الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23].
فأخبر سبحانه أن القرآن بصائر لجميع الناس، و
البصائر: جمع بَصيرة، وهى فعيلة بمعنى مُفْعِلَة
، أي: مُبصِرة لمن يبصر، ومنه قوله تعالى:{وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59]، أي: مُبَيّنةً مُوجِبة للتّبصُّر.
وفعل
الإبصار يستعمل لازمًا ومتعديًا
، يقال: أبصرته، بمعنى: رأيْتُه، وأبصرته، بمعنى: أرَيْتُه.
فـ {مُبْصِرَةً} في الآية، بمعنى: مُرِيَة، لا بمعنى: رائية، والذين ظنُّوها بمعنى: رائية غلطوا في الآية، وتحيَّروا في معناها.
فإنه يقال: بَصُرَ به، وأبصره، فيُعَدّى بالباء تارة والهمزة تارة، ثم يقال: أبصرتُه كذا، أي: أريته إياه، كما يقال: بَصَّرته به، وبَصُر هو به.
فهنا بَصيرة، وتَبْصرة، ومُبصرة، فالبَصيرة: المبينة التي تُبْصر، والتبصرةُ: مصدرٌ مثلُ التذكرة، وسُمّي بها ما يُوجب التبصرة، فيقال: هذه الآية تَبصرةٌ، لكونها آلة التبصُّرِ ومُوجبه.
فالقرآن بصيرةٌ وتَبصرة، وهُدًى وشفاءٌ ورحمةٌ، بمعنى عام وبمعنى خاصٍّ، ولهذا يَذكر الله سبحانه هذا وهذا، فهو هدًى للعالمين، وهُدًى للمتقين، وشفاءٌ للعالمين، وشفاءٌ للمؤمنين، وموعظةٌ للعالمين، وموعظةٌ للمتقين، فهو في نفسه هُدًى ورحمةٌ، وشِفَاءٌ وموعظةٌ.
فمن اهتدَى به واتّعظ واشتفى كان بمنزلة مَن استعمل الدوّاء الذي يَحْصُل به الشفاء، فهو دواءٌ بالفعل. وإن لم يستعمله فهو دواء له بالقوة.
وكذلك الهُدى، فالقرآن هدًى بالفعل لمن اهْتدَى به، وبالقوّة لمن لم يَهْتَد به، فإنما يهتدي به ويُرْحَم ويَتّعِظُ المتقون الموقنون.
والهدَى في الأصل: مصدرُ هَدَى يهدي هُدًى.
فمن لم يعمل بعلمه لم يكن مُهْتديًا، كما في الأثر:«من ازداد علمًا، ولم يزدد هُدًى لم يزدَدْ من الله تعالى إلا بعدًا»
(1)
.
ولكن يسمَّى هُدًى لأن مِنْ شأنه أن يهدي.
وهذا أحسنُ من قول من قال: إنه هُدًى، بمعنى هادٍ، فهو مَصْدرٌ بمعنى الفاعل، كعَدْل بمعنى العادل، وزَوْر بمعنى الزائر، ورجُل صَوْمٌ أي: صائم!
فإن الله سبحانه قد أخبر أنه يهدي به، فالله الهادي، وكتابه الهُدَى الذي يهدي به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
فهاهنا ثلاثةُ أشياء: فاعلٌ، وقابلٌ، وآلةٌ. فالفاعل: هو الله تعالى، والقابل: قلبُ العبد، والآلة: هو الذي يحصل به الهدى، وهو الكتاب المنزّل، والله سبحانه يهدي خلقَه هُدًى، كما يقال: دَلَّهم دلالة، وأرشدهم إرشادًا، وبيّن لهم بيانًا.
(1)
ذكره السبكي في طبقاته (6/ 289) في أحاديث الإحياء التي لم يجد لها إسنادًا، وقال العراقي في المغني (140):«رواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث علي بإسناد ضعيف» ، وضعفه الفتني في التذكرة (ص 24)، والشوكاني في الفوائد المجموعة (56)، وخرجه الألباني في السلسلة الضعيفة (4541) من حديث أنس وقال:«ضعيف جدًّا» . ورُوي نحوه من كلام بشر بن الحارث عند الدينوري في المجالسة (1287).
والمقصود أن المحل القابلَ هو قلبُ العبد المتقي، المُنيب إلى رَبّه، الخائف منه، الذي يَبتغي رضاه، ويهرُب من سخطه، فإذا هداه الله بكتابه فكأنّه وصل أثرُ فعله إلى محلٍّ قابل، فيتأثر به، فصار هُدًى له وشفاءً ورحمةً وموعظةً، بالوجود والفعل والقبول.
وإذا لم يكن المحل قابلًا وصل إليه الهُدَى فلم يُؤثّر فيه، كما يصلُ الغِذاءُ إلى محلِّ غير قابل للاغتذاء، فإنه لا يؤثرُ فيه شيئًا، بل ولا يزيده إلا ضعفًا وفسادًا إلى فساده.
كما قال تعالى في الآية التي نَزّلها
(1)
وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82].
فتخلُّفُ الاهتداء يكون لعدم قَبول المحل تارة، ولعدم آلة الهدى تارة، ولعدم فعل الفاعل وهو الهادي تارة، ولا يحصلُ الهُدى على الحقيقة إلا عند اجتماع هذه الأمور الثلاثة.
وقد قال سبحانه: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]، فأخبر سبحانه أنه قطع عنهم [130 ب] مادّة
(1)
ح، ظ:«ينزلها» .