الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن أراد
الحيلة في تصحيح الرهن والوثيقة
، وأن لا يعرّضه للبطلان؛ فالحيلة له: أن يقبضه من البائع، ثم يرهنه إياه على ثمنه بعد قبضه، فيصح الرهن، ولا يتوالَى هناك ضمانان، فإذا تلف بعد ذلك تلف من ضمان المشتري، ولا يسقُط الثمن عنه، فإن خاف البائع أن يغيب المشتري، أو يُؤَخّر فكاك الرّهْن، كتب كتابًا وأشهد فيه شهودًا، [101 أ] أنه إن مضى وقتُ كذا وكذا، ولم يَفتكَّ الرهن، فقد أذن له في بيعه وقبض دينه من ثمنه، وما بقي منه فهو أمانةٌ في يده.
فإن خاف أن يُبطل هذه الوكالة مَنْ يرى أنه لا يصح تعليقها بالشرط، كتبَ في الكتاب: أنه قد وَكّله الآن، ويُعلّق تصرّفه فيه بالبيع بمجيء الوقت، فيعلقُ التصرف، ويُنَجِّز التوكيل.
فإن خاف أن يعزله الموكِّل فلا ينفذ تصرفه فيه، فالحيلة له: أن يوكّله وكالة دورية عند مَنْ يرى ذلك، فيقول: وكُلّما عزلْتُه فقد وكّلْتُه، وإن شاء أن يقول: وكّلته وكالة لا تقبل العزل، وإن شاء أن يقول: على أنّي متى عزلتُه فلا حق لي عنده ولا دعوى، وما أدَّعيه عليه من جهة كذا وكذا فدعوى باطلة، والله أعلم.
المثال الثمانون: إذا ادّعت عليه المرأة أنه لم يُنفق عليها، ولم يَكْسُها مُدّة مُقامها معه أو سنينَ كثيرة، والحِسُّ والعُرفُ يكذّبها، لم يَحِلّ للحاكم أن يسمع دعواها، ولا يطالبه بردّ الجواب؛ فإن الدعوى إذا ردّها الحِسّ والعادة المعلومة كانت كاذبة.
وفى «الصحيح»
(1)
عنه صلى الله عليه وسلم: «من ادّعى دعوى كاذبة ليتكثَّر بها لم يزده الله بها إلا قِلّةً» .
(1)
مسلم (110) عن ثابت بن الضحاك.
وفى «الصحيح»
(1)
أيضًا عنه صلى الله عليه وسلم: «من ادّعى ما ليس له فليس منّا، وليتبوأ مقعده من النار» .
فلا يجوز لأحدٍ حاكمٍ ولا غيره أن يُساعد من ادّعى ما يشهدُ الحِسّ والعُرف والعادة أنه ليس له، وأن دعواه كاذبة، ففي سماع دعواه وإحضار المدَّعَى عليه وإحلافه أعظم مساعدة ومعاونة على ما يُكذّبه الحِسّ والعادة.
ثم كيف يسع الحاكمَ أن يقبل قول المرأة إنها هي التي كانت تُنفقُ على نفسها، وتكسو نفسها هذه المدة كلَّها، مع شهادة العُرف والعادة المطّردة بكذبها؛ ولا يقبلُ قول الزَّوج إنه هو الذي كان ينفقُ عليها ويكسوها، مع شهادة العرف والعادة له، ومشاهدة الجيران وغيرهم له: أنه كلّ وقت يُدخلُ إلى بيته الطعام والشراب والفاكهة، وغير ذلك؟ فكيف يُكذّبُ من معه مثل هذه الشهادة، ويقبل قول من يكذبُ دعواه ذلك؟
وكيف يمكن الزوج أن يتخلّص من مثل هذا البلاء الطويل، والخَطْب الجليل، إلا بأن يشهد كلّ يوم بُكرةً وعَشِيّة شاهديْ عَدْل على الإنفاق وعلى الكُسْوة، أو يفرض لها كل شهر دراهم معلومة، يُقبضها إياها بإشهاد؟
ثم إما أن يمكِّنها أن تخرج من بيته كلَّ وقت تشتري لها ما يقوم بمصالحها، أو يتصدَّى هو لخدمتها وشراء حوائجها، فيكون هو المعَاشَر
(2)
الأسير المملوك
(3)
، وهي المالكة الحاكمة عليه.
(1)
مسلم (61) عن أبي ذر.
(2)
في بقية النسخ: «العاني» .
(3)
في أكثر النسخ: «المالك» . والمثبت من ح.
وكل هذا ضدّ ما قصده الشارع من النكاح من الأُلفة والمودة والمعاشرة بالمعروف؛ فإن هذه المعاشرة من أنكر المعاشرة، وأبعدها من المعروف.
ثم من العجب: أنها إذا ادّعت الكُسوة والنفقة لمدة مُقامها عنده، فقال الزوج للحاكم: سَلْها من أين كانت تأكل وتشرب وتلبس؟ فيقول الحاكم: لا يلزمها ذلك.
فيا لله العجبُ! إذا كانت غير معروفة بالدخول والخروج، ولا يمكِّن الزوج أحدًا يدخل عليها، وهي في منزله عدد سنين، تأكل، وتشرب، وتلبس، كيف لا يسألها الحاكم: مَنِ الذي كان يقوم لك بذلك؟ ومتى سأله الزوج سؤالها وجب عليه ذلك، فمتى تَركَهُ كان تاركًا للحق.
فإن سَمّت أجنبيًّا غير الزوج؛ كَلّفها الحاكم البينة على ذلك، وإن قالت: أنا الذي كنت أُطعِمُ نفسي وأكسوها في هذه المدة كلها كان كذبها معلومًا، ولم يُقْبَل قولها، فإن النفقة والكسوة واجبان على الزوج، وهي تدعي أنها هي التي قامت عنه بهذا الواجب وأدّته مِنْ مالها، وهو يدعي أنه هو الذي فعل [101 ب] هذا الواجب، وقام به، وأسقطه عن نفسه، ومعه الظاهر والأصل.
أما الظاهر: فلا يمكن عاقلًا أن يكابر فيه، بل هو ظاهر ظهورًا قريبًا من القطع، بل يُقطع به في حق أكثر الناس.
وأما الأصل: فهو أيضًا من جانب الزوج؛ فإنهما قد اتّفقا على القيام بواجب حَقّها، وهي تضيف ذلك إلى نفسها، أو إلى أجنبي، وهو يدعى أنه هو الذي قام بهذا الواجب، فقد اتفقا على وصول النفقة والكسوة إليها، وهي تقول: كان ذلك بطريق البدل والنيابة عنك، وهو يقول: لم يكن بطريق النيابة، بل بطريق الأصالة.
وهذا بخلاف ما إذا لم يُعلم وصولُ الحق إلى مستحقه كالديون والأعيان المضمونة؛ فإن قبول قول المنكر متوجِّه، ومعه الأصل.
ونظيره: أن يعترف بقضاء الدّين ووصوله إليه، ثم ينكر أن يكون وصل إليه من جهة مَنْ عليه الدين، فيقول: وصل إليّ الدين الذي لي، لكن ليس من جهتك، بل غيرك أدّاه عنك، فهل يَقبل قوله هاهنا أحد، ويقال: الأصل بقاءُ الدين في ذمّته؟
وهذا نظير مسألة الإنفاق سواءً بسواء؛ فإنها مُقِرَّة بوصول النفقة إليها، ولو أنكرتها لكَذّبها الحسّ، ومُدَّعية أن وصول ذلك إليّ لم يكن من جهتك، فدعواها تخالف الأصل والظاهر جميعًا، ولهذا لا يَقْبَلها مالك، وفقهاء أهل المدينة، وقولهم هو الصواب والحقُّ الذي نَدين الله به، ولا نعتقد سواه.
وأيّ قبيح أعظم من دعوى امرأةٍ على الزوج تَرْكَ النفقة والكسوة ستين سنةً أو أكثر، وهي لا تدخل ولا تخرج، ولا يمكنها تعيش عيش الملائكة، فيُطالَب الزوجُ بنفقة جميع المدة التي ادعت ترك الإنفاق فيها، وقد تستغرق جميع ماله وداره وثيابه ودوابّه، فيؤخذ ذلك كله منه، ويُحبَس على الباقي، ويُجعل دينًا مستقرًّا في ذمته، تطالبه به متى شاءت، وهي تعلم كذب دعواها، ووليّها يعلم ذلك، وجيرانها، والله، وملائكته، والذي يساعدها ويخاصم عنها؟
ولمَّا علم فقهاءُ العراق كأبي حنيفة وأصحابه ما في ذلك من الشر والفساد والضرر الذي لا تأتى به شريعة، أسقطوا النفقة والكسوة عن الزوج بمضيّ الزمان، فلم يسمعوا دعوى المرأة بذلك، كما يقوله منازعوهم في نفقة القريب، فنفّسوا الخناق عن الأزواج بهذا القول، وأشَمُّوهم رائحة الحياة،
ونفّسوا عنهم بعضَ الكَرب.
ولقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أرسله الله تعالى إلى الناس ثلاث عشرة سنةً بمكة، وعشرًا بالمدينة، فما ألزم زوجًا قطّ بنفقة وكُسوة ماضية، ولا ادّعتها عنده امرأة، وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده، وكذلك عصر الصحابة جميعهم، وعصر التابعين، ولا حُبس على عهده وعهد أصحابه وتابعيهم رجل واحد على ذلك، ولا على صداق امرأته، مع صيانة نسائهم، ولزومهن بيوتَهنَّ، وعدم تبرجهن وتزينهن وخروجهن في الأسواق والطرقات، والأزواج في الحبوس، وهن مُسَيَّبات يخرجن ويذهبن حيث أردن.
فوالله لو رأى هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لشقّ عليه غاية المشقة، ولعَظُم عليه وعَزّ عليه، ولكان إلى دفعه وإنكاره أسرع منه إلى غيره.
وبالجملة فالدعوى إذا كانت مما تردُّها العادة والعرف والظاهر، لم يَجُزْ سماعها.
ومن هاهنا قال أصحاب مالك: إذا كان رجلٌ حائزًا لدارٍ، متصرّفًا فيها مُدّة السنين الطويلة، بالبناء والهدم، والإجارة والعمارة، ويَنْسُبها إلى نفسه، ويُضيفها إلى ملكه، وإنسانٌ حاضرٌ يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة، وهو مع ذلك [102 أ] لا يُعارضه فيها، ولا يذكرُ أن له فيها حقًّا، ولا مانع يمنعه من مطالبته من خَوف سلطان، أو نحو ذلك من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق، ولا بينه وبين المتصرّف في الدار قرابةٌ، ولا شركةٌ في ميراث، وما أشبه ذلك مما يتسامَحُ به القرابات وذَوُو الصّهر بينهم في إضافة أحدهم أموال الشركة إلى نفسه، بل كان عَرِيًّا عن ذلك كله، ثم جاء بعد طول هذه
المدة يدّعيها لنفسه، ويزعمُ أنها له، ويريد أن يُقيم بينة بذلك: فدعواهُ غيرُ مسموعة أصلًا، فضلًا عن بينةٍ، وتُقَرّ الدار بيد حائزها.
قالوا: لأن كل دَعْوى ينفيها العرفُ وتكذبها العادةُ فإنها مَرفوضة، غير مسموعة، قال تعالى:{وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199]، وأوجبت الشريعة الرجوع إليه عند الاختلاف في الدعاوَى وغيرها.
قلت: ومما يدلّ على ذلك: أن الظنّ المستفاد من هذا الظاهرِ أقوَى بكثير من الظنّ المستفاد من شاهدين، أو شاهدٍ ويمين، أو مجردِ النُّكول، أو الردّ.
وأيضًا فإن البيَّنة على المدّعي، والبينةُ هي كل ما يُبَيِّن الحقّ، والعرف والعادة والظاهر القوي الذي إن لم يُقطع به فهو أقرب إلى القطع يدل على صدق الزوج، وكذب المرأة في إمساكها عن كسوتها والإنفاق عليها مُدّة سنين متطاولة، ولا يدخل عليها أحدٌ، ولا هي ممن تخرج تشتري لها ما تأكلُ وتشرب وتلبس.
فالشريعة جاءت بما يُعَرف لا بما ينكر، وقد أخبر الله سبحانه أن للزوجة مثل الذي عليها بالمعروف، وليس من المعروف إلزام الزوج بنفقة ستين سنة وكسوتها.
واجْتياحُ ماله كله، وسلبه نعمة الله عليه، وجعله مسكينًا ذا مَتْربة، وجعله أسيرًا لها: يُنافي ما ادَّعت به، بل هذا من أنكر المنكر، ومما يراه المسلمون بل وغير المسلمين قبيحًا.
وأيضًا فالرجل له ولاية الإنفاق على زوجته، كما له ولاية حبسها ومنعها
من الخروج من بيته، فالشارع جعل إليه ذلك، وأمره أن يقوم على المرأة، ولا يؤتيها ماله، بل يرزقها ويكسوها فيه، وجعلها الله سبحانه في ذلك بمنزلة الصغير والمجنون مع وَلِيّه، كما قال تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5]، قال ابن عباس
(1)
رضي الله عنهما: لا تعمِد إلى مالك الذي خَوّلك الله، وجعله لك مَعيشة، فتعطيه امرأتك وبنيك؛ فيكونوا هم الذين يقومون عليك في كسوتهم ورزقهم ومُؤنتهم.
فالسفهاء هم النساء والصبيان، وقد جعل الله سبحانه الأزواج قوَّامين عليهم، كما جعل وليّ الطفل قوَّامًا عليه، والقوام على غيره أميرٌ عليه، ومَنْ قَبِلَ قول الزوجة أو الطفل بعد البلوغ في عدم إيصال النفقة إليهما فقد جعلهما قوّامين على الأزواج والأولياء، ولو لم يقبل قولُ الزوج لم يكن قوّامًا على المرأة؛ فإن المرأة إذا كانت غريمًا مقبول القول دون الزوج، كانت هي القوّامة.
وبالجملة فللرجل على امرأته ولاية، حتى في مالها، فإن له أن يمنعها من التبرُّع به؛ لأنه إنما بذل لها المهر لمالها ونفسها، فليس لها أن تتصرف في ذلك بما يمنع الزوج من كمال استمتاعه، وقد سَوّى النبي صلى الله عليه وسلم بين نفقة الزوجات، ونفقة المماليك، وجعل المرأة عانيةً عند الزوج، والعاني: هو الأسير، وهو نوعٌ من الرق، فقال في المرأة: «تُطْعمُها مما تأكلُ، وتكسوها
(1)
رواه الطبري (8560)، وابن أبي حاتم (4791، 4793) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بنحوه، وعزاه في الدر المنثور (2/ 432) لابن المنذر.
مما تلبس»
(1)
، وكذلك قال في الرقيق سواءً
(2)
، فهو أمين على نفقة امرأته ورقيقه وأولاده، بحكم قيامه عليهم، ولم يوجب الله سبحانه على الأزواج تمليك النساء طعامًا وإدامًا، ولا دراهم أصلًا، وإنما أوجب إطعامهنّ [102 ب] وكسوتهنّ بالمعروف، وإيجاب التمليك مما لم يدل عليه كتابٌ، ولا سنة، ولا إجماع.
وكذلك فرضُ النفقة وتقديرها بدراهم: لا أصل له في كتابٍ، ولا سُنة، ولا قول صحابي، ولا تابعٍ، ولا أحدٍ من الأئمة الأربعة.
فإن الناس لهم قولان: منهم مَن يرى تقديرها بالحَبّ كالشافعي، ومنهم من يردّها إلى العرف وهم الجمهور، ولا يُعرف عن أحدٍ من السلف والأئمة تقديرها بالدراهم البتّة.
ثم إنّ فيه إيجاب المعاوضة على الواجب لها بغير رضا الزوج، ومن
(1)
رواه البيهقي في الشعب (7/ 377) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما به إلا أنه قال: «مما تكتسي» . وروى أحمد (4/ 446، 447، 5/ 3)، وأبو داود (2144، 2145، 2146)، والنسائي في الكبرى (9151، 9171، 11104، 11431)، وابن ماجه (1850)، وغيرهم من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه بمعناه، وفي إسناده اختلاف، وصححه ابن حبان (1268)، والدارقطني في العلل كما في التلخيص الحبير (4/ 17)، والحاكم (2764)، وحسنه النووي في رياض الصالحين (275)، والعراقي في المغني (1517)، وابن حجر في تغليق التعليق (4/ 431)، وصححه ابن دقيق العيد في الإلمام (1277)، وابن الملقن في البدر المنير (8/ 290)، وهو مخرَّج في الإرواء (2033).
(2)
أخرجه البخاري (30)، ومسلم 01661) عن أبي ذر.
غير
(1)
اعتبار كون الدراهم قيمةَ الواجب لها من الحَبّ، أو الواجب بالعرف، ففرضُ الدراهم مخالفٌ لهذا وهذا، ولأقوال جميع السلف والأئمة، وفيه من الفساد ما لا يحصيه إلا الله؛ فإنه إن مَكّن المرأة تخرج كلّ وقتٍ تشتري لها طعامًا وإدامًا، دخل على الزوج والزوجة من الشرّ والفساد ما يشهدُ به العيان، وإن منعها من الخروج أضرّ بها وبالزوج، وجعله كالأجير والأسير معها.
وبالجملة، فمبنى الحكم في الدعاوَى على غَلبة الظنّ المستفاد من براءة الأصل تارة، ومن الإقرار تارة، ومن البينة تارة، ومن النكول مع يمين الطالب المردودة، أو بدونها، وهذا كله مما يُبيِّن الحق ظاهرًا؛ فهو بَينة، وتخصيص البَينة بالشهود عرفٌ خاص، وإلا فالبينة اسمٌ لما يبيِّن الحقّ، فمن كان ظنُّ الصدق من جانبه أقوى كان بالحكم أولى، ولهذا قدّمنا جانب المدّعى عليه، حيث لا بينة، ولا إقرار، ولا نُكول، ولا شاهد حال، استنادًا إلى الظن المستفاد من البراءة الأصلية.
فإن كان في جانب المدّعي بَيّنةٌ شرعية قُدّم؛ لقوة الظن في جانبه بالبينة.
وكذلك إذا كان في جانبه قرينةٌ ظاهرةٌ كاللَّوْث قُدِّم جانبه.
وكذلك قُدِّم جانبه في اللِّعان إذا نكلت المرأة؛ فإنها تُرجَم بأيمانه، لقوّة الظن في جانبه بإقدامه على اللعان، مع نكول المرأة عن دفع الحدّ والعار عنها باليمين.
وقد أجمع الناس على جواز وطء المرأة التي تُزَفّ إلى الزوج ليلة
(1)
م: «تحيز» .
العُرْس، وإن لم يكن رآها، ولا وُصفَتْ له، من غير اشتراط شاهدَيْ عدل يشهدان أنها هي امرأته التي وقع عليها العقد، اكتفاءً بالظن الغالب، بل بالقَطْع المستفاد من شاهد الحال.
وكذلك يجوز الأكلُ من الهدْي المنحور إذا كان بالفلاة، ولا أحدَ عنده، اكتفاءً بشاهدِ الحال.
وكذلك دَرَجَ السلفُ والخلف على جوازِ أكل الفقير مما يدفعه إليه الصبيّ ويخرجُهُ من البيت من كِسرةٍ ونحوها، اعتمادًا على شاهدِ الحال.
وكذلك يُكتفَى بشاهدِ الحال في بيع المحقَّرات بالمعاطاة، وهو عمل الأمة قديمًا وحديثًا.
واكتفى الشارع بسكوت البكر في الاستئذان، وجعله دليلًا على رضاها
(1)
، اكتفاءً بشاهد الحال.
واكتفت الأمَّة في الاعتماد على المعاملات، والهدايا، والتبرعات، بكونها بيد الباذل؛ لأن دلالتها على ملكه تورثُ ظنًّا ظاهرًا.
واكتفتْ بمعاملة مجهول الحرية والرُّشد، وإقراره، وأكل طعامه، وقبول هديته، وإباحة الدخول إلى منزله، اعتمادًا على شاهد الحال، والظن الغالب.
واكتفى الشارعُ بقول الخارص الواحد في مَحَلِّ الظن والخَرْصِ
(2)
، نظرًا إلى الظن المستفاد من خَرْصه.
(1)
كما في حديث عائشة الذي أخرجه البخاري (6971). وفي الباب عن غيرها.
(2)
أخرجه أبو داود (3410)، وابن ماجه (1820) عن ابن عباس.
واكتفت الأمّة بقول المقَوِّمين فيما دَقّ وجَلّ، اعتمادًا على الظنّ المستفاد من تقويمهم.
وقد اكتفى الشارعُ بتقويم اثنين في جزاء الصَّيد، واكتفى بواحد في الخرْص، واكتفى بواحد في رؤية هلال رمضان.
واكتفت الأمة بقول القاسم وحده، أو بقول اثنين، وكذلك القائف، أو القائفين، واكتفت بقول المؤذن الواحد.
وقد اكتفى كثير من الفقهاء بانتساب [103 أ] الصغير، ومَيْل طبعه إلى من ادّعاه من رجلين أو أكثر، اعتمادًا على الظن المستفاد من مَيْل طبعه، وهو من أضعف الظنون، ولذلك كان في آخر رُتب الإلحاق عندهم، عند عدم القائف.
وكذلك الاعتماد في وجوب دَفع اللُّقَطَةِ أو جوازه على الظنّ المستفاد من وَصْفِ الواصف لها.
وكذلك الاعتماد على أمارات الطهارة، والنجاسة، والقبلة، والاعتماد على قول الكيّال والوزَّان، وقال كثير من الفقهاء بحبس المدعى عليه بشهادة المستورَيْن إلى أن يُعَدَّلا؛ إذ الغالب من المستورين العدالة.
فاستجازوا عقوبة الرجل المسلم بمثل هذا الظن.
وقالوا: نسمعُ الشهادة على المقرّ بالإقرار، من غير اشتراطِ ذكرِ الشاهدين أهْلِيّة المقرّ حال إقراره؛ اعتمادًا على ظن الرشد والاختيار.
وقالوا: إذا كان الجدار حائلًا بين الطريق وبين ملك المدّعي، أو بين ملكه وبين مواتٍ، اختَصّ به المدعي؛ لأن الظاهرَ أن الطريق والموات لا يحاط عليهما.
وقالوا: لو كان بين الملكين جدار متصل بأبنية أحد المُلكين اتصالًا بدَواخل وترصيف، اختص به صاحب الترصيف؛ لقوة الظن من جانبه؛ إذ معه دلالتان، إحداهما: الاتصال، والثانية: التداخل والترصيف، فلو تداخل من أحد طرفيه في ملك أحدهما، ومن الطرف الآخر في الملك الأخر اشتركا فيه؛ لتساويهما في الدلالتين.
وقالوا: إن الأبواب المشرّعة في الدّروب غير النافذة دالَّة على الاشتراك في الدرب إلى حدّ كل باب منها، فيكون الأول شريكًا من أول الدرب إلى بابه، والثاني شريكًا إلى بابه، والذي في آخر الدرب شريك من أول الدرب إلى بابه، قولًا واحدًا، وإلى آخر الدرب على الصحيح وعلى كلٍّ؛ بناءً على الظنّ المستفاد من الاستطراق، وأنه بِحَقٍّ.
وقالوا: إن الأجنحة المطِلّة على مُلك الجار وعلى الدروب غير النافذة، أنها ملك لأصحابها؛ اعتمادًا على غلبة الظن بذلك، وأنها وضعت باستحقاق.
وكذلك القنوات والجداولُ الجارية في ملك الغير دالَّةٌ على اختصاصها بأرباب المياه؛ بناءً على الظن المستفاد من ذلك، وأن صورها دالَّة على أنها وُضعت باستحقاق.
ومن ذلك: دلالة الأيدي على الاستحقاق، اعتمادًا على الظن الغالب، مع القطع بكثرة وَضْع الأيدي عدوانًا وظلمًا، ولا سيَّما ما اطَّردت العادة بإجارته وخروجه عن يد مالكه إلى يد مستأجره، كالأراضي، والدوابّ، والحوانيت، والرّباع، والحمامات، وأن الغالب فيها الخروج عن يد مالكها، وقد اعتبرتُم اليد، وقد استشكل كثير من فُضلاء أصحابكم هذا، واعترف بأن
جوابه مشكل جدًّا، ولما كان الظن المستفادُ من الشهود أقوى من الظن المستفاد من هذه الوجوه قُدِّم عليها.
ولما كان الظن المستفاد من الإقرار أقْوَى من الظن المستفاد من الشهود، قُدِّم الإقرار عليها.
ولذلك اكتفى كثيرٌ من الفقهاء بالمرّة الواحدة في الإقرار بالزنى والسرقة، لهذه القوة.
قالوا: لأن وازع المقرّ طَبْعيٌ، ووازع الشهود شرعيٌ، والوازع الطبعي أقوى من الوازع الشرعى.
وكذلك يُقبل الإقرار من المسلم، والكافر، والبر، والفاجر؛ لقيام الوازع الطبعي.
ولما كان الوازع عن الكذب على نفسه مخصوصًا بالمقرّ كان إقراره حجة قاصرة عليه وعلى من يتلقى عنه؛ لكونه فَرْعَهُ.
ولما كان الوازع الشرعي عامًّا بالنسبة [103 ب] إلى جميع الناس كان حجة عامة؛ فإن خوف الله يزعُ الشاهدَ عن الكذب في حقّ كل أحد، وكان قوله حجةً عامة لكل أحدٍ.
ولما كان وازع الكذب مختصًّا بالمقرّ قُصِر عليه، فهو خاص قويّ، والشهادة عامّة ضعيفة بالنسبة إلى الإقرار، قوية بالنسبة إلى الأيدي، وإلى ما ذكرناه من الدلالات.
ومعلوم أن الظنون لا تقع إلا بالأسباب، تُثيرها وتحركها. فمن أسبابها: الاستصحابُ، واطّراد العادة، أو كثرةُ وقوعها، أو قول الشاهد، أو شاهد الحال.
ولا يقعُ في الظنون تعارض، وإنما يقع في أسبابها وعلاماتها. فإذا تعارضت أسبابُ الظنون: فإن حصل الشكّ لم يُحكم بشيء، وإن وُجد الظن في أحد الطرفين حُكم به، والحكم للراجح؛ لأن مرجوحيّة مقابله تدُلّ على ضعفه.
فإذا تعارض سَبَبَا ظنٍّ وكان كل منهما مكذبًا للآخر تساقطا، كتعارُض البيّنتين والأمارتين. وإن لم يكن كلّ واحد منهما مكذبًا للآخر عُمل بهما على حسب الإمكان، كدابةٍ عليها راكبان، وعبدٍ مُمْسِكٍ بيديه اثنان، ودارٍ فيها ساكنان، وخَشَبةٍ لها حاملان، وجِدار متصل بملْكَين، ونظائر هذا.
فإن كان أحدُهما أرجح من الآخر عُمِل بالراجح، كالشاهد مع البراءة الأصلية ومع اليد، يُقدّم عليهما لرجحانه.
ولما كانت اليدُ لها مراتبُ في القوة والضعف، وكان اللّابس لثيابه، وعمامته، وخُفّه، ومِنْطَقته، ونعله، أقوى من يَدِ الجالس على البساط، والراكب على الدّابّة، ويدُ الراكب أقوى من يد السائق والقائد، ويدُ الساكن للدار أضعَفَ من تلك الأيدي، ويدُ مَنْ هو داخل الحمام والخانِ أضعف من هذا كله، قُدّم أقوى الأيدي على أضعفها.
فلو كان في الدار اثنان، وتنازعا فيها، وفى لباسهما الذي عليهما، جُعلت الدار بينهما؛ لاستوائهما في اليد، وكان القولُ قولَ كل منهما في لباسه المختص به؛ لقوة يده بالقُرْب والاتصال.
ولو تنازع الراكب والسائق والقائد قدّمت يد الراكب، وكذلك قال الجمهور.
وإذا تنازع الزوجان في متاع البيت، أو الصانعان في حانوتٍ، كان القولُ قولَ مَنْ يدّعي منهما ما يَصلحُ له وَحدهُ؛ لغَلَبة الظنّ القريب من القطع باختصاصه به.
وكذلك لو رأينا رجلًا شريفًا حاسِرَ الرأس، وأمامَه داعِرٌ على رأسه عمامةٌ، وبيده عمامةٌ لا تليق به، وهو هاربٌ، فتقديمُ يدِه على الظن المستفاد من كَوْنها يدًا عاديةً مما يُقطعُ ببطلانه.
وكذلك فقيهٌ له كتبٌ في دارِه، وامرأتهُ غير معروفة بشيء من ذلك البتة، فتقديمُ يدها على شاهد حال الفقيه في غاية البعد.
وأين الظنّ المستفاد من هذا وأمثاله إلى الظن المستفاد من النكول، ومن الظن المستفاد من اليد؟ بل أين ذاك الظن من الظن المستفاد من الشاهد واليمين؟
ومن الممتنع أن يُرتّبَ الشارعُ الأحكام على هذه الظنون، ولا يرتبها على الظنون التي هي أقوى منها بمراتبَ كثيرة، بل تكاد تقرب من القطع، كما أنه من المحال أن يُحرِّم التأفيف للوالدين، ويُبيح شَتْمهما وضربهما.
وهل تقديم قولِ المدعى في القسامة إلا اعتمادًا على الظن الواجب باللَّوث؟ وقُدّم هذا الظن على ظنّ البراءة الأصلية لقوَّته.
وقد حكى الله سبحانه في كتابه عن الشاهد الذي شهد من أهل امرأة العزيز، وحكم بالقرائن الظاهرة على براءة يوسف عليه السلام، وكذَّب المرأة، بقوله: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ
مِنْ دُبُرٍ [104 أ] قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 26 ــ 28]، وسمّى الله سبحانه ذلك آيةً، وهي أبلغُ من البينة، فقال:{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف: 35]، وحكى الله سبحانه ذلك مُقررًا له غير منكر، وذلك يدل على رضاه به.
ومن هذا: حكمُ نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام بالولد الذي تنازع فيه المرأتان، فقضى به داود للكبرى، فخرجتا على سليمان، فقَصّتا عليه القصة، فقال سليمان عليه السلام: ائْتُونِي بالسّكين أشقَّه بينكما، فقالت الصغرى: لا تفعل يا نبي الله، هو ابنُها، فقضى به للصغرى
(1)
، ولم يكن سليمان ليفعل، ولكن أوهمهما ذلك، فطابت نفسُ الكبرى بذلك؛ استرواحًا منها إلى راحة التأسّي والتسلّي بذهاب ابن الأخرى كما ذهب ابنها، ولم يَطِبْ قلب الصغرى بذلك، بل أدركتها شَفَقَةُ الأم ورحمتها، فناشدَتْه أن لا يفعل؛ استرواحًا إلى بقاء الولد، ومشاهدته حيًّا، وإن اتصل إلى الأخرى.
وتأمّلْ حكم سليمان به للصغرى وقد أقرّت به للكُبرى تَجِدْ تحته: أن الإقرار إذا ظهرت أماراتُ كذبه وبطلانه لم يُلتفَتْ إليه، ولم يحكم به على المقرّ، وكان وجودُه كعدمه. وهذا هو الحق الذي لا يجوز الحكم بغيره.
وكذلك إذا غلط المقرّ، أو أخطأ، أو نسي، أو أقرّ بما لا يعرف مضمونه، لم يُؤاخذ بذلك الإقرار، ولم يحكم به عليه، كما لو أقرّ مكرهًا.
والله تعالى رَفع المؤاخذة بلَغْوِ اليمين؛ لكون الحالف لم يقصد موجَبها، وأخبر أنه إنما يؤاخذ بكسب القلب، والغالط والمخطئُ والناسي
(1)
أخرجه مسلم (1720) عن أبي هريرة.
والجاهل والمكره لم يكسب قلبه ما أقَرّ به أو حلف عليه، فلا يؤاخذ به.
والمقصود: أن الزوج المظلوم المدّعَى عليه دَعْوَى كاذبة ظالمة بأنه ترك النفقة والكسوة تلك السنين كلَّها، أو مدة مُقامها عنده، إذا تبيّن كذب المرأة في دعواها لم يجز للحاكم سماعها، فضلًا عن مطالبته بردِّ الجواب.
فله طُرق في التخلص من هذه الدعوى:
أحدها هذا: أن يقول: كيف يَسُوغ سماع دعوى تُكذِّبها العادة والعرف ومشاهدة الجيران؟
الثاني: أن يقول للحاكم: سَلْها مَنْ كان يُنفِقُ عليها، ويكسوها في هذه المدة؟
فإن ادّعَتْ أن غيره كان يؤدي ذلك عنه لم يُسمع دعواها، وإن كانت الدعوى لذلك الغير، ولا يُقبل قولها على الزوج إن غيره قام بهذا الواجب عنه، وهذا مما لا خفاء به، ولا إشكال فيه.
وإن قالت: أنا كنت أنفق على نفسي، قال الزوج: سَلْها هل كانت هي التي كانت تدخل وتخرجُ تشتري الطعام والإدام؟
فإن قالت: نعم، ظهر كذبها، ولاسيَّما إن كانت من ذوات الشرف والأقدار.
وإن قالت: كنت أوكّل غيري في ذلك، أُلزمت ببيانه، وإلا ظهر كذبها وظلمها وعدوانها، وكانت معاونتها على ذلك معاونةً على الإثم والعدوان.
فإن أعوز الزوج حاكمٌ عالمٌ مُتَحَرٍّ للحق لا تأخذه فيه لومة لائم، فلْيَعْدل إلى التحيُّل بالخلاص بما يُبطل دعواها الكاذبة، إما بأن يجحد استحقاقها
لِمَا ادَّعَت به، ولا يعدل إلى الجواب المفصّل، فتحتاج هي إلى إقامة البينة على سبب الاستحقاق، وقد يتعذّر أو يتعسر عليها ذلك.
فإن أحضرت الصداق وأقامت البينة، فإن كانت لم تنتقل معه إلى داره جحد تسليمها إليه، والقول قوله إذا لم تكن معه في منزله.
فإن كانت قد انتقلت معه إلى منزله، وادّعَى نُشوزها تلك المدة، وأمكنه إقامة البينة بذلك، سقطت نفقتها في مدة النشوز، وإن لم يمكنه إقامة البينة، وادّعى عدم تمكينها له من الوطء، وادعت أنها مَكّنته فالقول قوله؛ لأن الأصل عدم التمكين، وهذا غير دعواه النشوز؛ فإن النشوز هو العصيان، والأصل عدمه، وهذا إنكار لاستيفاء حقه، والأصل عدمه فتأمله.
فإن كان له منها ولد لم يمكنه هذا الإنكار.
ومتى أحس بالشر والمكر احتال بأن يُخبئ شاهديَ عَدْل، بحيث يسمعان كلامها [104 ب]، ولا تراهما، ثم يدفع إليها مالًا، أو ترضى به، ويتلطَّف بها، ثم يقول: أريد أن يجعل كل منا صاحبه في حِلٍّ حتى تطيب أنفسنا، ولعل الموت يأتي بغتةً، ونحو ذلك من الكلام.
وإن أمكنه أن يستنطقها بأنها لا تستحق عليه إلى ذلك الوقت نفقة، ولا كسوة، وأنه يرضيها من الآن، ويدفع إليها ما ترضى به، كان أقوى، ثم يأخذ خَطّ الشاهدين بذلك، ويكتمه منها، فإن أعجله الأمر عن ذلك، وأمكنه المبادرة برَفْعِها إلى حاكم مالكِيٍّ أو حَنفيٍّ، بادر إلى ذلك.
وبالجملة، فالحازم من يستعدُّ لِحِيَلِهِنَّ، ويُعدّ لها حيلًا يتخلص بها منها، وهذا لا بأس به، ولا إثم فيه، ولا في تعليمه؛ فإن فيه تخليص المظلوم، وإغاثة الملهوف، وإخزاء الظالم المعتدي، والله الموفق للصواب.
وإنما أطَلْنا الكلام في هذا المثال لشدّة حاجة الناس إلى ذلك، ولعموم البلوى، وكثرة الفجور، وانتشار الضرر بتمكين المرأة من هذه الدعوى، أو سماعها، وجَعْلِ القول قوْلها، وفى ذلك كفاية، وإلا فهي تحتمل أكثر من ذلك.
فصل
والمقصود بهذه الأمثلة وأضعافها مما لم نذكره: أن الله سبحانه أغنانا بما شَرَعه لنا من الحنيفية السمحة، وما يسّرَه من الدين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وسهَّله للأمة: عن الدخول في الآصار والأغلال، وعن ارتكاب طُرق المكر والخداع والاحتيال، كما أغنانا عن كل باطل ومحرم وضارٍّ، بما هو أنفعُ لنا منه من الحق، والمباح النافع.
فأغنانا بأعياد الإسلام: عن أعياد الكفار والمشركين من أهل الكتاب، والمجوس، والصابئين، وعَبَدَة الأصنام.
وأغنانا بوجوه التجارات، والمكاسب الحلال: عن الربا والميْسر والقِمار.
وأغنانا بنكاح ما طاب لنا من النساء مَثْنى وثُلاث ورُباع، والتّسَرّي بما شئنا من الإماء: عن الزنى والفواحش.
وأغنانا بأنواع الأشربة اللذيذة، النافعة للقلب والبدن: عن الأشربة الخبيثة المسكرة، المُذْهبة للعقل والدِّين.
وأغنانا بأنواع الملابس الفاخرة من الكَتّان، والقُطن، والصوف: عن الملابس المحرّمة من الحرير، والذهب.
وأغنانا عن سماع الأبيات وقرآن الشيطان: بسماع الآيات وكلام الرحمن.
وأغنانا عن الاستقسام بالأزلام طلبًا لما هو خيرٌ وأنفعُ لنا: باستخارته التي هي توحيد، وتفويض، واستعانة، وتوكُّل.
وأغنانا عن طلب التنافس في الدنيا وعاجلها: بما أحبّه
(1)
لنا ونَدَبنا إليه من التنافس في الآخرة، وما أعدّ لنا فيها، وأباح الحسد في ذلك، وأغنانا به عن الحسد على الدنيا وشهواتها.
وأغنانا بالفَرَح بفضله ورحمته وهما القرآن والإيمان: عن الفرَح بما يجمعه أهل الدنيا من المتاع والعقار والأثمان، فقال تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
وأغنانا بالتكبُّر على أعداء الله تعالى، وإظهار الفَخْر والخيلاء لهم: عن التكبُّر على أولياء الله تعالى، والفخر والخُيلاء عليهم، فقال صلى الله عليه وسلم لمن رآه يتبختر بين الصَّفَّين:«إنها لَمِشْيةٌ يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن»
(2)
.
(1)
ح، ظ، ت:«أباحه» .
(2)
رواه البخاري في التاريخ الكبير (3/ 154) والطبراني في الكبير (7/ 104) من طريق خالد بن سليمان بن عبد الله بن خالد بن سماك بن خرشة عن أبيه عن جده، قال الهيثمي في المجمع (6/ 157):«فيه من لم أعرفه» . ورواه ابن إسحاق (4/ 13 سيرة ابن هشام) ــ ومن طريقه الطبري في تاريخه (2/ 63 - 64) ــ عن جعفر بن عبد الله بن أسلم عن رجل من الأنصار من بني سلمة به مرفوعًا. ورواه البيهقي في الدلائل (3/ 233، 234) والخطيب في المتفق والمفترق من طريق ابن إسحاق عن جعفر بن عبد الله بن أسلم عن معاوية بن معبد بن كعب به مرسلًا، ومعاوية بن معبد لا يُعرَف.
وأغنانا بالفروسية الإيمانية، والشجاعة الإسلامية التي تأثيرُها في الغضب على أعدائه ونصرة دينه: عن الفروسية الشيطانية، التي يَبْعثُ عليها الهَوى وحَمِيَّة الجاهلية.
وأغنانا بالخلوَة الشرعية حال الاعتكاف: عن الخلوة البِدْعِيَّةِ التي يُترك لها الحج والجهاد والجمعة والجماعة.
وكذلك أغنانا بالطرق الشرعية: عن طُرق أهل المكر والاحتيال.
فلا تشتد حاجة الأمة إلى شيء إلا وفيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقتضي إباحته
(1)
وتَوسعته، بحيث لا يُحْوِجهم فيه إلى مكر واحتيال، ولا يُلزمهم الآصار والأغلال، فلا هذا من دينه ولا هذا.
كما أغنانا بالبراهين والآيات التي أرشد إليها القرآن: عن الطرق المتكلَّفة المتعَسَّفة المعقَّدة، التي باطلها أضعاف [105 أ] حقِّها، من الطرق الكلامية التي الصحيحُ منها:«كلحم جملٍ غَثٍّ، على رأس جبل وَعْرٍ، لا سهل فيُرتقى، ولا سمين فيُنتقَل»
(2)
.
ونحن نعلم علمًا لا نشك فيه أن الحيل التي تتضمّن تحليل ما حرّمه الله تعالى، وإسقاط ما أوجبه، لو كانت جائزة لسَنّها الله سبحانه، وندب إليها؛ لما فيها من التَّوْسِعَةِ والفَرَجَ للمكروب، والإغاثة للملهوف، كما ندب إلى الإصلاح بين الخصمين.
وقد قال المبعوث بالحنيفية السمحة صلى الله عليه وسلم: «ما تركتُ من شيء يُقَرّبكم
(1)
في الأصل: «حاجته» .
(2)
جزء من حديث أم زرع الذي أخرجه البخاري (5189)، ومسلم (2448) عن عائشة.
إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، ولا تركتُ من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به»
(1)
. «تركتكم على البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يَزيغ عنها بعدي إلا هالك»
(2)
.
فهلّا ندبَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحِيَل، وحَضّ عليها، كما حضّ على إصلاح ذات البَيْنِ؟
بل لم يزل يُحذّر من الخداع، والمكر، والنفاق، ومشابهة أهل الكتاب باستحلال محارمه بأدنى الحيل.
ولو كان مقصود الشارع إباحة تلك المحرمات، التي رَتّب عليها أنواع الذم والعقوبات، وسدّ الذرائع الموصّلة إليها، لم يحرمها ابتداءً، ولا رتَّب عليها
(3)
العقوبة، ولا سدَّ الذرائع إليها، ولكان تركُ أبوابها مُفَتَّحةً أسهل من المبالغة في غلقها وسدِّها، ثم يفتح لها أنواع الحيل، حتى يُنقّب المحتال
(1)
ذكره بهذا اللفظ ابن تيمية كما في المجموع (5/ 156، 6/ 368، 27/ 372) وصححه (11/ 622)، ورواه ابن أبي شيبة (7/ 79)، وابن راهويه كما في إتحاف الخيرة (2722)، وهناد في الزهد (494)، والبيهقي في الشعب (7/ 299)، والبغوي في شرح السنة (4111، 4113)، وغيرهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بنحوه، وفي إسناده اختلاف، وقال البوصيري وابن حجر في المطالب العالية (5/ 576):«فيه انقطاع» ، ورواه الحاكم (2136) من طريق سعيد بن أبي أمية الثقفي عن يونس بن بكير عن ابن مسعود، وهو في السلسلة الصحيحة (2866). وفي الباب عن أبي ذر وعن المطلب بن حنطب وعمران صاحب معمر.
(2)
هو جزء من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه في موعظة النبيّ صلى الله عليه وسلم البليغة، وقد تقدم تخريجه. وفي الباب عن أبي الدرداء رضي الله عنه.
(3)
«عليها» ساقطة من م.
عليها من كل ناحية، فهذا مما يُصان عنه الشرائع، فضلًا عن أكملها شريعة وأفضلها دينًا.
وقد قدّمنا أن الضرر والمفاسد الحاصلة من تلك المحرمات لا يزول بالاحتيال والنَّقْبِ عليها، بل تقوى وتشتدُّ مفاسدها.
فصل
إذا عُرِفَ هذا فالطرقُ التي تتضمن نفعَ المسلمين، والذّبَّ عن الدِّين، ونصرَ المظلومين، وإغاثةَ الملهوفين، ومعارضةَ المحتالين بالباطل ليُدحِضوا به الحق: من أنفع الطرق، وأجلّها علمًا وعملًا وتعليمًا.
فيجوز للرجل أن يُظهر قولًا أو فعلًا مقصودُه به مقصود صالح، وإن ظن الناس أنه قصد به غير ما قصد به، إذا كان فيه مصلحة دينية، مثل دفع ظلم عن نفسه، أو عن مسلم، أو معاهد، أو نصرة حق، أو إبطال باطل من حيلة محرمة أو غيرها، أو دفع الكفار عن المسلمين، أو التوصُّل إلى تنفيذ أمر الله تعالى ورسوله. فكل هذه طرق جائزة، أو مستحبة، أو واجبة.
وإنما المحرَّم أن يقصد بالعقود الشرعية غير ما شُرِعَت له، فيصير مخادعًا لله. فهذا مخادع لله ورسوله، وذاك مخادع للكفار والفجار والظلمة، وأرباب المكر والاحتيال، فبين هذا الخداع وذاك الخداع من الفرق كما بين البِرّ والإثم، والعدل والظلم، والطاعة والمعصية.
فأين مَنْ قَصْدُهُ إظهارُ دين الله تعالى، ونصر المظلوم، وكسر الظالم، إلى من قصده ضد ذلك؟
إذا عُرف هذا فنقول: الحِيَل أقسام:
أحدها: الطرق الخفيَّة التي يتوصل بها إلى ما هو محرَّم في نفسه، فمتى كان المقصود بها محرَّمًا في نفسه فهي حرام باتفاق المسلمين، وصاحبها فاجر ظالم آثم.
وذلك كالتحيّل على هلاك النفوس، وأخذ الأموال المعصومة، وفسادِ ذات البَيْنِ، وحيل الشياطين على إغواء بني آدم، وحيل المخادعين بالباطل على إدحاض الحق، وإظهار الباطل في الخصومات الدينية والدنيوية، فكلُّ ما هو محرَّم في نفسه فالتوصل إليه محرَّم بالطرق الظاهرة والخفية، بل التوصل إليه بالطرق الخفية أعظم إثمًا، وأكبر عقوبة؛ فإن أذَى المخادع وشَرَّه يصل إلى المظلوم من حيثُ لا يشعر، ولا يمكنه الاحتراز عنه، ولهذا قُطع السارق دون المنتهب والمختلس.
ومن هذا: رأى مالك ومَنْ وافقه أن القاتل غِيلةً يُقتل، وإن قَتل مَنْ لا يكافئه؛ لمفسدة فعله، وعدم إمكان التحرز منه.
ومن هذا: رأى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قَطْعَ يد الزُّغلي
(1)
؛ لعظم ضرره على الأموال، وعدم إمكان التحرُّز منه، فهو أولى بالقطع من السارق، وقولُه قويٌّ جدًّا.
(1)
لم أقف عليه بهذا النصّ، والزُغليّ هو الغاشّ، فلعلّه يقصد ما رواه ابن أبي شيبة (5/ 519) وابن حزم في المحلى (11/ 321) عن سعيد بن ميناء قال: كان عبد الله بن الزبير يلي صدقةَ الزبير، وكانت في بيتٍ لا يدخله أحدٌ غيره وغير جارية له، ففَقَد شيئا من المال، فقال للجارية: ما كان يدخل هذا البيت غيري وغيرك، فمن أخذ هذا المال؟ فأقرّت الجارية، فقال لي: يا سعيد، انطلق بها فاقطع يدها؛ فإنّ المال لو كان لي لم يكن عليها قطع.