المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌«ليس بكاذب من أصلح بين الناس - إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌المثال الرابع: أن يخاف أن يُؤجِره مالا يملك

- ‌المثال الثالث عشر: إذا اشترى دارًا أو أرضًا، وخاف أن تخرج وقفًا أو مستحقة

- ‌ الأمَةُ المشتراة إذا وطئها، ثم استُحِقّت لم يلزمه المهر

- ‌المثال الخامس عشر: إذا وكّله في بيع جارية، ووكّله آخر في شرائها

- ‌تلخَّص في المسألة أربعة مذاهب:

- ‌المثال الخامس والسبعون: إذا أقرضه مالًا وأجَّله لزم تأجيله على أصح المذهبين

- ‌ الحيلة في تصحيح الرهن والوثيقة

- ‌الثاني: ما لا يظهر ذلك فيه

- ‌الطريق الخامسة: طريق مَنْ يُفصّل بين الحلف بصيغة الشرطِ والجزاءِ، والحلف بصيغة الالتزام:

- ‌التزامُ التطليق لا يوجب وقوعَ الطلاق

- ‌الوجه الرابع: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة

- ‌فصلوأما استدلالكم بالمعاريض على جواز الحيل

- ‌«ليس بكاذبٍ من أصلح بين الناس

- ‌ المحبة والإرادة أصلٌ للبغض والكراهة، وعِلّةٌ لهما من غير عكسٍ

- ‌ الصافات صفا

- ‌الملائكةُ الموكَّلة بالإنسان من حين كَوْنه نطفةً إلى آخر أمره

- ‌ العبادة تَتَضَمّن غاية الحُبّ بغاية الذّلّ

- ‌التوحيد ملجأ الطالبين، ومفزع الهاربين، ونجاة المكروبين، وغياث الملهوفين

- ‌قد قيل: إن فساد القَصْدِ من فساد العلم

- ‌المحبة مع الله: أصل الشرك

- ‌ومنهم من يرى أن التحريم إنما هو إكراه الصبي على(2)فعل الفاحشة

- ‌العشق المحرَّم من أعظم الغَيّ

- ‌أصلُ الغيّ من الحبّ لغير الله

- ‌أصحاب العشق الشيطاني لهم مِن تَوَلَّي الشيطان والإشراك به بقَدْر ذلك

- ‌ العِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالمَجَانِينِ

- ‌ افتتانِ المشركين بفقراء المهاجرين

- ‌الفتنة لا بدّ منها في الدنيا والآخرة

- ‌ اتباع الهوى يُضلّ عن سبيل الله

- ‌ بالصبر واليقين تُنالُ الإمامة في الدين

- ‌البصائر: جمع بَصيرة، وهى فعيلة بمعنى مُفْعِلَة

- ‌ الإبصار يستعمل لازمًا ومتعديًا

- ‌الرحمةُ المقارنةُ للهدى في حَقِّ المؤمنين: عاجلة وآجلة

- ‌ وَسِعَ رَبُّنا كلَّ شيء رحمةً وعلمًا

- ‌لا بد من حصول الألم والمحنة لكل نفس

- ‌{قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً

- ‌ محبة المخلوق إذا لم تكن لله فهي عذاب للمُحبِّ ووبال

- ‌فصلفى بيان كيد الشيطان لنفسه، قبل كَيده للأبوين

- ‌ وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليُسرى

- ‌ قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}

- ‌(مِنْ) لا تدخل إلا على مفعول لا مفعول دونه

- ‌ هلالُ بن المحسن الصابئ

- ‌الحكمة التي جاءت بها الرسُلُ

- ‌ فلاسفة اليونان

- ‌اتخذ للملاحدة مدارسَ، ورامَ جَعْلَ «إشارات» إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن

- ‌ثم كان لهم مجمع عاشر:

- ‌وأما تلاعبه بهم في صلاتهم فمن وجوه:

- ‌هم أبدًا يعتقدون الصواب والحق مع مَنْ يُشَدّدُ ويُضَيّقُ

- ‌أعزّ ما صادفه الإسلام من هذه الأمة: يهود خيبر، والمدينة

الفصل: ‌«ليس بكاذب من أصلح بين الناس

وكذلك قال يوسف عليه السلام لما عُرض عليه أن يأخذ أحدهم مكان أخيهم: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف: 79]، ولم يقل:[115 ب] أن نأخذ إلا من سرق؛ فإن المتاع كان موجودًا عنده، ولم يكن سارقًا، وهذا من أحسن المعاريض.

وقد قال نصر بن حاجب: سئل سفيان بن عُيينة

(1)

عن الرجل يعتذر إلى أخيه من الشيء الذي قد فعله، ويحرف القول فيه ليرضيه؛ أيأثم في ذلك؟ فقال: ألم تسمع قوله عليه الصلاة والسلام: ‌

‌«ليس بكاذبٍ من أصلح بين الناس

، فكذب فيه»

(2)

؟

فإذا أصلح بينه وبين أخيه المسلم كان خيرًا من أن يصلح بين الناس بعضهم في بعض، وذلك أنه أراد به مَرْضاة الله، وكراهية أذى المؤمن، ويندم على ما كان منه، ويدفع شرَّه عن نفسه، ولا يريد بالكذب اتخاذ المنزلة عندهم، ولا طمعًا في شيء يصيب منهم؛ فإنه لم يرخَّص في ذلك، ورخَّص له إذا كره مَوجِدَتَهُمْ وخاف عداوتهم.

قال حُذيفة بن اليمان

(3)

رضي الله عنه: إني أشتري ديني بعضه ببعض؛

(1)

ذكره من هذه الطريق ابن تيمية في بيان الدليل (ص 209)، ورواه ابن عبد البر في التمهيد (16/ 250) بإسناده عن نعيم بن حماد قال: قلت لسفيان بن عيينة: أرأيت الرجل يعتذر إليّ من الشيء عسى أن يكون قد فعله ويحرّف فيه القول

وذكره.

(2)

أخرجه البخاري (2692)، ومسلم (2605) عن أم كلثوم بنت عقبة.

(3)

رواه في المخارج في الحيل (ص 6) من طريق مسعر بن كدام، وابن أبي شيبة (6/ 474) والطبري في تهذيب الآثار (238 ــ مسند علي ـ) وأبو نعيم في الحلية (1/ 279) ــ وعنه ابن عساكر في تاريخه (12/ 294) ــ من طريق الأعمش، كلاهما عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة عن حذيفة بنحوه وفيه قصّة. ورواه ابن أبي شيبة (6/ 474) وابن عبد البر في التمهيد (24/ 315) من طريق أبي قلابة عن حذيفة مختصرًا.

ص: 823

مخافة أن أتقدم على ما هو أعظم منه.

قال سفيان

(1)

: وقال الملكان: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22]، أرَادَا مَعْنَى شيء، ولم يكونا خَصْمَين، فلم يصيرا بذلك كاذبين، وقال إبراهيم عليه السلام:{إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وقال:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وقال يوسف عليه السلام:{إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} ، أراد بمعنى أخيهم

(2)

.

فبيّن سفيان أن هذا كله من المعاريض المباحة، مع تسميته كذبًا، وإن لم يكن في الحقيقة كذبًا.

وقد احتج بعضُ الفقهاء بقصة يوسف على أنه يجوز للإنسان التوصّلُ إلى أخذ حقِّه من الغير، بما يمكنه الوصول إليه بغير رضا من عليه الحق.

قال شيخنا

(3)

رحمه الله: وهذه الحجة ضعيفة؛ فإن يوسف عليه السلام لم يكن يملك حبسَ أخيه عنده بغير رضاه، ولم يكن هذا الأخ ممن ظلم يوسف، حتى يقال: قد اقتصّ منه، وإنما سائر الإخوة هم الذين كانوا قد فعلوا ذلك، نعم كان تخلّفه عنهم مما يؤذيهم لتأذّي أبيهم، وللميثاق الذي

(1)

ذكره بهذا اللفظ ابن تيمية في بيان الدليل (ص 210)، ورواه ابن عبد البر في التمهيد (16/ 250، 251) بنحوه. وفيه: «وإنما أرادا الخير والمعنى الحسن» . وهو أوضح.

(2)

كذا في الأصل. وفي بعض المراجع: «معنى أمرهم» .

(3)

في بيان الدليل (ص 211).

ص: 824

أخذه عليهم، وقد استثنى في الميثاق بقوله:{إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66]، وقد أحيط بهم.

ويوسف عليه السلام لم يكن قصده باحتباس أخيه الانتقام من إخوته؛ فإنه كان أكرمَ من هذا وإن كان في ضمن ما فعل من تأذّي أبيه أعظمُ من أذى إخوته؛ فإنما ذلك أمرٌ أمره الله تعالى به ليبلُغَ الكتاب أجله، ويَتِمّ البلاء الذي استحق به يوسف ويعقوب عليهما السلام كمال الجزاء، وعلوّ المنزلة، وتبلغ حكمة الله تعالى التي قدّرها وقضاها نهايتها.

ولو فُرِضَ أن يوسف عليه السلام قصد الاقتصاص منهم بما فعل فليس هذا بموضع خلاف بين العلماء؛ فإن الرجل له أن يُعاقب بمثل ما عُوقب به، وإنما موضع الخلاف: هل له أن يخونه، كما خانه، أو يسرقه كما سرقه؟ ولم تكن قصة يوسف عليه السلام من هذا النوع.

نعم، لو كان يوسف عليه السلام أخذ أخاه بغير أمره لكان لهذا المحتجّ شُبهةٌ، مع أنه لا شبهة له أيضًا على هذا التقدير؛ فإن مثل هذا لا يجوز في شرعنا بالاتفاق، ولو كان يوسف قد أخذ أخاه واعتقله بغير رضاه كان في هذا ابتلاءٌ من الله تعالى لذلك المعتقل، كأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه، فيكون المبيح له على هذا التقدير وحيًا خاصًّا، كالوحي إلى إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه

(1)

، وتكون حكمته في حق الأخ امتحانه وابتلاءه؛ لينال درجة الصبر على حكم الله، والرضا بقضائه، ويكون حالُه في هذا كحال أبيه يعقوب عليه السلام في احتباس يوسف عليه السلام عنه.

(1)

«فيكون المبيح

ابنه» ساقطة من م.

ص: 825

وقد دل على هذا نسبةُ الله سبحانه ذلك الكيد إلى نفسه بقوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76]، وهو سبحانه ينسبُ إلى نفسه أحسن هذه المعاني، وما هو منها حكمة وحقٌّ وصوابٌ، وجزاءٌ للمسيء، وذلك غايةُ العدل والحق، كقوله:{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15، 16]، وقوله:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54]، وقوله:{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15]، وقوله:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، وقوله:{وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 183].

فهذا منه سبحانه في أعلى مراتب الحسن، وإن كان من العبد قبيحًا [116 أ] سيئًا؛ لأنه ظالم فيه، ومُوقعه بمن لا يستحقه، والرب تعالى عادل فيه، موقعه بأهله ومَن يستحقه، سواءً قيل: إنه مجاز للمشاكلة الصورية، أو للمقابلة، أو سماه كذلك مشاكلةً لاسم ما فعلوه، أو قيل: إنه حقيقة، وإنّ مسمّى هذه الأفعال ينقسم إلى مذموم ومحمود، واللفظ حقيقةٌ في هذا وهذا، كما قد بسطنا هذا المعنى، واستوفينا عليه الكلام في كتاب «الصواعق»

(1)

.

فصل

وإذا عُرف ذلك، فيوسف صلوات الله عليه وسلامه كِيدَ من وجوه عديدة:

أحدها: أن إخوته كادوه، حيثُ احتالوا في التفريق بينه وبين أبيه، كما قال له يعقوب صلوات الله وسلامه عليه:{لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5].

(1)

انظر مختصر الصواعق (ص 248 وما بعدها).

ص: 826

وثانيها: أنهم كادوه، حيثُ باعوه بيعَ العبيد، وقالوا: إنه غلام لنا أبَقَ.

وثالثها: كيد امرأة العزيز له بتغليق الأبواب، ودعائه إلى نفسها.

ورابعها: كيدها له بقولها: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25]، فكادته بالمراودة أولًا، وكادته بالكذب عليه ثانيًا، ولهذا قال لها الشاهد لما تبيَّن له براءة يوسف عليه السلام:{إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28].

وخامسها: كيدها له حيث جمعت له النسوة، وأخرجته عليهنّ، تستعين بهنّ عليه، وتستعذر إليهنّ من شغفها به.

وسادسها: كيد النسوة له، حتى استجار بالله تعالى من كَيْدِهِنّ، فقال:{وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف: 33، 34]، ولهذا لما جاءه الرسول بالخروج من السجن قال له:{ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50].

فإن قيل: فما كان مكر النسوة اللاتي مَكَرْن به، وسمعت به امرأة العزيز؟ فإن الله سبحانه لم يقصَّه في كتابه.

قيل: بل قد أشار إليه بقوله: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف: 30]، وهذا الكلام متضمن لوجوه من المكر:

أحدها: قولهنّ: {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} ، ولم يسمُّوها

ص: 827

باسمها، بل ذكروها بالوصف الذي ينادي عليها بقبيح فعلها، بكونها ذات بَعْل، فصدور الفاحشة منها أقبح من صدورها ممَّن لا زوج لها.

الثاني: أن زوجها عزيز مصر ورئيسها وكبيرها، وذلك أقبح لوقوع الفاحشة منها.

الثالث: أن الذي همَّ

(1)

بها مملوك لا حُرّ، وذلك أبلغ في القبح.

الرابع: أنه فتاها الذي هو في بيتها وتحت كَنَفها، فحكمه حكم أهل البيت، بخلاف من طلب ذلك من الأجنبي البعيد.

الخامس: أنها هي المراوِدةُ الطالبة.

السادس: أنها قد بلغ بها عشقها له كلَّ مبلغٍ، حتى وصل حُبّها له إلى شغاف قلبها.

السابع: أنه في ضمن هذا أنه أعفَّ منها، وأبرّ، وأوفى، حيث كانت هي المراوِدة الطالبة، وهو الممتنع: عَفافًا وكرمًا وحياءَ، وهذا غاية الذمّ لها.

الثامن: أنهنّ أتين بفعل المراودة بصيغة المستقبل الدالَّة على الاستمرار والوقوع حالًا واستقبالًا، وأن هذا شأنها، ولم يقلن: راودت فتاها.

وفرقٌ بين قولك: فلان أضاف ضيفًا، وفلان يقرى الضيف، ويطعم الطعام، ويحمل الكَلّ، فإن هذا يدلُّ على أن هذا شأنه وعادته.

التاسع: قولهن: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ، أي: إنا لنستقبح منها ذلك غاية الاستقباح، فَنَسَبْنَ الاستقباح إليهن، ومن شأنهِنّ مساعدة بعضهن بعضًا

(1)

«همَّ» ساقطة من النسخ، واستدركت من ح.

ص: 828

على الهوى، ولا يكَدْن يرين [116 ب] ذلك قبيحًا، كما يساعد الرجال بعضهم بعضًا على ذلك، فحيث استقبحن منها ذلك كان هذا دليلًا على أنه من أقبح الأمور، وأنه مما لا ينبغي أن تُساعَد عليه، ولا يحسن معاونتها عليه.

العاشر: أنهنّ جمعن لها في هذا الكلام واللوم بين العشق المُفْرَط والطلب المُفْرَط، فلم تقتصد في حُبِّها ولا في طلبها، أما العشق فقولهن:{قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} ، أي: وصل حُبّه إلى شغاف قلبها، وأما الطلب المفرط فقولهن:{تُرَاوِدُ فَتَاهَا} ، والمراودة: الطلب مرة بعد مرة، فنسبوها إلى شدة العشق، وشدة الحرص على الفاحشة.

فلما سمعت بهذا المكر منهن هيأت لهنّ مكرًا أبلغ منه، فهيَّأت لهنَّ مُتكًا، ثم أرسلت إليهن، فجمعتهن، وخبأت يوسف عليه السلام عنهن، وقيل: إنها جَمّلته وألبسته أحسن ما تقدر عليه، وأخرجته عليهن فجأة، فلم يَرُعْهُنَّ إلا وأحسنُ خلق الله وأجملُه قد طلع عليهنَّ بغتةً، فراعهن ذلك المنظرُ البهيُّ، وفى أيديهن مُدًى يَقْطَعْنَ بها ما يأكلنه، فدُهِشْنَ حتى قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ وهُنّ لا يشعرن.

وقد قيل: إنهن أبَنّ أيديهن، والظاهر خلاف ذلك، وإنما تقطيعهن أيديهن: جَرحُها وشقُّها بالمُدى لِدهَشِهنّ بما رأين، فقابلت مكرهن القولي بهذا المكر الفعلي، وكانت هذه في النساء غايةً في المكر.

والمقصود أن الله سبحانه كاد ليوسف عليه السلام: بأن جمع بينه وبين أخيه، وأخرجه من أيدي إخوته بغير اختيارهم، كما أخرجوا يوسف من يد أبيه بغير اختياره.

ص: 829

وكاد له بأن أوقفهم بين يديه مَوْقِفَ الذليل الخاضع المُسْتَجْدي، فقالوا:{يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف: 88]، فهذا الذل والخضوع له في مقابلة ذلِّه وخضوعه لهم يومَ إلقائه في الجُبّ، وبيعِه بيعَ العبيد.

وكاد له بأن هَيّأ له الأسباب التي سجدوا له هم وأبوه وخالته في مقابلة كيدهم له، حذرًا من وقوع ذلك، فإن الذي حملهم على إلقائه في الجبّ خشيتهم أن يرتفع عليهم حتى يسجدوا له كلهم، فكادوه خشية ذلك، فكاد الله تعالى له حتى وقع ذلك، كما رآه في منامه.

وهذا كما كاد فرعون بني إسرائيل: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4]، خشية أن يخرج فيهم من يكون زوال ملكه على يديه، فكاده الله سبحانه بأن أخرج له هذا المولود، وربّاه في بيته، وفى حِجْره، حتى وقع به منه ما كان يحذره، كما قيل:

وَإذَا خَشِيتَ مِنَ الأُمُورِ مُقَدَّرًا

وَفَرَرْتَ مِنْهُ فَنَحْوَهُ تَتَوَجَّهُ

(1)

فصل

وكيد الله سبحانه لا يخرج عن نوعين:

أحدهما: أن يفعل سبحانه فعلًا خارجًا عن قدرة العبد الذي كاد له، فيكون الكيدُ قَدَرًا مَحْضًا، ليس من باب الشرع، كما كاد الذين كفروا بأن

(1)

البيت لابن الرومي في التمثيل والمحاضرة (ص 101)، والتذكرة الحمدونية (7/ 33)، ومجموعة المعاني (ص 11)، ونهاية الأرب (3/ 95). وليس في ديوانه.

ص: 830

انتقمَ منهم بأنواع العقوبات، وكذلك كانت قصةُ يوسف عليه السلام، فإن يوسف أكثرُ ما قدر عليه أن ألقى الصُّواع في رَحْل أخيه، وأرسل مؤذِّنًا يؤذِّن:{أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70]، فلما أنكروا قال:{فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 74، 75]، أي: جزاؤه استعبادُ المسروق ماله للسارق: إما مطلقًا، وإما إلى مُدَّةٍ، وهذه كانت شريعة آل يعقوب عليه السلام، حتى قيل: إن مِثْلَ هذا كان مشروعًا في أول الإسلام: أن المَدِين إذا أعسَرَ بالدين اسْترقّه صاحبُ الحق.

وعليه حُمِلَ حديثُ بيع النبيِّ صلى الله عليه وسلم سُرَّقًا

(1)

.

وقد قيل: بل كان بيعه إيّاه إيجاره

(2)

لمن يستعمله، وقضاء دينه بأجرته، وعلى هذا فليس بمنسوخ، [117 أ] وهو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى: أن المفلِس إذا بقيت عليه ديون، وله صَنعة، أُجْبِر على إجارته نفسه، أو آجَره الحاكم، ووفّى دينه من أجرته.

(1)

هو سُرَّق بضمّ أوّله وتشديد الراء المفتوحة وقيل: بتخفيفها، ابن أسد الجهني، وقيل غير ذلك، صحابيّ جليل سكن مصر، قَدِم المدينةَ وأخبر الصحابةَ أنّ ماله سيقدم، فبايعوه فاستهلك أموالهم، فأتوا به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال:«أنت سُرّق» ، وباعه بأربعة أبعرة، ثم أعتقوه. روى خبرَه هذا ابن عبد الحكم في فتوح مصر (ص 347)، والروياني (1487)، والطحاوي في شرح المعاني (5692)، وابن عدي في الكامل (4/ 299)، والدارقطني (3/ 62)، والبيهقي في الكبرى (6/ 50) وقال:«في إجماع العلماء على خلافه دليلٌ على ضعفه، أو نسخه إن كان ثابتًا» ، وصححه الحاكم (2330)، وابن عبد الهادي في التنقيح (4/ 130)، وحسنه الألباني في الإرواء (1440).

(2)

م: «إعساره» . وهو تحريف، والمثبت من باقي النسخ.

ص: 831

وكان إلهامُ الله تعالى لإخوة يوسف عليه السلام قولهم: {مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75] كيدًا من الله تعالى ليوسف عليه السلام، أجراه على ألسُن إخوته، وذلك خارجٌ عن قدرته، وكان يمكنهم أن يتخلَّصوا من ذلك بأن يقولوا: لا جزاءَ عليه حتى يثبت أنه هو الذي سَرَق، فإن مجرد وجوده في رحله لا يُوجِبُ أن يكون سارقًا، وقد كان يوسف عليه السلام عادلًا لا يأخذهم بغير حجة.

وكان يمكنهم التخلُّص أيضًا بأن يقولوا: جزاؤه أن يُفعل به ما تفعلونه بالسُّرَّاق في دينكم، وقد كان من دين ملك مصر فيما ذُكِرَ: أن السّارق يُضْرَبُ ويُغرّم قيمة المسروق مرتين، فلو قالوا له ذلك لم يمكنه أن يُلزمهم بما لا يُلزِم به غيرهم، فلذلك قال سبحانه:{كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76]، أي: ما كان ليمكنه أخذه في دين ملك مصر، لأنه لم يكن في دينه طريق إلى أخذه.

وقوله: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76] استثناء منقطع، أي: لكن إن شاء الله أخَذَه بطريق آخر.

ويجوز أن يكون متصلًا، والمعنى: إلا أن يُهَيّئ الله سببًا آخر يؤخَذُ به في دين الملك غيرَ السرقة.

وفي هذه القصة تنبيه على الأخذ باللَّوث الظاهر في الحدود، وإن لم تَقُمْ بَيّنة ولم يحصل إقرار، فإن وجود المسروق مع السارق أصدقُ من البينة، فهو بَيّنة لا تلحقها التهمة، وقد اعتبرَتْ شريعتنا ذلك في مواضعَ:

منها: اللَّوْثُ في القَسامة، والصحيح: أنها يُقاد بها، كما دل عليه النص

ص: 832

الصحيح الصريح

(1)

.

ومنها: حد الصحابة رضي الله عنهم في الخمر بالرائحة والقَيْء

(2)

.

ومنها: حَدّ عمر رضي الله عنه في الزنى بالحَبَل، وجعله قَسيم الاعتراف والشهادة

(3)

.

فوجود المسروق مع السارق إن لم يكن أظهر من هذا كله، فليس دونه.

فلما فتَّشوا متاعه فوجدوا فيه الصواع، كان ذلك قائمًا مقام البينة والاعتراف، فلهذا لم يمكنهم أن يتظلَّموا مِنْ أَخْذِهِ، ولو كان هذا ظلمًا لقالوا: كيف يأخذه بغير بيِّنة ولا إقرار؟

وقد أشبعنا الكلام في ذلك في كتاب «الإعلام باتساع طرق الأحكام»

(4)

.

والمقصود: أنه ليس في قصة يوسف عليه السلام شبهة، فضلًا عن الحُجَّة لأرباب الحيل.

فإنا إنما تكلّمنا في الحيل التي يفعلها العبد، وحكمها في الإباحة والتحريم، لا فيما يكيد الله سبحانه وتعالى لعبده، بل في قصة يوسف عليه

(1)

وهو حديث سهل بن أبي حثمة الذي أخرجه البخاري (6898)، ومسلم (1669).

(2)

أخرجه البخاري (5001)، ومسلم (801)، وأما بالقيء فأخرجه مسلم (1707/ 38).

(3)

أخرجه البخاري (6830)، ومسلم (1631).

(4)

لعله المطبوع بعنوان «الطرق الحكمية في السياسة الشرعية» ، ففي أوله تفصيل الكلام في هذا الموضوع، وفيه ذكر جميع الطرق التي يحكم بها الحاكم، وقد بلغت ستًّا وعشرين طريقة. ومحتواه مناسب للعنوان المذكور هنا (الإعلام باتساع طرق الأحكام).

ص: 833

السلام تنبيه على أن من كاد غيره كيدًا مُحَرَّمًا فإن الله سبحانه وتعالى لابدَّ أن يكيده، وأنه لا بدَّ أن يكيدَ للمظلوم إذا صبر على كيد كائده، وتلطّف به، فالمؤمن المتوكل على الله إذا كاده الخلق فإن الله تعالى يكيدُ له، ويَنتصر له، بغير حَوْل منه ولا قوة.

فهذا أحد النوعين من كيده سبحانه لعبده.

النوع الثاني: أن يُلهمه أمرًا مباحًا، أو مستحبًّا، أو واجبًا، يوصله إلى المقصود الحسن، فيكون على هذا إلهامه ليوسف عليه السلام أن يفعل ما فعل: هو من كيده سبحانه أيضًا، فيكون قد كاد له نَوْعَي الكيد، ولهذا قال سبحانه:{اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} [يوسف: 76].

وفى ذلك تنبيه على أن العلم الدقيق بلطيف الحيل الموصلة إلى المقصود الشرعي، الذي يحبُّه الله تعالى ورسوله مِنْ نَصْر دينه، وكَسْر أعدائه، ونصر المحقّ، وقمع المبطل صفةُ مَدْحٍ يَرفعُ الله تعالى بها درجة العبد. كما أن العلم الذي يَخْصِمُ به المبطلَ، ويَدْحَض حجته، صفة مدح يرفعُ الله بها درجة عبده، كما قال سبحانه في قصة إبراهيم عليه السلام، ومناظرته قومَه، وكَسْر حُجْتهم:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83].

[117 ب] وعلى هذا فيكون من الكيدِ ما هو مشروع، ولكن ليس هو الكيد الذي تُستحَلّ به المحرَّمات، وتسقط به الواجبات، فإن هذا كيدٌ لله تعالى ودينه، فالله سبحانه ودينه هو المَكِيدُ في هذا القسم، فمحالٌ أن يشرع الله سبحانه هذا النوع من الكيد.

ص: 834

وأيضًا فإن هذا الكيد لا يتمّ إلا بفعلٍ يُقصد به غير مقصوده الشرعي، ومحالٌ أن يشرعَ الله تعالى لعبد أن يقصد بفعله ما لم يشرع الله ذلك الفعل له.

وأيضًا فإن الأمر المشروع هو عامٌّ لا يختص به شخص دون شخص، فالشيء إذا كان مباحًا لشخص كان مباحًا لكلّ من كان حاله مثل حاله، فمن احتال بحيلةٍ فقهيةٍ محرّمة أو مباحة لم يكن له اختصاصٌ بتلك الحيلة، لا بفَهْمها ولا بعِلْمها.

وإنما خاصِّيَّةُ الفقيه إذا حدثت حادثة أن يَتفطّنَ لاندراجها تحت الحكم العامِّ الذي يعلمه هو وغيره، والله سبحانه إنما كاد ليوسف عليه السلام كيدًا خاصًّا به، جزاءً له على صبره وإحسانه، وذَكَره في معرض المِنّة عليه، وهذه الأفعال التي فعلها يوسف عليه السلام والأفعالُ التي فعلها الله سبحانه له، إذا تأمَّلها اللبيب رآها لا تخرج عن نوعين:

أحدهما: إلهامُ الله سبحانه له فعلًا، كان مباحًا له أن يفعله.

الثاني: فعلٌ من الله سبحانه به، خارج عن مقدور العبد.

وكلا النوعين مباين للحيل المحرَّمة، التي يُحتال بها على إسقاط الواجبات وإباحة المحرمات.

فصل

لعلك تقول: قد أطلتَ الكلام في هذا الفصل جدًّا، وقد كان يكفي الإشارة إليه.

فيقال: بل الأمر أعظم مما ذكرنا، وهو بالإطالة أجدر، فإن بلاء الإسلام ومحنته عظمت من هاتين الطائفتين:

ص: 835

أهل المكر والمخادعة والاحتيال في العَمَلِيَّات.

وأهل التحريف والسَّفْسَطَةِ والقَرْمَطة في العِلْميَّات.

فكلُّ فساد في الدين بل والدنيا فمَنْشَؤُه من هاتين الطائفتين. وبالتأويل الباطل قُتل عثمان رضي الله عنه، وعاثت الأمَّة في دمائها، وكفّر بعضُها بعضًا، وتفرقت على بِضْع وسبعين فرقةً، فجرى على الإسلام من تأويل هؤلاء وخداع هؤلاء ومكرهم ما جرى، واستولت الطائفتان، وقويت شوكتهما، وعاقبوا من لم يوافقهم وأنكر عليهم، ويأبى الله إلا أن يُقيم لدينه من يَذُبُّ عنه، ويبيِّن أعلامه وحقائقه، لكيلا تبطل حجج الله وبَيّناته على عباده.

فلْنرجع إلى ما نحن بصدده من بيان مكايد الشيطان ومصايده.

فصل

ومن مكايده ومصايده: ما فَتَن به عُشَّاقَ الصور.

وتلك لَعَمْرُ الله الفتنةُ الكبرى، والبَلِيّةُ العظمى، التي استعبدت النفوسَ لغير خَلّاقها، وملّكت القلوبَ لمن يَسُومُها الهَوان من عُشَّاقها، وألقت الحرب بين العشق والتوحيد، ودعت إلى موالاة كل شيطان مَريد

(1)

، فَصَيّرت القلب للهوى أسيرًا، وجعلته عليه حاكمًا وأميرًا، فأوسعت القلوب مِحْنة، وملأتها فِتْنة، وحالت بينها وبين رُشدها، وصرفتها عن طريق قصدها، ونادت عليها في سُوقِ الرَّقيق فباعتها بأبخس الأثمان، وأعاضتها بأخسِّ الحظوظ وأدنى المطالب عن المعالي في غُرَف الجِنان، فضلًا عمَّا هو فوق

(1)

«مريد» ساقطة من م.

ص: 836

ذلك من القُرْبِ من الرحمن، فسكنت إلى ذلك المحبوب الخسيس الذي ألَمُها به أضعافُ لَذّتها، ونَيْلُه والوصول إليه أكبر أسباب مضرَّتها، فما أوْشَكَهُ حبيبًا يستحيل عدوًّا عن قريب، ويتبرَّأ منه مُحِبُّه لو أمكنه حتى كأنه لم يكن له بحبيب، وإن تمتّع به في هذه الدار فسوف يجدُ به أعظم الألم بعد حين، لاسيَّما إذا صار {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].

فيا حسرةَ المحبِّ الذي باع نفسه لغير الحبيب [118 أ] الأول بثمن بخس، وشهوة عاجلة، ذهبت لذتها وبقيت تَبِعتها، وانقضت منفعتها وبقيت مضرتها، فذهبت الشهوة وبقيت الشِّقوة، وزالت المسرّة

(1)

وبقيت الحسرة، فوارَحْمتاه لِصَبٍّ جُمعَ له بين الحسرتين: حسرةِ فوت المحبوب الأعلى والنعيم المقيم، وحسرة ما يقاسيه من النَّصَب في العذاب الأليم! فهنالك يعلمُ المخدوعُ أيَّ بضاعة أضاع، وأن من كان مالكَ رِقِّه وقلبه لم يكن يصلح أن يكون له من جملة الخدم والأتباع، وأيّ مصيبة أعظم من مصيبة مَلِكٍ أُنْزِلَ عن سرير ملكه، وجُعل لمن لا يصلح أن يكون مملوكه أسيرًا، وجُعل تحت أوامره ونواهيه مقهورًا، فلو رأيت قلبه وهو في يد محبوبه لرأيته:

كَعُصْفُورَةٍ في كَفِّ طِفْلٍ يَسُومُهَا

حِيَاضَ الرَّدَى وَالطِّفْلُ يَلْهُو وَيَلْعَبُ

(2)

(1)

م، ت:«السيرة» . والمثبت من باقي النسخ.

(2)

ذكره المؤلف في روضة المحبين (ص 163)، والداء والدواء (ص 493). ونسب البيت إلى ابن الزيات في معجم الشعراء (ص 366)، والفتح بن خاقان في الزهرة (ص 85). وهو في اعتلال القلوب (ص 312) من إنشاد ابن الزيات. وللمجنون في ديوانه (ص 44).

ص: 837

ولو شاهدتَ حاله وعَيْشَه لقلت:

وَمَا فِي الأرْضِ أشْقَى مِنْ مُحِبٍّ

وَإنْ وَجَدَ الْهَوَى حُلْوَ المَذَاقِ

تَرَاهُ بَاكِيًا في كُلِّ حِينٍ

مَخَافَةَ فُرْقَةٍ أَوْ لاشْتِيَاقِ

فَيَبْكِى إنْ نَأَوْا شوقًا إِلَيْهِمْ

وَيَبْكِي إنْ دنَوْا خَوْفَ الْفِرَاقِ

(1)

ولو شاهدت نومه وراحته لعلمت أن المحبة والمنام تعاهدا وتحالفا أن ليسا يلتقيان، ولو شاهدت فَيض مدامعه، ولهيب النار في أحشائه لقلت:

سُبْحَانَ رَبِّ الْعَرْشِ مُتْقِنِ صُنْعِهِ

وَمُؤَلِّفِ الأَضْدَادِ دُونَ تَعاَنُدِ

قَطْرٌ تَوَلَّدَ عَنْ لَهِيبٍ فِي الحَشَا

مَاءٌ ونارٌ فِي مَحَلٍّ وَاحِدِ

(2)

ولو شاهدت مسلك الحُبِّ في القلب وتَغَلْغُلَهُ فيه لعلمت أن الحُبَّ ألطفُ مسلكًا فيه من الأرواح في أبدانها.

فهل يليق بالعاقل أن يبيع هذا المُلْكَ المُطَاع لمن يَسُومُهُ سُوءَ العذاب، ويوقعُ بينه وبين وليِّه ومولاه الحقِّ الذي لا غَنَاءَ له عنه ولا بد له منه أعظمَ الحجاب؟

فالمحب بمن أحبه قتيل، وهو له عبد خاضع ذليل، إن دعاه لَبّاه، وإن قيل له: ما تتمنى؟ فهو غاية ما يتمناه، ولا يأنس بغيره ولا يسكن إلى سواه. فحقيق به أن لا يُمَلِّك رِقّه إلا لأجَلِّ حبيب، وأن لا يبيع نصيبه منه بأخسّ نصيب.

(1)

كذا في م. وفي بقية النسخ: «حذر الفراق» . وسبقت الأبيات.

(2)

لم أجد البيتين فيما بين يدي من المصادر.

ص: 838

فصل

إذا عُرف هذا، فأصل كلِّ فعل وحركة في العالم من الحبّ والإرادة، فهما مبدأ لجميع الأفعال والحركات، كما أن البغضَ والكراهية مبدأ كل ترك وكَفٍّ، إذا قيل: إن الترك والكفّ أمرٌ وجودي كما عليه أكثر الناس، وإن قيل: إنه عَدَميٌّ فيكفي في عدمِهِ عَدَمُ مُقتضيه.

والتحقيق أن الترك نوعان: ترك هو أمرٌ وجوديّ، وهو كف النفس ومَنْعُهَا وحبسها عن الفعل، فهذا سببه أمر وُجوديٌّ، وتركٌ هو عدمٌ محضٌ، فهذا يكفي فيه عدم المقتضي.

فانقسم الترك إلى قسمين: قسم يكفي فيه عدمُ السبب المقتضي لوجوده، وقسم يستلزم وجودَ السبب الموجب له من البُغْضِ والكراهة، وهذا السبب لا يقتضي بمجرده كَفّ النفس وحَبسها إلا لقيام سبب من المحبة والإرادة، يقتضي أمرًا هو أحبّ إليه من هذا الذي كفّ نفسه عنه، فيتعارضُ عنده الأمران، فيُؤْثرُ خيرهما وأعلاهما، وأنفعهما له، وأحبهما إليه على أدناهما، فلا يترك محبوبًا إلا لمحبوب هو أحبّ إليه منه، ولا يرتكب مبغوضًا إلا ليتخلّص به من مبغوض هو أكره إليه منه.

ثم خاصِّيَّةُ العقل واللُّبِّ التمييز بين مراتب المحبوبات والمكروهات [118 ب] بقُوَّةِ العلم والتمييز، وإيثار أعلى المحبوبين على أدناهما، واحتمال أدنى المكروهين للتخلُّص من أعلاهما بقوة الصبر والثبات واليقين.

فالنفس لا تترك محبوبًا إلا لمحبوب، ولا تتحمل مكروهًا إلا لتحصيل محبوب، أو التخلُّص من مكروه آخر، وهذا التخلُّص لا تَقْصِدُه إلا لمنافاته لمحبوبها، فصار سَعْيُها في تحصيل محبوبها بالذات، وأسبابه بالوسيلة،

ص: 839