المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآيتان (45، 46) - تفسير العثيمين: الفرقان

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌الآية (1)

- ‌الآية (2)

- ‌الآية (3)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (4)

- ‌الآية (5)

- ‌الآية (6)

- ‌الآيتان (7، 8)

- ‌الآية (9)

- ‌الآية (10)

- ‌الآية (11)

- ‌الآية (12)

- ‌الآيتان (13، 14)

- ‌الآيتان (15، 16)

- ‌الآيات (17 - 24)

- ‌الآية (25)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (26)

- ‌فائدتان:

- ‌الآية (27)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (28)

- ‌الآية (29)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (30)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (31)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (32)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (33)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (34)

- ‌الآية (35)

- ‌الآية (36)

- ‌الآية (37)

- ‌الآية (38)

- ‌الآية (39)

- ‌الآية (40)

- ‌الآيتان (41، 42)

- ‌الآية (43)

- ‌الآية (44)

- ‌الآيتان (45، 46)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (47)

- ‌الآية (48)

- ‌الآية (49)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (50)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآيتان (51، 52)

- ‌الآية (53)

- ‌الآية (54)

- ‌الآية (55)

- ‌الآية (56)

- ‌الآية (57)

- ‌الآية (58)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (59)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (60)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (61)

- ‌الآية (62)

- ‌الآية (63)

- ‌الآية (64)

- ‌الآية (65)

- ‌الآية (66)

- ‌الآية (67)

- ‌الآيتان (68، 69)

- ‌الآية (70)

- ‌الآية (71)

- ‌الآية (72)

- ‌الآية (73)

- ‌الآية (74)

- ‌الآية (75)

- ‌الآية (76)

- ‌الآية (77)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

الفصل: ‌الآيتان (45، 46)

‌الآيتان (45، 46)

* * *

* قالَ اللَّه عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان: 45 - 46].

* * *

لمَّا ذكر اللَّه عز وجل الَّذِينَ كذَّبوا الرُّسُلَ السابقينَ، وما أحلَّ اللَّه بهم من العذاب والعقوبة، أراد عز وجل أن يبيِّن شيئًا من آياتِه يدل على قُدرته ووَحدانِيَّته، فقال:{أَلَمْ تَرَ} ، قال المُفَسِّر رحمه الله:[تنظر {إِلَى} فِعل ربِّك {كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}]، إلى آخِرِه.

أولًا: كلمة {أَلَمْ تَرَ} الاستفهامُ للتَّقرير؛ كقولِ اللَّهِ سبحانه وتعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]، وقوله:{أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} [المرسلات: 16]، وما أشبهَ ذلك مِنَ الأمثلةِ، ويقدِّر بعض العلماء مثل هَذَا التركيب بقولِه: قد فعلْنا ذلك، قد رأيت ذلك، فمثلًا {أَلَمْ تَرَ} يعني أنك رأيت ذلك، وقول المُفَسِّر رحمه الله:[تنظر] فسَّر الرُّؤية بالرؤية البصرية، مع أنَّهُ يَحتمل أن تكون رؤيةً بصريةً ورؤيةَ بَصيرةٍ، يعني رؤية عِلمية، أي تعلم هَذَا الأمر الَّذِي سيُذكَر.

والخطاب في قوله: {أَلَمْ تَرَ} هل هو للنبي عليه الصلاة والسلام أو لكل ما مِن شأنِهِ أن يخاطَب؟

الجواب: أنَّهُ لكل مَنْ مِنْ شأنِه أن يخاطَب؛ النَّبي عليه الصلاة والسلام وغيره؛ لِأَنَّهُ كما أسلَفنا في القاعِدَة التفسيريَّة أنَّهُ كلَّما كانتِ الآية أدلَّ على العموم كان القولُ به

ص: 189

أَولى، وأنه لا يَنبغي أن تُجعَل خطابات القُرْآن للخصوصِ إلا بدليلٍ يَمنع العمومَ، يعني {أَلَمْ تَرَ} أيُّها الإنْسَان {كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} ، المُفَسِّر رحمه الله قدَّر مضافًا فقال:[{إِلَى} فعل {رَبِّكَ}] لِأنَّهُ ليس المراد أن ينظر الإنْسَان إلى اللَّهِ عز وجل بذاته، إِنَّمَا المراد أن ينظُر إليه من هَذِهِ الحيثيَّة، فيَكُون مصبّ النظر هو الفِعل.

قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} من وقتِ الإسفارِ إلى وقتِ طلوعِ الشمسِ]، هَذَا تفسيرٌ للظلِّ، وليس تفسيرًا للمدِّ، فالظلُّ من وقتِ الإسفارِ إلى وقتِ طلوعِ الشمسِ، وسُمِّيَ ظِلًّا لِأنَّهُ ذو نورٍ، ولَكِنَّهُ بدون شعاع شمس، فكان ظلًّا، وهذا هو الَّذِي فسَّره به ابن عبَّاس وغيره، وعليه جمهور المفسِّرين؛ أن الظلَّ ما بين طلوعِ الفجرِ إلى طلوعِ الشمسِ؛ لِأنَّهُ كما قُلْنا: نور بدون شعاعٍ، ومدُّه يعني تطويله، لِأَنَّ الفرق بين هَذَا وهذا معروف، ولكن أيّ شَيْء يَكُون فيه من آيات اللَّه؟ قوله:{وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} يعني غير ممدودٍ، بحيث تطلُع الشمس مباغتةً بدون مدٍّ، والواقِع بخلافِ ذلكَ، بل هو ممتدٌّ، وكونه لا يزول بطلوع الشمس هَذَا غير ممكِن، ولذلك يقول في تفسير الجَمَل في تفسير قول المُفَسِّر:[مقيمًا لا يزول بطلوع الشمس]: (بألا تطلع الشمس)، ليس المعنى تطلع ولا يزول؛ وذلك لِأَنَّ زواله بطلوع الشمس، فإذا طلعت فلا بدَّ أن يزول، المعنى أن النفيَ مسلَّط على قوله:[بطلوع الشمس]، فمعنى قوله:{وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} أي أن الشمس لا تطلُع، ويبقى باستمرار، يعني يبقى الأمرُ لا ليلٌ ولا نهارٌ، إسفارٌ بدون شمس.

فكَلام صاحب الجلالين يَصِحّ بأنْ نجعلَ النفيَ مسلَّطًا على قولِه بطلوعِ الشمس، يعني فلا تطلع الشمس. على كلِّ حالٍ المعنى مفهوم الآن؛ لو شاء لجعله ساكنًا فلا تطلع الشمس، أو إنْ صحَّ أن يقال: لو شاء لجعله ساكنًا فتطلع الشمس

ص: 190

غيرَ مضيئةٍ، وهذا خلاف المعهودِ أن تطلُعَ غير مضيئة، ولكن اللَّه قادِر على أنْ يُخرِجَها غيرَ مضيئةٍ، كما يُعلم ذلك في الكسوفِ.

فالحاصلُ: أن السكونَ الآن يفسَّر بحسَب ما يفسَّر به الظلُّ. هَذَا أحد الأقوال في تفسير الظل.

والقول الثَّاني في الظل: أن المراد به الليلُ كلُّه، وأنَّ المراد بمدِّه تطويله، {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} بمعنى بعد أن كان طويلًا كان ينقُص شيئًا فشيئًا، فيَكُون في هَذَا إشارة إلى تغيُّر الفصول؛ لِأَنَّ الفصول تتغيَّر بتغيُّر الليلِ والنهارِ.

والقول الثالث: أنَّ المرادَ بالظلِّ ظلُّ كلِّ شاخصٍ إذا طلعتِ الشمسُ، فإنَّ اللَّه تَعَالَى يَمُدُّه ثم يَقْبِضُهُ شيئًا فشيئًا، {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} فتكون الشمس مُسْتَقِرَّةً ثابتةً في مكان لا تَرتفِع ولا تَنخفِض.

فالآنَ صار المرادُ بالظلِّ على الخلاف ثلاثة آراءٍ؛ إمَّا أنَّهُ ما بين طلوعِ الفجرِ إلى طلوعِ الشمسِ، والمُفَسِّر رحمه الله يقول:[من وقت الإسفار] لأجل أن يتحقق الظل. أو أنَّهُ الليل كله، ويَكُون مَدُّهُ تطويلَه ثم يَنقُص، ففي هَذَا من قُدرة اللَّه تَعَالَى: تغيُّر الفصول بسَبَب طول الليل وقِصره. أو أن المراد به ظِلّ كلِّ شاخصٍ، فَإِنَّهُ أوَّل ما تطلُع الشمس يَكُون الظلُّ طويلًا ممدودًا، ثم يُقبَض شيئًا فشيئًا، {وَلَوْ شَاءَ} اللَّه سبحانه وتعالى {لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} ، والسكون هنا يَختلِف معناه بحسَب اختلاف معنى الظلِّ، فإذا قُلْنا: المراد بالظلِّ ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، كان المراد بالسكون أن الشمس تخرج دَفعةً وَاحِدةً بدون أن يَكُون ظِلُّها شيئًا فشيئًا، وإذا قُلْنا: إن المراد به الليل كان المراد بسكونِه أن يبقَى الليل دائمًا، لا يزيد ولا ينقُص، وإذا قُلْنا: إن المراد بالظلِّ ظِلُّ الشاخصِ، صار المراد بسكونِه أن الشمسَ لا تتحرَّك،

ص: 191

وتبقى في مكانٍ وَاحِدٍ، ويَكُون الظلُّ ساكنًا، لا يزيد ولا يَنقُص، ففي كون اللَّه سبحانه وتعالى قادرًا على هَذَا وهذا دليلٌ على كمال قُدرته ووحدانِيَّتِه في التفرُّد؛ لِأَنَّهُ لو كان معه إلهٌ آخرُ لم يكنْ له المشيئة المطلَقة في هَذَا وفي هذا.

ثمَّ فيه أيضًا من نعمة اللَّه سبحانه وتعالى على العبادِ في اختلاف هَذَا الظلِّ ما هو معلوم؛ لأننا لو قُدِّر أن الشمسَ تخرج هكذا بَغتةً بعد ظلام دامسٍ فقد يؤثر النور الساطع في المواشي في إبصارها، وفي بني آدم، وفي الأشجار والنبات، بخلاف ما إذا كان الشَيْء يأتيها تدريجيًّا، وكذلك أيضًا لو كان الليل والنهار دائمًا لا يزيد أحدهما ولا ينقُص، لم يكنْ في ذلك اختلاف في الفصول، ولم يكن في ذلك اختلافٌ في الأشجارِ؛ لِأَنَّ كثيرًا من الأشجار تختلِف ثِمارُها وإيناعها بحسَب اختلاف الفصولِ.

كذلك أيضًا إذا قُلْنا بأنَّ الظلَّ ظلُّ كلِّ شاخصٍ؛ فإنَّ كونَ الشمسِ تَدُورُ وتختلف الأفياءُ والأَظِلّة بحسَب سَيْرِها هو أيضًا من نعمةِ اللَّهِ سبحانه وتعالى ومن تمام قُدرته.

فالحاصل: أن هَذَا الأمر الَّذِي قرَّر اللَّه تَعَالَى بأننا ننظر إليه في كل وقت دالٌّ على أمرينِ: تمام القُدرة، وتمام الرَّحمة؛ لِأَنَّهُ متضمِّن لهما.

إِذَا قَالَ قَائِلٌ: ما الَّذِي تختارون من هَذِهِ الأقوال؟

نقول: ما دام أن هَذِهِ المعانيَ لا تَتنافَى، فالواجب أن تُحمَل الآية على الجميعِ، وهَذِهِ قاعِدَة قرَّرناها سابقًا، وهي قد قُرِّرت أيضًا من قبلنا، قررها شيخ الإِسلام ابن تيميَّة رحمه الله؛ بأنه إذا كانت الآية تَحتمِل المعانيَ المذكورةَ فيها، فالواجبُ أن تُحمَل على كل هَذِهِ المعاني؛ لِأَنَّ كَلام اللَّه سبحانه وتعالى لا يحيط به شَيْءٌ.

ص: 192

لَوْ قَالَ قَائِلٌ: ما الفرق بين الظلِّ والفيءِ؟

هَذِهِ الْفَائِدَة قد سبقتْ، والفرق بينهما: أن الفيءَ ما نَسَخَ الشمسَ، والظل ما نسختْه الشمسُ، مثل قولنا: الظل ما قبلَ الزوال، والفيء ما بعد الزوال؛ لِأَنَّ الظلَّ الَّذِي قبلَ الزوالِ الَّذِي يُزيله ويَنسَخه الشمسُ، والفيء الَّذِي بعد الزوال ينسخ الشمسَ؛ لِأنَّهُ يمتدّ، وكلَّما امتدَّ إلى شَيْءٍ أزال ضوءَ الشمسِ عنه.

قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ} أي على الظلّ {دَلِيلًا}]، قوله:{ثُمَّ جَعَلْنَا} الجملة الفعليَّة هَذِهِ هل هي معطوفة على قوله: {لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} ، أو على قوله {مَدَّ}:{كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ} ؟

فالجواب: معطوفة على قوله: {مَدَّ الظِّلَّ} ؛ لِأَنَّ قوله {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} لو جُعِل معطوفًا على {لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} لكانت الشمس ليستْ دليلًا عليه، والأمر بخلاف ذلك، فالمعنى يفسُد، فهي إذَن معطوفة على قوله:{مَدَّ الظِّلَّ} ، يعني: وكيف جعلنا الشمس عليه دليلًا، ولكنَّ فيه الْتفاتًا من الغَيبة إلى التكلُّم؛ لِأنَّهُ قال:{ثُمَّ جَعَلْنَا} ، ولم يقل (ثم جعل). وقوله:{الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} يعني على الظلِّ، وكيف كانت دليلًا على الظلّ؟ يقول المُفَسِّر رحمه الله:[فلولا الشمس ما عُرف الظلُّ]، المراد بالظلِّ هنا الَّذِي يأتي من اللَّه سبحانه وتعالى، ليس ظلّ الأنوار حيث يضع الإنْسَان له كشَّافًا، ويَكُون له ظِلال؛ لِأَنَّ هَذَا الظلّ الَّذِي يَكُون من مصباحي أنا ومصباحك أنت هَذَا ظِلٌّ نسبيّ، حتى ظِلّ الشاخِصِ إذا جَعَلْناه هو الأنوار؛ لِأَنَّهُ ليس المقصود معرفة الظل الَّذِي يَكُون بمجرَّد تسلط ضوء على جسمٍ، المراد الظلُّ العامُّ الَّذِي يعمُّ كلَّ النَّاس، وهذا لا يمكِن إلا بِجعلِ الشمسِ وحدَها هي الدليلَ عليه، لكِن قد يقول قائل: القمرُ أيضًا دليل عليه؟ فنقول: إن نور القمر

ص: 193

مستفادٌ من نورِ الشمسِ، وليس مستقلًّا بالإضاءة، فالَّذِي يدل على الظلِّ أصلًا هي الشمس.

قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} جَعْلُ الشَّمْس دليلًا عَلَى الظلِّ فِيهِ دليلٌ ليسَ عَلَى مجرَّدِ وجودِ الظلِّ، بل دليل عَلَى ما فِيهِ من المصالحِ، وَهِيَ أَيْضَا مدلولٌ عَلَيْهَا به، فالشَّمْس الآنَ يُستدَلُّ بها عَلَى ما في الظِّلّ مِنَ المصالحِ، ويُستدَلُّ بالظِّلّ عَلَى ما فِيهَا من المصالحِ أَيْضًا؛ لأنَّ غُيُوبَ الشَّمْسِ عنِ الْأَرْض قد يؤثِّر، وبقاءَها دائمًا عَلَى وجهِ الْأَرْضِ قد يؤثِّر، مثل قول اللَّه سبحانه وتعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [القصص: 71 - 72]، فكونُ هَذَا دليلًا عَلَى هَذَا، وهذا دليلًا عَلَى هَذَا؛ هو أَيْضًا من رحمةِ اللَّهِ؛ لِأنَّهُ لَولَا الشَّمْس ما عَرَفْنَا فائدةَ الظِّلِّ، ولولا الظِّلّ ما عرفنا فائدة الشَّمْس، فكلٌّ منهما في الحقيقةِ دالٌّ ومدلولٌ.

قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} أي الظِّلّ الممدود إِلينا {قَبْضًا يَسِيرًا} خفيًّا بطُلُوعِ الشَّمْسِ].

قوله: {قَبْضًا يَسِيرًا} هل المرادُ باليَسِير هنا صفة للفعل، يعني أَنَّ قَبْضَنَا إيَّاه يَسيرٌ علينا؛ كَقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: 44]، أو أن المراد بقولِه:{يَسِيرًا} يَعْنِي أن القبضَ كَانَ شَيْئًا فشيئًا؟

الأخير أظهرُ، وهو المتبادَرُ؛ أن اللَّه تَعَالَى قَبَضَ هَذَا الظِّلَّ قبضًا يسيرًا، شَيْئًا فشيئًا، وهو مُنْطَبِقٌ عَلَى كلِّ التفسيراتِ السابقةِ.

ص: 194

إِذَا قُلْنَا: الظِّلّ ما بَيْنَ طلوعِ الفجرِ أو ما بَيْنَ وقتِ الإسفارِ إِلَى وقتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِنَّهُ يُقْبَضُ هَذَا الظِّلُّ شَيْئًا فشيئًا، لا يزال النورُ يَسْطَعُ تدريجيًّا حَتَّى تطلع الشَّمْس. هَذِهِ وَاحِدةٌ.

إِذَا قُلْنَا: المراد به الليلُ؛ فَهُوَ أَيْضًا يُقْبَضُ شَيْئًا فشيئًا، يَعْنِي لا يَكُون الليل فِي هَذَا اليومِ اثني عشْرة ساعةً، ويَكُون تسع ساعاتٍ في اليومِ الَّذِي يَليهِ، وإنَّما يُقْبَضُ شَيْئًا فشيئًا.

كَذَلِكَ إِذَا قُلْنَا: إن المرادَ بِالظِّلِّ ظِلُّ الشاخِصِ، فَهُوَ نفسُ الشَيْءِ، إنَّما يَتَنَاقَص شَيْئًا فشيئًا، وليسَ في الآيةِ إشكالٌ سِوَى قولِهِ:{ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} ، {إِلَيْنَا} هَذِهِ الغايةُ فِيهَا إشكالٌ؛ لأنَّهُ كَانَ من المُمْكِن أنْ يُقْتصَر عَلَى قولِه: ثم قبضناه قبضًا يسيرًا، فما الحِكْمَةُ من هَذِهِ الغايةِ في قوله سبحانه وتعالى:{قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} ؟

بعضهم يَرَى أنَّ الضميرَ في قوله: {قَبَضْنَاهُ} أي الشَّمْس، باعتبارها دليلًا {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} ، أي: قبضنا هَذَا الدليلَ {إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} .

وعلى كلِّ حالٍ يوجد احْتِمَالٌ أنَّ المرادَ مِن جَعْلِ الغايةِ إِلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى إشارة إِلَى أنَّهُ هو المتصرِّف به، وأنه لا أحدَ يَستطيعُ أنْ يَتَصَرَّفَ بخلافِ ذلكَ.

ويوجد احْتِمَالٌ أَنَّهُ يُجْعَل المراد بقولِه: {قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} يَعْنِي الدليل، أي الشَّمْس، ويَكُون المراد بالقبضِ إليه ما أشارَ إليه النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام في قولِه في حديث أبي ذَرٍّ:"فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ"

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب صفة الشمس والقمر بحسبان، رقم (3199)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان، رقم (159).

ص: 195