الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولما انتهت النوبة إلى نَصِير الشرك والكفر الملحد، وزير الملاحدة، النّصير الطُّوسي، وزير هُولاكو شفَى نفسَه من أتباع الرسول وأهل دينه، فعَرَضَهم على السّيف، حتى شفَى إخوانه من الملاحدة، واشتفى هو، فقتل الخليفة والقُضَاة والفُقهاء والمحدّثين، واستَبْقَى الفلاسفة والمنجِّمين والطبائعيين والسّحَرة، ونقلَ أوقافَ المدارس والمساجد والرُّبُطِ إليهم، وجعلهم خاصّته وأولياءه، ونصرَ في كُتبه قِدَم العالَم، وبطلان المعاد، وإنكار صفات الرب جل جلاله، من علمه، وقدرته، وحياته، وسمعه، وبصره، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، وليس فوق العرش إلهٌ يُعبد البتة.
و
اتخذ للملاحدة مدارسَ، ورامَ جَعْلَ «إشارات» إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن
، فلم يَقْدِرْ على ذلك، فقال:«هي قرآنُ الخواصّ، وذاك قرآنُ العوامّ» ، ورَامَ تغيير الصلاة، وجعلها صلاتين، فلم يتم له الأمر، وتَعلّم السحر في آخر الأمر، فكان ساحرًا يعبد الأصنام.
وصارعهُ محمدٌ الشهرستاني في كتاب سماه «المُصَارعة» ، أبطلَ فيه قوله بقدَمِ العالَم وإنكار المعاد، ونفي علم الرب تعالى وقدرته، وخلقه للعالَم، فقام له نصير الإلحاد وقعد، ونقضه بكتاب سماه «مُصارعة المصارع
(1)
» ــ ووقفنا على الكتابين ــ نصر فيه: أن الله تعالى لم يخلق السماوات والأرض في ستة [154 أ] أيام، وأنه لا يعلم شيئًا، وأنه لا يفعلُ بقدرته واختياره، ولا يبعثُ مَنْ في القبور.
وبالجملة فكان هذا الملحد هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر.
(1)
في الأصل: «التضارع» تحريف.
والفلسفة التي يقرؤها أتباع هؤلاء اليوم: هي مأخوذة عنه وعن إمامه ابن سينا، وبعضُها عن أبي نصر الفارابي، وشيءٌ يَسِيرٌ منها من كلام أرسطو، وهو مع قلته وغَثاتته ورَكَاكة ألفاظه كثير التطويل، لا فائدة فيه.
وخيارُ ما عند هؤلاء: فالذي عند مشركي العرب من كُفار قريشٍ وغيرهم خير منه، فإنهم يدأبون حتى يُثبتوا واجب الوجود، ومع إثباتهم له فهو عندهم وجود مطلق، لا صفة له ولا نعت، ولا فعل يقوم به، لم يخلق السماوات والأرض بعد عدمهما، ولا له قُدرةٌ على فعلٍ، ولا يعلم شيئًا. وعُبّاد الأصنام كانوا يثبتون ربًّا خالقًا، مُبدعًا، عالمًا، قادرًا، حَيًّا، يشركون به في العبادة. فنهاية أمر هؤلاء: الوصولُ إلى شيء بَرّزَ عليهم فيه عُبّاد الأصنام.
وهم فِرق شَتّى لا يُحصيهم إلا الله عز وجل.
وأحصى المعتنون بمقالاتِ الناس منهم اثنتي عشرة فِرقةً، كلُّ فرقة منها مختلفة اختلافًا كثيرًا.
فمنهم: أصحاب الرّواق، وأصحاب الظُّلَّة، والمشاءون، وهم شيعة أرسطو، وفلسفتهم هي الدائرة اليوم بين الناس، وهي التي يحكيها ابن سينا، والفارابي، وابن الخطيب، وغيرهم.
ومنهم: الفيثاغورية، والأفلاطونية.
ولا تكاد تجدُ منهم اثنين متفقين على رأي واحد، بل قد تلاعبَ بهم الشيطانُ كتلاعب الصبيان بالكُرة، ومقالاتُهم أكثر من أن نذكرها على التفصيل.
وبالجملة، فملاحدَتُهم هم أهل التعطيل المحض، فإنهم عَطّلوا الشرائع، وعطلوا المصنوع عن الصانع، وعطَّلوا الصانع عن صفات كماله،
وعطلوا العالَم عن الحق الذي خلقَه له ربه، فعطَّلوه عن مبدئه ومعاده، وعن فاعله وغايته.
ثم سرى هذا الداءُ منهم في الأمم، وفي فرق المعطلة:
فكان منهم إمام المعطّلين: فرعون، فإنه أخرج التعطيل إلى العمل، فصرَّح به، وأذّن به بين قومه، ودعا إليه، وأنكر أن يكون إلهٌ غيره، وأنكر أن يكون الله تعالى فوق سماواته على عرشه، وأن يكون كلّم عبده موسى تكليمًا، وكذّبَ موسى في ذلك، وطلب من وزيره هامان أن يبني له صرحًا ليطّلع بزعمه إلى إله موسى عليه السلام، وكذّبه في ذلك.
فاقتدى به كلُّ جهميٍّ مكذّب أن يكون الله مُكَلّمًا متكلمًا، أو أن يكون فوق سماواته على عرشه، بائنًا من خلقه، ودَرَج قومه وأصحابه على ذلك، حتى أهلكهم الله تعالى بالغرق، وجعلهم عِبْرَةً لعباده المؤمنين، ونكالًا لأعدائه المعطلين.
ثم استمر الأمر على عهد نبوّة موسى كليم الرحمن على التوحيد وإثبات الصفات، وتكليم الله لعبده موسى تكليمًا، إلى أن تُوفي موسى عليه السلام، ودخل الداخل على بني إسرائيل، ورفع التعطيلُ رأسه بينهم، وأقبلوا على علوم المعطلة أعداءِ موسى عليه السلام، وقدّموها على نصوص التوراة، فسلط الله تعالى عليهم مَنْ أزال مُلكهم، وشرّدهم من أوطانهم، وسبى ذراريَّهُم، كما هي عادته سبحانه وسُنّتُه في عباده إذا أعرضوا عن الوَحْي، وتعوّضوا عنه بكلام الملاحدة والمعطلة من الفلاسفة وغيرهم.
كما سَلّط النصارى على بلاد العرب لمّا ظهرت فيها الفلسفة والمنطق، واشتغلوا بها، فاستولت النصارى على أكثر بلادهم، وأصاروهم رعيَّة لهم.
وكذلك لما ظهر ذلك [154 ب] ببلاد المشرق سلّط عليهم عساكر التتار، فأبادوا أكثر البلاد الشرقية، واستولوا عليها.
وكذلك في أواخر المئة الثالثة، وأول الرابعة، لما اشتغل أهل العراق بالفلسفة وعلوم أهل الإلحاد سَلَّط عليهم القرامطة الباطنية، فكسروا عسكر الخليفة عدة مرات، واستولوا على الحاجّ، واستعرضوهم قتلًا وأسرًا، واشتدت شوكتهم، واتُّهِمَ بموافقتهم في الباطن كثير من الأعيان من الوزراء، والكتّاب، والأدباء وغيرهم، واستولى أهلُ دعوتهم على بلاد الغرب، واستقرت دار مملكتهم بمصر، وبُنِيت في أيامهم القاهرة، واستولوا على الشام والحجاز واليمن والمغرب، وخُطب لهم على منبر بغداد.
والمقصود أن هذا الداء لمَّا دخل في بني إسرائيل كان سبب دمارهم وزوال مملكتهم.
ثم بعث الله سبحانه عبدَهُ ورسوله وكلمته المسيحَ ابن مريم صلوات الله وسلامه عليه، فجدد لهم الدِّين، وبيَّن لهم معالمه، ودعاهم إلى عبادة الله وحده، والتبرّي من تلك الأحداث والآراء الباطلة، فعادَوْه وكذَّبوه، ورموه وأمَّه بالعظائم، ورامُوا قتله، فطهَّره الله تعالى منهم، ورفعه إليه، فلم يَصِلُوا إليه بسوء، وأقام الله تعالى للمسيح أنصارًا دَعَوْا إلى دينه وشريعته، حتى ظهر دينه على من خالفه، ودخل فيه الملوك، وانتشرت دعوتُه، واستقام الأمرُ على السداد بعده نحو ثلاث مئة سنة.
ثم أخذ دينُ المسيح في التبديل والتغيير، حتى تَناسَخ واضمحلّ، ولم يَبْقَ بأيدي النصارى منه شيء، بل رَكّبوا دينًا بين دين المسيح ودين الفلاسفة عُبّاد الأصنام، وراموا بذلك أن يَتَلَطّفوا للأمم، حتى يدخلوهم في النصرانية،
فنقلوهم من عبادة الأصنام المجسَّدة إلى عبادة الصور التي لا ظِلّ لها، ونقلوهم من السجود للشمس إلى السجود إلى جهة المشرق، ونقلوهم من القول باتحاد العاقل والمعقول والعقل إلى القول باتحاد الأب والابن وروح القدس.
وهذا، ومعهم بقايا من دين المسيح، كالختان، والاغتسال من الجنابة، وتعظيم السبت، وتحريم الخنزير، وتحريم ما حرّمته التوراة، إلا ما أُحِلّ لهم بنصِّها.
ثم تناسخت الشريعة إلى أن استحلُّوا الخنزير، وأحَلُّوا السبت، وعُوّضوا منه يوم الأحد، وتركوا الختان والاغتسال من الجنابة.
وكان المسيح يُصَلِّي إلى بيت المقدس، فصلّوا هم إلى المشرق.
ولم يُعَظّم المسيح عليه السلام صليبًا قَطّ، فعظّموا هم الصليب، وعبدوه.
ولم يَصُم المسيح عليه السلام صَوْمهم هذا أبدًا، ولا شَرَعه، ولا أمر به البتة، بل هم وضعوه على هذا العدد، ونقلوه إلى زمن الرّبيع، فجعلوا ما زادوا فيه من العدد عِوَضًا عن نقله من الشهور الهلالية إلى الشهور الرومية.
وتعبَّدوا بالنجاسات، وكان المسيح عليه السلام في غاية الطهارة والطيب والنظافة، وأبعد الخلق عن النجاسة، فقصدوا بذلك تغيير دين اليهود، ومُراغَمتَهم، فغيَّروا دين المسيح.
وتقرّبوا إلى الفلاسفة عُبَّاد الأصنام، بأن وافقوهم في بعض الأمر، ليرضوهم به، وليستنصروا بذلك على اليهود.
ولما أخذ دين المسيح عليه السلام في التغيير والفساد، اجتمعت النصارى عدّة مجامع تزيد على ثمانين مَجْمعًا، ثم يتفرقون على الاختلاف والتلاعُن، يلعنُ بعضُهم بعضًا، حتى قال فيهم بعض العقلاء: لو اجتمع عشرة من النصارى، يتكلمون في حقيقة ما هم عليه، لتفرّقوا عن أحد عشر مذهبًا!
حتى جمعهم قُسْطَنْطِين الملكُ آخر ذلك من الجزائر والبلاد وسائر الأقطار؛ فجمع كل بَتْرك [155 أ] وأسقُفٍّ وعالمٍ، فكانوا ثلاث مئة وثمانية عشر. فقال: أنتم اليوم علماء النصرانية، وأكابر النصارى فاتفِقُوا على أمر تجتمع عليه كلمة النصرانية، ومن خالفها لَعنتموه وحَرَمتموه، فقاموا وقعدوا، وفكّرُوا وقدّروا، واتفقوا على وضع الأمانة التي بأيديهم اليوم، وكان ذلك بمدينة نِيقيَة، سنة خمس عشرة من مُلك قسطنطين
(1)
.
وكان أحد أسباب ذلك أن بِطْريق الإسكندرية منع أرْيوس من دخول الكنيسة ولعنَه، فخرج أريوس إلى قسطنطين الملك مُسْتعديًا عليه، ومعه أسقُفَّان فشكوه إليه، وطلبوا مناظرته بين يدي الملك، فاستحضره الملك، وقال لأريوس: اشرح مقالتك، فقال أريوس: أقول: إن الأب كان إذ لم يكن الابن، ثم أحدثَ الابن، فكان كلمةً له، إلا أنه مُحدَث مخلوق، ثم فوّض الأمر إلى ذلك الابن المسمّى كلمةً، فكان هو خالق السماوات والأرض وما بينهما، كما قال في إنجيله، إذ يقول:«وَهبْ لي سلطانا على السماوات والأرض» ، فكان هو الخالق لهما بما أُعطيَ من ذلك، ثم إن تلك الكلمةَ بعدُ اتحدت من مَريم العَذْراء، ومن رُوح القُدُس، فصار ذلك مسيحًا واحدًا،
(1)
انظر أخبار هذا المَجمع وغيرها من المجامع العشرة في: تاريخ ابن البطريق (1/ 120 وما بعدها) والجواب الصحيح (4/ 214 وما بعدها) وهداية الحيارى (ص 398 ــ 425).
فالمسيح الآن معنيان: كلمة وجسد، إلا أنهما جميعًا مخلوقان.
فقال بِطْرِيقُ الإسكندرية حبريا: أيما أوجبُ علينا عندك عبادةُ مَنْ خَلَقَنا، أو عبادةُ مَنْ لم يخلقنا؟
فقال أريوس: بل عبادةُ مَنْ خلقنا.
فقال: فعبادةُ الابن الذي خلقنا وهو مخلوق أوجبُ من عبادة الأب الذي ليس بمخلوق، بل تصيرُ عبادة الأب الخالق كفرًا، وعبادةُ الابن المخلوق إيمانًا.
فاستحسن الملكُ والحاضرون مقالته، وأمرهم الملكُ أن يَلْعنوا أرْيُوسَ وكُلَّ من يقول مقالَته.
فلما انتصر البطريق قال للملك: استحِضر البطارقة والأساقفة، حتى يكون لنا مجمعٌ، ونصنع قِصّة نشرح فيها الدِّين، ونُوضّحه للناس، فحشرَهم قُسطنطين من سائر الآفاق، فاجتمع عنده بعد سنةٍ وشهرين ألفان وثمانية وأربعون أُسْقُفًا، وكانوا مختلفي الآراء، متباينين في أديانهم، فلما اجتمعوا كثر اللَّغَطُ بينهم، وارتفعت الأصوات، وعَظُم الاختلاف، فتعجب الملك من شِدّة اختلافهم، فأجرى عليهم الأنزال، وأمرهم أن يَتناظروا، حتى يعلم الدِّين الصحيح مع مَنْ منهم؟
فطالت المناظرةُ بينهم، فاتّفق منهم ثلاث مئة وثمانية عشر أسقُفًا على رأي واحد، فناظروا بقية الأساقفة، فظهروا عليهم، فَعَقَد الملك لهؤلاء الثلاث مئة والثمانية عشر مجلسًا خاصًّا وجلس في وسطه، وأخذ خاتمه وسيفه وقَضِيبَهُ، فدفعه إليهم، وقال لهم: قد سَلّطتكم على المملكة، فاصنعوا ما بدا لكم مما فيه قِوام دينكم وصلاحُ أمّتكم، فبارَكوا عليه وقلّدُوه سَيْفه، وقالوا له: أظْهِرْ دين النصرانية وذُبَّ عنه، ودفعوا إليه الأمانة التي اتفقوا على
وضعها، فلا يكون عندهم نصرانيًّا مَنْ لم يُقِرَّ بها، ولا يتم لهم قُربانٌ إلا بها، وهي هذه:
فهذا العقدُ الذي أجمع عليه الملكية، والنّسْطُورية، واليعقوبية.
وهذه الأمانة التي ألّفها أولئك البتاركة والأساقِفة والعلماء، وجعلوها شعار النصرانية، وكان رؤساء هذا المجمع: بَتْرَكَ الإسكندرية، وبترك أنْطاكية، وبترك بيت المقدس، فافترقوا عليها، وعلى لَعْنِ من خالفها، والتّبَرِّي منه، وتكفيره.
ثم ذهب أرْيُوس يدعو إلى مقالته، ويُنفّر النصارى عن أولئك الثلاث مئة والثمانية عشر، فجمع جمعًا عظيمًا، وصاروا إلى بيت المقدس، وخالف كثيرٌ من النصارى لأولئك المجمع.
فلما اجتمعوا قال أريوس: إن أولئك النفر تَعدَّوا عليّ، وظلموني، ولم يُنْصفوني في الحِجاج، وحرموني ظُلمًا وعُدوانًا، ووافقه كثيرٌ من الذين معه، وقالوا: صَدَقَ، فوثبوا عليه فضربوه، حتى كاد أن يُقْتَل لولا ابن أخت الملك خلّصه، وافترقوا على هذه الحال.
ثم كان لهم مجمعٌ ثالث بعد ثمانٍ وخمسين سنة من المجمع الأول، اجتمع الوُزراء والقُوّادُ إلى الملك، وقالوا: إن مقالة الناس قد فَسَدَت، وغلب عليهم مقالة أريوس، فاكتُب إلى جميع البتاركة والأساقفة أن يجتمعوا، ويوضحوا دين النصرانية، فكتب الملك إلى سائر بلاده، فاجتمع بقُسطنطينية مئةٌ وخمسون أُسْقُفًا، وكان مُقَدَّموهم: بَتْرَك الإسكندرية، وبترك أنطاكية، وبترك بيت المقدس، فنظروا في مقالة أريوس.
وكان من مقالته: أن روح القدس مخلوق مصنوع، ليس بإله.
فقال بترك الإسكندرية: ليس لروح القدس عندنا معنًى غير روح الله تعالى، وليس روح الله تعالى شيئًا غير حياته، فإذا قلنا: إن رُوح القُدُس مخلوقٌ فقد قلنا: إن روح الله مخلوقٌ، وإذا قلنا: إن رُوح الله مخلوقة، فقد قلنا: إن حياته مخلوقةٌ، فقد جعلناه غير حَيٍّ، ومن جعله غير حيٍّ فقد كفر، ومن كفر وجب عليه اللعنُ.
فلعنوا بأجمعهم أريوسَ وأشياعَهُ وأتباعَهُ، والبتاركة الذين قالوا بمقالته، وبينوا أن روح القدس خالق غير مخلوق، إله حقٌّ، وأن طبيعة الأب والابن جَوْهرٌ واحدٌ، وطبيعة واحدةٌ، وزادوا في الأمانة التي وضعها الثلاث مئة والثمانية عشر:
«ونؤمن بروح القدس الربّ المحيي، الذي من الأب المنبثق، الذي مع الابن والأب، وهو مسجود ومُمَجّد» .
وكان في الأمانة الأولى: «وبروح القدس» فقط.
وبينوا أن الأب والابن وروح القدس ثلاثة أقانيم، وثلاثة وجوه، وثلاثة خواصّ، وحدة في تثليثٍ، وتثليثٌ في وحدة، وزادوا ونقصوا في الشريعة.
وأطلق بترك الإسكندرية للرهبان والأساقفة والبتاركة أكلَ اللحم، وكانوا على مذهب مَانِيْ، لا يرون أكل ذوات الأرواح. [156 أ]
فانفَضّ هذا المجمع، وقد لعنوا فيه أكثر أساقفتهم وبتاركتهم، ومضوا على تلك الأمانة.
ثم كان لهم مجمعٌ رابع بعد إحدى وخمسين سنة من هذا المجمع على نَسْطُورس. وكان مذهبه: «أن مريم ليست بوالدةِ الإله على الحقيقة، ولكن ثمة اثنان، الإله الذي هو موجود من الأب، والآخر إنسانٌ الذي هو موجود من مريم، وأن هذا الإنسان الذي نقول: إن المسيح متوحِّد مع أب الإله، وابن الإله ليس ابنًا على الحقيقة، لكن على سبيل الموْهبة والكرامة، واتفاق الاسمين» .
فبلغ ذلك بتاركَةَ سائر البلاد، فجرت بينهم مراسلاتٌ، واتفقوا على تَخْطِئته، واجتمع منهم مئتا أُسقُفٍّ في مدينة أفْسِيس، وأرسلوا إلى نَسْطُورس للمناظرة، فامتنع ثلاث مرات، فأوجبوا عليه الكفر، فلعنوه ونفوه، وحرموه، وثَبّتوا:«أن مريم ولدت إلهًا، وأن المسيح إله حقٌّ، وإنسان معروفٌ بطبيعتين، مُتَوحّد في الأقنوم» .
فلما لعنوا نَسْطُورس غضب له بَتْركُ أنطاكية، فجمع أساقفته الذين قدموا معه، وناظَرَهُم، فقطعهم، فتقاتلوا، ووقع الحرب والشر بينهم، وتفاقم أمرهم، فلم يزل الملك حتى أصلح بينهم، فكتب أولئك صحيفة: بأن «مريم
القِدِّيسة ولدت إلهًا، وهو رَبُّنا يَسُوع المسيح، الذي هو مع أمِّه في الطبيعة، ومع الناس في الناسوت»، وأنفذوا لَعْنَ نسطورس.
فلما نُفِي نسطورس سار إلى أرض مصر، وأقام بإخميم سبع سنين، ودُفن بها، ودَرَسَت مقالته، إلى أن أحياها ابن صَرما، مُطران نَصيبين، وبثَّها في بلاد المشرق، فأكثر نصارى العراق والمشرق نسطورية.
وانفضّ ذلك الجمع أيضًا على لعن نسطورس ومَنْ قال بقوله.
وكل مجامعهم كانت تجتمع على الضلال، وتفترق على اللعن، فلا ينفضُّ المجمع إلا وهُم ما بين لاعنٍ وملعون.
ثم كان لهم مجمعٌ خامس، وذلك أنه كان بالقسطنطينية طبيب راهب يقال له: أوطيسوس، يقول: إن جسد المسيح ليس هو مع أجسادنا في الطبيعة، وإن المسيح قَبْل التّجَسُّد طبيعتان، وبعد التجسد طبيعة واحدة.
وهذه مقالة اليعقوبية.
فرحل إليه أسْقُف دَوْلته، فناظره فقَطعه، وأدْحَضَ حُجَّتَهُ. ثم سار إلى قسطنطينية، فأخبر بتركها بالمناظرة وبانقطاعه، فأرسل بترك الإسكندرية إليه، فاستحضره، وجمع جمعًا عظيمًا، وسأله عن قوله، فقال: إن قلنا: إن المسيح طبيعتان فقد قلنا بقول نسطورس، ولكنا نقول: إن المسيح طبيعة واحدة، وأقنومٌ واحد، لأنه من طبيعتين كانتا قبل التجسد، فلما تجسّد زالت عنه الاثْنَيْنِيّة، وصار طبيعةً واحدةً، وأقنومًا واحدًا.
فقال له بترك القسطنطينية: إن كان المسيحُ طبيعةً واحدة فالطبيعةُ القديمة هي الطبيعة المحدَثة، وإن كان القديم هو المحدث فالذي لم يَزَلْ
هو الذي لم يَكُنْ، ولو جاز أن يكون القديم هو المحدث لكان القائم هو القاعد، والحارُّ هو البارد، فأبى أن يرجع عن مقالته، فلعنوه، فاسْتَعْدى إلى الملك، وزعم أنهم ظلموه، وسأله أن يكتب إلى جميع البتاركة للمناظرة.
فاستحضر الملك البتاركة والأساقفة من سائر البلاد إلى مدينة أفسيس، فثبّت بطريقُ الإسكندرية مقالة أوطيسوس، وقطع بتاركة القسطنطينية وأنطاكية وبيت المقدس، [156 ب] وسائر البتاركة والأساقفة، وكتب إلى بترك رُومية وإلى جماعة البتاركة والأساقفة، فحرَمهم ومنعهم من القُربان إن لم يقبلوا مقالة أوطيسوس.
ففسدت الأمانة، وصارت المقالة مقالة أوطيسوس، وخاصة بمصر والإسكندرية، وهو مذهب اليَعْقوبية.
فافترق هذا المجمع الخامس وهم ما بين لاعنٍ وملعونٍ، وضالٍّ ومُضلٍّ، وقائلٍ يقول: الصواب مع اللاعنين، وقائلٍ يقول: الحقُّ مع الملاعين.
ثم كان لهم بعد هذا مجمع سادسٌ في دولة مَرْقيون.
فإنه اجتمع إليه الأساقفة من سائر البلاد، فأعلموه ما كان من ظلم ذلك المجمع، وقلة الإنصاف، وأن مقالة أوطيسوس قد غَلبتْ على الناس، وأفسدت دين النصرانية، فأمر الملك باستحضار سائر البتاركة والمطارنة والأساقفة إلى حضرته، فاجتمع عنده ست مئة وثلاثون أسقفًا، فنظروا في مقالة أوطيسوس وبترك الإسكندرية، التي قطع بها جميع البتاركة، فأفسدوا مقالتهما ولعنوهما، وأثبتوا «أن المسيح إله وإنسان، ومع الله في اللاهوت،
ومعنا في الناسوت، له طبيعتان تامَّتان. فهو تامٌّ باللاهوت، تامٌّ بالناسوت، وهو مسيح واحد».
وثبتوا قول الثلاث مئة والثمانية عشر أُسْقُفا، وقبلوا قولهم:«بأن الابن مع الله في المكان، وأنه إله حقٌّ من إله حقٍّ» .
ولعنوا أريوس وقالوا: «إن روح القدس إله» ، وقالوا:«إن الأب والابن وروح القُدس واحدٌ بطبيعةٍ واحدةٍ، وأقانيم ثلاثة» .
وثبَّتوا قول أهل المجمع الثالث، وقالوا:
«إن مريم العَذْراء ولدت إلهًا ربّنا يسُوع المسيح، الذي هو مع الله في الطبيعة، ومعنا في الناسوت» .
وقالوا: «إن المسيح طبيعتان، وأقنومٌ واحدٌ» ، ولعنوا نسطورس، وبترك الإسكندرية.
فانفضَّ هذا المجمع، وهم ما بين لاعنٍ وملعونٍ.
ثم كان لهم بعد هذا مجمع سابع في أيام أنِسْطاس الملك.
وذلك أن سورس القسطنطين جاء إلى الملك، فقال: إن أصحاب ذلك المجمع الست مئة والثلاثين قد أخطأوا، والصواب ما قاله أوطيسوس وبَترَكُ الإسكندرية، فلا تقبل ممَّن سواهما، واكتُب إلى جميع بلادك أن العنوا الست مئة والثلاثين، وأن يأخذوا الناس بطبيعة واحدة ومشيئة واحدة وأقنوم واحد، فأجابه الملك إلى ذلك.
فلما بلغ بَترَكَ بيت المقدس جمع الرّهبان، فلعنوا أنسطاس الملك، وسورس، ومن يقول بمقالتهما، فبلغ ذلك الملك، فغضب، وبعث فنفى
البَتْرَك إلى أَيْلَة، وبعث يُوحَنّا بَتْرَكًا على بيت المقدس، لأنه كان قد ضَمِن للملك أن يلعن الست مئة والثلاثين.
فلما قدم إلى بيت المقدس اجتمع الرهبانُ، وقالوا: إياك أن تَقبل سورس، ولكن قاتل عن الست مئة والثلاثين ونحن معك، ففعل، وخالف الملك.
فلما بلغه أرسل قائدًا وأمره أن يأخذ يُوحَنّا بلعنة أولئك، فإن لم يفعلْ أنزله عن الكرسي ونفاه، فقدِم القائدُ، وطرح يُوحَنّا في الحبس، فصار إليه الرهبان في الحبس، وأشاروا عليه بأن يضمن للقائد أن يفعل ذلك، فإذا حضر فليُقِرَّ بلعنة كلّ من لعنه الرهبان.
فاجتمع الرهبانُ وكانوا عشرة آلاف راهب، فلعنوا أوطيسوس، ونَسْطُورس، وسورس، ومن لا يقبلُ من أولئك الست مئة والثلاثين.
ففزع رسول الملك من الرهبان، وبلغ ذلك الملك، فَهَمّ بنفي يُوحَنّا، فاجتمع الرُّهبان والأساقفة، فكتبوا إلى الملك: أنهم لا يقبلون مقالة سورس، ولو أُريقت دماؤهم، وسألوه أن يَكُفّ أذاه عنهم.
وكتب بَتْرَكُ رُومية إلى الملك بقُبْحِ فِعْله وبلَعْنِه، [157 أ] فانفضّ ذلك المجمع على اللعنة أيضًا.
وكان لسورس تلميذ يقال له: يعقوب البراذعي، لأنه كان يلبس من قِطع براذع الدواب، يرقّع بعضها ببعض، وإليه ينسب اليعاقبة، فأفسد أمانة القوم.
ثم هلك أنسطاس الملك، وولي بَعْدُ قسطنطين، فردَّ كلّ من كان نفاه أنسطاس إلى موضعه، وكتب إلى بيت المقدس بأمانته.
فاجتمع الرهبان، وأظهروا كتابه، وفرحوا به، وأثبتوا قول الست مئة والثلاثين أسقفًا، وغلبت اليَعقوبية على الإسكندرية، وقتلوا بَتْرَكًا يقال له: بُولس، وكان مَلْكانيًا، فولى الملك إسطيانوس، فأرسل قائدًا ومعه عسكر عظيم إلى الإسكندرية، فدخل الكنيسة في ثياب البَتْرَكَة، وتقدّم وقدّس، فرمَوْه بالحجارة، حتى كادوا يقتلونه، فانصرف وتوارَى عنهم، ثم أظهر لهم بعد ثلاثة أيام أنه أتاه كتابٌ من الملك، وأمر الحرس أن يجمعوا الناس لسماعه، فلم يبق أحد بالإسكندرية حتى حضر لسماعه، وكان قد جعل بينه وبين جنده علامةً إذا هو فعلها وضعوا السيف في الناس، فصعد المنبر، وقال: يا معشر أهل الإسكندرية! إن رجعتم إلى الحق وتركتم مقالة اليعاقبة، وإلا لم تأمنوا أن يُوجّه الملك إليكم مَنْ يَسْفك دماءكم، فرموه بالحجارة حتى خاف على نفسه، فأظهر العلامة، فوضعوا السيوف على مَنْ بالكنيسة، فقُتل خلقٌ لا يحصيهم إلا الله تعالى، حتى خاض الجند في الدّماء، وظهرت مقالة المَلْكانية بالإسكندرية.
ثم كان لهم بعد ذلك مجمع ثامن.
وذلك أن أسقف مَنْبِجَ كان يقول بالتناسخ، وأنه ليس ثمة قيامة ولا بعثٌ، وكان أُسقف الرُّها وأسقف المِصّيصة وأسقف ثالث يقولون: إن جسد المسيح خيال غير حقيقة، فحشرهم الملك إلى قسطنطينية، فقال لهم بَتركُها: إن كان جسدُهُ خيالًا فيجب أن يكون فعله خيالًا، وقوله خيالًا، وكل جسدٍ نعاينه لأحدٍ من الناس أو فعلٍ أو قول فهو كذلك.
وقال له: إن المسيح قد قام من الموتَى، وأعلمنا أنه كذلك يقومُ الناس يوم الدِّين.
واحتج بنصوص من الإنجيل كقوله: «إن كل من في القبور إذا سمعوا قول الله سبحانه يَحْيَون» فأوجب عليهم اللعن، وأمر الملك أن يكون لهم مجمع يلعنون فيه، واستحضر بتاركة البلاد. فاجتمع عنده مئة وأربعة وستون أسقفًا، فلعنوا أسقف مَنْبج، وأسقف المصّيصة، وثبَّتوا:
ثم كان لهم مجمعٌ تاسعٌ على عَهد معاوية بن أبى سفيان رضي الله عنه، تلاعنوا فيه.
وذلك أنه كان بروميةَ راهبٌ له تلميذان، فجاء إلى قَسْطا الوالي، فَوَبّخه على قُبح مذهبه وشناعة كُفْره، فأمر به قَسْطا، فقُطعت يداه ورجلاه، ونُزع لسانه، وفُعل بأحد التلميذين كذلك، وضُرِب الآخر بالسّياط، ونفاه، فبلغ ذلك ملك قسطنطينية، فأرسل إليه أن يوجّه إليه من أفاضل الأساقفة، ليعلم وجه هذه الشبهة، ومَنْ كان ابتدأ بها، ويعلم من يستحق اللعن.
فبعث إليه مئةً وأربعين أسقفًا، وثلاث مئة شَمّاس، فلما وصلوا إليه جمع الملك مئة وثمانية وستين أسقفًا، فصاروا مئتين واثنين وتسعين، وأسقطوا الشمامسة
(1)
.
(1)
في الأصل: «الثمانية» . والمثبت من م. والعدد غير مستقيم في الحساب. وفي «هداية الحيارى» (ص 422): ثلاث مئة وثمانية، وعدد الشمامسة ثلاث لا ثلاث مئة.