الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهذه ستة أنواع، عليها مدار محابِّ الخلق:
فمحبة الله عز وجل: أصل المحابِّ المحمودة، وأصل الإيمان والتوحيد، والنوعان الآخران تَبَعٌ لها.
و
المحبة مع الله: أصل الشرك
والمحابِّ المذمومة، والنوعان الآخران تبع لها.
ومحبة الصور المحرمة وعشقها من موجِبات الشرك، وكلَّما كان العبد أقربَ إلى الشرك وأبعد من الإخلاص كانت محبَّتُه بعشق الصور أشدَّ، وكلَّما كان أكثر إخلاصًا وأشدَّ توحيدًا كان أبعدَ من عشق الصور.
ولهذا أصاب امرأة العزيز ما أصابها من العشق لشركها، ونجا منه يوسف الصديق عليه السلام بإخلاصه.
قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].
فالسوء: العشق، والفحشاء: الزنى.
فالمخلص قد خلَّص حبه لله، فخَلَصَ من فتنة عشق الصور.
والمشرك قلبه معلَّق بغير الله، لم يُخلِص توحيده وحبَّه لله عز وجل.
فصل
ومن أبلغ كيد الشيطان وسُخْريته بالمفتونين بالصور: أنه يُمَنّي أحدهم أنه إنما يحب ذلك الأمْرَدَ أو تلك المرأة الأجنبية لله تعالى، لا لفاحشة، ويأمره بمواخاته.
وهذا من جنس المخادنة، بل هو مخادنة باطنة، كذوات الأخدان اللاتي قال الله تعالى فيهن:{مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25]، وقال في حق الرجال:{مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: 5]، فيُظهرون للناس أن محبتهم تلك الصورة لله تعالى، ويُبطنون اتخاذها خِدنًا! يتلذذون بها فعلًا، أو تقبيلًا، أو تمتُّعًا بمجرد النظر والمحادثة والمعاشرة.
واعتقادهم أن هذا لله وأنه قربة وطاعة: هو من أعظم الضلال والغَيّ وتبديل الدين، حيث جعلوا ما كرهه الله سبحانه محبوبًا له، وذلك [123 أ] من نوع الشرك، والمحبوبُ المُتَّخَذُ من دون الله طاغوتٌ، فإن اعتقاد كون التمتع بالمحبة والنظر والمخادنة وبعض المباشرة لله وأنه حُبٌّ فيه: كفر وشرك، كاعتقاد مُحِبّي الأوثان في أوثانهم.
وقد يبلغ الجهل بكثير من هؤلاء إلى أن يعتقد أن التعاون على الفاحشة تعاونٌ على الخير والبر، وأن الجالب محسن إلى العاشق، جدير بالثواب، وأنه ساعٍ في دوائه وشفائه، وتفريج كرب العشق عنه، وأن «من نَفّس عن مؤمن كُرْبة من كُرَب الدنيا نَفّس الله عنه كربةً من كُرَب يوم القيامة»
(1)
.
فصل
ثم هُمْ بعد هذا الضلال والغيّ أربعة أقسام:
قوم يعتقدون أن هذا لله، وهذا كثير في طوائف العامة، والمنتسبين إلى الفقر والتصوف، وكثير من الأتراك.
(1)
أخرجه بهذا اللفظ مسلم (2699) عن أبي هريرة.
وقوم يعلمون في الباطن أن هذا ليس لله، وإنما يظهرون أنه لله خداعًا ومكرًا وتستُّرًا.
وهؤلاء من وجهٍ أقربُ إلى المغفرة من أولئك، لما يُرْجَى لهم من التوبة، ومن وجهٍ أخبث، لأنهم يعلمون التحريم ويأتون المحرّم. وأولئك قد اشتبه الأمر على بعضهم، كما اشتبه على كثير من الناس أن استماع أصوات الملاهي قربة وطاعة، ووقع في ذلك مَنْ شاء الله من الزهّاد والعُبّاد، وكذلك اشتبه على من هو أضعف علمًا وإيمانًا أن التمتع بعشق الصور ومشاهدتها ومعاشرتها عبادة وقُربة.
القسم الثالث: مقصودهم الفاحشة الكبرى، فتارة يكونون من أولئك الضالِّين، الذين يعتقدون أن هذه المحبة التي لا وَطْء فيها لله تعالى، وأن الفاحشة معصية، فيقولون: نفعل شيئًا لله تعالى، ونفعل أمرًا لغير الله تعالى، وتارة يكونون من أهل القسم الثاني الذين يظهرون أن هذه المحبة لله، وهم يعلمون أن الأمر بخلاف ذلك، فيجمعون بين الكذب والفاحشة.
وهم في هذه المخادنة والمواخاة مُضاهِئون للنكاح، فإنه يحصل بين هذين من الاقتران والازدواج والمخالطة نظير ما يحصل بين الزوجين، وقد يزيد عليه تارة في الكَمّ والكيف، وقد ينقص عنه، وقد يحصل بينهما من الاقتران ما يشبه اقتران المتواخيين المتحابَّين في الله، لكن الذين آمنوا أشدُّ حبًّا لله، فإن المتحابَّين في الله يعظم تحابُّهما ويقوى ويثبت، بخلاف هذه المواخاة والمحبة الشيطانية.
ثم قد يشتدُّ بينهما الاتصال حتى يسمُّونه زواجًا، ويقولون: تزوّج فلان بفلان، كما يفعله المستهزئون بآيات الله تعالى ودينه من مُجَّان الفسقة،
ويُقرّهما الحاضرون على ذلك، ويضحكون منه، ويُعجِبهم مثل ذلك المزاح والنكاح.
وربما يقول بعض زنادقة هؤلاء: الأمرد حبيب الله، والملتحي عدو الله، وربما اعتقد كثير من المردان أن هذا صحيح، وأنه مراد بقوله: «إذا أحب الله العبد نادى: يا جبريل! إني أحب فلانًا
…
» الحديث
(1)
، وأنه توضع له المحبة في الأرض، فيعجبه أن يُحَبّ، ويفتخر بذلك بين الناس، ويعجبه أن يقال: هو معشوق، أو حُظْوة البلد، وأن الناس يتغايرون على محبته ونحو ذلك.
وقد آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى ترجيح وطء المُرْدان على نكاح النسوان، وقالوا: هو أسلم من الحَبَل والولادة، ومَؤُونة النكاح، والشكوى إلى القاضي، وفرض النفقة، والحبس على الحقوق.
وربما قال بعضهم: إن جماع النساء يأخذ من القوة أكثر مما يأخذ جماع الصبيان، لأن الفرج [123 ب] يجذب من القوة والماء أكثر مما يجذب المحل الآخر بحكم الطبيعة.
وقسّمت هذه الطائفة المفعولَ به إلى ثلاثة أقسام: مؤاجر، ومملوك، ومعشوق خاص.
فالأول: إزاء البغايا المؤجِّرات أنفسهن.
والثاني: بإزاء الأمة والسُّرِّيَّة.
والثالث: بإزاء الزوجة، أو الأجنبية المعشوقة.
(1)
أخرجه البخاري (3209)، ومسلم (2637) عن أبي هريرة.
وتعوض كلٌّ منهم بقسم عن نظيره من الإناث، وربما فضَّل بعضهم اتخاذ المردان واستفراشهم على النساء من وجوه. وهذا مضادَّة ومحادَّة لله، ودينه، وكتبه، ورسله.
وصنَّف بعضهم كتابًا في هذا الباب، وقال في أثنائه:«باب في المذهب المالكي» ، وذكر فيه الجماع في الدُبُر من الذكور والإناث.
وقد عُلِم أن مالكًا رحمه الله تعالى من أشدِّ الناس وأشدِّهم مذهبًا في هذا الباب، حتى إنه يوجب قتل اللوطي حدًّا، بكرًا كان أو ثيبًا، وقوله في ذلك هو أصح المذاهب، كما دلت عليه النصوص، واتفق عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن اختلفت أقوالهم في كيفية قتله، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وسبب غلط هذا وأمثاله: أنه قد نُسب إلى مالك رحمه الله تعالى القول بجواز وطء الرجل امرأته في دبرها. وهو كذب على مالك وعلى أصحابه، فكتبهم كلها مصرحة بتحريمه.
ثم لما استقر عند هؤلاء أن مالكًا يبيح ذلك، نقلوا الإباحة من الإناث إلى الذكور، وجعلوا الباب بابًا واحدًا. وهذا كفر وزندقة من قائله بإجماع الأمة.
ونظير هذا: ما يتوهَّمه كثير من الفسقة وجُهَّال التُّرْك وغيرهم: أن مذهب أبى حنيفة رحمه الله تعالى أن هذا ليس من الكبائر، وغايته أن تكون صغيرة من الصغائر.
وهذا من أعظم الكذب والبَهْت على الأئمة، فقد أعاذ الله أبا حنيفة وأصحابه من ذلك.
وشبهة هؤلاء الفسقة الجهلة: أنهم لمَّا رأوا أبا حنيفة رحمه الله تعالى لم يوجب فيه الحدّ، ركّبوا على ذلك أنه ليس من كبائر الذنوب، بل من صغائرها، وهذا ظن كاذب، فإن أبا حنيفة لم يُسقط فيه الحدّ لخفَّة أمره، وإن جُرْمه عنده وعند جميع أهل الإسلام أعظم من جرم الزنى، ولهذا عاقب الله سبحانه أهله بما لم يعاقب به أمّة من الأمم، وجمع عليهم من أنواع العذاب ما لم يجمعه على غيرهم.
وشبهة من أسقط فيه الحد: أن فُحش هذا مركوز في طباع الأمم، فاكتُفِيَ فيه بالوازع الطَّبْعي، كما اكتُفِيَ بذلك في أكل الرّجيع وشرب البول والدم، ورُتب الحدّ على شرب الخمر، لكونه مما تدعو إليه النفوس.
والجمهور يجيبون عن هذا: بأن في النفوس الخبيثة المتعدية حدود الله أقوى الداعي لذلك، فالحدّ فيه أولى من الحدّ في الزنى، ولذلك وجب الحدّ على من وطئ أمه وابنته وخالته وجَدّته، وإن كان في النفوس وازعٌ وزاجر طَبْعي عن ذلك، بل حَدُّ هذا: القتل بكل حال، بِكْرًا كان أو مُحْصَنًا، في أصح الأقوال، وهو مذهب أحمد وغيره.
هذا، ونُفْرة النفوس عن ذلك أعظم بكثير من نُفرتها عن المُرْدان.
ونظيرُ هذا الظنّ الكاذب، والغلطِ الفاحش: ظنّ كثير من الجهال أن الفاحشة بالمملوك كالمباحة أو مباحةٌ، أو أنها أيسَرُ من ارتكابها من الحرّ، وتأولتْ هذه الفرقةُ القرآن على ذلك، وأدخلت المملوك في قوله:{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6]، حتى إن بعض النساء لتُمَكِّنُ عَبْدَها من نَفْسِها، وتتأولُ القرآن على ذلك، كما رُفع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأةٌ تزوّجت عبدَها، وتأوّلت هذه الآية،
ففرق عمرُ بينهما، وأدّبها، [124 أ] وقال: وَيحكِ! إنما هذا للرجال لا للنساء
(1)
.
ومن تأوّل هذه الآية على وَطْء الذُّكران من المماليك فهو كافر باتفاق الأمة.
قال شيخنا رحمه الله: ومن هؤلاء من يتأول قوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221] على ذلك، قال: سألني مرةً بعضُ الناس عن هذه الآية، وكان ممن يقرأ القرآن، فظن أن معناها في إباحة ذُكران العبيد المؤمنين.
قال: ومنهم من يجعل ذلك مسألة نزاعٍ، يبيحه بعضُ العلماء ويُحَرّمه بعضهم، ويقول: اختلافُهم شُبهة. وهذا كذبٌ وجهلٌ، فإنه ليس في فِرَق الأمة مَن يبيح ذلك، بل ولا في دينٍ من أديان الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وإنما يبيحه زنادقةُ العالم، الذين لا يؤمنون بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر.
قال: ومنهم مَن يقول: هو مباحٌ للضرورة، مثل أن يبقى الرجلُ أربعين
(1)
رواه عبد الرزاق (7/ 209) عن معمر عن قتادة قال: تسرّت امرأة غلامًا لها، فذُكِرت لعمر، فسألها: ما حملك على هذا؟ فقالت: كنت أرى أنه يحلّ لي ما يحلّ للرجال من مِلك اليمين، فاستشار عمر فيها أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: تأوّلت كتاب الله تعالى على غير تأويله، فقال عمر: لا جرم والله لا أحلّك لحرٍّ بعده أبدًا، كأنه عاقبها بذلك، ودرأ الحدَّ عنها وأمر العبد أن لا يقربها. ورواه الطبري في تفسيره (11277) من طريق سعيد عن قتادة به، وفيه أنه غَرَّب العبدَ وجزَّ رأسه. قال ابن كثير في تفسيره (5/ 463):«هذا أثر غريب منقطع» .