الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن الذي يشبِّهه بغيره: إن قصد تعظيمه لم يكن في هذا تعظيم، لأنه مَثّل أعظم العظماء بما هو دونه، بل بما ليس بينه نسبة في العظمة والجلالة، وعاقلٌ لا يفعل ذلك.
وإن قصد التنقُّص شبَّهه بالناقصين المذمومين، لا بالكاملين الممدوحين.
ومن هنا يُعلم أن إثبات صفات الكمال له لا يتضمن التشبيه والتمثيل، لا بالكاملين ولا بالناقصين، وأن نفي تلك الصفات يستلزمُ تشبيهه بأنقص الناقصين.
فانظر إلى الجهمية وأتباعهم، جاءوا إلى التشبيه المذموم، فأعرضوا عنه صفحًا، وجاءوا إلى الكمال والمدح، فجعلوه تشبيهًا وتمثيلًا، عكس ما بيَّنه القرآن، وجاء به من كُلّ وجهٍ.
ومن هذا
قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}
[الإخلاص: 4]، هو سَلْبٌ عن المخلوق مكافأته ومماثلته للخالق سبحانه، ولم يقل: ولم يكن هو كفوًا لأحد، فينفي عن نفسه مشابهته للمخلوق ومكافأته له، إذ كان ذلك أبين وأظهر من أن يُحتاج إلى نفيه.
وسرُّ ذلك أن المقصود أن المخلوق لا يماثله سبحانه في شيء من صفاته وخصائصه، وأما كونه سبحانه هو لا يماثل المخلوق ولا يشابهه، ولا هو نِدًّا له ولا كفؤًا، فليس فيه مدح له.
فإنه لو مُدِح بعضُ الملوك أو غيرهم بأنه لا يشبه الحيوانات، ولا الحجارة، ولا الخشب، ونحو ذلك= لم يُعَدّ هذا مدحًا، ولا ثناءً عليه، ولا كمالًا له. بخلاف ما إذا قيل: لا تجعل للملك نِدًّا، ولا كفؤًا، ولا شبيهًا من
رعيَّته، تعظّمه كتعظيمه، وتطيعه كطاعته، فإنه ليس في رعيته من يُساميه، ولا يماثله، ولا يكافيه= كان هذا غاية المدح.
وكذلك قول سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، إنما قصد به نفي أن يكون معه شريك أو معبود يستحق العبادة والتعظيم، كما يفعله المشبِّهون والمشركون، ولم يقصد به نفي صفات كماله، وعلوّه على خلقه، وتكلُّمه بكتبه، وتكليمه لرسله، ورؤية المؤمنين له جَهْرةً بأبصارهم، كما يُرى الشمس والقمر في الصّحْو، فإنه سبحانه إنما ذكر هذا في سياق ردّه على المشركين، الذي اتخذوا من دونه أولياء، يوالونهم من دونه، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 6 ـ 11].
فتأمل كيف ذكر هذا النفي تقريرًا للتوحيد، وإبطالًا [145 أ] لما عليه أهلُ الشرك، من تشبيه آلهتهم وأوليائهم به حتى عبدوهم معه، فحرّفها المحرّفون وجعلوها تُرْسًا لهم في نفي صفات كماله، وحقائق أسمائه وأفعاله.
وهذا التشبيه الذي أبطله الله سبحانه نَفيًا ونَهيًا هو أصل شرك العالم وعبادة الأصنام، ولهذا نَهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجُدَ أحدٌ لمخلوق مثله
(1)
، أو يحلف بمخلوق، أو يُصلّي إلى قبرٍ، أو يتخذ عليه مسجدًا، أو يُعلّق عليه قنديلًا، أو يقول القائل: ما شاء الله وشاء فلان، ونحو ذلك، حذرًا من هذا التشبيه الذي هو أصلُ الشرك.
أما إثبات صفات الكمال فهو أصل التوحيد.
فتبين أن المشبّهة هم الذين يُشَبّهون المخلوق بالخالق في العبادة، والتعظيم، والخضوع، والحَلِف به، والنّذْر له، والسجود له، والعُكوف عند بيته، وحلق الرأس له، والاستغاثة به، والتشريك بينه وبين الله في قولهم: ليس لي إلا الله وأنت، وأنا مُتّكلٌ على الله وعليك، وهذا من الله ومنك، وأنا في حسب الله وحسبك، وما شاء الله وشئت، وهذا لله ولك، وأمثال ذلك.
فهؤلاء هم المشبِّهة حقًّا، لا أهل التوحيد المثبتون لله ما أثبت لنفسه، والنافون عنه ما نفاه عن نفسه، الذين لا يجعلون له ندًّا من خلقه، ولا عدلًا، ولا كُفؤًا، ولا سَمِيًّا، وليس لهم من دونه وليّ ولا شفيع.
(1)
كما في حديث: «ما ينبغي لأحد أن يسجدَ لأحد
…
» رواه الترمذي (1159) والبزار (8023) والبيهقي في الكبرى (7/ 291) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، قال الترمذي:«حديث حسن غريب» ، وصححه ابن حبان (4162) واللفظ له، وحسنه الهيثمي في المجمع (8/ 561)، والألباني في الإرواء (1998). وفي الباب عن أنس بن مالك وجابر وأبي واقد ومعاذ بن جبل وعبد الله بن أبي أوفي وبريدة وقيس بن سعد وابن عباس وسراقة بن مالك وزيد بن أرقم وصهيب وغيلان بن سلمة وعصمة بن مالك وعائشة وغيرهم.
فمن تدبَّر هذا الفصل حَقّ التدبر تبيَّن له كيف وقعت الفتنة في الأرض بعبادة الأصنام، وتبيّن له سرُّ القرآن في الإنكار على هؤلاء المشبهة الممثلة، ولاسيَّما إذا جمعوا إلى هذا التشبيه تعطيلَ الصفات والأفعال، كما هو الغالب عليهم، فيجمعون بين تعطيل الرب سبحانه عن صفات كماله، وتشبيه خلقه به.
فصل
ومن كيده وتلاعبه: ما تلاعب بعبّاد النار، حتى اتخذوها آلهةً معبودةً.
وقد قيل: إن هذا كان من عهد قابيل، كما ذكر أبو جعفر محمد بن جرير
(1)
: أنه لما قتلَ قابيلُ هابيلَ وهرب من أبيه آدم عليه السلام، أتاه إبليس، فقال له: إن هابيل إنما قُبل قُرْبانه وأكلته النار، لأنه كان يخدُمها ويعبدها، فانصِبْ أنت أيضًا نارًا تكون لك ولعَقِبك، فبنى بيت نار، فهو أوّلُ من نصب النار وعبدها.
وسرى هذا المذهب في المجوس، فبنوا لها بيوتًا كثيرة، واتخذوا لها الوقوف والسدنة والحُجّاب، فلا يدعونها تَخْمُدُ لحظةً واحدة، فاتخذ لها أفريدون بيتًا بطوس، وآخر ببخارى، واتخذ لها بهمنُ بيتًا بسجستان، واتخذ لها أبو قباذ بيتًا بناحية بُخارى، واتُّخذت لها بيوت كثيرة.
(1)
في تاريخه (1/ 165). ويعارضه قول ابن عباس: «كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام» . أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 442، 546). قال ابن كثير في البداية والنهاية (1/ 238): «هذا يردُّ قول من زعم من أهل التواريخ وغيرهم من أهل الكتاب أن قابيل وبنيه عبدوا النار، والله أعلم» .
وعُبّاد النار يُفَضّلونها على التراب، ويعظِّمونها، ويصوِّبون رأي إبليس.
وقد رُمي بَشَّار بن بُرْد بهذا المذهب لقوله في قصيدته
(1)
:
الأَرْضُ سَافِلَةٌ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ
…
وَالنَّارُ مَعْبُودَةٌ مُذْ كانَتِ النَّارُ
ويقولون: إنها أوسع العناصر خيرًا، وأعظمها جِرْمًا، وأوسعها مكانًا، وأشرفها جوهرًا، وألطفها جسمًا، ولا كوْن في العالم إلا بها، ولا نُموَّ ولا انعقادَ إلا بممازجتها.
ومن عبادتهم لها: أن يحفروا لها أُخدودًا مُرَبّعًا في الأرض، ويطوفون به.
وهم أصنافٌ مختلفة:
فمنهم: من يُحرّم إلقاء النفوس فيها، وإحراق الأبدان بها، وهم أكثر المجوس.
وطائفة أخرى منهم مَن تبلغُ بهم عبادتهم لها إلى أن يُقرّبوا أنفسهم وأولادهم لها، وهؤلاء أكثر ملوك الهند [145 ب] وأتباعهم، ولهم سُنة معروفة في تقريب نفوسهم، وإلقائهم فيها، فيَعمِدُ الرجل الذي يريد أن يفعل ذلك بنفسه أو بولده أو حبيبه، فيُجَمّله ويُلبسه أحسن اللباس، وأفخر الحُليِّ، ويركب أعلى المراكب، وحول المعازف والطبول والبوقات، فيُزَفّ إلى النار أعظم من زفافه ليلة عرسه، حتى إذا ما قابلها ووقف عليها وهى تأجَّجُ
(1)
البيت في البيان والتبيين (1/ 16) وكامل المبرد (3/ 1111) والأغاني (3/ 145) ووفيات الأعيان (1/ 273)، وملحقات ديوان بشار (4/ 78). قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور:«ولا إخاله صحيح النسبة إليه» .
طرحَ نفسه فيها، فضجَّ الحاضرون ضَجّةً واحدةً بالدعاء له، وغِبْطةً على ما فعل، فلم يلبث إلا يسيرًا، حتى يأتيهم الشيطان في صورته وشكله وهيأته، لا ينكرون منه شيئًا، فيأمرهم بأمره، ويوصيهم بما يوصيهم به، ويوصيهم بالتمسُّك بهذا الدين، ويخبرهم أنه صار إلى جَنّة ورياض وأنهار، وأنه لم يتألم بمسّ النار له، فلا يَهولنَّهم ذلك، ولا يمنعنَّهم عن أن يفعلوا مثله.
ومنهم: زُهّاد وعبَّاد، يجلسون حول النار صائمين عاكفين عليها.
ومن سُنّتهم: الحث على الأخلاق الجميلة، كالصدق، والوفاء، وأداء الأمانة، والعفة، والعدل، وترك أضدادها، ولهؤلاء شرائعُ في عبادتها ونواميس وأوضاع لا يُخِلّون بها.
فصل
ومن كَيده وتلاعبه: تلاعبه بطائفة أخرى تَعْبُدُ الماء من دون الله، وتُسَمّى الحلبانية. وتزعم أن الماء لما كان أصل كل شيء، وبه كلُّ ولادة ونموّ ونشوء، وطهارة وعمارة
(1)
، وما من عمل في الدنيا إلا ويحتاج إلى الماء، فكان حقه أن يُعبَد.
ومن شريعتهم في عبادته: أن الرجل منهم إذا أراد عبادته تجرَّد، وستر عورته، ثم دخل فيه، حتى يصير إلى وسطه، فيقيم هناك ساعتين، أو أكثر، بقدر ما أمكنه، ويكون معه ما يمكنه أخذه من الرياحين، فيقطعها صغارًا، فيلقيها فيه شيئًا فشيئًا، وهو يُسبّحه ويمجِّده، فإذا أراد الانصراف حرك الماء بيديه، ثم أخذ منه، فيضعه على رأسه ووجهه وجسده، ثم يسجد وينصرف.
(1)
م: «عبادة» . والمثبت من باقي النسخ.
فصل
ومن تلاعبه: تلاعبُهُ بعبّاد الحيوانات، فطائفة عبدت الخيل، وطائفة عبدت البقر، وطائفة عبدت البشر الأحياء والأموات، وطائفة تعبد الشجر، وطائفة تعبدُ الجن، كما قال سبحانه:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40، 41].
وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 60، 61].
وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128]، يعنى قد استكثرتم من إضلالهم وإغوائهم.
قال ابن عباس
(1)
، ومجاهد
(2)
، والحسن
(3)
، وغيرهم: أضللتم منهم كثيرًا.
(1)
رواه الطبري في تفسيره (13885) وابن أبي حاتم في تفسيره (7890) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وعزاه في الدر المنثور (3/ 357) لابن المنذر وأبي الشيخ.
(2)
رواه الطبري في تفسيره (13887، 13888) وابن أبي حاتم في تفسيره (7891) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد.
(3)
رواه الطبري في تفسيره (13889).
فيُجِيبه سبحانه أولياؤهم من الإنس بقولهم: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} ، يَعْنُونُ: استمتاع كل نوعٍ بالنّوْع الآخر.
فاستمتاع الجن بالإنس: طاعَتُهم لهم فيما يأمرونهم من الكفر، والفسوق، والعصيان، فإن هذا أكبرُ أغراض الجنّ من الإنس، فإذا أطاعوهم فيه فقد أعطَوْهُم مُناهُمْ.
واستمتاع الإنس بالجنّ: أنهم أعانوهم على معصية الله تعالى، والشرك به بكل ما يقدرون عليه من التحسين، والتزيين، والدعاء، وقضاء كثير من حوائجهم، واستخدامهم بالسحر والعزائم، وغيرها [146 أ]، فأطاعَهُم الإنسُ فيما يُرضيهم من الشّرك، والفواحش، والفجور، فأطاعتهُم الجن فيما يُرضيهم من التأثيرات، والإخبار ببعض المغَيَّبات.
فتمتع كلٌّ من الفريقين بالآخر.
وهذه الآية منطبقةٌ على أصحاب الأحوال الشيطانية، الذين لهم كُشوفٌ شيطانية وتأثيرٌ شيطاني، فيحسبهم الجاهلُ أولياء الرحمن، وإنما هُم من أولياء الشيطان، أطاعوه في الإشراك، ومعصية الله، والخروج عمّا بعث به رسله، وأنزل به كتبه، فأطاعهم في أن خدمهم بإخبارهم بكثير من المغيبات والتأثيرات.
واغترّ بهم مَنْ قلّ حَظّه من العلم والإيمان، فوالَى أعداء الله، وعادى أولياءه، وحَسّنَ الظنّ بمن خرج عن سبيله وسنته، وأساء الظن بمن اتبع سُنة الرسول وما جاء به، ولم يَدَعْها لأقوال المختلفين، وآراء المتحيرين، وشَطَحات المارقين، وتُرّهات المتصوفين.
والبصيرُ الذي نوّر الله بصيرته بنور الإيمان والمعرفة إذا عرف حقيقة ما عليه أكثرُ هذا الخلق، وكان ناقدًا لا يروجُ عليه الزّغلُ، تبين له أنهم داخلون تحت حكم هذه الآية، وهي منطبقة عليهم.
فالفاسقُ يستمتع بالشيطان، بإعانته له على أسباب فسوقه، والشيطانُ يستمتع به في قبوله منه، وطاعته له، فيسُرّه ذلك، ويفرحُ به منه.
والمشرك يستمتع به الشيطان، بشركه به، وعبادته له، ويستمتع هو بالشيطان في قضاء حوائجه، وإعانته له.
ومَنْ لم يُحِط علمًا بهذا لم يعلم حقيقة الإيمان والشرك، وسرّ امتحان الرب سبحانه كُلًّا من الثقلين بالآخر.
ثم قالوا: {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} ، وهو يتناول أجلَ الموت وأجل البعث، فكلاهما أجلٌ أجّله الله تعالى لعباده، وهما الأجَلان اللذان قال الله فيهما:{قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2].
وكأن هذا والله أعلم إشارةٌ منهم إلى نوع استعطاف وتوبة، فكأنهم يقولون: هذا أمر قد كان إلى وقت، وانقطع بانقطاع أجله، فلم يستمرّ، ولم يدُم، فبلغ الأمر الذي كان أجَلُه، وانتهى إلى غايته، ولكل شيء آخرٌ، فقال تعالى:{النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا} ، فإنه وإن انقطع زمنُ التمتع وانقضى أجله، فقد بقي زمنُ العقوبة، فلا يُتَوهّم أنه إذا انقضى زمن الكفر والشرك، وتمتع بعضكم ببعض، أن مفسدته زالت بزواله، وانتهت بانتهائه.
والمقصود أن الشيطان تلاعب بالمشركين، حتى عبدوه، واتخذوه وذريته أولياء من دون الله.
فصل
ومن تلاعبه بهم: أن زيَّن لقوم عبادة الملائكة، فعبدوهم بزعمهم، ولم تكن عبادتهم في الحقيقة لهم، ولكن كانت للشياطين، فعبدوا أقبح خَلق الله وأحقَّهم باللعن و الذم.
وهذه الآيات تحتاج إلى تفسير [146 ب] وبيان:
فقوله سبحانه: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} عامٌّ في كل عابدٍ ومن عبده من دون الله.
وأما قوله: {فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} :
فقال مجاهد فيما رواه وَرْقاء، عن ابن أبى نجيح، عنه
(1)
قال: هذا
(1)
رواه الطبري في تفسيره (19/ 247) وابن أبي حاتم في تفسيره (15027)، والأثر عزاه في الدر المنثور (6/ 241) للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.
خطاب لعيسى، وعُزَير، والملائكة.
وروى عنه ابن جُريج نحوه
(1)
.
وأما عكرمة، والضحاك
(2)
، والكلبي
(3)
، فقالوا: هو عامٌّ في الأوثان وعبدتها.
ثم يأذن سبحانه لها في الكلام، فيقول:{أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ} .
قال مقاتل
(4)
: يقول سبحانه: أأنتم أمرتموهم بعبادتكم؟
{أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} : أم هُمْ أخطأوا الطريق؟
فأجاب المعبودون بما حكى الله عنهم من قولهم: {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} .
وهذا الجواب إنما يحسن من الملائكة، والمسيح، وعُزير، ومن عبدهم المشركون من أولياء الله.
ولهذا قال ابنُ جرير: يقول تعالى: قالت الملائكة وعيسى للذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} نواليهم، بل أنت ولينا من دونهم.
(1)
رواه الطبري في تفسيره (19/ 247).
(2)
انظر تفسيرهما في: الكشف والبيان (7/ 127)، ومعالم التنزيل (6/ 76)، وزاد المسير (6/ 78)، والجامع لأحكام القرآن (13/ 10).
(3)
انظر: الكشاف للزمخشري (3/ 273).
(4)
تفسير مقاتل (2/ 433).
وقال ابن عباس
(1)
، ومقاتل
(2)
: نَزّهوا الله وعظَّموه أن يكون معه إلَهٌ.
وفيها قراءتان:
أشهرهما: {نَتّخِذَ} : بفتح النون وكسر الخاء، على البناء للفاعل
(3)
، وهي قراءة السبعة.
والثانية: {نُتّخَذَ} : بضم النون وفتح الخاء، على البناء للمفعول
(4)
، وهي قراءة الحسن ويزيد بن القعقاع.
وعلى كُلّ واحدةٍ من القراءتين إشكالٌ:
فأما قراءة الجمهور
(5)
: فإن الله سبحانه إنما سَألهم هل أضلُّوا المشركين بأمرهم إياهم بعبادتهم، أم هم ضلُّوا باختيارهم وأهوائهم؟ وكيف يكون هذا الجواب مطابقًا للسؤال؟ فإنه لم يسألهم: هل اتخذتم من دوني من أولياءَ؟ حتى يقولوا: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} ، وإنما سألهم: هل أمرتم عبادي هؤلاء بالشرك، أم هم أشركوا من قِبَل أنفسهم؟ فالجواب المطابق أن يقولوا: لم نأمرهم بالشرك، ولكنهم آثروه وارتضَوْهُ، أو لم نأمر بعبادتنا، كما قال في الآية الأخرى عنهم:{تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63].
(1)
انظر البسيط للواحدي (16/ 433).
(2)
تفسير مقاتل (2/ 433).
(3)
م، ظ:«للمفعول» . والمثبت من باقي النسخ.
(4)
«على البناء للمفعول» زيادة من ش.
(5)
من هنا إلى بداية الفصل الجديد مستفاد من البسيط (16/ 433 ــ 439).
فلما رأى أصحابُ القراءة الأخرى ذلك فَرُّوا إلى بناء الفعل للمفعول، وقالوا: الجوابُ يصحّ على ذلك ويُطابقُ، إذ المعنى: ليس يصلحُ لنا أن نُعْبَد ونُتَّخذ آلهةً، فكيف نأمرُهم بما لا يَصْلُح لنا، ولا يحسُنُ منّا؟
ولكن لزم هؤلاء من الإشكال أمرٌ آخر، وهو قوله:«مِنْ أَوْلِيَاءَ» ، فإن زيادة «مِنْ» لا يحسن إلا مع قَصْدِ العموم، كما تقول: ما قام من رجل، وما ضربتُ من رجل، فأما إذا كان النفيُ واردًا على شيء مخصوصٍ فإنه لا يحسن زيادةُ «من» فيه، وهم إنما نَفَوْا عن أنفسهم ما نُسب إليهم من دعوى المشركين: أنهم أمروهم بالشرك، فنفَوا عن أنفسهم ذلك بأنّه لا يحْسُنُ منهم ولا يليق بهم أن يُعبدوا، فكيف ندعو عبادك إلى أن يعبدونا؟ فكان الواجب على هذا أن تُقرأ:«مَا كانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُتَّخَذَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِكَ» أو: «مِنْ دُونِكَ أَوْلِيَاءَ» .
فأجاب أصحاب القراءة الأولى بوجوه:
أحدها: أن المعنى: ما كان ينبغي لنا أن نَعْبُدَ غيرك، ونتخذ غيرك وليًّا ومعبودًا، فكيف ندعو أحدًا إلى عبادتنا؟ إذ كُنّا نحنُ لا نعبُدُ غيركَ، فكيف ندعو أحدًا إلى أن يعبدَنا؟ والمعنى: أنهم إذا كانوا لا يروْن لأنفسهم عبادة غير الله تعالى، فكيف يدعُون غيرهم إلى عبادتهم؟
هذا جواب الفراء
(1)
.
وقال الجُرجاني: هذا [147 أ] بالتدريج يصيرُ جوابًا للسؤال الظاهر، وهو أن مَنْ عبد شيئًا فقد تولّاه، وإذا تولّاه العابدُ صار المعبود وليًّا للعابد، يدُلّ
(1)
معاني القرآن (2/ 264).
على هذا قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40، 41]، فدل على أن العابد يصير وليًّا للمعبود. ويصير المعنى كأنهم قالوا: ما كان ينبغي لنا أن نأمر غيرنا باتخاذنا أولياء، وأن نتخذ من دونك وليًّا يعبدنا، وهذا أبسط، لقول ابن عباس في هذه الآية قال: يقولون: ما تولَّيناهم، ولا أحببنا عبادتهم.
قال: ويحتملُ أن يكون قولُهم: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} أن يريدوا مَعْشَرَ العبيد لا أنفسهم، أي: نحن وهم عبيدك، [فكان لا ينبغي لعبيدك]
(1)
أن يتخذوا من دونك أولياء، ولكنهم أضافوا ذلك إلى أنفسهم تواضعًا منهم، كما يقول الرجل لمن أتى مُنكرًا: ما كان ينبغي لي أن أفعل مثل هذا، أي: أنت مثلي عبد محاسب، فإذا لم يحسنْ من مثلي أن يفعل هذا لم يحسن منك أيضًا.
قال: ولهذا الإشكال قرأ مَنْ قرأ {نُتّخَذَ} بضم النون، وهذه القراءةُ أقربُ في التأويل.
لكن قال الزّجَّاج
(2)
: هذه القراءة خطأ، لأنك تقول: ما اتخذتُ من أحدٍ وليًّا، ولا يجوز ما اتخذتُ أحدًا من ولي، لأن (من) إنما دخلت لأنها تنفي واحدًا من معنى جميع، تقول: ما من أحد قائمًا، وما من رجل محبًّا لما يضرّهُ، ولا يجوز: ما رجل من محب لما يضره ولا وجه عندنا لهذا البتة،
(1)
ساقطة من النسخ، والاستدراك من البسيط.
(2)
معاني القرآن له (4/ 60، 61).