الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (47)
* * *
* قالَ الله عز وجل: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سبأ: 47].
* * *
قوله تعالى: {قُلْ} [لَهُمْ]{مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} : {قُلْ} الخِطاب معلومٌ أنه للرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه هو النَّذير لهؤلاءِ.
وقوله تعالى: {مَا} يُحتَمَل أن تَكون شَرْطية، يَعنِي: أيُّ أجْرٍ أَسأَله منكم فهو لكم، ويُحتَمَل أن تَكون اسمًا مَوْصولًا، كأنْ يَقول: الذي سأَلْتُكم من الأجر فهو لكم. وَيكون اقتِران الفاء بالخَبَر؛ لأنَّ اسمَ الموصول يُشبِه الشَّرْط في العموم، فأُعطِيَ حُكْمه {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ} على الإنذار والتَّبليغ {مِنْ} بَيان لـ {مَا} ، وليسَتْ زائِدةً؛ لأن {مَا} غيرُ نافِية.
وقوله تعالى: {مِنْ أَجْرٍ} الأَجْر، هو ما يُعطَى في مُقابَلة عمَل أو استِيفاء نَفْع، في مُقابَلة عمَل كما لو استَأْجَرْت رجُلًا ليَعمَل لي عمَلًا، واستِيفاء نَفْع كما لو استَأْجَرْت منك بيتًا، فالأَجْر هو ما يُعطَى على عمَل أو استِيفاء مَنفَعة؛ لأن هذا العمَلَ الذي قُمْت به إن كُنْت سأَلْت عليه أجرًا وقُلت: تُعطوني مالًا أو أَعطوني كذا فهو لكم.
وقوله تعالى: {مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} هذا على فَرْض أن يَكون ذلك
مَوْجودًا، وإلَّا فإنه غير موجود، كما قال تعالى:{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]، فالرسولُ عليه الصلاة والسلام ما سأَلَ من أَجْر، بل قال لهم: إن كُنْتُ سأَلْتكم أَجْرًا فهو لكم، لا تُعطُوني إيَّاه، قال:{إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} : (إِنْ) بمَعنَى (مَا)، ومن علامة (إِن) النافية أن يَقَع بعدها (إِلَّا)، وذلك ليس بشَرْط.
وقوله تعالى: {إِنْ أَجْرِيَ} أي: ثَوابي على تَبليغي وعلى إِنْذاري، إلَّا على الله عز وجل وحده، ونِعْمَ المُثيبُ سبحانه وتعالى، فإن أَجْري على الله تعالى؛ فإنه سيَجلِب الثَّواب العظيم؛ لأن عَطاء أكرَم الأكرَمين سيَكون أعظَمَ العَطاء؛ ولهذا يَجزِي الله سبحانه وتعالى الحسَنَة بعَشْر أمثالها إلى سَبْعِ مِئة ضِعْف إلى أضعافٍ كثيرةٍ.
ثُم الداعِي إلى الله عز وجل يُؤجَر على دَعْوته سواءٌ قُبِلَت أم رُفِضت، ويُؤجَر أيضًا على ما يَناله عليه من أذًى، سَواءٌ كان الأذَى قَوْليًّا أو فِعْليًّا، وسَواءٌ كان يَعود الأذى إلى رَدِّ ما جاء به، أو يَعود الأذى إلى اتِّهام هذا الإنسانِ بما يَشدَخ كرامَته.
وكلُّ هذا قد وقَعَ للرسول عليه الصلاة والسلام، أُوذِيَ على دَعْوته وأُوذِيَ في ما يَخدِش كرامته ونزاهته، فأصحابُ الإِفْك لمَّا رمَوْا عائِشةَ رضي الله عنها ما رَمَوْا عائِشة لأنها عائِشةُ، رمَوْها لأنها زوجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم أُوذِيَ في عِرْضه وأُوذِيَ في بدَنه، وأُوذِيَ في مَهمَّته التي جاء من أَجْلها، فأَجرُه على الله سبحانه وتعالى.
واعلَمْ أنك كلَّما أُوذِيتَ في الدعوة إلى الله تعالى فإن ذلك زيادة أَجْرٍ لك من جِهة، وزيادةُ قوَّةٍ لدَعْوتك من جِهة أُخرى؛ لأن الإنسان إذا أُوذِيَ على شيء لا بُدَّ أن يَجِد مَن يَتَعاطَف معه كما تَقتَضِيه سُنَّة الله عز وجل، حتى الذين يَتكلَّمون بالباطِل إذا أُوذوا على باطِلهم وجَدوا مَن يَتَعاطَف معهم، فكيف مَن يَتكلَّم بالحقِّ.
ولهذا أنا أَدعو نَفْسي وإيَّاكم أن يَكون عِلْمنا مُنْسابًا إلى غيرنا، بمعنى أن نَنشُر العِلْم وأن نَدعوَ الناس إليه، صحيح أن حُضورنا إلى مَجلِس العِلْم وتَعلُّمَنا لا شَكَّ أن فيه فائِدة عظيمةً، وأنه مجَلِس من مَجالِس الذِّكْر، لكن يَنبَغي أن نَنشُر هذا العِلْمَ، وأنَّ نَدعوَ الناس إليه بقَدْر المُستَطاع.
وأمَّا أن نَبقَى كنُسَخ من كُتُب، الفائِدة لا تَعدو صُدورَنا، فهذا لا شَكَّ أنه ضعيف، ولا يَليق بطالِب العِلْم، وعلينا أن نَعرِف ما جرَى لأئِمَّة المسلمين وعُلَماء المسلمين رحمهم الله من الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ولَسْت بذلك أُريد أن تُكرِّسوا جُهودكم كُلَّها للدعوة، لأن الدعوة بلا عِلْم ضررُها أكثر من نَفْعها، كما يُوجِد من بعض الإِخْوة الحَريصين على الخير تَجِدهم يُضيِّعون أوقاتَهم في الزيارات إلى فُلان وإلى فُلان، وفي الخُروج، حتى إن العِلْم عندهم ليس بشيء، بل تَجِدهم يَكرَهون العِلْم والتَّعمُّق فيه، ويُريدون أن تكون دَعوَتُهم دعوةً سَطْحيَّة مُهلهَلة، أيُّ إنسان يَأتيهم يَقِفون! .
وأنا أُريد منكم أن تَكونوا عُلماءَ ربَّانين، دُعاةً إلى الخير مهما استَطَعْتم، وَيكون أَجْركم على الله سبحانه وتعالى؛ لأنَّ الإنسان مَسؤُول عن عِلْمه، فإن الله سبحانه وتعالى ما أَعطاك العِلْم إلَّا بميثاقٍ:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187].
وقوله سبحانه وتعالى: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ، يَعنِي: مُطَّلِع عليه، ومنه حالي معَكم، فهو مُطَّلِع عليه، مُطَّلِع على أني بلَّغْتكم وأَنذَرْتُكم، ومُطَّلِعٌ على أنَّكم كذَّبْتُموني وخالَفْتُموني، فأَجْري على الله سبحانه وتعالى، وعُقوبتكم على الله عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 21 - 26].
وهل الله عز وجل شهيد على ما في نَفْس الإنسان؟
الجوابُ: نعَمْ، شهيدٌ حتى على ما لا يَطَّلِع عليه أحَدٌ، فالله تعالى شهيد عليه.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَطلُب من أحَد أَجْرًا على تَبليغ الرِّسالة وإنذار الناس، من قوله:{مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: التَّنزُّل مع الخَصْم، أي: على فَرْض أني سأَلْت فهو لكم.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: تحريم أَخْذ الأَجْر على إبلاغ العِلْم الشَّرْعيِّ؛ ووجهُه: أنه مخُالِف لهَدْيِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من جِهة، ومن جِهة أُخرى: أن تَبليغ الشرع واجِبٌ على الإنسان، والواجِب لا يَجوز أن يَتَّخِذ الإنسان عليه أجْرًا.
فَإنْ قِيلَ: هل يَجوز أَخْذ الأُجْرة على تَعليم القُرآن؟
فالجوابُ: أن العُلماءَ رحمهم الله اختَلَفوا في ذلك على قولين لاختِلاف ظواهِر النُّصوص؛ فمِنهم مَن قال: إنه جائِز؛ لقول النبيِّ عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ الله"
(1)
؛ ولأنَّ هذا الرجُلَ لا يَأخُذ أَجْرًا على قِراءة القُرآن، ولو أخَذ أَجْرًا على قِراءة القُرآن قُلْنا: هذا حرام. لكنه أَخَذ أَجْرًا على التعليم
(1)
أخرجه البخارى: كتاب الإجارة، باب ما يعطى في الرقية، رقم (2276)، ومسلم: كتاب السلام، باب جواز أخذ الأجرة على الرقية، رقم (2201)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
والتَّعَب وتَلقين هذا الرجُلِ؛ ولذلك لو كانت المسألة واجِبةً عليه؛ بمَعنَى: لو كان يَجِب عليه أن يُعلِّم هذا الرجُلَ لكان أَخْذُ الأَجْر عليه حرامًا.
الوجه الثالث: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم جعَلَه عِوَضًا في النكّاح فقال: "زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ"
(1)
، وعِوَض النكّاح أَجْر؛ لقوله تعالى:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24]، فلمَّا جعَله النبيُّ عليه الصلاة والسلام عِوَضًا في النكّاح دلَّ ذلك على جواز أَخْذ العِوَض على تعليمه؛ ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَجاز أَخْذ قَطيع الغنَم في قِصَّة الجماعة الذين قرَؤُوا على سيِّد القوم الذي لُدِغ، وأَخَذوا عليه قطيعًا من الغَنَم فأَجازَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك، لا لأنهم قرَؤُوا القُرآن، ولكن لأنهم عالجَوا هذا اللَّديغَ.
وهذا هو الصحيح، أي: أنَّه يَجوز أَخْذ الأُجْرة على تعليم القرآن، لكن إن كان تعليمُ القُرآن واجِبًا، كما في صَدْر الإسلام فإن أَخْذ الأُجرة عليه حرام.
وهل يَجوز -على القول بأن أَخْذ الأُجْرة حرام- أخْذ رَزْق من بيت المال لمُعلِّم القُرآن؟
الجوابُ: نعَمْ؛ لأنَّ هذا ليس بأُجْرة؛ ولذلك جاز للمُؤذِّن والإمامِ أن يَأخُذ من بيت المال ما يَستَعين به على أَذانه وعلى إمامته.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: إخلاصُ النبيِّ عليه الصلاة والسلام في تَبليغه ودَعْوته؛ لقوله عز وجل: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} فإنه واضِحٌ أنه إنما يُريد الأَجْر من الله تعالى، وهذا هو الإخلاصُ.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن، رقم (5029)، ومسلم: كتاب النكاح، باب الصداق، رقم (1425)، من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: طُموحُ الرسول صلى الله عليه وسلم وعُلُوُّ هِمَّته، حيث اختار الأَجْر الأَوْفى على الأَجْر الأَدْنى؛ لقوله تعالى:{إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} .
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: تهديد الخَصْم بما تَقتَضيه أسماءُ الله تعالى وصفاتُه؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} فإن. في ذلك تَهديدًا لهم، يَعنِي: فسيَشهَد على تكذيبكم وعلى تَبليغه.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: الاستِشْهاد بإقرار الله سبحانه وتعالى الإنسانَ على صِدْق ما قال، تُؤخَذ من قوله تعالى:{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .
ويُؤيِّد ذلك قوله عز وجل: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} [النساء: 166]، قال العُلَماءُ رحمهم الله: شهادة الله تعالى لرسوله بأن ما جاءَه حَقٌ تَشمَل الشهادة القَوْلية والشهادة الفِعْلية، وهي إقرارُه على ما دعا إليه الناسَ، وعلى استِباحة أموالهم ودِمائِهم وأهلِهم إذا لم يَستَجيبوا له.
* * *