الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فسمّى هؤلاء الذين إن أعطوا رضوا وإن مُنعوا سخطوا عبيدًا لهذه الأشياء، لانتهاء محبتهم ورضاهم ورغبتهم إليها.
فإذا شُغف الإنسان بمحبة صورة لغير الله، بحيث يرضيه وُصولُهُ إليها وظَفَرُه بها، ويُسخِطه فَوَات ذلك، كان فيه من التعبُّد لها بقدر ذلك.
ولهذا يجعلون الحب مراتب: أوله العلاقة، ثم الصبّابة، ثم الغرام، ثم العشق، وآخر ذلك: التَّتَيُّم، وهو التعبُّد للمعشوق، فيصير العاشق عبدًا لمعشوقه.
والله سبحانه إنما حكى عشق الصور في القرآن عن المشركين:
فحكاه عن امرأة العزيز، وكانت مشركة على دين زوجها، وكانوا مشركين، وحكاه عن اللوطيَّة، وكانوا مشركين، فقال تعالى في قصَّتهم:{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72].
وأخبر سبحانه أنه يصرفه عن أهل الإخلاص، فقال:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].
وقال عن عدوه إبليس إنه قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلِصِيْنَ}
(1)
[ص: 82، 83]، وقال تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]، والغاوي ضدّ الراشد، و
العشق المحرَّم من أعظم الغَيّ
.
لهذا كان أتباعُ الشعراء وأهل السماع الشعريّ غاوين، كما سماهم تعالى
(1)
بكسر اللام على قراءة أبي عمرو.
بذلك في قوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]، فالغاوون يتَّبعون الشعراء، وأصحابَ السماع الشعري الشيطاني، وهؤلاء لا ينفكّون عن طلب وصالٍ، أو سؤال نَوال، كما قال أبو تَمَّام لرجل: أما تعرفني؟ فقال: ومن أعْرَفُ بك مني؟
أَنْتَ بَيْنَ اثْنَتَينِ تَبْرُزُ لِلنَّا
…
سِ وَكِلْتَاهُما بِوَجْهٍ مُذَالِ
لَسْتَ تَنْفَكُّ طَالِبًا لِوِصَالٍ
…
مِنْ حَبِيبٍ أَوْ رَاجِيًا لِنَوَالِ
أيُّ مَاءٍ يَبْقَى لِوَجْهِكَ هَذَا
…
بَيْنَ ذُلِّ الْهَوَى وَذُلِّ السُّؤَالِ
(1)
والزنى بالفرْج وإن كان أعظم من الإلمام بالصغيرة، كالنظرة والقبلة واللمس، لكنَّ إصرار العاشق على مَحَبَّة الفعل وتوابعه ولوازمه، وتمنّيَه له، وحديث نفسه به أنه لا يتركه، واشتغالَ قلبه بالمعشوق: قد يكون أعظمَ ضررًا من فعل الفاحشة مَرّةً بشيء كثير، فإن الإصرار على الصغيرة قد يساوي إثْمُهُ إثمَ الكبيرة، أو يُرْبِي عليها.
وأيضًا، فإن تعبُّد القلب للمعشوق شِرْكٌ، وفعل الفاحشة معصيةٌ، ومفسدة الشرك أعظمُ من مفسدة المعصية.
وأيضًا، فإنه قد يتخلص من الكبيرة بالتوبة والاستغفار، وأما العشقُ إذا تمكَّن من القلب فإنه يَعِزّ عليه التخلُّص منه، كما قال القائل:
تَاللّهِ مَا أسَرَتْ لَوَاحِظُكِ امْرَأً إلا وَعَزّ على الوَرَى استنقَاذُهُ
(2)
(1)
الأبيات لعبد الصمد بن المعذّل في أخبار أبي تمام (ص 241، 242)، ووفيات الأعيان (2/ 13).
(2)
البيت من ذالية مشهورة لظافر الحداد في ديوانه (ص 127)، ومعجم الأدباء (4/ 1464)، ووفيات الأعيان (2/ 541)، والمقفى (4/ 40). ووهم ابن باطيش فنسب أبياتًا منها إلى أبي بكر محمد بن أحمد بن الحداد الشافعي في المغني (2/ 333).