الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
تقديم
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُهُ ونَسْتعينُه ونَسْتغفرُه، ونَعوذُ بالله مِن شُرور أَنْفُسنا ومن سيِّئات أعمالِنا، مَن يَهْده اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فَلا هادِيَ له، وأَشْهَد أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لَه، وأَشْهَد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه اللهُ بالهُدَى ودِين الحقِّ، فبلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصَح الأمَّةَ، وجاهَد في الله حَقَّ جِهادِه، حتَّى أتاهُ القينُ، فصَلواتُ اللهِ وسلامُه عليهِ وعلَى آلِه وأصحابِه ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّين، أَمَّا بَعْدُ:
فمِنَ الدُّروسِ العِلميَّة المُسجَّلَة صَوتيًّا، والَّتِي كانَ يَعقِدُها صاحِبُ الفَضِيلةِ شَيخُنا العلَّامةُ الوالِدُ محمَّدُ بنُ صالحٍ العُثَيْمِين -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في جامِعِهِ بمَدِينَةِ عُنيزة صَباحَ كُلِّ يومٍ أثناءَ الإِجازاتِ الصَّيْفيَّة، حَلقات فِي تَفْسير القُرآن الكَرِيم كانَت بِدايتُها مِن سُورة النُّور وما بَعدَها؛ حتَّى بلَغ قَولَه تَعالَى في سُورة الزُّخرف:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)} .
وقَدِ اعتَمدَ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في تَفْسيرِه لتِلْكَ السُّور كِتابًا بَيْن يَدَيِ الطُّلاب هُو (تَفْسير الجَلالَيْنِ) للعلَّامة جَلال الدِّين محمَّد بنِ أَحْمدَ بنِ محمَّدِ بنِ إبراهيمَ المَحَلِّيِّ، المُتوفَّى سَنَةَ (864 هـ)
(1)
، والعلَّامة جَلال الدِّين عبد الرَّحمن بن أَبِي بَكْر بنِ محمَّد
(1)
انظر ترجمته في: الضوء اللامع (7/ 39)، حُسن المحاضرة (1/ 443).
ابنِ سابِق الدِّين الخُضَيْرِيِّ السُّيُوطِيّ، المُتوفَّى سنة (911 هـ)
(1)
. تغمَّدهما الله بواسِع رَحمته ورِضوانه، وأَسْكنهما فَسِيحَ جنَّاتِه، وجَزاهُما عَنِ الإِسْلام والمُسلِمِينَ خَيرَ الجَزاءِ.
وسَعْيًا -بإِذْنِ اللهِ تَعالَى- لِتَعْمِيمِ النَّفْع بتِلْكَ الجُهُود المُبارَكة فِي هَذا المَيْدَان العَظِيم باشَر القِسْمُ العِلْمِيُّ بِمُؤسَّسةِ الشَّيخِ محُمَّد بنِ صالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْرَّيةِ واجِباتِه فِي شَرَفِ الإِعْدادِ والتَّجْهِيز للطِّباعةِ والنَّشْر لِإِخْراجِ ذَلِكَ التُّراث العِلمِي؛ إنفاذًا للقَواعِدِ والضَّوابِط والتَّوْجِيهاتِ الَّتِي قَرَّرها فَضيلةُ الشَّيخِ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في هَذا الشَّأْنِ.
نَسْأل اللهَ تعالَى أنْ يَجْعلَ هَذا العَمَلَ خالصًا لِوجهِه الكَريمِ؛ نافِعًا لعِبادِه، وأنْ يَجزِيَ فَضِيلةَ شيخِنا عَنِ الإسلامِ والمسلمِينَ خَيْرَ الجزَاء، ويُضَاعِفَ لهُ المثُوبَةَ والأَجْرَ، ويُعليَ دَرَجَتَهُ في المَهْدِيِّينَ، إِنَّه سَمِيع قَرِيب مُجيبٌ.
وَصَلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك علَى عبدِه ورَسولِه، خاتَمِ النَّبِيِّينَ، وإِمامِ المتَقِينَ، وسيِّدِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، نبيِّنَا محمَّدٍ، وعلَى آلِه وأَصْحابِه والتَّابعينَ لهُمْ بإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّين.
القِسْمُ العِلْمِيُّ
فِي مُؤَسَّسَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْرِيَّةِ
20 جُمَادَى الآخِرَة 1436 هـ
* * *
(1)
انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي (3/ 301).
سورة سبأ
الحمدُ للهِ ربِّ العَالمِينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ عَلَى نبيِّنَا محُمَّدٍ، وعَلَى آلِهِ وأصحَابِهِ ومَنْ تَبِعَهُم بإحسَانٍ إِلَى يَومِ الدِّينِ. وبَعد:
قال المُفَسِّر
(1)
رحمه الله: [مَكِّيَّة إِلَّا {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}، وَهِيَ أَرْبَع أَوْ خَمْسٌ وَخَمْسُونَ آيةً].
قوله رحمه الله: [مَكِّيَّة] المكِّيُّ على المشهور: هو الذي نزَل قبل الهِجرة، والمَدنيُّ ما نزَل بعد الهِجْرة، فيَعتَبِر الجمهور المَكِّيَّ والمَدنيَّ بالزمَن لا بالمَكان، فما كان بعدَ الهِجْرة فهو مَدني، وما كان قبلَها فهو مكِّيٌّ.
وقوله رحمه الله: [إِلَّا {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}]؛ لا يُقبَل استِثْناءُ شيءٍ منَ السُّور المَكِّيَّة والمَدنيَّة إلَّا بدليل، أي أنه إذا كانت السُّورة مَكّيَّة فجميع آياتها مَكِّيَّة إلَّا بدليل، وإذا كانت مَدنيَّة فجميع آياتها مَدنيَّة إلَّا بدليل، فاستِثْناء المُفَسّر رحمه الله هذه الآية نَنظُر في مَوضِعها، إذا كان هناك دليلٌ يَدُلُّ على أنها نزَلَت في المدينة قبِلْناه وإلَاَّ فلا.
* * *
(1)
المقصود بـ (المفسر) هنا: محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم جلال الدين المحلي، المتوفى سنة (864 هـ) رحمه الله، ترجمته في: الضوء اللامع (7/ 39)، حسن المحاضرة (1/ 443).
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
* * *
* قالَ الله عز وجل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .
* * *
وقوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . البَسمَلة: آيةٌ مُستَقِلَّة من كِتاب الله عز وجل، يُؤتَى بها للفَصْل، أو يُؤتَى بها لبَدء السُّورة، إلَّا في (براءَةَ) فإنه ليس فيها بَسمَلةٌ؛ لأنها لم تَنزِلْ بَسمَلةٌ بينها وبين الأَنفال فتُرِكَت، والجارُّ والمَجرور مُتعلِّقٌ بمَحذوف؛ لأنَّ كل جارٍّ ومَجرور لا بُدَّ أنْ يَتعَلَّق بشيءٍ؛ إذ إنَّ الجارَّ والمَجرور مَعمول، وكل مَعمولٍ فلا بُدَّ له من عامِلٍ، وعليه فكلُّ جار ومجَرورٍ فإنَّه لا بُدَّ له من مُتعلَّقٍ؛ أي: مِن شيء يَتعلَّق به، وكذلك الظَّرْفُ، والمُتعَلَّق: إمَّا أن يَكون فِعلًا أو ما بمَعنَى الفِعْل، وهنا نُقدِّر المُتعَلِّق فِعْلاً؛ لأنه الأصل في العمَل؛ ولذلك لا يَعمَل غيرُ الفِعْل عمَل الفِعْل إلَّا بشُروط، وكلُّ شيءٍ لا يَتمُّ عمَله إلَّا بشروط فإنَّ ذلك لأنَّ الأصل عدَمُ العَمل.
ولهذا غيرُ الأفعالِ كالأسماء والمَصادِر وشَبَهها لا تَعمَل عمَل الفِعْل إلَّا بشُروط، أمَّا الفِعْل فيَعمَل بدون شُروط ونُقدِّره -أيِ: الفِعْل- مُتَأخِّرًا عن الجارِّ والمَجرور لفائِدَتَيْن:
الفائِدةُ الأُوْلَى: التَّيمُّن بالابتِداء بذِكْر اسْمِ الله عز وجل.
الفائِدةُ الثَّانِيَةُ: الدَّلالة على الحَصْر.
فنُقدِّر العامِل مُتأخِّرًا نظَرًا لهاتين الفائِدتَيْن.
ونُقدِّره فِعْلًا خاصًّا، فنَقول مثَلًا عند ابتِداء القِراءة: التَّقديرُ: بسم الله أَقرَأُ، وعند الوضوء: التَّقديرُ: بسْمِ الله أتوضَّأ، وعند الأكل: بِسْم الله آكُلُ، وهكذا، وإنما نُقدِّره خاصًّا لأنه أدَلُّ على المَقصود، وَيصِحُّ أن نُقدِّره عامًّا ونَقول: التَّقدير بِسْم الله أَبتَدِئُ أو بِسْم الله أَبدَأُ؛ ولكن الخاصَّ أَوْلى.
فصار عندنا ثلاثة أمور: لا بُدَّ مِنْ مُتعَلَّق مُتأَخِّر خاصٍّ، وتَقدَّم التعليل.
وقوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ} مُفرَد مُضاف فيَعُمُّ، وَيكون المَعنى: بكُلِّ اسْمٍ من أسماء الله تعالى أَبتَدِئ، وناسَب ذِكْر {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} دون غيرهما من الأَسْماء لأنها -أيِ: البَسمَلة- يُؤتَى بها للاستِعانة، وأَنسَبُ ما يَكون للاستِعانة هي الرحمة؛ فلهذا أُتبعَ لفظُ الجلالةِ بهذَيْن الاسْمَيْن الكريمين.
قوله تعالى: {اللَّهِ} أَصلُه الإِلهُ، هذا أَصَحُّ ما قيل فيه، وحُذِفت الهمْزة لكَثْرة الاستِعمال؛ كما حُذِفَت الهَمزة من (الناس) وأصلُها (أُناس) وحُذِفت الهَمزة من (شَر) ومن (خَيْر) وأصلُها (أشَرُّ) و (أَخْيَر).
وقوله تعالى: {الرَّحْمَنِ} اسْمٌ مِن أَسماء الله تعالى دالٌّ على سَعة رَحْمته عز وجل؛ لأنَّ {الرَّحْمَنِ} فَعْلان يَدُلُّ على السَّعة والامتِلاء؛ وانظُرْ ذلك في كلِمة (غَضبان) و (نَدمان) و (سَكران) و (عَطشان) و (رَيَّان) وما أَشبَهَها؛ تَجِدْ أنَّ هذه الصِّيغةَ دالَّةٌ على السَّعة والامتِلاء.
ولهذا قال بعضُ السلَف رحمهم الله: إنَّ {الرَّحْمَنِ} رحمة عامَّة لجميع الخَلْق، وأمَّا {الرَّحِيمِ} فهي: دالَّة على الفِعْل أي: أنه سبحانه وتعالى يَرحَم برَحْمته الواسِعة.
فـ {الرَّحِيمِ} دالٌّ على الفِعْل وهو إيصال الرحمة إلى المَرْحوم.
و{الرَّحْمَنِ} دالٌّ على الصِّفة وهي اتّصاف الله سبحانه وتعالى بهذه الرَّحمةِ الواسِعة.
* * *