الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتكثُّر الموجودات وتعدّدها يكذِّب هذا الرأي الذي هو ضحكةٌ للعقلاء، وسُخْرِيَةٌ لأولي الألباب.
مع أن هذا كله من تخليط ابن سينا، وأراد به تقريب هذا المذهب من الشرائع، وهيهات! وإلا فالمعلم الأول لم يُثبت صانعًا للعالم البتة. فالرجل معطّل، مُشرك، جاحد للنبوات والمعاد، ولا مبدأ عنده، ولا معاد، ولا رسول، ولا كتاب.
والرازي وفروخه لا يعرفون مذهب الفلاسفة غير طريقه.
ومذاهبهم وآراؤهم كثيرة جدًا، قد حكاه أصحاب المقالات، كالأشعري في «مقالاته» الكبيرة، وأبى عيسى الورّاق، والحسن بن موسى النَّوبَخْتِيِّ.
وأبو الوليد بن رشد يحكي مذهب أرسطو غير ما حكاه ابنُ سينا، ويُغَلّطه في كثيرٍ من المواضع، وكذلك أبو البركات البغدادي يحكي نفس كلامه على غير ما يحكيه ابن سينا.
فصل
والفلاسفة لا تختصُّ بأمةٍ من الأمم، بل هم موجودون في سائر الأمم، وإن كان المعروف عند الناس الذين اعتنوا بحكاية مقالاتهم هم
فلاسفة اليونان
، فهم طائفة من طوائف الفلاسفة، وهؤلاء أمة من الأمم، لهم مملكة وملوك، وعلماؤهم فلاسفتهم.
ومن ملوكهم: الإسكندر المقدوني، وهو ابن فِيلِبُّس، وليس هو بالإسكندر ذي القرنين الذي قصّ الله تعالى نبأه في القرآن، بل بينهما قرونٌ
كثيرةٌ، وبينهما في الدِّين أعظم تَباين.
فذُو القرنين كان رجلًا صالحًا موحِّدًا لله تعالى، يؤمن بالله تعالى وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وكان يغزو عُبّاد الأصنام، وبلغ مشارق الأرض ومغاربها، وبني السّدّ بين الناس وبين يأجوج و مأجوج.
وأما هذا المقدوني فكان مُشركًا يعبد الأصنام هو وأهل مملكته، وكان بينه وبين المسيح نحو ألف سنة وست مئة سنة، والنصارى تؤرّخ [153 أ] له، وكان أرسطاطاليسُ وزيره، وكان مشركًا يعبد الأصنام، وهو الذي غزا دارا بن دارا ملك الفرس في عُقر داره، ففَلَّ عرشه، ومَزّق مُلكه، وفرّق جمعه، ثم دخل إلى الصين، والهند، وبلاد الترك، فقتل وسبى.
وكان لليونانيين في دولته عِزٌّ وسَطوة بسبب وزيره أرسطو، فإنه كان مُشيره ووزيره، ومُدبِّر مملكته.
وكان بعده لليونان عدة ملوك يُعْرَفون بالبطالمة، واحدهم بَطْلِيْمُوس، كما إن كسرى: ملكُ الفرس، وقيصر: ملك الروم.
ثم غلبهم الروم، واستولوا على ممالكهم، فصاروا رَعيّةً لهم، وانقرضَ مُلكهم، فصارت المملكة للروم، وصارت المملكة واحدة، وهم على شركهم من عبادة الأصنام، وهو دينهم الظاهر
(1)
ودين آبائهم، فنشأ فيهم سُقراط أحد تلامذة فِيثاغُورس، وكان من عُبّادهم ومُتألّهيهم، وجاهرهم بمخالفتهم في عبادة الأصنام، وقابَل رؤساءهم بالأدلة والحجج على بُطلان عبادتها، فثار عليه العامَّة، واضطرُّوا الملك إلى قَتله، فأودعه السجن ليكُفّهم
(1)
«الظاهر» ساقطة من م.
عنه، ثم لم يرضَ المشركون إلا بقتله، فسقاه السُّم خوفًا من شرهم، بعد مناظراتٍ طويلة جرت له معهم.
ومذهبه في الصفات قريب من مذهب أهل الإثبات، فقال:«إنه إله كل شيء، وخالقه، ومقدّره، وهو عزيز أي منيع ممتنع أن يُضام، وحكيم أي مُحكم أفعاله على النظام» .
وقال: «إن علمه، وقدرته، ووجوده، وحكمته: بلا نهاية، لا يبلغ العقل أن يصفها» .
قال: «وعن هذا اقتضت الحكمة الإلهية أنها
(1)
وإن تناهت ذاتًا وصورةً وحيِّزًا ومكانًا، إلا أنها لا تتناهى زمانًا في آخرها، لا من نحو أوّلها، فاقتضت الحكمة استبقاء الأشخاص باستبقاء الأنواع، وذلك بتجدُّد أمثالها، ليُحفظ الأشخاص ببقاء الأنواع، ويُستبقى الأنواع بتجدد الأشخاص، فلا تبلغ القدرة إلى حد النهاية، ولا الحكمة تقف على غاية».
ومن مذهبه: أن أخصّ ما يوصف به الرب سبحانه هو كونه حَيًّا قيومًا، لأن العلم، والقدرة، والجود، والحكمة: تندرج تحت كونه حيًّا قيومًا، فهما صفتان جامعتان للكُلِّ.
وكان يقول: «هو حي ناطق من جوهره، أي من ذاته، وحياتنا ونطقنا
(1)
«أنها» ساقطة من م.
وحياتنا لا من جوهرنا، ولهذا يتطرق إلى حياتنا ونطقنا العدم والدثور والفساد، ولا يتطرق ذلك إلى حياته ونطقه».
وكلامه في المعاد والصفات والمبدأ أقربُ إلى كلام الأنبياء من كلام غيره.
وبالجملة، فهو أقرب القوم إلى تصديق الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ولهذا قتله قومه.
وكان يقول: «إذا أقبلت الحكمة خدمت الشهواتُ العقولَ، وإذا أدبرت خدمت العقولُ الشهواتِ» .
وقال: «لا تُكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم» .
وقال: «ينبغي أن نغتمّ بالحياة ونفرح بالموت، لأن الإنسان يحيا ليموت، ثم يموت ليحيا» .
وقال: «قلوب المغرقين
(1)
في المعرفة بالحقائق منابر الملائكة، وقلوب المؤثرين للشهوات مقاعد للشياطين».
وقال: «للحياة حَدَّان، أحدهما: الأمل، والآخر: الأجل، فبالأول بقاؤها، وبالآخر فناؤها» [153 ب].
وكذلك أفلاطون كان معروفًا بالتوحيد، وإنكار عبادة الأصنام، وإثبات حدوث العالم، وكان تلميذ سُقراط، ولما هلك سقراط قام مقامه، وجلس على كُرْسِيِّه.
(1)
م: «المغرمين» .
وكان يقول: «إن للعالم صانعًا مُحْدِثًا، مُبْدِعًا أزليًا، واجبًا بذاته، عالمًا بجميع المعلومات» .
قال: «وليس في الوجود رسم ولا طَلَل إلا ومثاله عند الباري» . يشير إلى وجود صور المعلومات في علمه.
فهو مُثبتٌ للصفات، وحدوث العالم، ومُنْكِرٌ لعبادة الأصنام، ولكن لم يواجِه قومَهُ بالردِّ عليهم وعَيْبِ آلهتهم، فسكتوا عنه، وكانوا يعرفون له فضله وعلمه.
وصرَّح أفلاطون بحدوث العالم، كما كان عليه الأساطين، وحكى ذلك عنه تلميذه أرسطو، وخالفه فيه، فزعم أنه قديم، وتبعه على ذلك ملاحدة الفلاسفة من المنتسبين إلى الملل وغيرهم، حتى انتهت النوبة إلى أبي علي ابن سينا، فرام بجهده تقريب هذا الرأي من قول أهل الملل، وهيهات اتفاق النقيضين، واجتماع الضدين!
فرسل الله تعالى وكتبه وأتباع الرسل في طرف، وهؤلاء القوم في طرف.
وكان ابن سينا كما أخبر عن نفسه قال: أنا وأبي من أهل دعوة الحاكم، فكان من القرامطة الباطنية، الذين لا يؤمنون بمبدأ ولا معاد، ولا ربٍّ خالق، ولا رسولٍ مبعوث جاء من عند الله تعالى.
وكان هؤلاء زنادقة يتستَّرون بالرَّفْض، ويُبْطِنُون الإلحاد المَحْض، وينتسبون إلى أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم وهو وأهل بيته برآءُ منهم نسبًا ودينًا، وكانوا يقتلون أهل العلم والإيمان، ويَدَعون أهل الإلحاد والشرك والكفران، لا يُحرِّمون حرامًا، ولا يُحِلُّون حلالًا، وفي زمنهم ولخواصِّهم وُضِعَتْ «رسائل إخوان الصفا» .