الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (42)
* * *
* قالَ الله عز وجل: {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سبأ: 42].
* * *
قوله سبحانه وتعالى: {فَالْيَوْمَ} : (أل) هنا للعَهْد الذِّكْري، والمَذكور هو قولُه سبحانه وتعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} أي: فاليَوْم الذي نَحشُرهم فيه لا يَملُك بعضُكم لبَعْض نَفْعًا ولا ضَرًّا.
وقوله تعالى: {فَالْيَوْمَ} نُصِبَت على الظَّرْفية، والعامِل فيها قوله سبحانه وتعالى:{لَا يَمْلِكُ} يَعنِي: فلا يَملِك اليومَ بَعضُكم لبَعْض، أي: بعض المَعبُودين للعابِدين {نَفْعًا} شفاعةً {وَلَا ضَرًّا} تَعذيبًا].
وقوله تعالى: {لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ} الذي انتَفَى نَفْعُه المعبودُ؛ لأنَّ العابِد يَرجو من وَراء المَعبود النَّفْعَ أو الضرَر.
فنَقول: لا يَملِك العابِد للمَعبود ضَرًّا ولا نَفْعًا، كما أنه لا يَملِك المَعبود للعابد ضَرًّا ولا نَفْعًا.
فَإنْ قِيلَ: ما الحِكْمة في أنَّ الله عز وجل قال: {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ} وجعَله مُبهَمًا ليَشمَل العابِد والمعبود والتابع والمَتبوع؛ فكلُّ أحَدٍ يوم القِيامة لا يَملِك لأَحَدٍ نَفْعًا ولا ضَرًّا، وقول المُفَسِّر رحمه الله:[شَفَاعَةً] مع أن كلِمة (نَفْع) أعَمُّ من
الشفاعة، لكن كأنه رحمه الله قيَّدها بالشفاعة؛ لقولهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، فادَّعَوْا أنَّ عِبادتهم إيَّاهم من أجل أَنْ تَشفَع لهم عند الله عز وجل وتُقرِّبهم إليه.
قوله سبحانه وتعالى: {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} يَعنِي: نَفْعًا في عِبادتكم إيَّاهم بالشفاعة، والأصَحُّ: وبغيرها.
{وَلَا ضَرًّا} بعدَم عِبادتكم إيَّاهم، أي: أنهم إذا لم تَعبُدوهم فإنهم لن يَضُرُّوكم، وكما أنهم لا يَملِكون في ذلك اليومِ لا نَفْعًا ولا ضَرًّا، فكذلك لا يَملِكون في الدُّنْيا نَفْعًا ولا ضَرًّا.
فإن قلت: إنَّه قد يَعبُد الإنسان غَيرَ الله تعالى، فيَدعوه لكَشْف ضُر فيَنكَشِف ذلك الضُّرُّ، فما الجوابُ عن هذه الآية وغيرِها؟
فالجوابُ: إن هذا الذي حصَل لم يَحصُل بالدعاء أو بالعِبادة ولكن حصَل عنده، فليس ذلك سببًا.
فإذا قُلْتَ: قولكَ: إنه حصَل عنده. هذه دَعوى تَحتاج إلى بُرهان، وإلَّا لكان الواجِبُ أن يُحال الأمر على الشيء أو على السبب الظاهِر، وهو دُعاء هذه الأصنامِ. فهذه الاعِتراض يَعنِي: أنك قد تَقول: إن هذا الشيءَ حصَل عند الدُّعاء لا بالدُّعاء. فيُقال لك: هذه دَعوَى مِنك، ما دامَ دعا هذا الصَّنَمَ أن يَشفِيَه فشُفِيَ، فالأصل إحالة الحُكْم على السبَب الظاهِر، وهو هذا الدعاءُ فدَعوَى أنه حصَل بغير هذا السبَبِ الظاهِر تَحتاج إلى دَليل!
فالجوابُ: أن لَدينا دليلًا على ذلك وهو قوله سبحانه وتعالى: {وَيَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، وقال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5].
فهاتان الآيتان وما أَشبَههُما كلُّها تَدُلُّ على أنَّ هذه الأصنامَ لا تَنفَع لا بجَلْب نَفْع ولا بدَفْع ضَرَر، فإن وُجِد شيءٌ حصَل بعد الدُّعاء فقد حصَل عنده لا به.
فإن قُلْتَ: كيف يَكون هذا الشيءُ؟ وما الحِكْمة من أن الله عز وجل يَجعَل حدوث هذا النَّفْعِ أو اندِفاع هذا الضرَرِ عند دُعاء هذه الأَصنامِ؟
نَقول: فِتْنةً وامتِحانًا، فإن الله سبحانه وتعالى قد يَمتَحِن العبد بالشيء المُحرَّم يُصِرُّ عليه، أو يَبتليه بالشيء المُحرَّم يَمتَنِع منه، والله على كل شيءٍ قديرٌ.
وقوله تعالى: {وَنَقُولُ} مَعطوف على قوله تعالى: {لَا يَمْلِكُ} يَعنِي: واليَوْم نَقول للذين ظلَموا.
الظُّلْم في اللغة: النَّقْص هذا هو الأصل، ومنه قوله تعالى:{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33] أي: لم تَنقُص.
وأمَّا في الاصطِلاح أو في الشَّرْع: فهو نَقْص ذَوِي الحَقَّ حَقَّهم؛ إمَّا بالمُماطَلة بالواجِب، وإمَّا بانتِهاك المُحرَّم، نَقْص ذَوِي الحقِّ حَقَّه، إمَّا بالمُماطَلة في الواجِب مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ)
(1)
، وإمَّا بالاعتِداء على حقِّه كقوله تعالى:{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42].
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الحوالات، باب الحوالة وهل يرجع في الحوالة، رقم (2287)، ومسلم: كتاب المساقاة، باب تحريم مطل الغني وصحة الحوالة، رقم (1564)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقول المُفَسِّر رحمه الله: [{لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} كَفَرُوا، وهذا تَفسير بالمَعنَى لا بالمُراد؛ لأن الظُّلْم من حيث المَعنى أعَمُّ من الكُفْر، لكنَّ المُفَسِّر رحمه الله يَقول: إنه يُراد بالظُّلْم هنا ظُلْم الكُفْر، كقوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]، وقوله تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، وقوله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82].
فالظُّلْم قد يُراد به بالكُفْر، وكأنَّ المُفَسِّر رحمه الله خصَّ الظُّلْم بالكُفْر هنا، بدليل السِّياق:{وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} هذا ممَّا يَدُلُّ على أن المُراد بالظُّلْم هنا ظُلْم الكُفْر؛ لأنَّ الذي يُكذَّب بالنار حُكْمه كافِر؛ لتكذيبه خبَرَ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله سبحانه وتعالى: {ذُوقُوا} فِعْل الأَمْر، لكنه يُراد به الإهانة؛ يَعنِي: يُقال لهم إهانةً: {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} أي: أنَّ النار ستُصيبكم حتى تَذوقوها كما تَذوقون الطعام.
وقوله تعالى: {الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} كانوا يُكذِّبون بالنار لأنهم يُنكِرون البَعْث، والنار إنما تَكون بعد البَعْث، وهم يُكذِّبون بذلك، ومن بابِ أوْلى أن يُكذِّبوا بما يَكون في القَبْر من العَذاب، فهم يُكذِّبون تَكذيبًا كامِلًا وَيقولون: إن الرُّوح إذا خرَجَت من الجَسَد لن تَعود إليه، وهنا قال عز وجل:{الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} ، وفي سورة {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة؛ قال تعالى:{ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20].
فعلى هاتين الآيَتين يَكون الوَصْف بالتَّكذيب، مرَّةً بالنار ومرَّة بعَذابها، فهُمْ أحيانًا يُنكِرون النار وأحيانًا يُكذِّبون التعذيب بالنار، وَيقولون: كيف نُعذَّب بالنار؟
وكيف نَبقَى أحقابًا ونحن في النار، والإنسان إذا دخل في النار احتَرَق وانتَهَى؟ ! فيُكذِّبون بالعَذاب، وأحيانًا يُكذبون بالنار نفسها.
وقوله تعالى: {الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} الجارُّ والمَجرور مُتعلِّق بـ {تُكَذِّبُونَ} ، ولكنه قُدِّم للفَواصِل من جِهة، وللحَصْر من جهة أخرى، ولكنَّنا إذا قُلْنا: إنه للحَصْر. يَرِد علينا إِشْكال وهو أنهم كذَّبوا بالنار وبغيرها، فيُقال: لمَّا كان العذاب بالنار ذُكِّروا بتكذيبهم بها خاصَّة؛ لأنهم عُذِّبوا بها فكأنه قِيل لهم: عُذِّبتم بشيء أنتُمْ كُنْتم تُكذِّبون به، وإلا فلَهُم تَكذيبٌ آخَرُ.
* * *