الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العرب تعظمها، وبها كانت العرب تسمّي زَيد اللات، وتَيْم اللات،
وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليُسرى
اليوم، فلم تزل كذلك حتى أسلَمَت ثقيفٌ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة، فهدمها وحرّقها بالنار.
ثم اتخذوا العُزّى، وهى أحدثُ من اللات ومناة، اتخذها ظالمُ بن أسعد، وكانت بوادٍ من نخلة، فوق ذاتِ عِرْقٍ، وبنوا عليها بيتًا، وكانوا يسمعون منه الصوْت.
قال هشام
(1)
: وحدثني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: كانت العُزّى شيطانةً، تأتى ثلاث سَمُراتٍ ببطن نخلةَ، فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد، فقال:«ائتِ بطنَ نخلة، فإنك ستجد ثلاث سَمُرات، فاعضد الأولى» ، فأتاها فعضدها، فلما جاء إليه قال:«هل رأيت شيئًا؟» ، قال: لا، قال:«فاعضد الثانية» ، فأتاها فعضدها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«هل رأيت شيئًا؟» ، قال: لا. قال: «فاعضد الثالثة» ، فأتاها، فإذا هو بحبشيةٍ نافشةٍ شعرها، واضعةٍ يَديْها على عاتقها، تصرفُ بأنيابها، وخلفها سادِنُها، فقال خالد: يا عُزَّى كُفْرَانَكِ لا سُبْحَانَكِ، إنِّي رَأَيْتُ اللهَ قَدْ أَهَانَكِ. ثم ضربها، ففلق رأسها، فإذا هي حُمَمَةٌ، ثم عضد الشجرة، وقتل السادن، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال:«تلك العُزّى، ولا عُزّى بعدها للعرب» .
قال هشام
(2)
: وكانت لقريش أصنامٌ في جَوف الكعبة وحولها، وأعظمها عندهم: هُبَلُ، وكان فيما بلغني من عَقيقٍ أحمر، على صورة إنسانٍ
(1)
كتاب الأصنام (ص 25 - 26)، وعنه رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 53 - 54).
(2)
كتاب الأصنام (ص 27 - 29)، وانظر: تلبيس إبليس (ص 54).
مكسور اليد اليُمنَى، أدركته قريشٌ كذلك، فجعلوا له يدًا من ذهب، وكان أولُ مَنْ نصبه خُزَيمة بن مُدْرِكة بن اليأس بن مُضر، وكان في جوف الكعبة، وكان قُدّامه قِدَاحٌ مكتوبٌ في أحدها: صريحٌ، وفى الآخر: مُلْصَقٌ، فإذا شكُّوا في مولودٍ أهدوا له هَدية، ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج «صريح» ألحقوه، وإن كان «ملصقا» دفعوه. وكانوا إذا اختصموا في أمرٍ أو أرادوا سفرًا أتوه، فاستقسموا بالقداح عنده، وهو الذي قال له أبو سفيان يوم أُحُدٍ: اعْلُ هُبَلُ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا له: الله أعْلَى وأجَلّ»
(1)
. وكان لهم إسافٌ، ونائِلةُ.
قال هشام
(2)
: فحدّث الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس: أن إسافًا رجلٌ من جُرْهُم يقال له: إسافُ بن يَعْلَى، ونائلةُ بنتُ زيد من جرْهم، وكان يتعشقها في أرض اليمن، فأقبلوا حُجّاجًا، فدخلا البيت، فوجدا غَفْلَةً من الناس وخَلْوةً من البيت، ففَجَر بها في البيت، فمُسِخَا حجرين، فأصبحوا، فوجدوهما مِسْخين، فأخرجوهما فوضعوهما موضعهما، فعبدتهما خُزاعة وقُرَيش، ومَنْ حجّ البيت بعدُ من العرب.
قال هشام
(3)
: [141 أ] لما مُسِخا حجرين وُضعا عند الكعبة ليتعظ بهما الناس، فلما طال مُكثهما وعُبدت الأصنام عُبدا معها، وكان أحدهما مُلصقًا بالكعبة، والآخر في موضع زَمزم، فنقلت قريشٌ الذي كان مُلصقًا بالكعبة إلى الآخر، فكانوا يذبحون وينحرون عندهما.
(1)
أخرجه البخاري (4043، 3039) عن البراء.
(2)
كتاب الأصنام (ص 9)، وعنه رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 54).
(3)
كتاب الأصنام (ص 29)، وانظر: تلبيس إبليس (ص 54).
وكان من تلك الأصنام: ذو الخَلَصَة
(1)
، وكان مَرْوَةً بيضاء منقوشةً، عليها كهيئة التاج، وكان له بيت بين مكة واليمن على مسيرة سبع
(2)
ليالٍ من مكة، وكانت تعظمه وتُهدي إليه خَثْعم وبَجِيلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجرير
(3)
(4)
، فسار إليه بأحمَس، فقاتلته خثعم وباهلة، فظفر بهم، وهدم بيت ذي الخلصة، وأضرم فيه النار فاحترق.
وذو الخلصة اليوم عتبة باب مسجد تَبالَة.
وكان لدَوْس صَنمٌ يقال له: ذو الكَفّين، فلما أسلموا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الطُّفيل بن عمرٍو فحرقه.
وكان لبني الحارث بن يَشْكُر صنم يقال له: ذو الشِّرَى.
وكان لقُضاعة ولَخْمٍ وجُذامٍ وعامِلةَ وغَطَفان صنمٌ في مشارف الشام، يقال له: الأُقيصر.
وكان لمُزَيْنة صنمٌ يقال له: نُهْمٌ، وبه كانت تُسَمّى عبد نُهْم.
وكان لعنزة صنم يقال له: سُعَير.
وكان لطيِّئٍ صنم ــ يقال له: الفِلْس
(5)
.
وكان لأهل كلّ دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه، فإذا أراد أحدهم
(1)
كتاب الأصنام (ص 34 ــ 36)، وانظر: تلبيس إبليس (ص 54).
(2)
م: «تسع» .
(3)
«لجرير» ساقطة من م.
(4)
أخرجه البخاري (3020)، ومسلم (2476) عن جرير بن عبد الله.
(5)
انظر عن هذه الأصنام: كتاب الأصنام لابن الكلبي (ص 37 - 59).
السفر كان آخر ما يصنعُ في منزله: أن يتمسّح به، وإذا قدِم من سفره كان أول ما يصنع إذا دخل منزله: أن يتمسح به
(1)
.
قال ابن إسحاق
(2)
: وكان لخولان صنمٌ يقال له: عَمّ أنس، بأرض خَوْلان، يَقسمون له من أنعامهم وحروثهم قَسْمًا بينه وبين الله بزعمهم، فما دَخلَ في حق الله من حق عم أنس ردّوه عليه، وما دخل في حقِّ الصنم من حقِّ الله الذي سمَّوه له تركوه له، وفيهم أنزل الله سبحانه:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} إلى قوله: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136].
قال ابن إسحاق
(3)
: وكان لبني مَلْكان بن كِنانة بن خُزيمة بن مُدركة صنم يقال له: سعد، صخرة بفلاة من الأرض طويلة، فأقبل رجل من بني مَلْكان بإبلٍ له مُؤَبّلَة، ليقفها عليه ابتغاء بركته فيما يزعم، فلما رأته الإبل وكان يُهَراقُ عليه الدماء نَفَرتْ منه، فذهبت في كل وجه، فغضب رَبّها، فأخذ حجرًا فرماه به، ثم قال: لا بارك الله فيك! نَفّرت عني إبلي، ثم خرج في طلبها حتى جمعها، فلما اجتمعت له قال:
أَتَيْنَا إِلَى سَعْدٍ لِيَجْمَعَ شَمْلَنَا
…
فَشَتَّتَنَا سَعْدٌ فَلَا نَحْنُ مِنْ سَعْد
وَهَلْ سَعْدُ إِلا صَخْرَةٌ بِتَنُوفَةٍ
…
مِنَ الأَرْضِ لا تَدْعُو لِغَيٍّ وَلا رُشْدِ
(4)
(1)
كتاب الأصنام (ص 33). وانظر: تلبيس إبليس (ص 55).
(2)
انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/ 206).
(3)
انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/ 206 - 207).
(4)
البيتان في المصدر السابق والبداية والنهاية (3/ 196).
قال ابن إسحاق
(1)
: وكان عمرو بن الجموح سيدًا من سادات بني سلمة، وشريفًا من أشرافهم، وكان قد اتخذ في داره صنمًا من خشب يقال له: مَناة، فلما أسلم فِتيان بنى سلمة: معاذ بن جبل وابنه معاذ بن عمرو، وغيرهم ممن أسلم وشهد العَقَبة، وكانوا يُدلِجون بالليل على صنم عمرو ذلك، فيحملونه، فيطرحونه في بعض حُفَرِ بني سلمة، وفيها عَذِرات الناس مُنَكَّسًا على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم! مَنْ عدا على إلاهتنا هذه الليلة؟ قال: ثم يغدو يلتمسه، حتى إذا وجده غسله وطَهّره وطيَّبه، ثم قال: والله لو أعلم من فعل هذا بك لأُخْزِينّه، فإذا أمسى ونام عَدَوا ففعلوا بصنمه مثل ذلك، فيغدو يلتمسه، فيجد به مثل ما كان فيه من الأذى، فيغسله ويطهره ويطيبه، فيعدون عليه إذا أمسى، فيفعلون به ذلك، فلما طال عليه استخرجه من حيث ألْقَوْهُ، فغسله وطهره وطيبه، ثم جاء بسيفه، فعلقه عليه، ثم قال [141 ب] له: والله إني لا أعلم مَنْ يصنَعُ بك ما ترى، فإن كان فيك خيرٌ فامتنع، فهذا السيف معك، فلما أمسى ونام عَدَوا عليه، فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبًا ميتًا، فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سَلمة، فيها عَذِرٌ من عَذر الناس، وغدا عمروٌ، فلم يجده في مكانه الذي كان به، فخرج يتَّبعه، حتى وجده في تلك البئر مُنكَّسًا، مقرونًا بكلب ميتٍ، فلما رآه أبصر شأنه، وكلّمه مَنْ أسْلَمَ من قومه، فأسلم، وحسن إسلامه، فقال حين أسلم وعَرَف من الله ما عرف، وهو يذكر صنمه ذلك، وما أبصر من أمره، ويشكر الله إذ أنقذه مما كان فيه من العَمَى والضلالة:
وَاللهِ لَوْ كُنْتَ إِلهًا لَمْ تَكُنْ
…
أَنْتَ وَكَلْبٌ وَسْطَ بِئْرٍ في قَرَنْ
(1)
انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/ 300 ـ 302).
أُفٍّ لِمَلْقَاكَ إِلهًا مُسْتَدَنْ
…
الآنَ فَتَّشْنَاكَ عَنْ سُوءِ الغَبَنْ
الْحَمدُ للّهِ الْعَليّ ذِي المِنَنْ
…
الوَاهِبِ الرَّزَّاقِ دَيَّانِ الدِّيَنْ
هُوَ الذي أَنْقَذَني مِنْ قَبْلِ أنْ
…
أَكُونَ في ظُلْمَةِ قَبْرٍ مُرْتَهَنْ
(1)
قال ابن إسحاق
(2)
: واتخذ أهلُ كل دارٍ في دارهم صنمًا يعبدونه، فإذا أراد رجلٌ منهم سفرًا تمسّح به، وإذا قدم من سفر تمسّح به، فيكون آخرُ عهدِه به، وأولُ عهده به، فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالتوحيد قالت قريش:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].
وكانت العرب قد اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهى بيوتٌ تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحُجّاب، ويُهدى لها كما يُهدى للكعبة، ويُطاف بها كما يُطاف بالكعبة، ويُنحر عندها كما يُنحر عند الكعبة.
وكان الرجل إذا سافر فنزل منزلًا، أخذَ أربعة أحجار، فنظر إلى أحسنها، فاتخذه رَبًّا، وجعل الثلاثة أثافيّ لقِدْره، فإذا ارتْحل تركه، فإذا نزل منزلًا آخر فعل مثل ذلك
(3)
.
قال حنبل
(4)
: حدثنا حسن بن الربيع، قال: حدثنا مهديّ بن ميمون،
(1)
الأبيات في المصدر السابق والبداية والنهاية (4/ 414) والأشطار الثلاثة الأولى في كتاب العين (5/ 141).
(2)
انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/ 209).
(3)
انظر: كتاب الأصنام (ص 33)، وتلبيس إبليس (ص 55).
(4)
رواه البيهقي في الدلائل (5/ 333) وابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 55) من طريق حنبل، ورواه البخاري (4117) عن الصلت بن محمد عن مهدي بن ميمون به نحوه.
قال: سمعت أبا رجاء العُطارِديّ يقول: لما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم فسمعنا به لحقنا بمسيلِمة الكذاب، فلحقنا بالنار، قال: وكنا نعبدُ الحجر في الجاهلية، فإذا وجدنا حجرًا هو أحسن منه نُلقي ذلك ونأخذه، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا حَثْيَةً من تُراب، ثم جئنا بغَنَم، فحلبناها عليه، ثم طُفنا به.
وقال أبو رجاء
(1)
أيضًا: كنا نَعْمِد إلى الرّملِ فنجمعه، ونحلب عليه، فنعبده، وكنا نعمد إلى الحجر الأبيض، فنعبده زمانًا، ثم نلقيه.
وقال أبو بكر بن أبى شيبة
(2)
: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا الحجاج بن أبى زينب، قال: سمعت أبا عثمان النّهديّ يقول: كنا في الجاهلية نعبدُ حجرًا، فسمعنا مناديًا ينادي: يا أهل الرحال! إن ربكم قد هلك، فالتمسوا ربًّا، قال: فخرجنا على كل صعب وذلول، فبينما نحن كذلك نطلبه، إذا نحن بمنادٍ ينادي: إنا قد وجدنا ربكم، أو شِبْهه، فإذا حجرٌ، فنحرنا عليه الجُزُر.
وقال محمد بن سعد
(3)
: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني
(1)
رواه أبو نعيم في الحلية (2/ 306)، ومن طريقه ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 55 - 56).
(2)
مصنف ابن أبي شيبة (7/ 17)، ومن طريقه رواه الخطيب في تاريخه (10/ 204) وابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 56). ورواه ابن سعد في الطبقات (7/ 97) عن يزيد بن هارون به. ورواه الدينوري في المجالسة (1009) عن زيد بن إسماعيل، وأبو نعيم في معرفة الصحابة من طريق زياد بن أيوب، وابن عساكر في تاريخه (35/ 471) من طريق محمد بن عبد الملك الواسطي، ثلاثتهم عن يزيد بن هارون به.
(3)
الطبقات الكبرى (4/ 217)، ومن طريقه رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (46/ 264) وابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 56).
الحجاج بن صفوان، عن ابن أبى حسين، عن شَهر بن حَوْشب، عن عمرو بن عَبَسة، قال: كنت امرءًا ممن عبد الحجارة، فينزل الحي ليس معهم إله، فيخرجُ الرجل منهم، فيأتي بأربعة أحجار، فينصب ثلاثة لقِدْره، ويجعل أحسنها إلهًا يعبده، ثم لعلّه يجد ما هو أحسنُ منه قبل أن يرتحل، فيتركه ويأخذ غيره.
ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وجد حول البيت ثلاث مئة وستين صنمًا، فجعل يَطعَنُ بِسِيَةِ قَوْسه في وُجوهها وعيونها، ويقول:{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ [142 أ] الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، وهى تتساقط على رؤوسها، ثم أمر بها، فأُخْرِجت من المسجد وحُرّقت
(1)
.
فصل
وتلاعُبُ الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام له أسباب عديدة، تلاعبَ بكل قوم على قدر عقولهم:
فطائفةٌ دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى، الذين صوّرُوا تلك الأصنام على صورهم، كما تقدم عن قوم نوح عليه السلام، ولهذا لعنَ النبي صلى الله عليه وسلم المتخذين على القبور المساجدَ والسُّرج، ونهى عن الصلاة إلى القبور، وسأل ربه سبحانه أن لا يجعل قبره وثنًا يُعبد، ونهى أمّته أن يتخذوا قبره عيدًا، وقال:«اشتدَّ غضبُ الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، وأمر بتسوية القبور، وطَمْسِ التماثيل
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (2478)، ومسلم (1781) عن ابن مسعود.
(2)
تقدم تخريج هذه الأحاديث.
فأبى المشركون إلا خلافَه في ذلك كله، إما جهلًا، وإما عنادًا لأهل التوحيد، ولم يضرّهم ذلك شيئًا، وهذا السبب هو الغالبُ على عوامِّ المشركين.
وأما خواصّهم: فإنهم اتخذوها بزعمهم على صُور الكواكِب المؤثِّرة في العالم عندهم، وجعلوا لها بيوتًا، وسَدَنَةً، وحُجّابًا، وحَجًّا، وقُربانًا، ولم تزل هذه في الدنيا قديمًا وحديثًا.
فمنها: بيتٌ على رأس جبل بأصبهان، كان به أصنام، أخرجها بعض ملوك المجوس، وجعله بيت نارٍ.
ومنها: بيتٌ ثانٍ وثالثٌ ورابعٌ بصنعاء، بناه بعض المشركين على اسم الزهرة، فخرَّبه عثمان بن عفان
(1)
رضي الله تعالى عنه.
ومنها: بيت بناه قابوس الملك على اسم الشمس بمدينة فَرْغَانَة، فخرَّبَهُ المعتصم.
وأشد الأمم في هذا النوع من الشرك: الهند.
قال يحيى بن بِشْر: إن شريعة الهند وضعها لهم رجلٌ يقال له: بَرَهْمَنْ، ووضعَ لهم أصنامًا، وجعل أعظم بيوتها بيتًا بمدينة من مدائن السِّنْدِ، وجعل فيه صنمهم الأعظم، وزَعم أنه بصورة الهَيُولَى الأكبر، وفُتحت هذه المدينة في أيام الحجاج، واسمها المُلْتان، فأراد المسلمون قَلْعَ الصنم، فقيل لهم: إن تركتموه ولم تقلعوه جعلنا لكم ثُلُثَ ما يجتمع له من المال، فأمر
(1)
انظر: مروج الذهب للمسعودي (2/ 535)، والملل والنحل للشهرستاني (2/ 234)، وتلبيس إبليس (ص 56)، وتفسير الرازي (2/ 105)، ومعجم البلدان (4/ 211).
عبد الملك بن مروان بتركه، فالهند تحجُّ إليه من نحو ألفي فرسخ، ولا بدَّ لمن يحجه أن يحمل معه من النقد ما يمكنه، من مئةٍ إلى عشرة آلاف، لا يكون أقل من هذا ولا أكثر، فيلقيه في صندوق عظيم هناك، ويطوف بالصنم، فإذا ذهبوا ورجعوا إلى بلادهم قُسم ذلك المال، فثلثه للمسلمين، وثلثه لعمارة المدينة وحصونها، وثلثه لسَدَنة الصنم ومصالحه.
وأصل هذا المذهب من مشركي الصابئة، وهم قومُ إبراهيم عليه السلام، الذين ناظرهم في بطلان الشرك، وكسر حجتهم بعلمه، وآلهتهم بيده، فطلبوا تحريقه.
وهو مذهب قديم في العالم، وأهله طوائف شتَّى.
فمنهم عُبّاد الشمس، زعموا أنها مَلَك من الملائكة، لها نفس وعقل، وهى أصلُ نور القمر والكواكب، وتكوُّن الموجودات السفلية كلها عندهم منها، وهي عندهم ملك الفلك، فيستحق التعظيم والسجود والدعاء.
ومن شريعتهم في عبادتها: أنهم اتخذوا لها صنمًا، بيده جَوْهَر على لون النار، وله بيت خاص قد بنوه باسمه، وجعلوا له الوقوف الكثيرة من القُرَى والضِّياع، وله سَدنة وقُوّام وحَجَبة، يأتون البيت ويصلُّون فيه لها ثلاث كَرّات في اليوم، ويأتيه أصحاب العاهات، فيصومون لذلك الصنم ويصلُّون، ويدعونه ويستسقون به، وهم إذا طلعت الشمس سجدوا كلهم لها، وإذا غربت، [142 ب] وإذا توسطت الفَلَك، ولهذا يقارنها الشيطان في هذه الأوقات الثلاثة، لتقع عبادتهم وسجودهم له، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تحرّي الصلاة في هذه الأوقات
(1)
، قطعًا لمشابهة الكفار ظاهرًا، وسدًّا لذريعة الشرك وعبادة الأصنام.
(1)
أخرجه البخاري (3272)، ومسلم (828) عن ابن عمر. وفي الباب أحاديث أخرى.
فصل
وطائفة أخرى: اتخذت للقمر صنمًا، وزعموا أنه يستحق التعظيم والعبادة، وإليه تدبير هذا العالم السفلي.
ومن شريعة عبّاده: أنهم اتخذوا له صنمًا على شكل عِجْلٍ، ويجرُّه أربعة، وبيد الصنم جوهرة، ويعبدونه، ويسجدون له، ويصومون له أيامًا معلومة من كل شهر، ثم يأتون إليه بالطعام والشراب، والفرح والسرور، فإذا فرغوا من الأكل أخذوا في الرقص والغناء وأصوات المعازف بين يديه.
ومنهم من يعبد أصنامًا اتخذوها على صورة الكواكب وروحانيتها بزعمهم، وبنوا لها هياكلَ ومتعبَّداتٍ، لكل كوكب منها هيكل يخصُّه، وصنم يخصُّه، وعبادة تخصُّه. ومتى أردت الوقوف على هذا فانظر في كتاب «السرّ المكتوم في مخاطبة النجوم» المنسوب إلى ابن خطيب الرَّيّ؛ تعرف سِرَّ عبادة الأصنام، وكيفية تلك العبادة وشرائطها.
وكل هؤلاء مرجعهم إلى عبادة الأصنام، فإنهم لا تستمرّ لهم طريقة إلا بشخص خاص على شكل خاص، ينظرون إليه، ويعكفون عليه.
ومن هاهنا اتخذ أصحاب الروحانيات والكواكب أصنامًا، زعموا أنها على صورها.
فوَضْعُ الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبودٍ غائب، فجعلوا الصنم على شكله وهيأته وصورته، ليكون نائبًا منابَه، وقائمًا مقامه. وإلا فمن المعلوم أن عاقلًا لا ينحتُ خشبة أو حجرًا بيده، ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده.
ومن أسباب عبادته أيضًا: أن الشياطين تدخل فيها، وتخاطبهم منها، وتخبرهُم ببعض المغيَّبات، وتَدُلُّهم على بعض ما يخفى عليهم، وهم لا يشاهدون الشياطين. فجهلتهم وسقطهم يظنُّون أن الصنم نفسه هو المتكلم المخاطِب! وعقلاؤهم يقولون: إن تلك روحانيات الأصنام! وبعضهم يقول: إنها ملائكة! وبعضهم يقول: إنها العقول المجرّدة! وبعضهم يقول: هي روحانيات الأجرام العلوية! وكثير منهم لا يسأل عمّا عهد، بل إذا سمع الخطاب من الصنم، اتخذه إلهًا، ولا يسأل عمَّا وراء ذلك.
وبالجملة فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام والأوثان، ولم يتخلّص منها إلا الحُنفاء أتباع مِلّة إبراهيم عليه السلام.
وعبادتها في الأرض مِنْ قَبْلِ نوح عليه السلام، كما تقدم، وهياكلها ووقوفها وسدنتها وحُجّابها والكتب المصنفة في شرائع عبادتها طَبَّقَ الأرض.
قال إمام الحنفاء: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 35، 36].
والأمم التي أهلكها الله بأنواع الهلاك كلهم كانوا يعبدون الأصنام، كما قَصّ الله تعالى ذلك عنهم في القرآن، وأنجى الرسُلَ وأتباعهم من الموحدين.
ويكفي في معرفة كثرتهم وأنهم أكثر أهل الأرض: ما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن بَعْثَ النار من كل ألفٍ تسع مئة وتسعة وتسعون»
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري (3348)، ومسلم (222) عن أبي سعيد.
وقد قال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء: 89]، وقال تعالى:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]، وقال:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ [143 أ] بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، وقال:{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102].
ولو لم تكن الفتنةُ بعبادة الأصنام عظيمة لما أقدَم عُبّادها على بَذْلِ نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها، فهم يشاهدون مصارعَ إخوانهم وما حلّ بهم، ولا يزيدهم ذلك إلا حُبًّا لها وتعظيمًا، ويُوصي بعضهم بعضًا بالصبر عليها، وتحمّل أنواع المكاره في نُصرتها وعبادتها، وهم يسمعون أخبار الأمم التي فُتنت بعبادتها، وما حَلّ بهم من عاجل العقوبات، ولا يَثنيهم ذلك عن عبادتها.
ففتنة عبادة الأصنام أشدّ من فتنة عِشْق الصّوَر، وفتنة الفجور بها، والعاشق لا يَثْنِيه عن مُراده خَشْيَةُ عقوبة في الدنيا ولا في الآخرة، وهو يشاهدُ ما يحِلّ بأصحاب ذلك من الآلام والعقوبات، والضرب، والحبس، والنّكال، والفقر، غيرَ ما أعدّ الله له في الآخرة وفي البَرْزخ، ولا يزيده ذلك إلا إقدامًا وحرصًا على الوصول والظفر بحاجته. فهكذا الفتنة بعبادة الأصنام وأشدّ، فإن تألُّهَ القلوب لها أعظمُ من تألُّهها للصور التي يريدُ منها الفاحشة بكثير.
والقرآن بل وسائر الكتب الإلهية من أوّلها إلى آخرها مصرّحةٌ ببطلان هذا الدِّين وكفر أهله، وأنهم أعداءُ لله ورُسله، وأنهم أولياء الشيطان وعُبّاده،
وأنهم هم أهل النار الذين لا يخرجون منها، وهم الذين حَلّت بهم المَثُلاتُ، ونزلت بهم العقوبات، وأن الله سبحانه بريء منهم هو وجميع ملائكته، وأنه سبحانه لا يغفرُ لهم، ولا يقبل لهم عملًا. وهذا معلوم بالضرورة من الدِّين الحنيف.
وقد أباح الله عز وجل لرسوله وأتباعه من الحنفاء دماءَ هؤلاء، وأموالهم، ونساءهم، وأبناءهم، وأمَرَهُمْ بتطهير الأرض منهم حيث وُجِدوا، وذَمَّهم بسائر أنواع الذمّ، وتوعدهم بأعظم أنواع العقوبة، فهؤلاء في شِقٍّ، ورسل الله تعالى كلهم في شِقٍّ.
فصل
ومن أسباب عبادة الأصنام: الغلوّ في المخلوق، وإعطاؤه فوقَ منزلته، حتى جُعل فيه حَظّ من الإلهية، وشبّهوه بالله سبحانه وتعالى، وهذا هو التشبيه الواقعُ في الأمم، الذي أبطله الله سبحانه، وبعثَ رُسله، وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله.
فهو سبحانه يَنْفي وينهى أن يُجعل غيرُه مِثْلًا له، ونِدًّا له، وشبْهًا له، لا أن يُشَبَّه هو بغيره، إذ ليس في الأمم المعروفة أمة جعلته سبحانه مِثلًا لشيء من مخلوقاته، فجعلت المخلوق أصلًا وشَبَّهتْ به الخالق، فهذا لا يُعرفُ في طائفة من طائفة بني آدم. وإنما الأولُ هو المعروف في طوائف أهل الشرك، غُلوًّا فيمن يُعظِّمونه ويحبُّونه، حتى شبَّهوه بالخالق، وأعطوه خصائص الإلهية، بل صرّحوا أنه إله، وأنكروا جَعْلَ الآلهة إلهًا واحدًا، وقالوا:{وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص: 6]، وصرحوا بأنه إله معبود، يُرجَى ويُخافُ،
ويُعظّم ويُسجدُ له، ويُحلَف باسمه، وتُقرَّب إليه القرابين، إلى غير ذلك من خصائص العبادة التي لا تنبغي إلا لله تعالى.
فكل مشرك فهو مُشَبِّهٌ إلهه ومعبوده بالله سبحانه، وإن لم يُشَبّهه به من كل وجه، حتى إن الذين وصفوه سبحانه بالنقائص والعيوب، كقولهم:
إنه فقيرٌ، وإن يده مغلولةٌ، وإنه استراح لمَّا فرغ من خلق العالم، والذين جعلوا له ولدًا وصاحبة، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا: لم يكن قصدُهم أن يجعلوا المخلوق أصلًا، ثم يشبهون به الخالق تعالى، بل وصفوه بهذه الأشياء [143 ب] استقلالًا، لا قصدًا أن يكون غيرُه أصلًا فيها وهو مشبَّه به.
ولهذا كان وصفه سبحانه بهذه الأمور من أبطل الباطل، لكونها في نفسها نقائصَ وعيوبًا، ليس جهة البطلان في اتصافه بها هو التشبيه والتمثيل، فلا يُتَوَقَّفُ في نفيها عنه على ثبوت انتفاء التشبيه، كما يفعله بعض أهل الكلام الباطل، حيث صرَّح بأنه لا يقوم دليل عقلي على انتفاء النقائص والعيوب عنه، وإنما تُنفى عنه لاستلزامها التشبيه والتمثيل.
وهؤلاء إذا قال لهم الواصفون لله سبحانه بهذه الصفات: نحن نُثبتها له على وجهٍ لا يُماثل فيها خلقه، بل نُثبت له فقرًا وصاحبةً وإيلادًا لا يماثل فيه خلقه، كما تثبتون أنتم له علمًا وقدرة وحياة وسمعًا وبصرًا لا يماثل فيه خلقه، فقولنا في هذا كقولكم فيما أثبتموه سواءً= لم يتمكنوا من إبطال قولهم، ويصيرون أكفاءً لهم في المناظرة، فإنهم قد أعْطوهم أنه لا يقوم دليل عقلي على انتفاء النقائص والعيوب، وإنما ننفي ما نُفي عنه لأجل التشبيه والتمثيل، وقد أثبتوا له صفاتٍ على وجه لا يستلزم التشبيه، فقال أولئك: وهكذا نقول نحن.
ولمّا عرف
(1)
بعضهم أن هذا لازم له لا محالة استروح إلى دليل الإجماع، وقال: إنما نفينا النقائص والعيوب عنه بالإجماع، وعندهم أن الإجماع أدلَّته ظنية لا تفيدُ اليقين، فليس عند القوم يقين وقطعٌ بأن الله سبحانه منزَّه عن النقائص والعيوب.
وأهلُ السنة يقولون: إن تنزيهه سبحانه عن العيوب والنقائص واجبٌ لذاته، كما أن إثباتَ صفات الكمال والحمد واجب له لذاته، وهو أظهرُ في العقول، والفِطَر، وجميع الكتب الإلهية، وأقوال الرسل من كل شيء.
ومن العَجَب أن هؤلاء جاءوا إلى ما عُلم بالاضطرار أن الرسل جاءوا به، ووصفوا الله سبحانه به، ودلّت عليه العقول والفِطرُ والبراهينُ؛ فنفوه، وقالوا: إثباته يستلزم التجسيم والتشبيه، فلم يثبت لهم قدَم البتة فيما يثبتونه له سبحانه وينفونه عنه، وجاءوا إلى ما عُلم بالاضطرار، والفطر، والعقول، وجميع الكتب الإلهية، مِنْ تنزيه الله سبحانه عن كل نقص وعيب، فقالوا: ليس في أدلة العقل ما ينفيه، وإنما ننفيه بما ننفي به التشبيه.
وليس في الخذلان فوق هذا، بل إثباتُ هذه العيوب والنقائص يُضادّ كماله المقدَّس، وهو سبحانه موصوفٌ بما يُضادُّها ويناقضها من كل وجه، ونفيُها أظهر وأبينُ في العقول من نفي التشبيه، فلا يجوز أن يثبت له على وجه لا يشابه فيه خلقه.
والمقصود أنه لم يكن في الأمم مَنْ مَثّله بخلقه، وجعل المخلوق أصلًا ثم شَبّهه به، وإنما كان التمثيلُ والتشبيهُ في الأمم، حيث شبَّهوا أوثانهم
(1)
في م: «اعترف» .
ومعبودهم به في الإلهية، وهذا التشبيه هو أصل عبادة الأصنام، فأعرض عنه وعن بيان بطلانه أهل الكلام، وصرفوا العناية إلى إنكار تشبيهه بالخلق الذي لم تُعرف أمةٌ من الأمم عليه، وبالغوا فيه، حتى نفوا به عنه صفات الكمال.
وهذا موضع مهمٌّ نافع جدًّا، به يُعرف الفرق بين ما نَزّه الرب سبحانه نفسه عنه، وذمّ به المشركين المشبِّهين العادلين به خلقه، وبين ما ينفيه الجهمية المعطلة من صفات كماله، ويزعمون أن القرآن دلّ عليه وأُريد به نفيه.
والقرآن مملوءٌ من إبطال أن يكون في المخلوقات [144 أ] ما يُشبه الرب تعالى أو يماثله، فهذا هو الذي قُصد بالقرآن إبطالًا لما عليه المشركون والمشبهون العادلون بالله تعالى غيره.
قال تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، وقال:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165].
فهؤلاء جعلوا المخلوق مِثْلًا للخالق، فالنِّدُّ: الشّبْهُ، يقال فلان نِدُّ فلان ونديده، أي: مثله وشبهه، ومنه قول حسان بن ثابت
(1)
:
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِنِدٍّ
…
فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِداءُ
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له: ما شاء الله وشئت: «أجعلتني له نِدًّا؟»
(2)
.
(1)
في ديوانه (ص 76) طبعة حنفي حسنين.
(2)
رواه ابن أبي شيبة (5/ 340، 6/ 74) وأحمد (1/ 214، 224، 283، 347) والبخاري في الأدب المفرد (783) والنسائي في الكبرى (10825) وابن ماجه (2117) وابن أبي الدنيا في الصمت (342) والطحاوي في شرح المشكل (1/ 218) والطبراني في الكبير (12/ 244) وأبو نعيم في الحلية (4/ 99) وغيرهم من طرق عن الأجلح الكندي عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس مرفوعا، وقيل: عن الأجلح عن أبي الزبير عن جابر، والأجلح مختلف فيه، وصححه ابن القيم في المدارج (1/ 344) وفي الجواب الكافي (ص 93)، وحسنه العراقي في المغني (3066)، وهو في السلسلة الصحيحة (139). وفي الباب عن جابر بن سمرة وحذيفة وقُتيلة رضي الله عنهم.
وقال جرير
(1)
:
أَأَنْتُمْ تَجْعَلُونَ إِليّ نِدًّا
…
وَمَا تَيْمٌ لِذِي حَسَبٍ نَدِيدُ
قال ابن مسعود وابن عباس
(2)
: لا تجعلوا لله أكفاءً من الرجال، تطيعونهم في مَعْصِية الله.
وقال ابن زيد
(3)
: الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه.
وقال الزجَّاج
(4)
: أي لا تجعلوا لله أمثالًا.
فالذي أنكره الله سبحانه عليهم: تشبيه المخلوق به، حتى جعلوه ندًّا لله تعالى، يَعْبُدونه كما يعبدون الله.
وكذلك قوله في الآية الأخرى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165]، فأنكر هذا التشبيه عليهم، وهو أصلُ عبادة الأصنام.
(1)
ديوانه (1/ 164) طبعة الصاوي.
(2)
رواه الطبري في تفسيره (482) عنهما وعن ناسٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
(3)
رواه الطبري في تفسيره (483)، وابن أبي حاتم في تفسيره (7089، 16510).
(4)
معاني القرآن (1/ 99).
ونظيرُ هذا قولهُ سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]، أي: يعدلون به غيره، فيجعلون له من خَلقِه عِدْلًا وشِبْهًا.
قال ابن عباس
(1)
: يريد: عدلوا بي مِنْ خَلْقِي الحجارةَ والأصنامَ، بعد أن أقرُّوا بنعمتي وربوبيتي.
وقال الزجاج
(2)
: أعلم الله سبحانه أنه خالق ما ذكر في هذه الآية، وأن خالقها لا شيء مثله، وأعلم أن الكفار يجعلون له عديلًا.
والعَدْلُ: التسويةُ، يقال: عدَل الشيءَ بالشيء: إذا سَوّاه، ومعنى يعدلون به: يشركون به غيره. قاله مجاهد
(3)
.
قال الأحمر: يقال: عَدلَ الكافرُ بربِّه عدلًا وعدولًا، إذا سوّى به غيره فعبَده.
وقال الكِسائيّ: عدلتُ الشيء بالشيء أعدِله عدولًا، إذا ساويته به.
ومثله قوله تعالى عن هؤلاء المشبِّهين إنهم يقولون في النار لآلهتهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97، 98]، فاعترفوا أنهم كانوا في أعظم الضلال وأبينه، إذ جعلوا لله شِبْهًا وعِدْلًا من
(1)
أقوال المفسرين منقولة من البسيط للواحدي (8/ 9، 10).
(2)
معاني القرآن (2/ 227).
(3)
رواه الطبري في تفسيره (13044) وابن أبي حاتم في تفسيره (7088، 16509) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد، وعزاه في الدر المنثور (3/ 248) لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ.
خلقه، سَوَّوهم به في العبادة والتعظيم.
وقال تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65].
قال ابن عباس
(1)
: شبهًا ومثلًا، وهو مَنْ يُسامِيْه.
وذلك نفي عن المخلوق أن يكون مشابهًا للخالق ومماثلًا له، بحيث يستحقّ العبادة والتعظيم، ولم يقل سبحانه: هل تعلمه سَمِيًّا أو مشبَّهًا لغيره، فإن هذا لم يقله أحد، بل المشركون المشبِّهون جعلوا بعض المخلوقات مُشابهًا له مساميًا ونِدًّا وعِدْلًا، فأنكر عليهم هذا التشبيه والتمثيل.
وكذلك قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 73، 74]، فنهاهم أن يضربوا له مثلًا من خلقه، ولم ينههم أن يضربوه هو مثلًا لخلقه، فإن هذا لم يقله أحدٌ، ولم يكونوا يفعلونه، فإن الله سبحانه أجلّ وأعظم وأكبر من كل [144 ب] شيء في فِطَر الناس كلهم، ولكن المشبِّهون المشركون يَغْلُون فيمن يعظمونه، فيشبِّهونهم بالخالق، والله تعالى أجلّ في صدور جميع الخلق من أن يجعلوا غيره أصلًا، ثم يشبهونه سبحانه بغيره.
(1)
رواه الطبري في تفسيره (18/ 226) وابن مردويه ــ كما في تغليق التعليق (4/ 34) ــ والبيهقي في الشعب (1/ 143) وفي الأسماء والصفات (610) وفي الاعتقاد (ص 45) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ورواه الطبري (18/ 226) أيضًا من طريق الحسن بن عمارة عن رجل عن ابن عباس، وعزاه في الدر المنثور (5/ 532) لابن المنذر وابن أبي حاتم.