الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31]، لا يَمنَع من دُخولهم الجَنَّة، لأنه لم يَقُلْ: ويُدخِلْكم الجَنَّة. وليس فيها دليلٌ على أنَّ دُخولهم الجَنَّة مَمنوع؛ لأن مَن أُجير من العذاب الأليم فليس هناك في دار الآخِرة إلَّا دارانِ؛ إمَّا نار وإمَّا جَنَّة، وعندنا آيات كثيرةٌ تَدُلُّ على أنَّ مَنْ آمَن وعَمِل صالِحًا فله جَنَّاتُ الَمأْوى.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَةُ الأُولَى:
أنَّ الله تعالى قد يُسخِّر بعض الأُمور الكَوْنية لبعض عِباده آيةً له؛ لأن الريح لا أحَدَ يَستَطيع أن يُصرِّفها كما يَشاءُ، وسُلَيْمانُ عليه السلام سُخِّرَت له تَجرِي بأَمْره، فيُستَفاد من هذا أن الله تعالى قد يُسخِّر بعض الأُمور الكونية آيةً لبَعض عِباده كهذا، وهل يُمكِن أن يَأتيَ مِثْلُ ذلك لغير الرُّسُلِ؟
الجوابُ: الظاهِر أنه لا يُمكِن، وما ذُكِر عن بعض الخُلَفاء أنَّ الله سبحانه وتعالى سخَّر له الريح يَأمُرها كما يَشاءُ وتَنقُل جُنْده فإن هذا في صِحَّتِه نظَرٌ، والظاهِر أنَّ مِثْلَ آياتِ الأنبياء عليه السلام لا تَكون كَرامةً للأَوْلياء، صحيح أن بعض آيات الأنبياء عليه السلام تَكون كرامةً لبعض لأَوْلياء، أمَّا الآياتُ الكبيرة كهذه فالظاهِرُ -والله أَعلَمُ- أنها لا تَكون.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:
أنَّ للريح سُرْعةً عظيمةً، كما قال تعالى:{غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} .
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:
إثبات وُجود الجِنِّ، وهذا ثابِت بالكِتاب والسُّنَّة وإِجْماع المُسلِمين؛ ولهذا مَنْ أَنكَر وُجود الجِنِّ فقَدْ كذَّب القُرآن ويُحكَم بكُفْره.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:
أنَّ الجِنَّ يَعمَلون للإِنْس؛ لقوله تعالى: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ
يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ}، ولا شكَّ أن عمَلَهم بين يَدَيْه آيةٌ له دالَّةٌ على نُبوته ورِسالته، لكن هل يَعمَلون لغير الأنبياء عليه السلام؛ يَقول شَيْخُ الإسلامِ
(1)
رحمه الله: نعَمْ، إنهم يَعمَلون لغير الأنبياء عليه السلام، وعمَلُهم لغَيْر الأنبياء عليه السلام له سبَبٌ، إمَّا أن يَكون سبَبُه الشِّرْك، بمَعنَى: أنَّ الجِنَّ تَأمُره أن يُشرِك فيَعبُدهم، أو تَأمُره أن يُشرِك فيَعبُد مَن يُعظِّمونه، هذا واحِد، وقد يَكون سبَبُه أنهم يَعشَقون هذا الإنسانَ فيُحِبُّونه حُبًّا؛ يَعنِي: ليس لله تعالى، لكن مَثَلاً لجَمال صُورته أو ما أَشبَهَ ذلك، ومن أسباب ذلك أنهم يَعمَلون له مَحبَّةً لله تعالى؛ لكونهم صالحِين فأَحَبُّوا هذا الرجُلَ الصالِحَ فعمِلوا له، فعمَلُهم له يَقول شيخُ الإسلامِ
(2)
رحمه الله: إن عمِلوا له أمرًا مُحرَّمًا كان ذلك حَرامًا، مثل أن يَستَخدِمهم في أَذِيَّة المُسلِمين، أو في الاعْتِداء على شخص مُعيَّن يُروِّعونه أو يُنفَّرون إِبِلَه، أو ما أَشبَهَ ذلك، فهذا حرام، فإذا استَعان بهم بطريق المَعصية أو من أَجْل المَعْصية كان ذلك حرامًا بلا شَكًّ، أمَّا إذا استَعان بهم في الأَمْر المُباح فإن هذا لا بأسَ به إذا خلا عن شِرْكٍ وعن عُدوان على الغير.
فإن قُلْتَ: إن القول بإِباحة الاستِعانة بهم في غير المَعْصية يُشكِل عليه قولُه تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)} [الأنعام: 128]، فإنَّ ظاهِر هذا أنه لا يَجوز أن يَستَمتِع الجِنُّ بالإِنْس؛ ولا الإِنْس بالجِنِّ؟
(1)
انظر: النبوات (1/ 527، 2/ 1003).
(2)
مجموع الفتاوى (11/ 307 - 308)، والنبوات (1/ 528).
فالجوابُ: قد ذكَرَ رحمه الله في كِتاب النُّبوات
(1)
أو في كِتاب إيضاح الدَّلالة على عموم الرَّسالة ذكَرَ أَشْياءَ واضِحةً عن السلَف بأنهم رُبَّما يَنْتَفِعون بالجِنَّ في الإِخْبار عن الأشياءِ البَعيدة، والأَمْر الواقِع شاهِدٌ بذلك، فإننا نَسمَع قضايا عن بعض الناس أن الجِنَّ تُعينهم على ما يُريد معَ صلاحِهم وعدَم شِرْكهم وعدَم مَعصيتهم.
فَإنْ قِيلَ: هل يُمكِن أن يَعتَدِيَ الجِنَّيُّ على الإِنْسيُّ؟
فالجوابُ: نعَمْ يُمكِن.
وهل يُمكِن أن يَعتَدِيَ الإِنْسيُّ على الجِنَّيُّ؟
فالجوابُ: نعَمْ يُمكِن.
أمَّا الأوَّلُ فظاهِر كثيرًا أن الجِنَّ يَعتَدون على الإنس، أحيانًا يُروِّعونهم في الطُّرُقات، بل ورُبَّما في البُيوت، وأحيانًا يُفسِدون عليهم شُؤُونهم، وأحيانًا يَرمُونهم بالحِجارة، وأحيانًا يُؤذُونهم بالأصوات، وهذا شيء لا يَحتاج إلى طلَب الدَّليل؛ لأنه أَمْرٌ واقِع مُشاهَد.
وكذلك الإنس رُبَّما يَعتَدون على الجِنِّ؛ فلو أنَّ أحَدًا استَجْمَر بعَظْمٍ أو برَوث لكان مُعتَديًا على الجِنّ؛ لأنَّ العَظْم طعامُ الجِنَّ، والروث طعام دَوابِّهم، فيَكون في هذا عُدوان من الإِنْس على الجِنِّ.
فَإنْ قِيلَ: هل يُمكِن أن يَدخُل الجِنِّيُّ في بدَن الإِنْسِيَّ؟
فالجوابُ: نعَمْ، ولا يَحتاج إلى طلَب الدَّليل؛ لأن هذا أَمْر واقِع محَسوس
(1)
النبوات (2/ 1059 - 1061)، ومجموع الفتاوى (13/ 87 - 88).