الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأصلُ كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع، والهَوَى على العقلِ:
فالأول: أصل فتنة الشبهة، والثاني: أصلُ فتنة الشهوة.
ففتنة الشبهات: تُدفعُ باليقين، وفتنة الشهوات: تُدفع بالصبر. ولذلك جعل سبحانه إمامة الدِّين منوطةً بهذين الأمرين، فقال:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. فدل على أنه
بالصبر واليقين تُنالُ الإمامة في الدين
.
وجمع بينهما أيضًا في قوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3]، فتواصوا بالحق الذي يَدْفعُ الشبهات، وبالصبر الذي يكفّ عن الشهوات.
وجمع بينهما في قوله: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45].
فالأيدي: القُوَى والعزائم
(1)
في ذات الله، والأبصارُ: البصائر في أمر الله. وعباراتُ السلف تدور على ذلك.
قال ابن عباس
(2)
: أولي القوّة في طاعة الله، والمعرفة بالله.
(1)
م: «القوائم» . والمثبت من باقي النسخ.
(2)
أقوال المفسرين نقلها المؤلف من البسيط للواحدي (19/ 221) ببعض الاختلاف. وقول ابن عباس رواه الطبري في تفسيره (21/ 215) وابن أبي حاتم في تفسيره (18364) من طريق ابن أبي طلحة، والثعلبي في تفسيره (8/ 212) من طريق عمر بن عطاء، كلاهما عن ابن عباس قال:«أولي الأيدي: أولي القوّة في العبادة، والأبصَار: الفقه في الدين» ، ولفظ الثعلبي:«والأبصَار: التبصّر في العلم والدين» ، وعزاه في الدر المنثور (7/ 197) لابن المنذر.
وقال الكلبي: أولي القوة في العبادة، والبصر فيها.
وقال مجاهد
(1)
: الأيدي: القوة في طاعة الله، والأبصار: البصرُ في الحق.
وقال سعيد بن جُبير
(2)
: الأيدي: القوة في العمل، والأبصار: بصرهم بما هم فيه من دينهم.
وقد جاء في حديث مرسل
(3)
: «إن الله يُحِبُّ [129 ب] البصر النافذ عند
(1)
رواه الطبري في تفسيره (21/ 216) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد، وروى ابن أبي الدنيا في العقل (7) والطبري (21/ 216) من طريقين عن منصور عن مجاهد قال:«الأيدي: القوّة في أمر الله، والأبصار: العقول» ، وعزاه في الدر المنثور (7/ 198) لعبد بن حميد.
(2)
رواه ابن المبارك في الزهد (1516) عن شريك عن سالم عن سعيد، وعزاه في الدر المنثور (7/ 197، 198) لعبد بن حميد.
(3)
رواه ابن جميع في معجمه (ص 88، 89)، والسلمي في الأربعين (ص 6)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 199)، والقضاعي في مسند الشهاب (1080، 1081)، والبيهقي في الزهد الكبير (954)، وغيرهم من طريق عمر بن حفص العبدي عن حوشب ومطر عن الحسن عن عمران بن حصين به مرفوعًا، قال البيهقي:«تفرّد به عمر بن حفص» ، وقال العراقي في المغني (4299):«ضعّفه الجمهور» . ورواه الحكيم الترمذي عن الزبير بن العوّام مرفوعًا كما في الدر المنثور (6/ 707 - 708). ولم أقف عليه مرسلًا كما ذكره المصنّف، وقبلَه ابن تيمية حيث قال كما في المجموع (7/ 540):«رواه البيهقي مرسلًا» ، إلا أن يكون المقصود الانقطاع، فإنّ الحسن لم يسمع من عمران، والله أعلم.
ورُود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حُلول الشهوات».
فبكمال العقل والصبر تُدفع فتنةُ الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تُدفع فتنة الشبهة.
والله المستعان.
فصل
إذا سلم العبدُ من فتنة الشبهات والشهوات حصل له أعظمُ غايتين مطلوبتين، بهما سعادته وفلاحه وكماله، وهما الهُدى والرحمة.
قال تعالى عن موسى وفتاه: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]، فجمع له بين الرحمة والعلم، وذلك نظيرُ قول أصحاب الكهف:{رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10]، فإن الرّشد: هو العلم بما ينفع والعمل به.
والرشد والهُدى إذا أُفْرِدَ كُلٌّ منها تضمّن الآخر، وإذا قُرن أحدهما بالآخر فالهدى هو العلم بالحقّ، والرشد هو العمل به، وضدهما: الغيّ واتباع الهوى.
وقد يقابَل الرشد بالضّر والشر، قال تعالى:{قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن: 21]، وقال مؤمنو الجن:{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10].
فالرشد يقابل الغيَّ تارةً، كما في قوله:{وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: 146].
ويقابل الضّرّ والشرّ، كما تقدم، وذلك لأن الغي سببُ حصول الشرّ والضّرّ، ووقوعهما بصاحبه.
فالضّر والشرّ غاية الغي وثمرته، كما أن الرحمة والفلاح غاية الهدى وثمرته.
فلهذا يُقابَلُ كل منهما بنقيضه وسبب نقيضه.
فيقابل الهدى بالضلال، كقوله:{يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93]، وقوله:{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37]، وهو كثير.
ويقابل بالغضب
(1)
والعذاب، كقوله:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]، فقابل الهدى بالضلال والشقاء.
وجمع سبحانه بين الهدى والفلاح، والهدى والرحمة، كما يجمع بين الضلال والشقاء، والضلال والعذاب:
كقوله: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47]، فالضلال ضدّ الهدى، والسُّعُر العذاب، وهو ضدّ الرحمة.
وقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].
والمقصود: أن من سَلِمَ من فتنة الشبهات والشهوات جُمع له بين الهدى والرحمة، والفلاح والهدى.
(1)
كذا في النسخ، والسياق يقتضي «بالضلال» .
قال تعالى عن أوليائه: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]، وقال تعالى:{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154]، وقال تعالى:{هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 20]، وقال تعالى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
فقوله: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} عام مطلق، وقوله:{وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} خاص بأهل اليقين.
ونظير ذلك قوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} .
ونظيره في الخصوص قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، وقوله:{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ [130 أ] رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16].
ونظيره أيضًا قوله: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138].
وقد أخبر أنه هُدًى عامٌّ لجميع المكلَّفين، فقال: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ