الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (3)
* * *
* قالَ الله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3].
* * *
قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: بالله عز وجل وبقُدْرته وبحِكْمته، قالوا:{لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} هل قالوا هذا اللَّفظَ أَمْ قالوا مَعنَى هذا اللَّفظِ؟
الجوابُ: قالوا هذا اللّفظَ؛ لأنَ الأصل أنَ ما نُقِل عن الغير فإنَّه مَنقول بنَصِّه وفَصْله، فهُمْ قالوا:{لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} ، وقالوا في مَوضِعٍ آخَرَ:{مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]، وتَنوَّعَت عِباراتُهم في إِنْكار القِيامة هم قالوا:{لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} يَعني: لا يُمكِن أن تَأتيَنا الساعة مع أنَ الله عز وجل يَقول: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 7]، فكذَّبوا بذلك قولَ الله تعالى مُستَنِدين إلى استِبْعاد عُقولهم أن تَرجِع هذه العِظام النَّخِرة حتى تَعود إنسانًا حَيًّا، وما علِموا أنَ الذي بدَأَ الخَلْق قادِرٌ على إعادته؛ قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]، فشُبْهَتُهم إِذَنْ في هذا الإنكارِ هي: الاستِبْعاد فقط؛ هذه واحِدة.
ثانيًا: يَقولون إذا كنتم صادِقين في أننا سنُبعَث فأتوا بآبائِنا، ابعَثُوهم لنا، وهذا
تحَدٍّ في غير مَوضِعه؛ لأنَّ الرُّسُل لم تَقُل لهم: إنكم تُبعَثون الآنَ. بل إذا انتَهَت الخلائقُ ومات الخلْق كلّهم بُعِثوا، فهذا التَّحدِّي في غير مَوضِعه، هذا التَّحدِّي في مَوضِعه لو كانَتِ الرُّسُل تَقول: إنَّ الناس سيُبعَث أوَّلُهم الآنَ معَ وجود آخِرهم صحَّ أَنْ يُقال {فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الدخان: 36] أمَا وقد قالوا: إنهم سيُبعَثون بعد أن يَفنَى الخَلْق كلُّه ممَّن سيُبعَث، فهذا ليس فيه التَّحدِّي.
إِذَنْ: شُبهَتُهم الاستِبْعاد، والتَّحدَّي في غير مَوضِعه حيث قالوا:{فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
يَقول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} : {بَلَى} هذه يُؤتَى بها لإِبْطال النَّفْي {قُلْ بَلَى وَرَبِّي} أَمَر الله عز وجل النَّبيَّ عليه الصلاة والسلام أن يَصدَع بخِلاف ما قالوا مُؤكِّدًا ذلك بالقَسَم واللَاّم والنُّون، فـ {قُلْ بَلَى} جوابٌ: لإِبْطال النَّفيِ و (رَبّي): قَسَم، واللام للتَوْكِيد، والنون أيضًا للتَوْكيد فالجمْلة مُؤكَدة بثلاث مُؤكِّدات.
وقوله تعالى: {لَتَأْتِيَنَّكُمْ} أيِ: الساعةُ، وهذا أَحَد المَراضِع الثلاثة التي أَمَر الله به نَبيَّه أن يُقسِم عليها.
والمَوْضِع الثاني: قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53].
والمَوْضِع الثالِث: قولُه تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7].
وإنَّما أَمَر الله تعالى نَبيَّه محُمَّدًا صلى الله عليه وسلم أن يُقسِم على ذلك؛ لأَهمِّيَّته وعِظَمه؛ ولأَنَّه مُقتَضى البَلاغة؛ فإنَ مُقتَضى البَلاغة أنَ المُنكِر يُؤتَى له بالكَلام مُؤكَدًا بمُؤكِّدٍ واحِد
أو اثنين أو ثلاثة حسبَ ما يَقتَضيه المَقال؛ ولأَهَمِّية هذا المَوْضوعِ أَمَرَ الله نَبيَّه محُمَّدا صلى الله عليه وسلم أن يُقسِم عليه.
فإن قُلتَ: ما فائِدةُ القَسَم أمام مَن يُنكِر، لأنَّ مَن أَنكَركَ بدون قَسَم أنكَرَكَ مع القَسَم؟
فالجَوابُ: من وَجْهين:
الوجهُ الأَوَّلُ: أن هذا هو مُقتَضى القَسان العَرَبيِّ، أن الأَخْبار تُؤكَّد بأنواع المُؤكِّدات.
الوجهُ الثاني: أن التَّأكيد يَدُلُّ على أن المُتكلِّم جازِم بهذا المُقسَم عليه جَزْمَه بما أَقسَم به؛ فكما أننا جازِمون بالله بوُجوده وكَماله، فنحن جازِمون أيضًا بما أَقسَم عليه وهو: إتيان الساعة.
وقول المُفَسِّر رحمه الله: [{عَالِمِ الْغَيْبِ} بِالجْرَّ صِفَةٌ، وَالرَّفْعِ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ، وَفِي قِرَاءَةٍ: (عَلَّامِ) بِالجْرِّ] ففيها إِذَن: ثلاثُ قِراءات: {عَالِمِ} مَرفوعة ومجَرورة، و (علاّم) مجَرورة فَقَطْ.
وقوله تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ} مُناسَبةُ ذِكر هذه الصِّفةِ لإثبات القِيامة ظاهِر؛ لأنَّ قيام الساعة مِن عِلْم الغَيْب، والذي أَخبَر به هو (علاّم الغَيْب)، فإذا صدَر هذا الخَبرُ من عالم الغَيْب وجَبَ علينا قَبولُه؛ ولهذا الخبرُ عن المُستَقبَل إذا صدَر من جاهِل لا يَدرِي فإننا نَرفُضه، وإذا صدَر من عالم فإننا نَقبَلُه.
وعِلْم الله تعالى الغَيْبَ أَمْرٌ معلوم حتى عند الكُفار، فإنَ الله سبحانه وتعالى يُخبِر بأشياءَ ثُم تَقَع ويُشاهِدونها، وهذا شيء لا يَمتَرون فيه؛ فلهذا وَصَفَ الله تعالى نَفْسَه
بهذه الصّفةِ بعد إثبات إِتْيان الساعة؛ لأَنّه أمرٌ معلومٌ عِنْدهم، فإذا صدَر هذا الخبَرُ من عالم الغَيْب الذي يقرُّون بعِلْمه للغَيْب صار الخبرُ مُؤكَدًا واقِعًا.
وقوله تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ} [بالجَرّ صِفَةٌ] لـ (رَبِّ)؛ لأن (رَبّ) مَجرور فنَقول في إعرابه: الواو حَرْفُ قَسَم وجَر، (رَبي) مُقسَم به مَجرور بكَسْرة مُقدَّرة على ما قبل ياء المُتكَلِّم منَع من ظُهورها اشتِغال المَحَل بحرَكة المُناسَبة، فليسَتِ الكَسْرة هذه كَسرةَ الإِعْراب، وإنما قُلنا ذلك لأنه رُبَّما يَرِد علينا مِثْلُ قَوْلنا:(ربّي الله) ليسَتْ مَجرورةً، وهذه الكَسرةُ من أَجْلِ المُناسَبة، فالكَسْرة إِذَنْ ثابِتة قبل أن يَدخُل حرفُ الجر؛ فلذلك تكون الكَسْرة الإِعْرابية مُقدَّرة على ما قَبلَ ياء المُتكَلّم.
وقوله تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ} صِفة لـ (رَبِّ)؛ وصِفة المَجرور مجَرور.
أمّا بالرفع فيَكون خَبَرَ مُبتَدَإٍ؛ يَعنِي: (هو عالم الغَيْب) والجُمْلة كلُّها: إمَّا حال من (رَبِّ)، وإمّا استِئْنافية لبيان اتِّصاف الله تعالى بهذا العِلْمِ.
و(الغَيْب): ما غاب عن الإنسان وهو أمر نِسْبيٌّ، لكن الغَيْب المُطْلَق لا يَكون إلا لله، أَقولُ:(إن الغَيْب أَمْر نِسْبيٌّ)؛ لأنه قد يَغيب عنك ما لا يَغيب عن غَيْرِك فصاحِب الدُّكَان الذي عند المَسجِد الآنَ تَصرُّفه الذي يَتصرَّفه الآنَ بالنسبة لنا غَيْب، لكن بالنِّسبة لمَن عِنده شهادة، فالغَيْب أمر نِسبيٌّ؛ ولذلك الخَبرُ عن الشيء الواقِعِ هل يُعتَبر من الغَيْب الذي يَختَصُّ به الله تعالى؟
الجوابُ: لا؛ لأَنَّه يَعلَمه مَن وقَع عِنْده وحدَث عِنْده، لكن الغيب المُستَقبَل هذا هو الذي من خَصائِص عِلْم الله؛ ولهذا مَنِ ادَّعى عِلْم الغَيْب في المُستَقبَل صار مُكذِّبًا لقَوْل الله تعالى:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65].
ومَنِ ادَّعى عِلْم غَيبٍ واقِعٍ فهذا الغَيْبُ ليس غَيْبًا مُطلَقًا، ولكنه غَيْب نِسْبيٌّ؛ يَعلَمه مَن شاهَدَه، ولا يَعلَمه مَن لم يُشاهِدْه؛ فغَيْب الله تعالى في قوله:{عَالِمِ الْغَيْبِ} يَشمَل الأَمْرين أو يَشمَل المُستَقبَل فقط؟
الجوابُ: يَشمَل الأَمْرين؛ لأنَّ كُلَّ ما حدَث ولو في أزمانٍ بَعيدة جِدًّا فالله عالمٌ به، وكل ما سيَحدُث فالله عالمٌ به، فالغَيْب المُطلَق للواقِع والمُنتَظَر هذا من خصائِصِ عِلْم الله تعالى، والغَيْب المُقيَّد بالواقِع هذا ليس من خَصائِص عِلْم الله تعالى، بل هو حاصِلٌ لكل مَن شاهَدَه.
قول المُفَسِّر رحمه الله: {لَا يَعْزُبُ} يَغِيبُ {عَنْهُ} ]، يَعنِي عن الله [{مِثْقَال} وَزْنُ {ذَرَّةٍ} أَصْغَرِ نَمْلَةٍ {فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}].
وقوله تعالى {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ} إلى آخِره؛ صِفة من الصِّفات السَّلْبية، و {عَالِمِ الْغَيْبِ} من الصِّفات الثُّبوتية، فالصِّفات الثُّبوتية -كما تَقرَّر- كلُّها صِفاتُ كَمالٍ، والصِّفات السَّلْبية تَأكيد لصِفاتِ الكَمال؛ لأنها تَتضمَّن صِفة الكَمال المَنفيَّ عنها هذا العَيْبُ، فالصِّفات السَّلْبية يَعنِي النَّفي تَأكيدٌ للكَمال؛ لأنها تَتضمَّن ثُبوت الصِّفات الكَمالية الخالية من هذه الصِّفةِ التي تُعتَبر صِفةَ نَقْص.
ولهذا ما من نَفْيٍ في صِفات الله إلَّا وهو مُتضمِّن لإثبات كَمال ضِدِّه، فمَثَلًا: إذا قلنا: لا يَعزُب عن عِلْم الله شَيءٌ فذلك لكَمال عِلْمه، وإذا قُلْنا: إنه خلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ في سِتَّة أيام ولم يَمَسَّه لُغُوب فذلك لكَمال قُدْرته، وعلى هذا فقِسْ.
فكُلُّ صِفات النَّفيِ المُضافة إلى الله يُراد بها إثباتُ كَمال الضِّدِّ؛ كأنه وصَفَ الله تعالى بالكَمال الخالي عن هذا النَّقْصِ.
وقوله تعالى: {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} يَقول المُفَسِّر رحمه الله: إنها صِغار النَّمْل [أَصْغَرِ نَمْلَةٍ] أَفادَنا المُفَسّر رحمه الله أنَّ من النَّمْل ما هو صغير وما هو كبير، ونحن في عُرْفِنا على خِلاف ذلك، عندنا أن النَّملةَ نَوْع مُعين من الذّرّ، وعندنا الذّرَّة الصِّغار، وعندنا شيء يُسمَّونه نَمْلة؛ والنَّمْل مَعروف أنه الذي أَكبَرُ من الذّرّ قليلًا ودون القَعْرِ.
يَقولون: إن هذا القَعْرَ من أَعْنَدِ ما يَكون، يُضرَب بها المَثَلُ في العِناد؛ لأنك تُزَحْزِحها عنك، ولكنها تَرجع، ثُمَّ إذا أمْسَكَتْ ثَوبَك أو جِلْدك ما يُمكِن أن تَنفَكَّ، تَنقَطِع ولا تَنفَك -سُبحان الله تعالى-، ومن عِنادها أنها إذا أَمسَكَتْ في الثَّوْب يَعنِي: عَضَّتْه بقَرْنيها أو الجِلْد ما تَزَحْزَح أبدًا حتى تَنقَطِع، وفيها أيضًا يُسمُّونها عندنا القِعْس، ولكن هذه أنواع لجِنْس في الواقِع، وكلُّها تُسمّى نَمْلًا، وكلّها ذَرُّ؛ ولهذا نَهيُ الرسول صلى الله عليه وسلم عن قَتْل النَّمْل
(1)
يَشمَل هذا كلَّه.
قول المُفَسّر رحمه الله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} بَيِّنٍ، وَهُوَ اللَّوْحُ المَحْفُوظُ] هل في هذا إثبات العِلْمِ، من قوله تعالى:{وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ؟
الجوابُ: نَعَمْ فيه إثبات العِلْم؛ لأنَّه لا كتابةَ إلَاّ بعد العِلْم؛ فكِتابة المَجهول لا تُتصوَّر، فيَكون فيه فائِدة زائِدة على إثبات العِلْم؛ وهو أنَّ معلومَ الله مَكتوب في اللّوْح المَحفوظ.
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: الجنَّة وما فيها شيءٌ واقِع يَختَصُّ بعِلْم الله سبحانه وتعالى؟
(1)
أخرجه الإمام أحمد (1/ 332)، وأبو داود: كتاب الأدب، باب في قتل الذر، رقم (5267)، وابن ماجه: كتاب الصيد، باب ما ينهى، عن قتله، رقم (3224)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.