُوَ عاقل بلا شكٍّ، ومن أَذكى النَّاس، وبالنسبة للعقل الَّذِي هو مَحَطّ المدح الَّذِي يَمتنِع الإنْسَان به عمَّا لا يليق فليس عاقلًا، ولذلك بقِي على كفرِه، مع وضوح الأدلَّة والبيِّنات على صِدق ما جاء به الرَّسول صلى الله عليه وسلم. وهنا المراد بالعقل الَّذِي نفاه اللَّه العقلُ الَّذِي يَمنَع صاحبه عمَّا لا يليق.
قوله: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ} هَذَا حَصْرٌ، يعني ما هم إلا كالأَنْعامِ، أي مثل الأَنْعام، والأَنْعام هي البهائمُ، ومن المعلومِ أنك لو قلتَ لأيِّ إنْسَانٍ: أنت بهيمةٌ يَغضَب بلا شكٍّ، فاللَّه يقول:{إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ} ، أيضًا لم يقل: إن هم إلا أَنْعام، قال:{كَالْأَنْعَامِ} ، والتشبيه يَقتضي أن المشبَّه أقلُّ من المشبَّه به، ولهذا قال:{بَلْ هُمْ} هَذَا انتقال للصريح {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} يعني: أخطأ طَريقًا مِنَ الأَنْعامِ؛ لِأَنَّ الأنْعام تَهتدي لمِا ينفَعُها، وهَؤُلَاءِ لم يَهْتَدُوا لمِا ينفَعُهم، فالأَنعام إذا دعاها الراعي إلى المرعَى تأتي، وإذا دعاها إلى المَحْلَب أتتْ، وإذا دعاها إلى المأوَى أتتْ، كذلك أيضًا تنفِر ممَّا يضرُّها، لكِن هَؤُلَاءِ بالعكسِ؛ تدعوهم الرُّسُل عليهم السلام إلى ما ينفَعُهم وتحذِّرهم مما يضرُّهم، ومعَ ذلك لا يَهتدون سبيلًا، ولا يَنقادون، فصاروا إذَنْ أَضَلَّ سبيلًا مِنَ الأَنْعامِ، ولهذا بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى في آياتٍ متعدِّدة أنَّ الكفَّارَ شرُّ البِرَّية؛ شَرّ ما بَرَأ اللَّه:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6]، وقال سبحانه وتعالى:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 55]، يعني شَرًّا منَ الكلابِ والخنازير، وقلْ ما يُمكِن أن تقولَ مِنَ الخِسَّة في مخلوقات اللَّه سبحانه وتعالى الَّتِي خلقها، فهم شرٌّ من ذلك، ومع هَذَا نجد من المسلمين الآنَ مَن يُكْرِمهم، بل مَن يقدِّمهم على المؤمنين، وهَذِهِ محِنة عظيمة، فبهذا السَّبب استطالَ أعداء اللَّه على المسلمينَ، رأوْا أنفسَهم عند كثيرٍ من المسلمينَ مَحَلّ التبجيل
والتعظيم، ففخروا بأنفسِهم، بل أَنكى من ذلك وأدهَى أَنَّهُمْ صاروا محلَّ التقليدِ عند بعضِ النَّاسِ، يعني يقلدونهم، ومعروف أن الإنْسَانَ إذا قُلِّدَ فسوف يفخَر ويرى نفسه إمامًا، وهذا في الحقيقة من سُوء التصرُّف، ومن ضعف الشخصيَّة، وإلَّا فالواجب أن نُنزّلُ هَؤُلَاءِ الكفَّارَ مَنْزِلَتَهُمُ الَّتِي أَنزلَهم اللَّه تبارك وتعالى، وألَّا نجعلَ منهم قدوةً، وأَنَّهُمْ إذا فتحوا لنا أبوابًا مِنْ الِاختراعات والصناعات وغيرِها، نعم نستفيد من عِلمهم، لكِن لا عَلَى أنَّنا نُظهِرهم بمظهرِ البارزِ المتقدِّمِ المعظَّم، إنَّما نقول: هَؤُلَاءِ مثلما تَهتدي الشاةُ إلى العَلَفِ الجيِّد وتأكله هم اهتدَوْا إلى هَذِهِ الصنائعِ وعَلَّمَهم اللَّه مهنة لهم ولغيرهم، لكِن كوننا نُقَدِّمُهُمْ وَنَجْعَلُهُم محَلَّ إعجابٍ وإكرامٍ هَذَا خطأ. وبَيَّنَ المُفَسِّر رحمه الله فقال:[لأنها تنقاد لمِن يَتَعَهَّدها، وهم لا يطيعون مولاهم المنعِمَ عليهم].
وقد تقدَّم قولُهُ سبحانه وتعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، فإذا قال هَؤُلَاءِ الكِتَابيُّون: نحن نَدِين دِينَ الحقِّ لأننا نتَّبع رسولًا، واللَّه عز وجل قيَّد {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} فهم يَقُولُونَ: نحن نؤمن باللَّه واليومِ الآخِر ونحرِّم ما حرَّم اللَّه ورسوله، وندين دين الحقِّ لأننا على دين رُسُلٍ؟
نقول: الحمد للَّه، سياق هَذِهِ الآيات بيَّن ما هو دين الحق؟
ففي آخر الآيات {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ
قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 30 - 33]. فنقول: دين الحقّ ما جاء به الرَّسولُ عليه الصلاة والسلام، فإذَن اليهوديّ الكِتَابيّ إذا بقِيَ على دينه، وإن كان دينُه حقًّا حينما كان هو الثابت، لكنَّه الآن ليسَ بدين حقٍّ؛ لِأَنَّ دين الحقِّ ما جاء به مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فيَكُون في آخِرِ الآياتِ ما يدل على أن هَؤُلَاءِ وإنْ زَعَموا أَنَّهُمْ على شريعةٍ وعلى دينٍ، فإن دينَهم ليس دينَ حقٍّ بعد أنْ جاء دينُ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم، قال تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33].
وهذا نظير ما يحتجّ به هَؤُلَاءِ في قوله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [البينة: 6]، اللَّه سبحانه وتعالى يقول:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} وهم يَقُولُونَ: نحن ما كَفَرنا، بل نحن مؤمنونَ، فيَجعلونَ (من) للتبعيضِ، لا لبيانِ الجِنس، ونحن نقول: إن (من) لبيانِ الجِنس، فقوله:{الَّذِينَ كَفَرُوا} من أيِّ طائفةٍ؟ {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} ، هَذَا بيان للاسْمِ الموصول (الذين) في قوله:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} .
فالحاصِلُ: أنَّهُ توجَد آياتٌ في القُرْآن كما أَسْلَفْنَا مشتَبِهات يتبعها الَّذِينَ في قُلُوبهم زيغ، ولكنَّ المؤمنين يَرُدُّونها إلى المحكَمِ، فتكون كلها محكَمةً.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: قوله تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]، ألا يَكُون دليلًا صريحًا على كُفْرِهِم، لكِن إذا قالوا: نحن لا نقولُ: عُزيرٌ ابنُ اللَّه،
نقول: نردُّ عليهم بقوله: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 68]، نقول: هم سيَقُولُونَ: نحن أَقَمْنَا التوراةَ والإنجيلَ، وأمَّا قوله:{وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} سيَقُولُونَ: وما أنزل إلينا من ربّنا من غير التوراة والإنجيل؛ لِأَنَّ الرُّسُل جاءوا بأمرٍ غيرِ التوراةِ والإنجيل، وأمَّا قوله:{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ} سيَقُولُونَ: {كَثِيرًا مِنْهُمْ} ونحن لَيْسُوا من هَذَا الكثيرِ، فالآية ليستْ صريحةً، لكنْ توجد آيات صريحة -الحمد للَّه- واضحة جدًّا، وهذا في الحقيقة ما يهوِّن على بعض النَّاس مسألة اليهود والنصارى.
وأنا قرأتُ مقالًا تقول: لماذا تصنعون هَذِهِ الضجَّة العظيمة لتوريد المربِّيَات، ما السَّبب؟ ! تقول: دين تُقِرّ به -هكذا تخاطب المسلم- كيف تنكِر على مَن قام به وكيف تنكر على المرأةِ النصرانيَّة الَّتِي تجيء عندك بيتك تقيم شعائر دينها؟ ! هَذَا ليس بمنكَرٍ؛ لأننا نحن عندهم هناك في بلادهم نقيم ديننا، حتى إنهم -هكذا تقول- يقدِّمون لنا وجبة الأفطار في الصوم، فهم يساعدوننا على ديننا، ونحن الآن ننكر دينَهم ونقول: لماذا نأتي بمربيات ونَفتعِل هَذِهِ الضجة. مع أنَّهُ لم تحدُثْ ضجَّة مع الأسف، يا لَيْتها حدثَت ضجَّةٌ ضدها.
وفي الحقيقة مما يهوِّن عليهم مسألة النصارى واليهود أَنَّهُ يوجد في بعض الآيات أشياء متشابِهة، يتبعها مثل هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أزاغَ اللَّهُ قلوبَهم، والعياذُ باللَّهِ، وإلَّا لو عَقِلوا لَفَهِمُوا خَطَرَ النصارى في هَذِهِ البلاد بالذَّات؛ لِأَنَّ هَذِهِ البلاد بالذَّات مغزوَّة من أعداء المسلمينَ، حيث إِنَّهُ لم يبقَ فيما نعلَمُ أحدًا من بلادِ الإِسلامِ يطبِّق من الإِسلام ما تطبِّقه هَذِهِ البلاد، فهي مغزوَّة من ناحيتينِ؛ من ناحية التزامِها بالإِسلام
التزامًا فائقًا على غيرِها، هَذِهِ وَاحِدة، ومن ناحية أخرى أنها هي مَهْبَط الوحي ومَنْبَع الرِّسَالةِ، وإذا قُضي على الرِّسَالة في مَهدِها ومَنْبَعِها فالأطراف من باب أَوْلَى، على أن الأطراف قد أُكِلت الآن، فما بقي إلَّا هَذَا الصُّلْب، فركَّزوا جُهُودَهم على هَذِهِ البلادِ، ولكن مع الأسفِ أن كثيرًا منَّا لا يَعُونَ خطرَ هَذَا الأمر، وهم في غفلةٍ، وما همّهم إلا الدُّنْيا، ولذلك يريدون أن يحصُلوا عليها بأيِّ وسيلةٍ. والواجبُ علينا الحذَر من هَؤُلَاءِ الأعداء، وأن نعلمَ أنَّهُ مهما حصلَ منهم مِن نُصح كما يقولونَ، وإخلاصٍ في العملِ، فما ذلك إلا شبكة يَصطادون بها مَن لا يفهمون.
على أَنَّهُمْ في الحقيقة مهما بَلَغوا من النصحِ، إن صح ذلك، فإنَّ اللَّه يقول:{وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221]، ويقول:{وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 221]، ولاحظْ أن الآيةَ تقول:{مُؤْمِنٌ} و {مُؤْمِنَةٌ} ، لا مسلم ومسلمة؛ لِأَنَّ من المسلمين مَن لا خيرَ فيه، لكِن الكَلام على المؤمنِ، ولهذا يَنبغي للإنْسَانِ أنْ يحرِص في مربِّيَات أولادِه وفي خَدَمِه أن يَكُونوا مؤمنينَ، وأن يَحذَر من هَؤُلَاءِ الأعداءِ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هل يَحْرُم استخدام الكافر؟
نقول: أمَّا في الأَصْلِ فيجوز استخدام الكافرِ، لكِن بالنظر إلى مفاسدِه، وأن هَذِهِ البلاد خالِيَة منهم، فإننا نَميل إلى أن منعَهم أَولى؛ لِأنَّهُ من المعروفِ أن الثوبَ الوَسِخ لا يَهُمُّ أنْ يَتَوَسَّخ، لكِن الثوب النظيف أيُّ وَسَخٍ يُدَنِّسه، فبلادنا لمَّا كانت خاليةً منهم فهي أطهرُ، كما هو معروف في حديثِ زينَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رضي الله عنها، أن الرَّسولَ عليه الصلاة والسلام استيقظَ ليلةً فَزِعًا مُحْمَرًّا وجُهه يقول:"لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ". قالتْ:
أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ"
(1)
ومَنْ هم الخَبَث؟ الكفَّار؛ قال تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28].
فالكفَّار همُ الخَبَثُ، وإنْ كان مِنَ الخبيثِ ما قد يُرادُ به ما هو أعمُّ من ذلكَ، لكِن فُتِحَ اليومَ من رَدْم يَأجوجَ يدلّ على ما أَشَرْنا إليه، وهو كثرةُ غير المسلمينَ في المسلمينَ، وقد يراد بالخَبَث كلُّ المعاصي، فالمعاصي كلُّها خَبَثٌ، والطاعات طُهْرٌ، لكِن لعلَّ الحديثَ يَشمَل هَذَا وهذا، ويؤيِّد الأوَّلَ فَتْحُ رَدْمِ يأجوجَ ومأجوجَ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: كلُّ الآياتِ يمكِن أن تقبل الإِشْكالَ، حتى هَذِهِ الآية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 69].
نقول: اللَّه عز وجل يقول: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الَّذِينَ يكذبون بالرَّسول لَيْسُوا بمؤمنينَ؛ لِأنَّهُ كلَّما جاء نبيٌّ وكذَّبوه صاروا كافرينَ بالجميعِ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: في قولِه تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} نجد أَنَّ قَوْلَهُ: {وَالصَّابِئُونَ} مرفوع بين منصوباتٍ، وقوله عز وجل:{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 162]، هَذِهِ عكس الآية السابقة؛ فهذا منصوب بين مرفوعات، وذاك مرفوع بين منصوبات، فما إعراب هاتين الكلمتينِ؟
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ويل للعرب من شر قد اقترب"، رقم (7059)، ومسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج، رقم (2880).
نقول: الإعراب: {وَالْمُقِيمِينَ} هَذِهِ على تقدير: وأخصّ أو أمدَح المقيمينَ للصلاة.
إِذَا قَالَ قَائِلٌ: ما الحِكْمَةُ في قَطْعِ العطف إلى هَذَا التقدير؟
نقول: العِنَاية بالصلاةِ، هَذِهِ فائدةٌ مَعنويَّة، وتُوجَدُ أيضًا فائدة لفظيَّة، وهي التَّنْبِيه؛ لأنَّ تغيُّرَ الأسلوبِ يُوجِب الانتباهَ، لو قَرَأْنا الآيةَ كلَّها على نَسَقٍ وَاحِدٍ مَشَيْنا، لكِن حِينَما تَقِف يَكُونُ في هَذَا التنبيهُ.
وأمَّا إعرابُ قولِه تعالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} {وَالصَّابِئُونَ} هنا لماذا رُفعت؟ نقول: {وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى} يجوز أنَّ النصارَّى مرفوعة أيضًا، ويمكِن أن تكونَ منصوبةً، فهي مُحْتَمِلة، لكِن لا يَتعيَّن أن تكونَ منصوبةً، فتكون (الواو) هنا للاستئنافِ، (والصابئون والنصارَى كذلكَ) هَذَا التقدير، وتكون هَذِهِ الجُملة مستأنَفةً بين الكَلِمَتينِ، أو نقول:{وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} هو الخبر، وحُذف الخبرُ مِنَ الجُملةِ الأُولى.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: ما الفرق بين هَذِهِ الآية وقوله في سورة الحج: {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج: 17]؟
الجواب: في هَذِهِ الآية قال: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ، واليهود مؤمنون باللَّه واليوم الآخِرِ، في سورة الحج {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج: 17]، فلم يذكرْ أن جزاءهم الجنَّة مثلًا، ذكر أن اللَّه يفصِل بينهم، والفصل شامِل للمؤمنينَ والمشركينَ والمجوسِ وغيرِهم، ففرق بين الآيتينِ.