الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاهتداء، وهو إسماعُ قلوبهم وإفهامُها ما يَنفعها، لعدم قَبول المحلّ، فإنه لا خير فيه، فإن الرجل إنما ينقادُ للحقّ بالخير الذي فيه، والميل إليه، والطلب له، ومحبته، والحرص عليه، والفرح بالظَّفَر به، وهؤلاء ليس في قلوبهم شيءٌ من ذلك، فوصل الهُدَى إليها ووقع عليها، كما يصلُ الغيثُ النازلُ من السماء، ويقعُ على الأرض الغليظة العالية، التي لا تُمسكُ ماءً، ولا تُنبتُ كلًا، فلا هي قابلةٌ للماء ولا للنبات، فالماء في نفسه رحمةٌ وحياةٌ، ولكن ليس فيها قبولٌ له.
ثم أكّد الله هذا المعنى في حَقِّهم بقوله: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} ، أي: فيهم مع عدم القبول والفهم آفةٌ أخرى، وهى الكِبْرُ والإعراضُ وفسادُ القَصْد، فلو فهموا لم ينقادُوا، ولم يَتّبعوا الحق، ولم يعملوا به.
فالهدى في حق هؤلاء هُدى بيانٍ وإقامة حُجّة، لا هدى توفيق وإرشادٍ، فلم يتّصل الهُدَى في حقهم بالرحمة.
وأما المؤمنون فاتّصل الهدى في حَقِّهم بالرحمة، فصار القرآنُ لهم هُدًى ورحمةً، ولأولئك هدًى بلا رحمة.
و
الرحمةُ المقارنةُ للهدى في حَقِّ المؤمنين: عاجلة وآجلة
.
فأما العاجلة فما يعطيهم الله تعالى في الدنيا من محبة الخير والبرّ، وذَوْق طعم الإيمان، ووجدان حلاوته، والفرح والسرور بأن هداهم الله تعالى لما أضلّ عنه غيرهم، ولما اختُلِف فيه من الحقّ بإذنه، فهم يتقلّبون في نور هُداه، ويمشون به في الناس، ويرون غيرهم مُتحيّرًا في الظلمات،
فهم أشدّ الناس فرحًا بما آتاهم رَبُّهم من الهدى، قال تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]، فأمر سبحانه عباده المؤمنين المهتدين أن يَفرحوا بفَضْله ورَحمته.
وقد دارَتْ عبارات السلف على أن الفضل والرحمة هو العلم، والإيمانُ، والقرآن، واتباعُ الرسول، وهذا من أعظم الرحمة التي يَرحَمُ الله بها مَنْ يشاء من عباده، فإن الأمْنَ والعافية والسرورَ ولذةَ القلب ونعيمه وبهجته وطُمأنِينَتَهُ مع الإيمان والهدى إلى طريق الفلاح والسعادة. والخوف والهمّ والغمّ والبلاء والألم والقلق: مع الضلال والحَيْرة.
ومُثِّلَ هذا بمسافِرَيْنِ، أحدهما: قد اهتدى لطريق مقصده، فسار آمنًا مطمئنًا، والآخرُ: قد ضل الطريق فلم يَدْر أينَ يتوجّهُ؟ كما قال تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71].
فالرحمة التي تحصل لمن حصل له الهدى هي بحسب هداه، فكلَّما كان نصيبه من الهدى أتمّ كان حظّه من الرحمة أوفر، وهذه هي الرحمة الخاصة بعباده المؤمنين، وهى غيرُ الرحمة العامة بالبَرّ والفاجر.
وقد جمع الله سبحانه لأهل هدايته بين الهدى والرحمة والصلاة عليهم، فقال تعالى:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157].
قال عمر بن الخطاب
(1)
رضي الله تعالى عنه: نعم العِدْلان، ونعمت العِلاوة.
فبالهدى خَلَصُوا من الضلّال، وبالرحمة نَجَوْا من الشّقاء والعذابِ، وبالصلاة عليهم نالُوا منزلةَ القُرْب والكرامة.
والضالُّون حصل لهم ضدّ هذه الثلاثة: الضلالُ عن طريق السعادة، والوقوعُ في ضِدّ الرحمة من الألم والعذاب، والذمُّ واللعنُ الذي هو ضد الصلاة.
ولما كان نصيب كل عبد من الرحمة على قدر نصيبه من الهدى، كان أكملُ المؤمنين إيمانًا أعظمهم رحمة، كما قال تعالى في أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
وكان الصدّيق رضي الله عنه [131 أ] من أرحم الأمة، وقد روي عن النبي أنه قال:«أرحم أمتي بأمتي أبو بكر» رواه الترمذي
(2)
.
(1)
علّقه البخاري بصيغة الجزم في كتاب الجنائز، باب: الصبر عند الصدمة الأولى، وهو موصول عند البيهقي في الكبرى (4/ 65) وفي الشعب (2/ 221) من طريق مجاهد عن ابن المسيب عن عمر، وصححه الحاكم (3068) وقال:«لا أعلم خلافًا بين أئمّتنا أن سعيد بن المسيب أدرك أيامَ عمر، وإنما اختلفوا في سماعه منه» ، وقال ابن حجر في تغليق التعليق (2/ 470): «هذا إسناد صحيح
…
وقد صحّ سماع ابن المسيب عن عمر». وروِي عن مجاهد عن عمر، وعن نعيم بن أبي هِند عن عمر.
(2)
سنن الترمذي (3791) عن أنس، ورواه أيضًا الطيالسي (2096)، وابن سعد في الطبقات (3/ 176)، وأحمد (3/ 184، 281)، والنسائي في الكبرى (8242، 8287)، وابن ماجه (154، 155)، وابن أبي عاصم في السنة (1252، 1283)، والطحاوي في شرح المشكل (2/ 279)، والضياء في المختارة (2240 ـ 2242، 2568)، وغيرهم، وأُعلّ بالإرسال، وصححه الترمذي، وابن حبان (7131، 7137، 7252)، والحاكم (5784)، والذهبي في السير (4/ 474)، قال ابن حجر في الفتح (7/ 93، 8/ 167): «إسناده صحيح إلا أن الحفاظ قالوا: إن الصواب في أوّله الإرسال» ، وهو في السلسلة الصحيحة (1224). وفي الباب عن عمر وابن عمر وجابر وأبي سعيد الخدري وابن عباس وشداد بن أوس وأبي محجن وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق. وأبي أمامة البلوي، ومرسل الحسن البصري.