الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يومًا لا يجامع، إلى أمثال هذه الأمور التي خاطبني فيها وسألني عنها طوائف من الجند والعامة والفقراء.
قال: ومنهم من قد بلغه خلافُ بعض العلماء في وجوب الحدّ فيه، فظنّ أن ذلك خلافٌ في التحريم، ولم يعلم أن الشيء قد يكون من أعظم المُحَرَّمات كالميتة والدم ولحم الخنزير، وليس فيه حَدٌّ مقدَّرٌ.
ثم ذلك الخلافُ قد يكون قولًا
(1)
ضعيفًا، فيتولّد من ذلك القول الضعيف الذي هو من خطأ بعض المجتهدين، وهذا الظنّ الفاسد الذي هو خطأ بعض الجاهلين: تبديل الدِّين، وطاعة بعض الشياطين، ومعصية ربّ العالمين، فإذا انضافت الأقوال الباطلة إلى الظنون الكاذبة، وأعانتها الأهوية الغالبة، فلا تسأل عن تبديل الدين بعد ذلك، والخروج عن جملة الشريعة بالكلية.
ولما سَهُل هذا الأمر في نفوس كثير من الناس صار كثيرٌ من المماليك يتمدَّح بأنه لا يعرف غير سَيِّده، وأنه لم يطأه سواه، كما تتمدّح المرأة والأمة بأنها لا تعرف غير سيدها وزوجها. وكذلك كثيرٌ من المردان يتمدَّح بأنه لا يعرف غير خَدينه وصديقه، أو مواخيه، أو معلِّمه، وكذلك كثيرٌ من الفاعلين يتمدح بأنه عفيفٌ عما سوى خِدْنه الذي هو قرينهُ وعشيره كالزوجة، أو عمَّا سوى مملوكه الذي هو كَسُرِّيَّته.
ومنهم من يرى أن التحريم إنما هو إكراه الصبي على
(2)
فعل الفاحشة
، فإذا كان مختارًا راضيًا لم يكن بذلك بأسٌ، فكأن المُحَرَّم عنده من ذلك إنما
(1)
«قولًا» ساقطة من م.
(2)
«على» ساقطة من م.
هو الظلم والعدوان بإكراه المفعول به.
قال شيخنا رحمه الله: وحَكى لي مَن أثق به أن بعض هؤلاء أخُذِ على هذه الفاحشة، فحُكم عليه بالحدِّ، فقال: والله هو ارتضى بذلك، وما أكرهته ولا غصبته، فكيف أعاقب؟ فقال نصير المشركين وكان حاضرًا: هذا حكم محمد بن عبد الله! وليس لهؤلاء ذنبٌ!
ومن هؤلاء مَنْ يعتقد أن العشق إذا بلغ بالعاشق إلى حدٍّ يخافُ معه التَّلَف، أُبيح له وطء معشوقه للضرورة، وحفظ النفس، كما يباح له الدمُ والميتةُ ولحم الخنزير في المخمصة.
وقد يُبيح هؤلاء شربَ الخمر على وجه التدواي وحفظ الصحة، إذا سلم من مَعَرّة السكر.
ولا ريب أن الكفر والفسوق والمعاصي درجات، كما أن الإيمان والعمل الصالح درجات، كما قال تعالى:{هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران: 163]، وقال:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 132]، وقال:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37]، وقال:{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ [124 ب] رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124، 125]، ونظائره في القرآن كثيرة.
ومن أخف هؤلاء جُرمًا: مَن يرتكب ذلك معتقدًا تحريمه، وأنه إذا قضى حاجته قال: أستغفر الله!
فكأنّ ما كان لم يكن! فقد تلاعب الشيطان بأكثر هذا الخلق، كتلاعب الصبيان بالكُرة، وأخرج لهم أنواع الكفر والفسوق والعصيان في كل قالب.
وبالجملة فمراتب الفاحشة متفاوتةٌ بحسب مفاسدها:
فالمتخذ خِدْنًا من النساء، والمتخذة خِدنًا من الرجال: أقلّ شرًّا من المسافح والمسافحة مع كل أحد.
والمستخفي بما يرتكبه أقل إثمًا من المجاهر المُسْتَعْلِن.
والكاتم له أقلّ إثمًا من المخبر به، المحدّث للناس به، فهذا بعيدٌ من عافية الله تعالى وعفوه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«كلُّ أمتي معافًى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يستر الله تعالى عليه، ثم يُصبح يكشف سِتر الله عنه، يقول: يا فلان! فعلتُ البارحة كذا وكذا، فيبيت ربُّه يستره، ويُصبح يكشف سِتر الله عن نفسه»
(1)
أو كما قال.
وفي الحديث الآخر عنه صلى الله عليه وسلم: «من ابتُلي من هذه القاذورات بشيء فليَسْتَتِرْ بستر الله، فإنه مَنْ يُبدِ لنا صَفحته نُقِمْ عليه كتاب الله»
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (6069)، ومسلم (2990) عن أبي هريرة.
(2)
رواه الطحاوي في شرح المشكل (91) والعقيلي في الضعفاء (2/ 248) والبيهقي في الكبرى (8/ 330) من طرق عن يحيى بن سعيد عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر بنحوه مرفوعًا، وروِي عن عبد الله بن دينار مرسلا، قال الدارقطني في العلل (12/ 386):«هو أشبهها بالصواب» ، وصحّحه ابن السكن كما في البدر المنير (8/ 619) وليس فيه الشطر الأخير، والحاكم (7615، 8158)، وحسن إسناده الذهبي في المهذب (13720)، والعراقي في المغني (2983)، وزكريا الأنصاري في أسنى المطالب (4/ 131)، والهيتمي في الزواجر (2/ 762)، والشربيني في مغني المحتاج (4/ 150)، وهو في السلسلة الصحيحة (663). وروي عن غير عبد الله بن دينار مرسلًا، وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي الحديث الآخر: «إن الخطيئة إذا أُخفيت لا تَضُرّ إلا صاحبها، ولكن إذا أُعلنت فلم تُنكَر ضرّت العامة»
(1)
.
وكذلك الزنى بالمرأة التي لا زوج لها أيسرُ إثمًا من الزنى بذات الزوج، لما فيه من ظلم الزوج والعدوان عليه، وإفسادِ فراشه عليه، وقد يكون إثمُ هذا أعظم من إثم مجرد الزنى أو دونه.
والزنا بحليلة الجار أعظم من الزنى ببعيدة الدار، لما اقترن بذلك من أذى الجار، وعدم حفظ وصية الله تعالى ورسوله به.
وكذلك الزنى بامرأة الغازي في سبيل الله أعظمُ إثمًا عند الله من الزنى بغيرها، ولهذا «يقام له يوم القيامة، ويقال له: خُذْ من حسناته ما شئت»
(2)
.
وكما تختلف درجاته بحسب المَزنيِّ بها، فكذلك تتفاوت درجاته بحسب الزمان والمكان والأحوال، وبحسب الفاعل، فالزنى في رمضان ليلًا أو نهارًا أعظم إثمًا منه في غيره، وكذلك في البقاع الشريفة المفضّلة هو أعظم إثمًا منه فيما سواها.
(1)
رواه ابن أبي الدنيا في العقوبات (40) والطبراني في الأوسط (4770) من طريق مروان بن سالم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا، قال الهيثمي في المجمع (7/ 528):«فيه مروان بن سالم الغفاري وهو متروك» ، وحكم عليه الألباني بالوضع في السلسلة الضعيفة (1612). ورواه ابن المبارك في الزهد (1350) وغيره عن الأوزاعي عن بلال بن سعد قولَه.
(2)
أخرجه مسلم (1897) عن بريدة بن الحصيب.
وأما تفاوته بحسب الفاعل: فالزنى من الحرّ أقبح منه من العبد، ولهذا كان حَدّه على النصف من حدِّه، ومن المحصَن أقبحُ منه من البِكْر، ومن الشيخ أقبحُ منه من الشاب، ولهذا كان أحدَ الثلاثة الذين لا يُكَلّمهم الله يوم القيامة ولا يُزكّيهم ولهم عذاب أليم: الشيخ الزاني
(1)
، ومن العالم أقبح منه من الجاهل، لعلمه بقبحه وما يترتب عليه، وإقدامه على بصيرة، ومن القادر على الاستغناء عنه أقبح من الفقير العاجز.
فصل
ومما ينبغي أن يُعلم: أنه قد يقترن بالأيسر إثمًا ما يجعله أعظم إثمًا ممَّا هو فوقه.
مثاله: أنه قد يقترن بالفاحشة من العشق الذي يوجب اشتغال القلب بالمعشوق، وتألُّهه له وتعظيمه، والخضوع له، والذل له، وتقديم طاعته وما يأمر به على طاعة الله تعالى ورسوله وأمره، فيقترن بمحبة خِدْنه وتعظيمه، وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه، ومحبة ما يحبه، وكراهة ما يكرهه، ما قد يكون أعظم ضررًا على صاحبه من مجرَّد ركوب الفاحشة.
فإن المحبوبات لغير الله قد أثبتَ الشارعُ فيها اسم التعبُّد، كقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح:«تَعِسَ عبد الدينار، تعس عبد الدراهم، تعس عبد القطيفة، [125 أ] تعس عبد الخميصة، تعس وانتكَسَ، وإذا شِيكَ فلا انتَقَشَ، إن أُعطيَ رضيَ، وإن مُنِع سخط» . رواه البخاري
(2)
.
(1)
كما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم (107).
(2)
برقم (2886، 2887) عن أبي هريرة.