الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ودَفْعِ مبغوضها بالذات، وأسبابه بالوسيلة، فسَعيه في تحصيل محبوبه لما فيه من اللَّذَّة، وكذلك سَعْيه في دفع مكروهه أيضًا لما له في دفعه من اللذة، كدفع ما يُؤلمه من البَول، والنّجْو، والدم، والقيء، وما يؤلمه من الحَرّ، والبرد، والجوع، والعطش، وغير ذلك.
وإذا علم أن هذا المكروه يُفضي إلى ما يحبُّه يصير محبوبًا له، وإن كان يكرهه، فهو يحبُّه من وجهٍ، ويكرهه من وجه، وكذلك إذا علم أن هذا المحبوب يُفضي إلى ما يكرهه يصير مكروهًا له، وإن كان يحبُّه، فهو يكرهه من وجه، ويحبه من وجه.
فلا يترك الحيُّ ما يحبه ويهواه مع قدرته عليه إلا لما يُحبُّه ويهواه، ولا يرتكب ما يكرهه ويخشاه إلا حِذَارَ وُقوعه فيما يَكرهه ويَخشاه، لكن خاصية العقل أن يترك أدنى المحبوبين وأقلّهما نفعًا لأعلاهما وأعظمهما نفعًا، ويرتكب أدنى المكروهين ضررًا ليتخلص به
(1)
من أشدّهما ضررًا.
فتبيّن بذلك أن
المحبة والإرادة أصلٌ للبغض والكراهة، وعِلّةٌ لهما من غير عكسٍ
، فكل بُغضٍ فهو لمنافاة البغيضِ للمحبوب، ولولا وجود المحبوب لم يكن البُغض، بخلاف الحبِّ للشيء فإنه قد يكون لنفسه، لا لأجل منافاته للبغيض، وبغض الإنسان لما يضادّ محبوبه مستلزمٌ لمحبته ولضدّه، وكلما كان الحب أقوى كان قوة
(2)
البغض للمنافي أشدّ.
ولِهذا كان «أوثقُ عُرى الإيمان الحبّ في الله والبغض في الله»
(3)
،
(1)
«به» ساقطة من م.
(2)
«قوة» ساقطة من م.
(3)
أخرجه أحمد في مسنده (4/ 286) عن البراء بن عازب، وهو حسن بشواهده.
وكان «مَنْ أحَبّ لله، وأبْغَضَ لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان»
(1)
.
فإن الإيمان عِلمٌ وعمل، والعمل ثَمرة العلم، وهو نوعان: عملُ القلب حُبًّا وبغضًا، ويترتب عليهما عمل الجوارح فعلًا وتركًا، وهما العطاء والمنع.
فإذا كانت هذه الأصول الأربعة لله تعالى كان صاحبها مستكمل الإيمان، وما نقص منها فكان لغير الله نَقَصَ من إيمانه بحسبه.
فصل
إذا عُرف هذا، فكل حركة في العالم العُلويّ والسُّفْليّ فسببُها المحبة والإرادة، وغايتها المحبة والإرادة.
فإن الحركات ثلاث: إرادية، وطَبْعية، وقَسْريّة.
فإن المتحرك إن كان له شعورٌ بحركته وإرادته لها فحركته إرادية.
وإن لم يكن له شعورٌ بحركته، أو له بها شعورٌ وهو غير مريد لها، فحركته إما على وَفق طبعه، أو على خلافه، فالأولى طبعية، والثانية قَسرية.
وأظهر من هذا أن يقال: مبدأ الحركة إما أن يكون أمرًا مباينًا للمتحرك، أو قوة فيه، فالأول: الحركةُ فيه قسريةٌ، والثاني: إما أن يكون له به شعور أو لا، فالأول: الحركة فيه إراديةٌ، والثاني: طبعيةٌ.
فالحركة متى لازَمَت الشعور والإرادة فهي إرادية، ومتى انتفى عنها
(1)
أخرجه أبو داود (4681) عن أبي أمامة. وفي إسناده القاسم بن عبد الرحمن، وقد تكلم فيه غير واحد. والحديث حسن بشواهده، انظر السلسلة الصحيحة (380).
الأمران: فإن كانت بقوةٍ في المتحرك فهي الطبعية، وإن كانت من غير قوة في المحرّك فهي القسريّة.
وكل حركة في السماوات والأرض من حركات الأفلاك، والنجوم، والشمس، والقمر، والرياح، والسحاب، والنبات، والحيوان، فهي ناشئة عن الملائكة الموكّلين بالسماوات والأرض، كما قال تعالى:{فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات: 5]، وقال:{فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات: 4]، وهي الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل عليهم السلام. وأما المكذِّبون للرسل المنكرون للصانع، فيقولون: هي النجوم. وقد أشبعنا الرد على هؤلاء في كتابنا الكبير المسمى بـ «المفتاح»
(1)
.
وقد دلّ الكتاب [119 أ] والسنة على أصناف الملائكة، وأنها موكّلة بأصناف المخلوقات، وأنه سبحانه وكّل بالجبال ملائكة، ووكّل بالسحاب والمطر ملائكة، ووكّل بالرحم ملائكة تُدَبّر أمر النطفة حتى يتم خلقها، ثم وكّل بالعبد ملائكة لِحِفظه، وملائكةً لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته، ووكّل بالموت ملائكةً، ووكّل بالسؤال في القبر ملائكةً، ووكّل بالأفلاك ملائكة يُحرّكونها، ووكّل بالشمس والقمر ملائكة، ووكّل بالنار وإيقادها ملائكة، وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة، ووكّل بالجنة وعمارتها وغراسها وعمل الأنهار فيها
(2)
ملائكة، فالملائكة أعظم جنود الله تعالى، ومنهم: المرسلات عرفا، والناشرات نشرا، والفارقات فرقا، والملقيات ذكرا، ومنهم: النازعات غرقا، والناشطات نشطا، والسابحات سبحا، فالسابقات
(1)
أي مفتاح دار السعادة (2/ 125 وما بعدها).
(2)
م: «آلاتها» .