الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بل يصير تعبدًا لازمًا للقلب لا ينفكّ عنه، ومعلومٌ أن هذا أعظم ضررًا وفسادًا من فاحشة يرتكبها مع كراهيته لها، وقلبه غير متعبّد لمن ارتكبها منه.
وقد أخبر الله سبحانه أن سلطان الشيطان إنما هو: {عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100]، وأن سلطانه إنما هو على من اتبعه من الغاوين، والغَيّ اتباع الهوى والشهوات، كما أن الضَّلال اتباعُ الظنون والشبهات.
و
أصلُ الغيّ من الحبّ لغير الله
، فإنه يَضعفُ الإخلاصُ به، ويقوَى الشرك بقوَّته.
ف
أصحاب العشق الشيطاني لهم مِن تَوَلَّي الشيطان والإشراك به بقَدْر ذلك
، لما فيهم من الإشراك [125 ب] بالله، ولما فاتهم من الإخلاص له، ففيهم نصيب من اتخاذ الأنداد، ولهذا ترى كثيرًا منهم عبدًا لذلك المعشوق، مُتَيمًا فيه، يصرخُ في حضوره ومغيبه: أنه عبده، فهو أعظم ذكرًا له من ربّه، وحُبّه في قلبه أعظم من حبّ الله فيه، وكفى به شاهدًا بذلك على نفسه فالإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره.
فلو خُيّر بين رضَاهُ ورضا الله لاختار رضا معشوقه على رضا ربِّه، ولقاءُ معشوقه أحبّ إليه من لقاء ربِّه، وتمنّيه لقُربه أعظم من تمنِّيه لقرب ربِّه، وهَرَبُه من سخَطِه عليه أشدّ من هربه من سَخط ربِّه عليه، يُسْخِط رَبّه بمرضاة
معشوقه، ويُقدّم مصالح معشوقه وحوائجَهُ على طاعةِ ربِّه، فإنْ فَضَلَ من وقته فضلةٌ وكان عنده قليل من الإيمان، صرف تلك الفضلة في طاعة ربه، وإن استغرق الزمانَ حوائج معشوقه ومَصالحه صرفَ زمانه كلَّه فيها، وأهمل أمرَ الله تعالى، يَجُود لمعشوقه بكلّ نفيسة ونفيس، ويجعل لربِّه من ماله إن جعل له كلّ رذيلة وخسيس، فلمعشوقه لُبّه وقلبه، وهَمّه ووقته، وخالصُ ماله، وربّه على الفَضْلة، قد اتخذهُ وراءه ظهريًا، وصار لذكره نَسِيًّا، إن قام في خِدمته في الصلاة، فلسانه يُناجيه وقلبُه يناجي معشوقه، ووجْهُ بَدَنه إلى القبلة ووجْهُ قلبه إلى المعشوق، ينقُر خدمة رَبّه حتى كأنه واقفٌ في الصلاة على الجمر، من ثِقلها عليه وتكلُّفه لفعلها، فإن جاءت خِدْمَة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبَدَنه فَرِحًا بها، ناصحًا له فيها، خفيفةً على قلبه، لا يَسْتثقلها ولا يَسْتطيلُها.
ولا رَيبَ أن هؤلاء من الذين اتخذوا من دون الله أندادًا، يُحبُّونهم كحِّبُ الله، والذين آمنوا أشدّ حبًّا لله.
وعِشْقُهم يَجمعُ المحرمات الأربع: من الفواحش الظاهرة والباطنة، والإثم والبغي بغير الحق، والشرك بالله ما لم يُنزّل به سلطانًا، والقول على الله ما لا يعلمون، فإن هذا من لوازم الشرك، فكل مشرك يقولُ على الله ما لا يعلمُ، فكثيرًا ما يوجد في هذا العشق من الشرك الأكبر والأصغر، من قتلِ النفوس تغايرًا على المعشوق، وأخذِ أموال الناس بالباطل ليصرفها في رضا المعشوق، ومن الفاحشة والكذب والظلم، ما لا خفاء به.
وأصل ذلك كله من خُلُوّ القلب من محبّة الله تعالى والإخلاص له، والتشريك بينه وبين غيره في المحبة، ومن محبّة ما يحبّ لغير الله، فيقومُ ذلك بالقلب، ويعمل بموجبه بالجوارح، وهذا هو حقيقةُ اتباع الهوى.
وفى الأثر: «ما تحت أديم السماء إلهٌ يُعْبَدُ أعظمُ عند الله من هوًى مُتّبعٍ»
(1)
.
وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].
وإذا تأمَّلت حال عُشَّاق الصُّور المتيّمين فيها وجدتَ هذه الآية مُنطبقةً عليهم، مخبرةً عن حالهم.
قال بعض العلماء: ليس شيءٌ من المحبوبات يَستوعبُ محبته القلب إلا محبة الله أو محبة بشرٍ مثلك.
أما محبة الله فهي التي خُلق لها العبادُ، وبها غايةُ سعادتهم، وكمالُ نعيمهم.
وأما البشر المماثل من ذكر أو أنثى فإن فيه من المشاكلة والمناسبة بين العاشِق وبينه، ما ليسَ مثله بينه وبين جنسٍ آخر من المخلوقات.
ولهذا لا يُعرف في محبة شيء من المحبوبات المخالفة للمحبّ في الجنس ما يزيلُ العقل، ويُفسد الإدراك، ويوجب انقطاع الإرادة لغير ذلك
(1)
رواه ابن أبي عاصم في السنة (3)، وأبو يعلى كما في إتحاف الخيرة (257)، والطبراني في الكبير (8/ 103)، وابن عدي في الكامل (2/ 301، 3/ 69)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 118)، وغيرهم من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وأشار المنذري في الترغيب (85) إلى ضعفه، وضعفه ابن رجب في كلمة الإخلاص (ص 26)، وقال الهيثمي في المجمع (1/ 447):«فيه الحسن بن دينار وهو متروك الحديث» ، وحكم عليه بالوضع ابن الجوزي في الموضوعات (3/ 139)، والشوكاني في الفوائد المجموعة (67)، والألباني في السلسلة الضعيفة (6538).
المحبوب، وإنما يُعْرَفُ ذلك في محبته لجنسه، فتستوعبُ قلبه، وتسلُب لُبّه، وتُصيِّره لمعشوقه سامعًا مطيعًا، كما قال:
[126 أ] إنَّ هَوَاكَ الَّذِي بِقَلبي
…
صَيَّرَنِي سَامِعًا مُطِيعَا
(1)
ويقوَى هذا السمعُ والطاعة عند كثير من العُشَّاق، حتى يَبْذُلَ نفسه، ويُسلمها للتلف في طاعة معشوقه، كما يبذُل المجاهد نفسه لربه، حتى يُقتل في سبيله، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال في الحديث الذي رواه أحمد وغيره
(2)
: «شارب الخمر ــ أو قال: مُدمِنُ الخمر ــ كعابدِ وثَن» .
ومرّ علي بن طالب رضي الله عنه بقوم يلعبون بالشِّطْرنج، فقال
(3)
:
(1)
البيت ضمن أبيات في «مصارع العشَّاق» (2/ 24). قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: الحاشية ليست (هكذا) في المطبوع. وتم التصويب من الأصل الوارد من «عطاءات العلم» جزاهم الله خيرا.
(2)
مسند أحمد (1/ 272) عن محمد بن المنكدر قال: حُدِّثت عن ابن عباس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن» ، وبهذا الإسناد رواه عبد بن حميد (708)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1116) من طريق أحمد. ورواه عبد الرزاق (9/ 239) عن ابن المنكدر عن ابن عباس. ورواه ابن حبان (5347) ــ ومن طريقه الضياء في المختارة (356) ــ وابن عدي في الكامل (4/ 209) عن عبد الله بن خراش عن العوام بن حوشب، والبزار (5085) وأبو نعيم في الحلية (9/ 253) وابن الجوزي (1119) عن حكيم بن جبير، والطبراني في الكبير (12/ 45) عن ثوير بن أبي فاختة، ثلاثتهم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وصححه ابن دقيق العيد في الإلمام (1497)، والهيتمي في الزواجر (2/ 777)، وهو في السلسلة الصحيحة (677). وفي الباب عن أنس بن مالك وعلي وجابر بن عبد الله وأبي هريرة وفيه اختلاف وعن بعض الصحابة.
(3)
رواه ابن سعد في الطبقات (6/ 224) وابن أبي شيبة (5/ 278) وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (92) والآجري في تحريم النرد (ص 135)، والخلال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص 79)، والضياء في المختارة (744) من طرق عن فضيل بن مرزوق عن ميسرة بن حبيب النهدي عن علي، وميسرة لم يدرك عليًّا. ورواه ابن أبي الدنيا (93) من طريق سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة عن علي، وهذا إسناد ضعيف جدًّا، ومن طريق ابن أبي الدنيا رواه البيهقي في الكبرى (10/ 212) وفي الشعب (5/ 241). قال أحمد كما في المغني (12/ 36):«أصحّ ما في الشطرنج قول عليّ» ، وصحّحه ابن حزم في المحلّى (9/ 63)، وابن تيمية كما في المجموع (32/ 218، 244) وفي غيره، وابن القيم في الفروسية (ص 312)، وضعّفه الألباني في الإرواء (8/ 288).
{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52].
فما الظن بالعاشق المتيّم الفاني في معشوقه؟
ولهذا قرن الله سبحانه بين الخمر والأنصاب، وهي الأصنام التي تُعبدُ من دون الله، فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90، 91].
ومعلومٌ أن شاربَ الخمر لا يدوم سُكْرُه بها، بل لابدّ أن يُفيق، ولعلّ أوقات إفاقته أكثر من أوقات سُكره، وأمَّا سكرة العِشْق فقَلّ أن يستفيق صاحبها، إلا إذا جاءت الرسُل تطلبه للقدوم على الله تعالى.
ولهذا استمرت سَكْرُة اللوطية حتى فَجَأهم عذابُ الله وعقوبته وهُمْ في سَكرتهم يَعْمَهون، فكيف إذا خرج العشق إلى حد الجنون المطبق؟ كما أنشد محمد بن جعفر الخرائطيّ في كتاب «اعتلال القلوب»
(1)
، قال:
(1)
ص 326. والبيتان لمجنون ليلى في ديوانه (ص 218)، والأغاني (2/ 32)، ومصارع العشاق (1/ 126، 2/ 181). وانظر: روضة المحبين (ص 70).