الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (43)
* * *
* * *
قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} [الْقُرْآنِ]{بَيِّنَاتٍ} [وَاضِحَاتٍ بِلِسَانِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم]{قَالُوا} هذه الجُملةَ الشَّرْطيةَ وهي {وَإِذَا} ، وفِعْل الشَّرْط {تُتْلَى} جوابُه {مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ} .
وقولهم: {مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ} : {مَا} نافِية، وهنا لم تَعمَل لانتِقاض النَّفيِ، وقد قال ابنُ مالِك رحمه الله في أَلْفيته:
إِعْمَالُ لَيْسَ أُعْمِلَتْ مَا دُونَ إِنْ
…
مَعَ بَقَا النَّفْيِ وَتَرْتِيبٍ زُكِنْ
(1)
فإذا انتُقِضَ النَّفيُ فلا عمَلَ.
وقوله سبحانه وتعالى: {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} الإظهار في مَوضِع الإِضْمار له فائِدة دائِمة مُستَمِرَّة وهي التَّنبيهُ، وفائدةٌ خاصَّة في كل سِياق بحَسَبه، فهنا يُقصَد بها التَّعميم، يَعنِي: للذين ظَلَموا من هؤلاء وغيرهم، والإشارة إلى سبَب الحُكْم وهو قوله تعالى:{ذُوقُوا} للذين ظلَموا {عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} ، والتَّعميم
(1)
الألفية (ص: 20).
والإشارة إلى عِلَّة الحكْم، وهو الظُّلْم للذين قالوا: نَقول لهم: ما استَفَدْنا أن سبَب قول الله تعالى لهم وتَوْبيخهم إيَّاهُم هو الظُّلْم.
وقوله سبحانه وتعالى: {آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} : {بَيِّنَاتٍ} حال من آياتِنا؛ لأنه وَصْفٌ بعد مَعرِفة، والوَصْف بعد المَعرِفة إذا كان نَكِرة يَكون حالًا، وكذلك إذا كان جُمْلة، فالأَوْصاف بعد المَعارِف إذا كانَتْ نَكِرة أو جُمْلة تَكون حالًا، والأوصاف بعد المَعارِف إذا كانت مَعرِفة تَكون نَعْتًا، فالحال والنَّعْت كلاهما وَصْف، ولكن إن وافَق مَتبوعَه في التعريف والتَّنكير فهو نَعْت، وإلَّا فإن كان المَتبوع مَعرِفة والثاني نَكِرة أو جُملة فهو حال، وقوله تعالى:{قَالُوا مَا هَذَا} هو جوابُ الشَّرْط.
وقوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} أي: إذا تَقرَأ عليهم آياتِنا ولم يُبيِّن القارِئَ فيَشمَل أَنْ يكون القارِئُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أو غيرَه، إذا تُتلَى عليهم آياتُ الله تعالى {بَيِّنَاتٍ} أي: ظاهِراتٍ فما ظُهورها هنا؟ هل ظُهورها بمَعنَى أنها واضِحة أنها كلام الله تعالى؛ لعَجْزهم عنها، أو بَيِّناتٍ فيما تَدُلُّ عليه من مَعاني سامِية لا يُمكِن أن يَأتيَ بمِثْلها البَشَر، أو الأمران؟
الجوابُ: يَشمَل هذا وهذا، فهي بيِّنة في ذاتها واضِحة أنها ليست من كلام البَشَر، وهي بيِّنة في مَوْضوعها وما تَدُلُّ عليه من أنَّها ليست من أحكام البَشَر؛ لأنها لا تَتَناقَض ولا يُكذِّب بَعضُها بعضًا، وهذا يَدُلُّ على أنها من عِند الله تعالى.
ولو كانت هذه الآياتُ خَفيَّةً لكان لهم شيء من العُذْر في رَدِّها، ولكنها آيات بيِّناتٌ، لا عُذْرَ لهم في رَدِّها.
ومع هذا يَقول الله سبحانه وتعالى: {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ} يَقول المُفَسِّر رحمه الله في تَفسيرها: [وَاضِحَاتٍ بِلِسَانِ نَبِينا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم]{مَا هَذَا}
أيِ: الذي جاء بها وادَّعى أنها من عِند الله إلا رجُلٌ يُريد أن يَصُدَّكم، وانظُرْ كيف تَحمِل هذه الجُملةُ من الاحتِقار والإِنْكار ما هو معلوم، فقولهم:{مَا هَذَا} أَتَوْا به بصيغة الحاضِر وان كان غائِبًا للاحتِقار، وقولهم:{إِلَّا رَجُلٌ} هذا للإِنْكار؛ لأنهم أَتَوْا به بصيغة النَّكِرة، كأنهم لا يَعرِفونه كأنه رَجُل أَجنبيٌّ منهم، قالوا: ما هذا إلا رجُلٌ، ولم يَقولوا: ما ذلك الرجُلُ إلَّا رجُل. بَلْ قالوا: {مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ} احتِقارًا وإنكارًا.
وقوله تعالى: {يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} يَعنِي: لا يُريد أن يَهدِيَكم سبيل الرَّشاد، ولكن يُريد {أَنْ يَصُدَّكُمْ} أن يَصرِفكم وَيمنَعكم {عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} أيِ: الأَصْنام من الأشجار والأحجار وغيرها، هذا هو غَرَض هذا الرجُلِ الذي جاء بهذه الآياتِ التي تُلِيَت عليهم، وليس غرَضُه الصلاحَ ولا الإصلاحَ. هكذا ردُّوا الحقَّ بهذه الدَّعْوةِ الباطِلةِ.
وقوله تعالى: {عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} ولم يَقولوا: وعما كُنْتم تَعبُدون؛ لإثارة الحَمِيَّة في نُفوسهم؛ لأنَّ الإنسان يَصعُب عليه أن يَدَع ما كان آباؤُه عليه، لا سيَّما مثل هؤلاء الجَهلةِ، ولو قالوا: عمَّا كُنْتم تَعبُدون. لكان يُمكِن أن يُقالَ: إنهم عَبَدوا على غير أَساس. لكن لمَّا قال تعالى: {عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} كأنَّ هذه العِبادةَ لهذه الأصنامِ أمْرٌ مُستَقِرٌّ كان عليه الآباء، ولا يَنبَغي لكم أن تَترُكوا مِلَّة آبائِكم.
ولهذا يَقولون كما حَكَى الله عنهم في آياتٍ أُخرى: {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]، أو {مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] آيتان.
وقول سبحانه وتعالى: {عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} من الأصنام، والمُراد بالآباء هنا ما يَشمَل آباءَ الصُّلْب، وهو الأبُ الأَدْنى والآباء الأَعلَيْن، وهمُ الأَجْداد وان عَلَوْ.
وقوله تعالى: {آبَاؤُكُمْ} هل أُمَّهاتهم كذلك؟
الجوابُ: نعَمْ، لكنَّ الإنسان تَأخُذه الحَميَّة لأبيه أكثَرَ ممَّا تَأخُذه لأُمِّه؛ لأَنَّه مِن المعلوم أن الأبَ رَجُل والرجُل أَعقَلُ من المرأة، فإذا كانت آباؤُكم يَعبُدون هذه الأصنامَ ويُصِرُّون على عِبادتها -وهم العُقلاءُ- فإنه لا يَنبَغي لكم أن تَتَّبِعوا هذا الرجُلَ؛ الذي كان يُريد أن يَصُدَّكم عمَّا كان يَعبُد آباؤُكم.
وقالوا في القُرآن: {مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ} كذِب {مُفْتَرًى} على الله تعالى. فطَعَنوا في الرسول صلى الله عليه وسلم بسُوء قَصْده، وأنه لا يَقصِد الإصلاحَ، وانما يُريد أن يَصُدَّكم عمَّا كان يَعبُد آباؤُكم، وطعَنُوا في القُرآن وفي الوَحْيِ الذي جاء به هذا الرسولُ صلى الله عليه وسلم، وقالوا:{مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى} .
ومعلوم أنَّ هذه الصِّيغةَ صِيغةُ حَصْر، فعلى زَعْمهم ليس في القُرآن شيءٌ صِدْق، كلُّ القُرآن جملةً وتَفصيلًا {إِفْكٌ مُفْتَرًى} أي: كذِب، هو بنَفْسه كذِب، وعلى على الله عز وجل؛ لأَنَّه هناك كذِب مُطلَق يُكذِّبه الإنسان ولا يَنسُبه إلى أحَد، وهنا كذِب يَفتَرِيه الإنسان على غيرِه، فالقُرآن يَقولون: إنَّه كذِبٌ وإنه مُفتَرًى على الله عز وجل. ولا ريبَ أنَّ هذه دَعوَى باطِلة فالقُرآن كما وصَفَه الله عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115]، وكذلك القُرآن من عند الله عز وجل، بدليل أنَّ الله عز وجل تَحدَّى هؤلاءِ أن يَأتوا بمِثْله فلم يَأتوا، فهو دليلٌ على أنَّه مِنْ عند الله وكُلُّ أَخباره صِدْقٌ وحقٌّ، خِلاف ما طعَن به هؤلاء.
وقالوا: {مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى} فطَعَنوا في الرسول وطَعَنوا في المُرسَل به، والطَّعْن فيهما طَعْن في الله عز وجل، كيف؟
الجوابُ: لأنَّ تمَكين الله تعالى لهذا الرسولِ، وتَأيِيده له، وإِنزال الآيات عليه
وهو كاذِبٌ سَفهٌ، والله سبحانه وتعالى يُؤيِّد رسوله بما يُنزِل عليه، وَيشهَد له بأنه حقٌّ، والرسول صلى الله عليه وسلم يَدْعو الناس علَنًا وسِرًّا، فلو كان كاذِبًا على الله عز وجل والله عز وجل يُؤيِّده ويُمكِّنه لكان تمَكينُ الله عز وجل له في غاية ما يَكون من السَّفَه، وهذا طَعْن في الله عز وجل.
وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} هذه أيضًا دَعوَى ثالِثةٌ كاذبِةٌ، لكنه أَتَى بالإظهار في مَوضِع الإضمار {وَقَالَ} ولم يَقُل: وقالوا، بل {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ؛ ليَشمَل هؤلاءِ وغيرَهم، كما قال تعالى:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52].
فقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يَشمَل هؤلاءِ وغيرَهم، ويُفيد أنَّ هؤلاءِ الذين قالوا هذا القولَ كُفَّار؛ لأَنَّه وصَفَهم بالكُفْر مُسنِدًا إليهم هذا القولَ، فيَكون ذلك سبَبًا لكُفْرهم.
قال المُفَسِّر رحمه الله: {إِنْ} في تَفسيرها [مَا] أي: أنَّ (إِنْ) نافِية، وهل يُشتَرَط لكونها نافِيةً أن تَأتيَ بعدها (إلَّا)؟
الجوابُ: لا، ولكن إذا أَتَتْ بعدها (إلَّا) فهى نافِية، كُلَّما أَتَت (إلَّا) بعدَ (إِنْ) فإنَّ (إِنْ) نافِية، ولا نَقول: إنها لا تَكون نافِيةً إلَّا إذا وقَعَتْ بعدها (إلَّا)؛ لأنها قد تَأتي نافيةً، وليس بعدها (إلَّا)، كقوله تعالى:{إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} [يونس: 68]، أي: ما عِندكم من سُلطانٍ بهذا، ومع ذلك فإن الجُملة هذه ليس فيها (إلا).
والخُلاصةُ: إذا أَتَت (إلَّا) بعد (إِنْ) كانت (إِنْ) نافِية، ولا يَلزَم أن تَأتيَ بعدها (إلَّا)، بل قد تَكون نافِية بدون (إلَّا).
ولنا أن نَستَطْرِد حتى نَذكُر مَعانيَ (إِنْ)، فتَأتي نافِيةً كما هنا، وتَأتي شَرْطيةً كقوله تعالى:{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [آل عمران: 29]، وتَأتي زائدة كقول الشاعِر
(1)
:
بَنِي غُدَانَةَ مَا إِنْ أنتُمُ ذَهَبٌ
…
وَلاصَرِيفٌ وَلَكِنْ أَنْتُمُ الخَزَفُ
وتَأتي مُخفَّفة مِنَ الثَّقيلة، مثل:
.....................
…
وَإِنْ مَالِكٌ كَانَتْ كِرَامَ المَعَادِنِ
(2)
هذه مُخفَّفة من الثَّقيلة؛ إِذًا فتُستَعمَل في اللُّغة العَربية على أربعة أَوْجُهٍ.
وقوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} السِّحْر هو في اللُّغة: كل شيء خَفِيٍّ، وسُمِّي سِحْرًا، لمُطابَقته السَّحَر وهو آخِر الليل، لأنَّ آخِر الليل تَقَع فيه الأشياء خَفيَّةً؛ لكون الناس مُستَتِرين في بُيوتهم، فالسِّحْر في اللغة الشيءُ الخَفيُّ الذي يَخفَى أَمْرُه وسبَبُه، ولهذا أوَّل ما ظَهَرت الساعاتُ هذه قيل: إنها سِحْر! . وإذا جاءت أشياءُ غَريبةٌ على الناس خارِقة للعادة قالوا: هذا سِحْر. فهم يَقولون: إنَّ الذي جاء به محُمَّد عليه الصلاة والسلام هذا سِحْر، فعَصا مُوسَى عليه السلام على رَأْيهم سِحْر، وإحياء عِيسى عليه السلام الموتى بإِذْن الله سبحانه وتعالى سِحْر، وهذا الكلامُ الذي جاء به مُحمَّد عليه الصلاة والسلام سِحْر، "إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا"
(3)
، فقالوا: هذا كَلامٌ فَصيحٌ سحَرَ عُقول الناس.
(1)
غير منسوب، وانظره في: أوضح المسالك (1/ 266)، وشرح الأشموني (1/ 254)، وهمع الهوامع (1/ 449).
(2)
هو عجز بيت للطرماح بن حكيم الطائي. انظر: شرح الكافية لابن مالك (1/ 509)، ديوان الطرماح (ص: 280).
(3)
أخرجه البخاري: كتاب النكاح، باب الخطبة، رقم (5146)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
وقوله تعالى: {مُبِينٌ} هذا من باب التَّمويه، يَعنِي: أنه سِحْر بيِّن لا تَنبَغي المُجادَلة فيه؛ لبَيانه وظُهوره، وهذا كما تُؤكِّد الشيء فتَقول: هذا أَمْر بَيِّن واضِح. وإن كان ليس بَيِّنًا واضِحًا، فإن هذا الذي جاءَتْ به الرُّسُل من الآيات ليس بَيِّنًا أنه سِحْر، بلِ البَيِّن أنه حَقٌّ وآياتٌ حقيقية، لكن المُكذِّبين -والعِياذُ بالله تعالى- يُجادِلون في الحقِّ.
وقوله تعالى: {مُبِينٌ} : قال المُفَسِّر رحمه الله: بمَعنَى [بَيِّنٌ]؛ لأنَّ (أَبانَ) يَأتِي لازِمًا ومُتعَدِّيًا، فتَقول: أَبانَ الفَجْرُ. بمَعنَى: ظهَر الفَجرُ، وتَقول: بانَ الفَجرُ، فهُنا كلِمة {مُبِينٌ} بمَعنَى: بيِّن، هذا هو الأقرَبُ، أمَّا {مُبِينٌ} بمَعنَى: أَبانَ، أي: أَوضَحَ وأَظهَرَ، ففي مثل قوله تعالى:{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس: 69]؛ لأنَّ القُرآن مُبين للحَقِّ، فتكون {مُبِينٌ} هناك من (أَبانَ) المُتَعدِّي، و (مُبينٌ) هنا من (أَبانَ) اللَّازِم.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: أن الوَحْيَ آية من آيات الله عز وجل، ووَجْهُ كونه آيةً من عِدَّة وُجوهٍ:
أوَّلًا: أنه أَعجَزَ البشَر وغير البَشَر، وهذا مَبنيٌّ على أنه من عند الله تعالى.
ثانيًا: أنَّ أَحكامَه عادِلة مُصلِحة للقُلوب، والأَبدان، والأَفراد، والجماعات، في كل زمانٍ وفي كلِّ مَكانٍ، وهذا لا يُمكِن أن يُوجَد في قَوانينِ البَشَر مَهْما عظُمَت، فإنما تَكون صالحِة في نِطاق محَدود، وتَجِدُها كذلك مع كونها صالحِة في نَطاق محَدود، تَجد فيها أُمورًا ضارَّة قد تُعادِل المَصالِح التي فيها، بخِلاف آيات الله تعالى.
ثالثًا: ما يَشتَمِل عليه الوحيُ، أو القُرآنُ بالذات، من الأَخْبار الصادِقة، التي ليس فيها ما يُخالِف الواقِع بوجهٍ من الوُجوه، سواءٌ كانت تِلك الأَخبارُ ماضِيةً أو حاضِرةً أو مُستَقبَلة، هذه وجوهُ كَونِه من آيات الله تعالى.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ آياتِ الله عز وجل بيِّناتٌ، ليس فيها خَفاءٌ وعلى هذا فما يُشكِل على بعض أهل العِلْم من أحكام الله سبحانه وتعالى فليس مَصدَرُه أن الوحيَ خَفِيٌّ، ولكنَّ مَصدَرُه قُصور الناظِر في الوَحيِ، أو تَقصيره، قُصوره بحيث لا يَكون عنده عِلْم، أو لا يَكون عنده فَهْم، أو تَقصيره بحيث لا يَطلُب العِلْم، ولا يَطلُب الفَهْم، وإلَّا فإن آياتِ الله تعالى بيِّناتٌ، ولا يُمكِن أن تَحدُث حادِثة إلى يوم القِيامة إلَّا وفي كتاب الله تعالى بيانُها، ولكن ليس كل أحَدٍ يَستَطيع أن يَتبَيَّنها من القُرآن.
فتَجِد الآية الواحِدة يَتلوها جماعة، وَيتفَكَّرون فيها، يَستَنْبِط أحَدُهم منها مَسائِلَ عديدةً، والآخَرُ لا يَستَنبِطُ منها إلَّا مَسالةً أو مَسأَلتين، وهذا أمرٌ ظاهِر، وكثيرًا ما تُشكِل عليه المَسألةُ، ونُراجِع كتُب العُلَماء والفُقهاء رحمهم الله وغيرهم ثُم عند التَّأمُّل في الكِتاب والسُّنَّة نَجِد أنها قريبة مَوْجودة؛ إمَّا داخِلة في عُموم اللَّفْظ، أو إشارة، أو إِيماء، أو ما أَشبَهَ ذلك.
وبَيان الآيات إمَّا أن يَكون بذاتها هي بيِّنة واضِحة، وإمَّا أن يَكون عن طريق السُّنَّة، تُبيِّن المُجمَل، وتُفسِّر المُشكِل، وتُقيِّد المُطلَق، وتُخصِّص العامَّ، وتَنسَخ المُحكَم - وهذا مَحَلُّ خِلافٍ بين العُلَماء رحمهم الله، والصحيحُ أنها تَنسَخ ذلك؛ لأنَّ الكلُّ من عند الله تعالى-.
إِذَنْ: عرَفْنا مَعنَى (بيِّنات)، سَواءٌ كان بذاتِه أو ببَيان السُّنَّة قال الله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فالرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن
القُرآن بلَفْظه ومَعناه، سَواء بيَّنه بقوله أو بفِعْله.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: بيان عُتوِّ المُكذِّبين للرسول عليه الصلاة والسلام، حيثُ كانوا مع هذه الآياتِ البيِّنات يَدَّعون هذه الدَّعوةَ الباطِلة، وهي أنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام لا يُريد إلَّا أن يَصُدَّهم عمَّا كان يَعبُد آباؤُهم.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنه لا شُبهةَ لهؤلاءِ المُكذِّبين للرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هي اعتِداء بالدَّعاوَى الباطِلة؛ لأنَّ غاية ما عِندهم أن يَقولوا: هذا ما كان عليه آباؤُنا. وهذا ليس بحُجَّة، فإن الحقَّ ما وافَق الشَّرْع، سَواءٌ كان عليه الآباءُ أم لم يَكُن.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: غِلَظ هؤلاءِ المُكذِّبين بصَوْغ الأساليب أو العِبارات الدَّالَّة على الحَطِّ من قَدْر النبىِّ صلى الله عليه وسلم؛ لقولهم: {مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ} .
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أنَّ هؤلاءِ المُكذِّبين كانوا على ضَلالٍ هُمْ وآباؤُهم، حيث كانوا يَعبُدون ما لا يَنفَعُهم ولا يَضُرُّهم؛ لأنهم يَعبُدون الأَشْجار والأَحْجار، وَيدَّعون أنها تَنفَع أو تَضُرُّ إمَّا بذاتها وإمَّا بشَفاعَتها.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أنهم ادَّعَوْا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كذَب على الله عز وجل في قولهم: {وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى} وهذه الدَّعوَى هم بأَنْفُسهم يُكذِّبونها؛ لأنهم كانوا يُسمُّون الرسول صلى الله عليه وسلم قبلَ أن يُوحَى إليه (الأَمينَ)، وَيرَوْن أنه أعظَمُ الناس أمانةً وصِدْقًا، فما الَّذي قلَبَه عن ذلك الوَصْفِ الذي أنتُمْ تُقِرُّون به، حتى قُلْتم: إنه مُفتَرٍ على الله عز وجل؟ ! .
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: ألَّا نَستَغْرِب مَن يُجادِل بالباطِل وَيدَّعي الأقاوِيلَ الكاذِبة، فهناك أُناسٌ الآنَ إذا رفَضوا شيئًا من الأشياء صاروا يَقولون وَيتَقوَّلون على هذا
الذي قاله ما لم يَقُلْه، فتقولون: إنه كاذِبٌ، إنه مُتَناقِض، إنه فعَلَ كذا، إنه فعَلَ كذا. وهو بَرِيء من ذلك، فلهؤلاء السلَفُ من أُولئِك الكُفَّارِ.
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: أنْ ما جاء به النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الآيات من أَفصَحُ الكلام وأَبلَغُه وأَبيَنُه؛ لقولهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} فهُمْ لم يَصِفوه بالسِّحْر إلَّا لأَنَّه يَأخُذ بالقُلوب، ويَجُرُّ الناس إليه جَرًّا، كما قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام:"إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا"
(1)
.
الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: أنَّ مَنْ نَسَب الكذِبَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أَوْحى الله تعالى إليه فهو كافِر؛ لقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} .
الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أنَّ هؤلاءِ ادَّعَوْا أنَّ الوحيَ سِحْرٌ بعد أن وصَل إليهم وعرَفوه؛ لقوله سبحانه وتعالى: {لَمَّا جَاءَهُمْ} وعرَفوا أنه حَقٌّ، حتى إنَّ زُعماءَهم كانوا يَتَسلَّلون لِواذًا في الليل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ ليَسمَعوا القُرآن؛ لأنَّه آخِذٌ بمَجامِع قُلوبهم، وصاروا يُحِبُّون أن يَستَمِعوا إليه، لكن الحَمِيَّة -والعِياذُ بالله تعالى- والعَصبية مَنَعَتْهم أن يَهتَدوا بهذا القُرآنِ.
* * *
(1)
أخرجه البخاري: كتاب النكاح، باب الخطبة، رقم (5146)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.