الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (41)
* قالَ الله عز وجل: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 41].
قوله تعالى: {قَالُوا} الضميرُ يَعود إلى المَلائِكة {سُبْحَانَكَ} [تَنْزِيهًا لَكَ عَنِ الشَّرِيكِ] يَعنِي: إننا نُنَزِّهُك عن أن تَكون شرَكاءَ لك نحن ولا غَيرُنا وتَنزيهُ الله سبحانه وتعالى يَكون عن شَيْئين: أحدُهما النَّقْص، والثاني: مُشابَهة المَخلوقين.
وإن كان مُشابَهة المَخلوقين من النَّقْص، لكن هذا من باب التَّفصيل في القول، يُنزَّهُ الله سبحانه وتعالى عن النَّقْص؛ فمَثَلًا لا يُوصَف الله تعالى بالعَمَى والصَّمَم والعَجْز والضَّعْف وما أَشبَهَ ذلك مُشابَهة المَخلوقين فيما لهم من صِفات الكمال، فلا يُقال: عِلْمه كعِلْم المَخلوقين، أو وَجهُه كوَجْه المَخلوقين، أو يَدُه كيد المَخلوقين، وما أَشبَه ذلك، فهو مُنَزَّهٌ عن هذين الأَمْرين.
وهنا يُنزَّهُ عن أن يَكون له شريك؛ لأنَّه لو كان له شريك لكانَ ناقِصًا؛ إِذْ إِنَّ الشريك مُعين لمَن شارَكه، أو مالِكٌ لما يَملِكه، فالله تعالى مُنزَّهٌ عن هذا.
وتَقولُ الملائِكةُ: {سُبْحَانَكَ} أي: تَنزيهًا لك عن الشريك، وأفادَنا المُفَسِّر بقوله: تَنزيهًا. أن (سُبْحَانَ) مَنصوبة على أنها اسمُ مَصدَر، فتكون مَفعولًا مُطلَقًا، وهي مُلازِمة للنَّصْب على المَفعولية المُطلَقة دائِمًا، ومُلازِمة أيضًا للإِضافة، فلا تَقَع
إلَّا مُضافةً وإلَّا مَنصوبةً على المَفعولية المُطلَقة.
قوله تعالى: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} أي: لا مُوالاةَ بَينَنا وبينَهم من جِهتنا، يَعنِي: أن هذه الجُملةَ خَبَرية ثُبوتية {أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} مَعناها جُملة سَلْبية، أي: لا نَتَوَلَّاهم، بل {أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} ، فلا مُوالاةَ بينَنا وبينهم، وإذا انتَفَت المُولاةُ ثبَت ضِدُّها، وهي المُعاداة، يَعنِي: فهؤلاء أَعداؤُنا، وأنت ولِيُّنا من دونهم.
وهذا كقوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257].
قوله رحمه الله: [{بَلْ} للانتِقال، {كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} الشياطين، أي: يُطيعوهم في عِبادتهم إيَّانا {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} مُصدِّقون في ما يَقولون].
قوله: [{بَلْ} للانتِقال]؛ لأنَّ (بَلْ) تَأتي للإِضْراب الانتِقالي، وللإِضْراب الإِبْطالي، فإن كان المَقصود بها إِبْطالَ ما سبَقَ وإثباتَ ما لَحِق فالإِضْراب إِبْطالي، وإذا كان المَقصودُ بها الانتِقالَ من مَعنًى إلى آخَرَ فوقَه أو دونَه يُسمَّى إضرابًا انتِقاليًّا.
وهنا المُفَسِّر رحمه الله: يَقول: إنَّ هذا الإِضْرابَ انتِقالِيٌّ؛ يَعنِي: وأنَّهم لم يُبطِلوا ما سبَق، فهم باقون على قَوْلهم:{سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} ، ولا مُولاةَ بيننا وبينَهم، ولا نُواليهم ولا يُوالوننا، بل نَزيد على ذلك: كانوا يَعبُدون الجِنَّ، والمُراد بالجِنِّ هُنا الشياطين؛ لأنَّ الجِنَّ همُ الشَّياطينُ في الواقِع؛ قال الله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50]، فهم يَعبُدون الجِنَّ.
فَإنْ قِيلَ: إذا كانوا يَعبُدون المَلائِكة، كما هو ظاهِر السِّياق فكيف عِبادتهم للجِنِّ؟
فالجوابُ: هنا عِبادتهم للجِنِّ عِبادة طاعة، أيْ أنهم يُطيعونهم في الإشراك فالجِنُّ تَأمُرهم أن يَجعَلوا المَلائِكةَ شُرَكاءَ مع الله تعالى في العِبادة فيُطيعونهم، ومَن أَطاع غيرَ الله تعالى في مَعصية الله تعالى فقَدِ اتَّخَذه إِلهًا، قال الله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31]، وقد رُوِيَ أنهم كانوا إذا أَحَلُّوا ما حرَّم الله أَحَلُّوه، وإذا حرَّموا ما أحَل الله حرَّموه، فجعَلوهم إلَهةً مع الله سبحانه وتعالى في التحليل والتحريم والطاعة، فيَكون مَعنَى قوله تعالى:{بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} أي: يُطيعونهم في عِبادة الملائِكة، ومَن أَطاع غيرَه في مَعصية الله تعالى فقَدِ اتَّخَذه إلَهًا.
وقوله تعالى: {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} أي: مُصدِّقون فيما يَقولون لهم.
وقوله تعالى: {أَكْثَرُهُمْ} ولم يَقُلْ: كلهم. مع أن الجميع يَعبُدون الملائِكة طاعَةً للجِنِّ.
فلماذا عَبَّروا بقولهم: أكثَرهم. ولم يَقولوا: كلُّهم؟
جوابُ ذلك أن يُقال: إنَّ هؤلاءِ المُشرِكين يَنقَسِمون إلى قِسْمين: قِسْم عامَّةٌ أتباعٌ، لا يَعرِفون شيئًا، وجَدوا آباءَهم على دِين فمَشَوْا عليه، والقِسْم الآخَر مجُتَهِدون يَعرِفون الأَمْر ولكنهم يُؤمِنون بهؤلاء الجِنِّ ويُصدِّقونهم، وَيكفُرون بالرُّسُل، وهؤلاء همُ الأكَثرُ، ومع ذلك فإن الأَتْباع -وهم القِسْم الأوَّل- إذا تَبيَّن لهم الحقُّ وأَصَرُّوا على اتِّباع هؤلاء وقالوا كما قالَتِ الأُمَم:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]، فإنهم مُستَحِقُّون للعذاب؛ لأنهم كفَروا على بَصيرة.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: بيانُ ما عِند المَلائِكة عليهم الصلاة والسلام من تَعظيم الله سبحانه وتعالى، حيث قالوا:{سُبْحَانَكَ} أي: تَنزيهًا عن أن يَكون لك شريك، لا مِنَّا ولا من غَيرِنا.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: إثباتُ رُبوبية الله سبحانه وتعالى للمَلائِكة، حيث قالوا:{أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} .
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: إثبات الجِنِّ؛ لقوله تعالى: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} والجِنُّ عالَمٌ غَيْبيٌّ مخَلوق من نار وفيهم المُؤمِن والكافِر والمُطيع والعاصِي، كما في سُورة الجِنِّ.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: وُجوب الكُفْر بعِبادة الجِنِّ؛ لقوله تعالى: {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} ، وأمَّا الإيمان بوُجودهم فهو واجِب؛ لكن الإيمان بأن لهم حقا في العبودية هذا منكر، وهو المراد بقوله:{أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} ، ومن هنا نعرف أن ما جاء في كتاب في كتاب التوحيد -واستشكله بعضهم-؛ أنَّ المُصدِّق بالسِّحْر لا يَدخُل الجَنَّة مع أن السِّحْر حقيقة، والتَّصديق به أَمْر واقِعيٌ، لكن المُراد التَّصديق به يَعنِي مُمارَسته والإيمان به أي: بما يَنتُج عنه بحيث يُمارِسه الإنسان بنَفْسه، وأمَّا التصديق بأن السِّحْر له آثار فهذا أمْر لا يُمكِن إِنْكارُه.
* * *