الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ضعف الإيمان واليقين، وضعف القلب، ومرارة الصبر، وذَوْقُ حلاوة العاجل، وميل النفس إلى زهرة الحياة الدنيا، وكون العِوض مؤجّلًا في دار أخرى غير هذه الدار التي منها خلق، وفيها نشأ، فهو مكلفٌ بأن يترك شهوته الحاضرة المشاهدة لغيبٍ طُلب منه الإيمان به:
فَوَ اللّهِ لَوْلا اللهُ يُسْعِدُ عَبْدَهُ
…
بِتَوْفِيقِه وَاللهُ بِالْعَبْدِ أَرْحَمُ
لَمَا ثَبَتَ الإيمَانُ يَوْمًا بِقَلْبِهِ
…
عَلَى هذِه العِلاّتِ وَالأَمْرُ أَعْظَمُ
وَلا طَاوَعَتْهُ النّفْسُ في تَرْكِ شَهْوَةٍ
…
مَخَافَةَ نَارٍ جَمْرُها يَتَضَرَّمُ
ولا خاف يومًا من مقامِ إلاهه
…
عليه بحكمِ القسطِ إذ ليس يظلم
فصل
والفتنة نوعان: فتنةُ الشبهات وهى أعظم الفتنتين، وفتنة الشهوات.
وقد يجتمعان للعبدِ، وقد ينفردُ بإحداهما:
ففتنة الشبهات: من ضعفِ البصيرة، وقلة العلم، ولاسِيَّما إذا اقترن بذلك فسادُ القصد، وحصولُ الهوى، فهنالك الفتنةُ العظمى، والمصيبةُ الكبرى، فقُلْ ما شئت في ضلال سيِّئ القصد، الحاكم عليه الهوى لا الهُدَى، مع ضعف بصيرته، وقلة علمه بما بعث الله به رسوله، فهو من الذين قال الله تعالى فيهم:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 23].
وقد أخبر الله سبحانه أن
اتباع الهوى يُضلّ عن سبيل الله
وهذه الفتنة مآلها إلى الكفر والنفاق، وهي فتنة المنافقين، وفتنة أهل البدع، على حسب مراتب بدعهم، فجميعهم إنما ابْتدعُوا من فتنة الشبهات التي اشتبه عليهم فيها الحق بالباطل، والهدى بالضلال.
ولا يُنجي من هذه الفتنة إلا تجريد اتّباع الرسول، وتحكيمُه في دِقّ الدين وجِلّه، ظاهره وباطنه، عقائده وأعماله، حقائقه وشرائعه، فيتلقى عنه حقائق الإيمان، وشرائع الإسلام، وما يُثبتُه الله من الصفات والأفعال والأسماء، وما ينفيه عنه، كما يتلقّى عنه وجوب الصلوات وأوقاتها وأعدادها، ومقادير نُصُب الزكوات ومُسْتَحقِّيها، ووجوب الوضوء والغسل من الجنابة، وصوم رمضان، فلا يجعله رسولًا [129 أ] في شيء دون شيء من أمور الدِّين، بل هو رسول في كل شيء تحتاج إليه الأمّة في العلم والعمل، لا يُتَلقّى إلا عنه، ولا يُؤخذ إلا منه، فالهُدى كله دائرٌ على أقواله وأفعاله، وكلّ ما خرج عنها فهو ضلال.
فإذا عقدَ قلبه على ذلك، وأعرض عمَّا سواه، ووزَنَه بما جاء به الرسول، فإن وافقه قبله، لا لِكَوْن ذلك القائل قالَهُ، بل لموافقته للرسالة، وإن خالفه رَدّه، ولو قاله مَنْ قاله، فهذا الذي يُنْجيه من فتنة الشّبُهات، وإن فاته ذلك أصابه من فتنتها بحسب ما فاته منه.
وهذه الفتنة تنشأُ تارةً من فَهْم فاسدٍ، وتارةً من نقل كاذب، وتارةً من حقٍّ فائت خفي على الرجل فلم يَظفر به، وتارةً من غرضٍ فاسد وهَوًى مُتّبع، فهي من عمًى في البصيرة، وفسادٍ في الإرادة.
فصل
وأما النوع الثاني من الفتنة ففتنة الشهوات.
وقد جمع سبحانه بين ذكر الفتنتين في قوله: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة: 69]، أي: تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها، والخَلاقُ: هو النصيبُ المقدَّر، ثم قال:{وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} ، فهذا الخوضُ بالباطل، وهو الشبهات.
فأشارَ سبحانه في هذه الآية إلى ما يحصلُ به فساد القلوب والأديان، من الاستمتاع بالخَلاق، والخوض بالباطل، لأن فساد الدِّين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكلُّم به، أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح:
فالأول: هو البدعُ وما والاها، والثاني: فسقُ الأعمال.
فالأول: فسادٌ من جهة الشبهات، والثاني: من جهة الشهوات.
ولهذا كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هَوًى قد فتنه هواه، وصاحبَ دُنيا أعْمتَه دُنياه.
وكانوا يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنةٌ لكل مفتون
(1)
.
(1)
أُثر هذا القول عن سفيان الثوري، وقد تقدم تخريجه.