الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأهل بلده، ويكون في أكثر تلك الأشياء
(1)
كاذبًا، وقصدُه بذلك إما الرياسة عليهم، وإما تحصيل بعض مآرِبِه منهم، ولاسيما إن أراد المقام عندهم.
فتراه أولَ ما ينزل بهم لا يأكل من أطعمتهم، ولا من ذبائحهم، ويتأمّل سكين ذبَّاحهم، وينكر عليهم بعض أمره، ويقول: أنا لا آكل إلا من ذبيحة يدي، فتراهم معه في عذاب، لا يزال ينكر عليهم المباح، ويُوهمهم تحريمه بأشياء يخترعها، حتى لا يشكُّون في ذلك.
فإنْ قدم عليهم قادم آخر، فخاف المقيم أن ينقض عليه القادم، تلقّاه وأكرمه، وسعى في موافقته، وتصديقه، فيستحسن ما فعله الأول، ويقول لهم: لقد عَظّمَ الله تعالى ثواب فلان إذ قَوّى ناموس الدِّين في قلوب هذه الجماعة، وشَدّ سياج الشرع عندهم، وإذا لقيه يظهر من مدحه وشكره والدعاء له ما يؤكد أمره.
وإن كان القادم الثاني منكِرًا لما جاء به الأول من التشديد والتضييق لم يقع عندهم بموقع، وينسبونه إما إلى الجهل، وإما إلى رِقّة الدِّين لأنهم يعتقدون أن تضييق المعيشة، وتحريم الحلال هو المبالغة في الدِّين.
و
هم أبدًا يعتقدون الصواب والحق مع مَنْ يُشَدّدُ ويُضَيّقُ
عليهم.
هذا إن كان القادم من فقهائهم.
فأما إن كانوا من عُبّادهم وأحبارهم فهناك ترى العجب العجاب من الناموس الذي يعتمده، والسنن التي يُحدِثها ويُلحِقها بالفرائض، فتراهم مُسَلِّمين له منقادين، وهو يَحْتَلِبُ دَرَّهم، ويجتلب دِرْهمهم، حتى إذا بلغه
(1)
م: «ذلك الإسناد» . والمثبت من ح، ت.
أن يهوديًّا جلس على قارعة الطريق يوم السبت، أو اشترى لبنًا من مُسلم ثَلَبَه وسَبّه في مجمع اليهود، وأباح عِرْضَه، ونسبه إلى قلة الدين.
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة الغضبية: أنهم إذا رأوا الأمر أو النهي مما أُمروا به أو نُهوا عنه شاقًّا عليهم، طلبوا التخلُّص منه بوجوه الحيل، فإن أعْيَتْهُمُ الحِيلةُ قالوا: هذا كان علينا لمَّا كان لنا الملك والرياسة.
فمن ذلك: أنهم أمروا إذا أقام أخَوَانِ في موضع واحد، ومات أحدُهما ولم يُعْقِبْ ولدًا، فلا تخرج امرأة الميت إلى رجلٍ أجنبي، بل ولد حميها ينكحها، وأول ولدٍ يُولِدُها يُنسبُ إلى أخيه الدارج، فإن أبى أن ينكحها خَرَجَتْ مُشتكيةً منه إلى مشيخة قومه، تقول: قد أبى ابن حمِي أن يستبقي اسمًا لأخيه في إسرائيل، ولم يُرِدْ نكاحي، فيُحضره الحاكم هناك، ويكلِّفه أن يقف ويقول: ما أردتُ نكاحها، فتتناولُ المرأة نَعْله، فتخرجه من رجله، وتمسكه بيدها، وتبصق في وجهه، وتنادي عليه: كذا فَليُصْنَعْ بالرجل الذي لا يبني بيت أخيه، ويُدْعَى فيما بعد بالمخلوع النعل، ويُنْبَزُ بَنُوه ببني مخلوع النعل.
هذا كله مفترض عليهم فيما يزعمون في التوراة.
وفيه حكمة مُلجئة للرجل إلى نكاح زوجة أخيه الدارج، فإنه [171 أ] إذا علم أن ذلك يناله إن لم ينكحها آثر نكاحها عليه، فإن كان مبغضًا لها زهدًا في نكاحها، أو كانت هي زاهدةً في نكاحه مبغضة له، استخرج لهما الفقهاء حيلةً يتخلَّص بها منها، وتتخلَّص منه، فيلزمونها الحضور عند الحاكم بمحضرٍ من مشايخهم، ويُلَقّنونها أن تقول: أبى ابن حمي أن يقيم لأخيه
اسمًا في إسرائيل، لم يُرد نكاحي، فيلزمونها بالكذب عليه لأنه أراد نكاحها وكرهته هي، فإذا لقَّنوها هذه الألفاظ قالتها، فيأمرونه بالكذب، وأن يقوم ويقول: ما أردت نكاحها، ولعل ذلك سُؤْلُه وأمنيَّته، فيأمرونه بأن يكذب، ولم يَكفهم أن كذبوا عليه، وألزموه أن يكذب، حتى سلَّطوها على الإخراق به، والبصاق في وجهه، ويسمون هذه المسألة:«البياما والحالوس» .
وقد تقدم من التنبيه على حيلهم في استباحة محارم الله تعالى بعضُ ما فيه كفاية.
فالقوم بيتُ الحيل والمكر والخبْث.
وقد كانوا يتنوّعون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنواع الحيلِ والكيد والمكر عليه وعلى أصحابه، ويرُدّ الله سبحانه وتعالى ذلك كلَّه عليهم.
فتحيَّلوا عليه، وأرادوا قتله مرارًا، والله تعالى ينجِّيه من كيدهم:
فتحيَّلوا عليه، وصعدوا فوق سطح، وأخذوا رحًى، أرادوا طرحها عليه وهو جالس في ظِلّ حائط، فأتاه الوحي، فقام منصرفًا وأخذ في حربهم وإجلائهم
(1)
.
(1)
وهم بنو النضير، روى قصةَ مكرهم أبو نعيم في الدلائل (412)، والبيهقي في الدلائل (3/ 180) من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير، ورواها أبو نعيم في الدلائل (411) من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس، ورواها الطبري في تاريخه (2/ 83، 84)، والبيهقي في الدلائل (3/ 354) من طريق ابن إسحاق عن يزيد بن رومان، ورواها البيهقي في الدلائل (3/ 180) بسنده إلى موسى بن عقبة بها، وانظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 144)، والطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 57).
ومكروا به، وظاهروا عليه أعداءه من المشركين، فظَفّره الله تعالى بهم
(1)
.
ومكروا به، وأخذوا في جمع العدُوّ له، فظفّر الله تعالى برئيسهم، فقتله
(2)
.
ومكروا به، وأرادوا قتله بالسّم، فأعلمه الله تعالى به، ونجّاه منه
(3)
.
ومكروا به، وسحروه، حتى كان يخيّل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله، فشفاه الله تعالى وخلَّصه
(4)
.
ومكروا به في قولهم: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} [آل عمران: 72]، يريدون بذلك تشكيك المسلمين في نبوَّته، فإنهم إذا أسلموا أول النهار اطمأنّ المسلمون إليهم، وقالوا: قد اتّبعوا الحقّ، وظهرت لهم أدِلّته، فيكفرون آخر النهار، ويجحدون نبوته، ويقولون: لم نقصد إلا الحق واتباعه، فلما تبين لنا أنه ليس به رجعنا عن الإيمان به.
وهذا من أعظم خُبثهم ومكرهم.
(1)
وذلك في غزوة الأحزاب حيث نقضوا العهدَ ومالؤوا المشركين على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأظهره الله عليهم.
(2)
وهو كعب بن الأشرف، كان شديدَ الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وبعد غزوة بدر جعل يؤلّب المشركين على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأمر صلى الله عليه وسلم بقتله، وقصّة قتله في الصحيحين: صحيح البخاري (4037) وصحيح مسلم (1801) من حديث جابر رضي الله عنهما.
(3)
كما في حديث أنس الذي أخرجه البخاري (2617) ومسلم (2190).
(4)
أخرجه البخاري (3175)، ومسلم (2189) عن عائشة.
ولم يزالوا مُوضعين مجتهدين في المكر والخبث إلى أن أخزاهم الله بيد رسوله وأتباعه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أعظمَ الخزي، ومزّقهم كل مُمَزَّق، وشتّت شملهم كلّ مُشَتَّتٍ.
وكانوا يُعاهدونه صلى الله عليه وسلم، ويصالحونه، فإذا خرج لحرب عدوِّه نقضوا عهده.
ولما سلَب الله تعالى هذه الأمةَ مُلكها وعزّها، وأذلّها، وقَطّعهم في الأرض، انتقلوا من التدبير بالقدرة والسلطان، إلى التدبير بالمكر والدّهاء والخداع.
وكذلك كل عاجز جَبَان، سلطانه في مَكره وخداعه، وبَهْتِه وكذِبه، ولذلك كان النساء بيت المكر والخداع، والكذب والخيانة، كما قال تعالى عن شاهد يوسف عليه السلام، أن قال:{إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28].
ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة: أنهم يُمثّلون أنفسهم بعناقيد الكَرْم، وسائرَ الأمم بالشوك المحيط بأعالي حيطان الكرم.
وهذا من غاية جهلهم وسَفههم، فإن المعتنين بمصالح الكرم إنما يجعلون على أعالي حيطانه الشوك حفظًا له، وحياطة، وصيانة، ولسنا نرى لليهود من سائر الأمم إلا الضرر والذل والصَّغار، كما يفعل الناس بالشوك.
ومن تلاعبه بهم: أنهم ينتظرون قائمًا من ولد داود النبي، إذا حرَّك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم، وأن هذا المنتظر بزعمهم هو المسيح الذي وُعدوا به.
وهم في الحقيقة إنما ينتظرون [171 ب] مسيح الضلالة الدجال، فهم أكثر أتباعه. وإلا فمسيح الهدى عيسى ابن مريم عليه السلام يقتلهم، ولا يُبْقِي منهم أحدًا.
والأمم الثلاث: تنتظر منتظرًا يخرج في آخر الزمان، فإنهم وُعدوا به في كل ملَّة، والمسلمون ينتظرون نزول المسيح عيسى ابن مريم من السماء، لكَسر الصليب، وقتل الخنزير، وقتل أعدائه من اليهود، وعبَّاده من النصارى، وينتظرون خروج المهدي من أهل بيت النبوة، يملأ الأرض عدلاً، كما ملئت جورًا وظلمًا.
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة الغضبية: أنهم في العشر الأول من الشهر الأول من كل سنة يقولون في صلاتهم: «كم تقول الأمم: أين إلههم؟ انتبه، كم تنامُ يا رب! استيقظ من رَقدتك» .
وهؤلاء إنما أقدموا على هذه الكفريات من شِدّة ضَجَرِهم من الذل والعبودية، وانتظار فَرجٍ لا يزداد منهم إلا بعدًا، فأوقعهم ذلك في الكفر والتزندق الذي لا يستحسنه إلا أمثالهم، وتجرَّأوا على الله سبحانه وتعالى بهذه المناجاة القبيحة، كأنهم يُنَخُّونَه بذلك لِينتخيَ لهم ويحمَى لنفسه، فكأنهم يخبرونه سبحانه وتعالى بأنه قد اختار الخمول لنفسه ولأحبابه، وأبناء أنبيائه، فينتخونه للنباهة، واشتهار الصيت!
فترى أحدهم إذا تلا هذه الكلمات في الصلاة يقشعرّ جلده، ولا يشك في أن هذه المناجاة تقع عند الله تعالى بموقع عظيم، وأنها تؤثر فيه، وتُحَرّكه، وتهزُّه، وتُنَخّيه.
ومن ذلك: أنهم ينسبون إلى الله سبحانه وتعالى الندم على ما يفعل.
فمن ذلك: قولهم في التوراة التي بأيديهم: «وندم الله سبحانه وتعالى على خَلق البشر الذين في الأرض، وشقّ عليه، وعاد في رأيه» !
وذلك عندهم في قصة قوم نوح.
وزعموا أن الله سبحانه وتعالى وتقدس لما رأى فساد قوم نوح، وأن شرَّهم وكفرهم قد عَظُمَ، ندم على خلق البشر.
وكثيرٌ منهم يقول: إنه بكى على الطُّوفان، حتى رَمِدَ، وعادته الملائكة. وأنه عَضّ على أنامله حتى جرى الدمُ منها.
وقالوا أيضًا: إن الله تعالى ندم على تمليكه شاؤول على بني إسرائيل، وأنه قال: ذلك لشَمويل.
وعندهم أيضًا: أن نوحًا عليه السلام لما خرج من السفينة بدأ ببناء مَذبح لله تعالى، وقرّب عليه قربانين، وأن الله تعالى استنشق رائحة القُتار، فقال الله تعالى في ذاته:«لن أعاود لَعنة الأرض بسبب الناس، لأن خاطر البشر مطبوع على الرداءة، ولن أُهلك جميع الحيوان كما صنعتُ» .
وقد واجهوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم بأمثال هذه الكفريات، فقال قائل منهم للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استراح، فَشَقّ ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى تكذيبًا لهم:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ}
(1)
.
(1)
روى عبد الرزاق في تفسيره (3/ 239) ومن طريقه الطبري في تفسيره (22/ 376) عن معمر عن قتادة قال: قالت اليهود: إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، ففرغ من الخلق يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، فأكذبهم الله، وقال:{وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} ، ورواه الطبري أيضا (22/ 376) من طريق سعيد عن قتادة بنحوه. وورد نحوه عن ابن عباس وأبي بكر والحسن وأبي مجلز.
[ق: 38] وتأمل قوله تعالى عَقِيبَ ذلك: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق: 39]، فإن أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم نسبوه إلى ما لا يليق به، وقالوا فيه ما هو مُنَزّه عنه، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يصبر على قولهم، ويكون له أسوة بربِّه سبحانه وتعالى، حيث قال أعداؤه فيه ما لا يليق به.
وكذلك قال فِنْحاص لأبي بكر: إن الله فقير ونحن أغنياء، ولهذا اسْتَقَرَضَنا من أموالنا، فأنزل الله سبحانه وتعالى:{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}
(1)
[آل عمران: 182].
وقالوا أيضًا: يد الله مغلولة، كما حكى ذلك سبحانه عنهم [172 أ] في قوله:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64].
ويقولون في العشر الأول من الشهر الأول من كل سنة: «يا إلهنا وإله
(1)
رواه الطبري في تفسيره (8300، 8301) والطحاوي في شرح المشكل (5/ 87 - 88) وابن أبي حاتم في تفسيره (4589) من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة عن ابن عباس قال: دخل أبو بكر الصديق بيت المِدراس
…
وذكر قصة بمعناه، وعزاه في الدر المنثور (2/ 396) لابن المنذر، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (8/ 231). وورد نحوه من قول عكرمة والسدي ومقاتل وابن إسحاق.
آبائنا! امْلِكْ على جميع أهل الأرض، ليقول كل ذي نَسَمةٍ: اللهُ إلهُ إسرائيل قد ملك، ومملكته في الكُلّ متسلطة».
ويقولون في هذه الصلاة أيضًا: «وسيكون لله تعالى الملك، وفي ذلك اليوم يكون الله تعالى واحدًا، واسمه واحدًا» .
ويعنون بذلك: أنه لا يظهر أن الملك لله تعالى إلا إذا صارت الدولة لليهود الذين هم صفوته وأمّته، فأما ما دامت الدولةُ لغير اليهود فإنه سبحانه وتعالى خاملُ الذكر عند الأمم، مطعونٌ في ملكه، مشكوكٌ في قدرته.
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهم: أنهم مُولَعون بالقَدْحِ في الأنبياء وأذيَّتهم.
وقد آذوا موسى عليه السلام في حياته، ونسبوه إلى ما بَرّأه الله تعالى منه، ونهى الله سبحانه هذه الأمة عن الاقتداء بهم في ذلك، حيث يقول:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69].
وثبت في «الصحيحين»
(1)
من حديث أبى هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل يغتسلون عُراةً، يَنْظُر بعضهم إلى سَوْأة بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسلُ وحده، فقالوا: والله ما يمنعُ موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدَرُ، فذهب موسى يغتسل فوضع ثوبه على حجر، فَفَرّ الحجرُ بثوبه، قال: فجمح موسى بأثره، يقول: ثوبي حَجَرُ، ثوبي حَجَرُ! حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سَوْأة موسى، وقالوا: والله ما بموسى بأس، فقام
(1)
البخاري (278، 3404)، ومسلم (339).
الحجر، حتى نظر إليه بنو إسرائيل، وأخذ ثوبه، وطفق بالحجر ضربًا».
قال أبو هريرة: والله إنه بالحجر نَدَبٌ ستة أو سبعة من أثر ضرب موسى الحجر، وأنزل الله تعالى هذه الآية:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} .
وقال ابن جرير
(1)
: حدثنا ابن حُميد، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قالت بنو إسرائيل: إن موسى آدَرُ، وقالت طائفة: هو أبرص من شدّة تَسَتُّره.
وقال ابن سيرين، عن أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان موسى رجلاً حَيِيًّا سِتّيرًا، لا يكاد يُرى من جلده شيء استحياءً منه، فآذاه مَنْ آذاه من بني إسرائيل، وقالوا: ما يتستَّر هذا التَّسَتُّرَ إلا من عيب بجلده، إما بَرَصٍ، وإما أُدْرَةٍ، وإما آفةٍ! وإن الله تعالى أراد أن يُبرِّئه مما قالوا
…
» وذكر الحديث
(2)
.
وقال سفيان بن حسين، عن الحكم، عن ابن جُبير، عن ابن عباس، عن علي بن أبى طالب
(3)
في قوله تعالى: {لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى}
(1)
جامع البيان (20/ 333).
(2)
أخرجه البخاري (3404).
(3)
رواه ابن منيع كما في إتحاف الخيرة (5791) والطبري في تفسيره (20/ 334 - 335) والطحاوي في شرح المشكل (1/ 68) وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (6/ 486) وغيرهم عن عباد بن العوام عن سفيان به، ومن طريق ابن منيع رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (61/ 172) والضياء في المختارة (611)، ومن طريق الطبري رواه الثعلبي في تفسيره (8/ 66)، وصححه الحاكم (4110)، والبوصيري، وابن حجر في المطالب العالية (3455)، وحسنه في الفتح (6/ 438، 8/ 535) وقال: «وفي الإسناد ضعف» .
[الأحزاب: 69]، قال: صعد موسى وهارون الجبل، فمات هارون، فقالت بنو إسرائيل: أنت قتلته، وكان أشدَّ حبًّا لنا منك، وألْيَنَ لنا منك، وآذوه بذلك، فأمر الله تعالى الملائكة فحملته، حتى مَرّوا به على بني إسرائيل، وتكلّمت الملائكة بموته، حتى عرف بنو إسرائيل أنه قد مات، فَبرّأه الله تعالى من ذلك، فانطلقوا به، فدفنوه، فلم يَطّلع على قبره أحدٌ من خلق الله تعالى إلا الرّخم، فجعله الله تعالى أصمَّ أبكمَ.
وقال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [الصف: 5].
وتأمَّل قوله: {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} ، فإنها جملة في موضع الحال، أي: أتؤذونني وأنتم تعلمون أني رسول الله إليكم؟ وذلك أبلغ في العناد.
فهذا قليلٌ من كثير من أذاهم لأنبيائهم.
وأما أذاهم لهم بالقتل والنفي: فأشهر من أن يُذكر.
ولقد بالغوا في أذى النبي صلى الله عليه وسلم بجهدهم بالقول والفعل، حتى رَدّهُم الله تعالى [172 ب] خاسئين.
ومن قَدْحِهم في الأنبياء: ما نسبوه إلى نصّ التوراة: أنه لما أهلك الله أمّة لوطٍ لفسادها، ونجّى لوطًا بابنتيه فقط، ظن ابنتاه أن الأرض قد خَلَت ممن
يسْتبقين منه نَسْلاً، فقالت الكبرى للصغرى: إن أبانا شيخ، ولم يَبْقَ في الأرض إنسان يأتينا كسبيل البشر، فهَلُمّي نسقي أبانا خمرًا ونضاجعه، لنستبقي من أبينا نسلاً، ففعلتا ذلك بزعمهم!
فنسبوا إلى النبي أنه سكر، حتى لم يعرف ابنتيه، ثم وطئهما وأحبلهما وهو لا يعرفهما، فولدت إحداهما ولدًا سمَّته:«مواب» يعني: أنه من الأب، والثانية سمت ولدها:«ابن عمي» يعنى: أنه من قبيلها.
وقد أجاب بعضهم عن هذا: بأنه كان قبل نزول التوراة، فلم يكن نكاحُ الأقارب حرامًا!
والتوراة تكذِّبهم، فإن فيها:«أن إبراهيم الخليل خاف في ذلك العصر أن يقتله المصريون، حسدًا له على زوجته سارَة، فأخفى نكاحها، وقال: هي أختي، علمًا منه بأنه إذا قال ذلك لم يَبْقَ للظنون إليهما سبيل» .
وهذا أظهرُ دليل على أن تحريم
(1)
نكاح الأخت كان ثابتًا في ذلك الزمان، فما ظنك بنكاح البنت الذي لم يشرع ولا في زمن آدم عليه السلام؟
وعندهم أيضًا في التوراة التي بأيديهم قصةٌ أعجبُ من هذه!
وهي: أن يهوذا بن يعقوب النبي زوّج ولده الأكبر من امرأة يقال لها: تامار، فكان يأتيها مُستدبرًا، فغضب الله تعالى من فعله، فأماته، فزوَّج يهوذا ولده الآخر بها، فكان إذا دخل بها أنزل على الأرض، علمًا منه بأنه إن أولدها كان أول الأولاد مدعوًّا باسم أخيه، ومنسوبًا إلى أخيه، فكره الله تعالى ذلك من فعله، فأماته أيضًا، فأمرها يهوذا باللحاق ببيت أبيها إلى أن يكبر شيلا
(1)
«تحريم» ساقطة من م.
ولدُه، ويتمَّ عقله، حذرًا من أن يصيبه ما أصاب أخويه، فأقامت في بيت أبيها، ثم ماتت من بعدُ زوجةُ يهوذا، وصعد إلى منزل ليحرس غنمه، فلما أُخبرت المرأة (تامار) بإصعاد حَمْوِها إلى المنزل لبست زيّ الزواني، وجلست في مستشرف على طريقه، لعلمها بشَبَقِهِ، فلما مَرّ بها خالَها زانيةً، فراودها، فطالبته بالأجرة، فوعدها بجَدْي، ورهن عندها عصاه وخاتمه، ودخل بها، فعَلِقَتْ منه، فلمّا أُخْبِرَ يهوذا أن كِنّتَهُ عَلِقَتْ من الزنى أفتى بإحراقها، فبعثت إليه بخاتمه وعصاه، فقالت: مِنْ رَبِّ هذين أنا حامل، فقال: صدقتِ، ومتى ذلك؟ واعتذر بأنه لم يعرفها، ولم يستحلّ معاودتها، ولا تسليمها إلى ولده، وعلقت من هذا الزنى بعارض، قالوا: ومِنْ وَلَدِها داود النبي.
وفي ذلك من نسبتهم الزنى والكفر إلى أهل بيت النبوة ما يُقارب ما نسبوه إلى لوط عليه السلام.
وهذا كله عندهم وفي نصّ كتابهم، وهم يجعلون هذا نسبًا لداود وسليمان عليهما السلام، ولمسيحهم المنتظر.
ومن العجب أنهم يجعلون المسلمين أولاد زنى، ويسمّونهم
(1)
ممازير، واحدها مَمْزِير، وهو اسم لولد الزنى، لأن شرعهم أن الزوج إذا راجع زوجته بعد أن نكحت زوجًا غيره فأولادهما أولاد زنى.
وزعموا أن ما جاءت به شريعة الإسلام من ذلك هو من موضوعات عبد الله بن سلام، قصد به أن يجعل أولاد المسلمين ممازير بزعمهم.
قالوا: وكان محمد صلى الله عليه وسلم قد رأى أحلامًا تدلّ على أنه صاحب دولة،
(1)
«ويسمونهم» ساقطة من م.
فسافر إلى الشام في تجارة لخديجة، واجتمع بأحبار اليهود، وقص عليهم أحلامه، فعلموا أنه صاحب دولة، فأصحبوه عبد الله بن سلام، فقرأ عليه علوم التوراة وفقهها مدّة، ونسبوا الفصاحة والإعجاز الذي في القرآن إلى عبد الله بن سلام، وأن من جملة ما قرره عبد الله بن سلام:[173 أ] أن الزوجة لا تحل للمطلق ثلاثًا إلا بعد أن ينكحها رجلٌ آخر، ليجعل أولاد المسلمين أولاد زنى.
ولا ريب أن مثل هذا البَهْت يروجُ على كثير من حَميرهم!
وقد خلق الله تعالى لكلّ باطلٍ وبَهْتٍ حَمَلةً، كما للحق حملة، وليس وراء هذا البهت بَهْتٌ.
وليس بمستنكر لأمّة قدحَت في معبودها وإلهها، ونَسَبَتْهُ إلى ما لا يليق بعظمته وجلاله، ونسبت أنبياءه إلى ما لا يليق بهم، ورمتهم بالعظائم، أن يَنْسُبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى ذلك.
وعدواته لهم، وملاحِمُه فيهم، وإجلاؤه لهم من ديارهم وأموالهم، وسَبْيُ ذراريهم ونسائهم: معلوم غير مجهول.
وقد نسبت هذه الأمة الغضبية عيسى ابن مريم إلى أنه ساحر، وَلَدُ غيَّة، ونسبت أمّه إلى الفجور.
ونسبت لوطًا إلى أنه وطئ ابنتيه، وأولدَهما وهو سكران من الخمر.
ونسبوا سليمان عليه السلام إلى أنه كان ملكًا ساحرًا، وكان أبوه عندهم ملكًا مسيحًا.
ونسبوا يوسف الصِّدِّيق عليه السلام إلى أنه حَلّ تِكّة سراويله وتِكّة
سراويل سيدته، وأنه قعد منها مقعد الرجل من المرأة، وأن الحائط انشقّ له، فرأى أباه يعقوب عليه السلام عاضًّا على أنامله، فلم يَقُمْ حتى نزل عليه جبريل عليه السلام فقال: يا يوسف! تكون من الزّناة، وأنت معدود عند الله تعالى من الأنبياء؟ فقام حينئذٍ.
ومعلومٌ أن ترك الفاحشة عن هذا لا مدح فيه، فإن أفسق الناس لو رأى ذلك لولّى هاربًا وترك الفاحشة!
ومنهم مَنْ يزعم أن المسيح كان من العلماء، وأنه كان يُداوي المرضى بالأدوية، ويوهمهم أن الانتفاع إنما حصل لهم بدعائه، وأنه داوَى جماعة من المرضي في يوم السبت، فأنكرت عليه اليهودُ ذلك، فقال لهم: أخبروني عن الشاة من الغنم إن وَقعت في بئرٍ، أما تنزلون إليها وتُحِلّون السبت لتخليصها؟ قالوا: بلى، قال: فلمَ أحللتُم السبت لتخليص الغنم، ولا تُحِلّونه لتخليص الإنسان الذي هو أكبر حرمةً من الغنم؟ فأُفْحِمُوا.
ويحكون أيضًا عنه: أنه كان مع قومٍ من تلاميذه في جبل، ولم يحضرهم الطعام، فأذن لهم في تناول الحشيش يوم السبت، فأنكرت عليه اليهود قطع الحشيش في يوم السبت، فقال لهم: أرأيتم لو أن أحدكم كان وحيدًا مع قوم على غير ملَّته، وأمرهم بقطع النبات وإلقائه لدوابِّهم، لا يقصدون بذلك إبطال السبت، ألستم تجيزون له قطعَ النبات؟ قالوا: بلى، قال: فإن هؤلاء القوم أمرتُهم بقطع النبات ليأكلوه، وليغتذوا به، لا لقطع السبت.
ومن العجب: أن عندهم في التوراة التي بأيديهم: «لا يزول الملك من آل يهوذا، والراسم من بين ظَهرانيهم: إلى أن يأتي المسيح» ، وهم لا يقدرون أن يجحدوا ذلك.
فيقال لهم: إنكم كنتم أصحاب دولة حتى ظهر المسيح، ثم انقضى ملككم، ولم يبق لكم اليوم ملك، وهذا برهان على أن المسيح قد أُرسل.
ومن حين بُعث المسيح، وكفروا به وطلبوا قتله استولت ملوكُ الروم على اليهود وبيت المقدس، وانقضت دولتهم، وتفرّق شملهم.
فيقال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟
فيقولون: ولد يوسف النجار، لِغِيّةٍ لا لِرِشْدَةٍ، وكان قد عَرَف اسم الله الأعظم، يُسَخِّر به كثيرًا من الأشياء!
وعند هذه الأمة الغضبية أيضًا: أن الله تعالى كان قد أطلع موسى عليه السلام على الاسم المركّب من اثنين وأربعين حرفًا، وبه شَقّ البحر، وعمل المعجزات.
فيقال لهم: فإذا كان موسى قد عمل المُعجزات باسم الله سبحانه فلمَ صدَّقتم نبوَّته، وأقررتم بها، وجحدتم نبوَّة عيسى، وقد عمل المعجزات بالاسم الأعظم؟
فأجاب بعضهم عن هذا الإلزام: بأن الله [173 ب] سبحانه هو الذي علّم موسى ذلك الاسم، فعلَّمه بالوحي، وعيسى إنما تعلم من حيطان بيت المقدس.
وهذا هو اللائق ببهتهم وكذبهم على الله تعالى وأنبيائه، وهو يسدُّ عليهم العلم بنبوة موسى، لأن كلا الرسولين اشتركا في المعجزات والآيات الظاهرة، التي لا يقدر أحدٌ أن يأتي بمثلها، فإن كان أحدهما قد عملها بحيلة أو بعلم فالآخر يمكن ذلك في حقِّه، وقد أخبرا جميعًا أن الله سبحانه وتعالى
هو الذي أجرى ذلك على أيديهما، وأنه ليس من صنعهما، فتكذيب أحدهما وتصديق الآخر تفريق بين المتماثلين.
وأيضًا فإنه لا دليل لهم على أن موسى تلقَّى تلك المعجزات عن الله تعالى إلا وهو يدلُّ على أن عيسى عليه السلام تلقَّاها أيضًا عن الله تعالى، فإن أمكن القَدحُ في معجزات عيسى أمكن القدح في معجزات موسى عليه السلام، وإن كان ذلك باطلاً فهذا أيضًا باطل.
وإذا كان هذا شأن معجزات هذين الرسولين مع بُعد العَهد، وتشتُّتِ شمل أمَّتيهما في الأرض، وانقطاع معجزاتهما، فما الظن بنبوة مَنْ معجزاته وآياته تزيد على الألف، والعهد بها قريب، وناقلوها أصدق الخلق وأبرّهم، ونقلها ثابت بالتواتر قرنًا بعد قرن؟
وأعظهما معجزةً كتاب باقٍ غَضٌّ طريٌّ، لم يتغير ولم يتبدل منه شيء، بل كأنه منزَّل الآن، وهو القرآن العظيم، وما أخبر به يقع كلَّ وقت على الوجه الذي أخبر به، حتى كأنه كان يشاهدهُ عِيانًا.
فصل
ولا يمكن البتة أن يؤمنَ يهوديٌّ بنبوة موسى عليه السلام إن لم يؤمِنْ بنبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن نصرانيًّا أن يُقِرّ بنبوة المسيح إلا بعد إقراره بنبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وبيان ذلك: أن يُقال لهاتين الأُمَّتين:
أنتم لم تُشاهدوا هذين الرسولين، ولا شاهدتم آياتهما وبراهين نبوَّتهما، فكيف يسع العاقلَ أن يُكذّب نبيًّا ذا دعوةٍ شائعة، وكلمةٍ قائمةٍ، وآياتٍ باهرةٍ،
ويُصَدّق من ليس مثله ولا قريبًا منه في ذلك؟ لأنه لم يَرَ أحد النبيّين، ولا شاهد معجزاته، فإذا كذّب بنبوّة أحدهما لزمه التكذيب بنبوتهما، وإن صدّق بأحدهما لزمه التصديق بنبوتهما، فمن كفر بنبيٍّ واحدٍ فقد كفر بالأنبياء كلّهم، ولم ينفعه إيمانه به.
وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285].
فنقولُ للمغضوب عليه: هل رأيت موسى وعاينتَ مُعجزاته؟
فبالضرورة يقول: لا.
فنقول له: بأي شيء عرفت نبوته وصِدقه؟
فله جوابان:
أحدهما: أن يقول: أبي عرّفني ذلك وأخبرني به.
والثاني: أن يقول: التواترُ وشهادات الأُمَم حقَّق ذلك عندي، كما حَقّقت شهادتهم وجود البلاد النائية، والبحار، والأنهار المعروفة، وإن لم أشاهدها.
فإن اختار الجواب الأول، وقال: شهادة أبي وإخباره إياي بنبوة موسى هي سببُ تصديقي بنبوته.
فيقال له: ولِمَ كان أبوك عندك صادقًا في ذلك، معصومًا عن الكذب، وأنت ترى الكفار يعلِّمهم آباؤهم ما هو كُفْرٌ عندك؟
فإذا كنت ترى الأديان الباطلة والمذاهب الفاسدة قد أخذها أربابُها عن آبائهم، كأخذك مذهبك عن أبيك، وأنت تعلم أن الذين هم عليه ضلالٌ، فيلزمك أن تبحث عمَّا أخذته عن أبيك [174 أ] خوفًا أن تكون هذه حاله.
فإن قال: إن الذي أخذتُه عن أبي أصحّ من الذي أخذه الناس عن آبائهم، كفاهُ معارضةُ غيره له بمثل قوله.
فإن قال: أبي أصدقُ من آبائهم وأعرفُ وأفضلُ، عارضه سائرُ الناس في آبائهم بنظير ذلك.
فإن قال: أنا أعرفُ حال أبي، ولا أعرف حال غيره.
قيل له: فما يُؤمِنك أن يكون غير أبيك أصدقَ من أبيك، وأفضل، وأعرفَ؟
وبكل حالٍ، فإن كان تقليدُ أبيه حُجَّةً صحيحةً كان تقليد غيره لأبيه كذلك، وإن كان ذلك باطلاً كان تقليده لأبيه باطلاً.
فإن رجع عن هذا الجواب، واختار الجواب الثاني، وقال: إنما علمت نبوّة موسى بالتواتر قرنًا بعد قرن، فإنهم أخبروا بظهوره، وبمعجزاته، وآياته، وبراهين نبوّته التي تضطر إلى تصديقه.
فيقال له: لا ينفعك هذا الجواب، لأنك قد أبطلت ما شهد به التواتُر من نبوّة عيسى ومحمدٍ صلى الله عليهما وسلم.
فإن قُلت: تواتر ظهور موسى ومعجزاته، ولم يتواتر ذلك في المسيح ومحمد.
قيل: هذا هو اللائق ببهت الأمة الغضبية، فإن الأمم جميعهم قد عرفوا أنهم قومٌ بُهتٌ، وإلا فمن المعلوم أن الناقلين لمعجزات المسيح ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أضعافُ أضعافكم بكثير، والمعجزات التي شاهدها أوائلهم لا تنقص عن المعجزات التي أتى بها موسى عليه السلام، وقد نقلها عنهم أهل التواتر جيلاً بعد جيلٍ، وقرنًا بعد قرنٍ، وأنت لا تقبلُ خبر التواتر في ذلك وتردّه، فيلزمُك أن لا تقبله في أمر موسى عليه السلام.
ومن المعلوم بالضرورة أن من أثبت شيئًا ونفى نظيره فقد تناقض.
وإذا اشتهر النبيّ في عصرٍ، وصحّت نبوّته في ذلك العصر بالآيات التي ظهرت عليه لأهل عصره، ووصل خبرُه إلى أهل عصرٍ آخر، وجب عليهم تصديقه والإيمان به، وموسى والمسيح ومحمدٌ صلوات الله وسلامه عليهم في هذا سواءٌ.
ولعل تواتر الشهادات بنبوة موسى أضعف من تواتر الشهادات بنبوة عيسى ومحمدٍ، لأن الأمة الغضبية قد مَزّقها الله تعالى كل مُمَزَّق، وقطّعها في الأرض، وسلبها ملكها وعِزّها، فلا عيشَ لها إلا تحتَ قَهْرِ سواها من الأمم لها، بخلاف أمة عيسى عليه السلام، فإنها قد انتشرت في الأرض، وفيهم الملوك، ولهم الممالك.
وأما الحنفاء: فممالكهم قد طَبّقت مشارق الأرض ومغاربها، ومَلأوا الدنيا سَهْلاً وجبلاً، فكيف يكون نقلهم لما نقلوه كذبًا، ونقل الأمة الغضبية
الخاملة، القليلة الزائلة
(1)
صدقًا؟
فثبت أنه لا يُمكنُ يهوديًّا على وجه الأرض أن يصدِّق بنبوّة موسى عليه السلام إلا بتصديقه وإقراره بنبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن نصرانيًّا البتة الإيمانُ بالمسيح عليه السلام إلا بعد الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ولا ينفعُ هاتين الأمتين شهادةُ المسلمين بنبوة موسى والمسيح، لأنهم إنما آمنوا بهما على يد محمد صلى الله عليه وسلم، وكان إيمانهم بهما من الإيمان بمحمدٍ، وبما جاء به، فلولاه ما عرفنا نبوتهما، ولا آمنَّا بهما ولا بنبيِّهما.
فإن أمة الغضب والضلال ليس بأيديهم عن أنبيائهم ما يوجبُ الإيمانَ بهم، فلولا القرآنُ ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم ما عرفنا شيئًا من آيات الأنبياء المتقدمين.
فمحمد صلى الله عليه وسلم وكتابه هو الذي قرَّر نبوة موسى، ونبوة المسيح عليهما الصلاة والسلام، لا اليهود والنصارى.
بل كان نفسُ ظهوره ومجيئه تصديقًا لنبوتهما، فإنهما أخبرا به، وبشَّرا بظهوره قبل ظهوره، فلما بُعث كان بعثه تصديقًا لهما.
وهذا أحد المعنيين في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) [174 ب] بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 36، 37]، أي مجيئه تصديق لهم من جهتين: من جهة إخبارهم بمجيئه ومبعثه، ومن جهة إخباره بمثل ما أخبروا به، ومطابقة ما جاءوا به لما جاءوا به، فإن الرسول الأوّل إذا أتى بأمر لا يُعلَم إلا بالوحي، ثم جاء نبي آخر لم يقاربه في الزمان ولا في المكان ولا تلقّى عنه، بمثل ما جاء به سواءً: دلَّ ذلك على صدق
(1)
ح، ش:«الذليلة» .
الرسولين الأول والآخر، وكان ذلك بمنزلة رجلين أخبر أحدهما بخبرٍ عن عِيان، ثم جاء آخرُ من غير بلده وناحيته بحيث نعلم أنه لم يجتمع به، ولا تلقى عنه، ولا عمَّن تلقى عنه، فأخبر بمثل ما أخبر به الأوّل سواءً، فإنه يُضْطَرُّ السامعُ إلى تصديق الأول والثاني.
والمعنى الثاني: أنه لم يأت مكذِّبًا لمن قبله من الأنبياء، مُزْرِيًا عليهم، كما يفعل الملوك المتغلِّبة على الناس بمن تقدّمهم من الملوك، بل جاء مصدقًا لهم، شاهدًا بنبوتهم، ولو كان كاذبًا متقولاً مُنْشِئًا من عنده سياسةً لم يُصدّق مَنْ قبله، بل كان يُزْري بهم، ويطعن عليهم، كما يفعل أعداء الأنبياء.
فصل
وقد اختلف أقوال الناس في التوراة التي بأيديهم: هل هي مُبَدّلة؟ أم التبديلُ والتحريف وقعَ في التأويل دون التنزيل؟ على ثلاثة أقوالٍ: طرفين ووسطٍ.
فأفرطت طائفةٌ وزعمت أنها كلَّها أو أكثرها مُبدلَّة مغيَّرة، ليست التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى عليه السلام، وتعرّض هؤلاء لتناقضها وتكذيب بعضها لبعضٍ.
وغلا بعضهم، فجوّز الاستجمار بها من البول.
وقابلهم طائفةٌ أخرى من أئمة الحديث والفقه والكلام، فقالوا: بل التبديلُ وقع في التأويل، لا في التنزيل. وهذا مذهب أبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قال في «صحيحه»
(1)
: «يُحَرّفُون: يزيلون، وليس أحدٌ
(1)
(13/ 522) مع الفتح.
يزيل لفظ كتابٍ من كتب الله تعالى، ولكنهم يُحَرِّفونه: يتأوَّلونه على غير تأويله».
وهذا اختيار الرازي في «تفسيره»
(1)
.
وسمعت شيخنا يقول: وقع النزاع في هذه المسألة بين بعض الفضلاء، فاختار هذا المذهب، ووهّن غيره، فأُنكر عليه، فأحضر لهم خمسة عشر نقلاً به.
ومن حُجَّة هؤلاء: أن التوراة قد طبّقت مشارق الأرض ومغاربها، وانتشرت جنوبًا وشمالاً، ولا يعلم عدد نُسخها إلا الله تعالى، ومن الممتنع أن يقع التواطؤ على التبديل والتغيير في جميع تلك النسخ، بحيث لا يبقى في الأرض نسخةٌ إلا مُبدَّلةً مغيرةً، والتغيير على منهاج واحد، وهذا مما يُحيله العقل ويشهد ببطلانه.
قالوا: وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم مُحتجًّا على اليهود بها: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93].
قالوا: وقد اتفقوا على ترك فريضة الرّجم، ولم يمكنهم تغييرها من التوراة، ولهذا لما قرأوها على النبي صلى الله عليه وسلم وضع القارئ يده على آية الرجم، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك عن آية الرجم، فرفعها، فإذا هي تلوح تحتها، فلو كانوا قد بدّلوا ألفاظ التوراة لكان هذا من أهمّ ما يبدِّلونه.
قالوا: وكذلك صفات النبي صلى الله عليه وسلم ومَخْرجه هو في التوراة بَيّنٌ جدًّا، ولم يمكنهم إزالته وتغييره، وإنما ذمّهم الله تعالى بكتمانه، وكانوا إذا احتُجّ عليهم
(1)
مفاتيح الغيب (11/ 187).
بما في التوراة من نعته وصفته يقولون: ليس هو، ونحن ننتظره.
قالوا: وقد روَى أبو داود في «سننه»
(1)
عن ابن عمر، قال: أتى نَفَرٌ من اليهود، فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القُفّ، فأتاهُم في بيت المِدْراس، فقالوا: يا أبا القاسم! إن رجلاً منّا زنى بامرأةٍ، فاحكم، فوضعوا لرسول الله وسادةً، فجلس عليها، [175 أ] ثم قال:«ائتوني بالتوراة» ، فأُتي بها، فنزع الوسادة من تحته، ووضع التوراة عليها، ثم قال:«آمنت بكِ وبمن أنزلكِ» ، ثم قال:«ائتوني بأعلمكم» ، فأُتي بفتًى شابٍّ
…
ثم ذكر قصة الرجم.
قالوا: فلو كانت مُبدّلة مُغيّرة لم يضعها على الوسادة، ولم يقل:«آمنت بكِ» .
قالوا: وقد قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]، والتوراة من كلماته.
قالوا: والآثارُ التي في كتمان اليهود صفةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، ومَنْعِهم أولادَهُم وعوامّهم من الاطلاع عليها: مشهورة، ومن اطّلع عليها منهم قالوا له: ليس به.
فهذا بعضُ ما احتجّتْ به هذه الفرقة.
وتوسَّطت طائفة ثالثة، وقالوا: قد زِيدَ فيها، وغُيّر ألفاظٌ يسيرةٌ، ولكنَّ أكثرها باقٍ على ما أُنزل عليه، والتبديلُ في يسير منها جدًّا.
(1)
سنن أبي داود (4451) من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن ابن عمر به، ومن طريق أبي داود رواه ابن عبد البر في التمهيد (14/ 397)، وحسنه الألباني في الإرواء (5/ 94). وأصل الحديث في الصحيح من طريق نافع عن ابن عمر، ومن طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر. انظر البخاري (3635) ومسلم (1699).
وممن اختار هذا القول: شيخنا في كتابه «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح»
(1)
.
قال: وهذا كما في التوراة عندهم: أن الله سبحانه وتعالى قال لإبراهيم عليه السلام: «اذبح ولدك بكرك ووحيدك إسحاق» .
فـ «إسحاق» زيادة منهم في لفظ التوراة.
قلت: وهي باطلة قطعًا من وجوه عشرة
(2)
:
أحدها: أن بِكره ووحيده: هو إسماعيل باتفاق الملل الثلاث، فالجمعُ بين كونه مأمورًا بذبح بِكره، وتعيينه بإسحاق: جمع بين النقيضين!
الثاني: أن الله سبحانه وتعالى أمر إبراهيم أن يَنْقُل هاجر وابنها إسماعيل عن سارة، ويُسكنهما في برية مكة لئلا تَغير
(3)
سارة، فأُمر بإبعاد السُّرِّيَّة وولدها عنها، حفظًا لقلبها، ودفعًا لأذى الغَيْرة عنها، فكيف يأمر سبحانه وتعالى بعد هذا بذبح ابن سارة وإبقاء ابن السُّرّية؟ فهذا مما لا تقتضيه الحكمة.
الثالث: أن قصة الذبح كانت بمكة قطعًا، ولهذا جعل الله تعالى ذبح الهدايا والقرابين بمكة، تذكيرًا للأمّة بما كان من قصة أبيهم إبراهيم مع ولده.
(1)
الجواب الصحيح (1/ 368).
(2)
انظر في هذا الموضوع «الرأي الصحيح في من هو الذبيح» للعلامة الفراهي. وللقاضي أبي بكر ابن العربي والسبكي والسيوطي وغيرهم رسائل مفردة في مسألة الذبيح.
(3)
كذا في النسخ، وهو عاميّ. والفعل غار يغار من باب سمع.
الرابع: أن الله سبحانه بشر سارة أمّ إسحاق {بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71]، فبشرها بهما جميعًا، فكيف يأمُرُ بعد ذلك بذبح إسحاق، وقد بشّر أبويه بوَلدِ ولدِهِ؟
الخامس: أن الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر قصة الذبيح وتسليمه نفسه لله تعالى، وإقدام إبراهيم على ذبحه، وفرغ من قصته، قال بعدها:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112]، فشكر الله تعالى له استسلامه لأمره، وبَذْلَ ولده له، وجعل من إثابته على ذلك أن آتاه إسحاق، فنجّى إسماعيلَ من الذبح، وزاده عليه إسحاق.
السادس: أن إبراهيم صلوات الله تعالى وسلامه عليه سأل ربّه الولد، فأجاب الله دعاءَه، وبشّره به، فلما بلغ معه السعي أمره بذبحه، قال تعالى:{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 99 ـ 101].
فهذا دليل على أن هذا
(1)
الولد إنما بُشّر به بعد دعائه وسؤاله رَبّه أن يهب له ولدًا، وهذا المبشَّر به هو المأمورُ بذبحه قطعًا، بنصّ القرآن.
وأما إسحاق فإنه بُشّر به من غير دعوة منه، بل على كِبر السنّ، وكون مثله لا يُولَدُ له، وإنما كانت البشارة به لامرأته سارة، ولهذا تعجّبت من حصول الولد منها ومنه.
قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا
(1)
«هذا» ساقطة من م.
لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود: 69 ـ 73].
فتأمَّل سياق هذه البشارة وتلك: تجدْهما بشارتين متفاوتتين، مَخْرَجُ إحداهما غير مخرج الأخرى.
والبشارة [175 ب] الأولى كانت له، والثانية كانت لها.
والبشارة الأولى هي التي أُمر بذبح مَنْ بُشّر به فيها، دون الثانية.
السابع: أن إبراهيم عليه السلام لم يَقدم بإسحاق إلى مكة البتة، ولم يفرّق بينه وبين أمّه، وكيف يأمره الله تعالى أن يذهب بابن امرأته، فيذبحه بموضع ضَرّتها وفي بلدها، ويدع ابن ضَرّتها؟
الثامن: أن الله تعالى لمّا اتخذ إبراهيم خليلاً، والخُلّة تقتضي أن يكون قلبه كلّه معلقًا بربه، ليس فيه شُعْبة لغيره، فلما سأل الولد وهَبَهُ إسماعيل، فتعلَّق به شُعبةٌ من قلبه، فأراد خليله سبحانه أن تكون تلك الشّعبة له، ليست لغيره من الخلق، فامتحنه بذبح ولده، فلمَّا أقدم على الامتثال خلصت له تلك الخُلَّة، وتمحّضت لله وحده، فنسخ الأمر بذبحه لحصول المقصود، وهو العزمُ وتوطينُ النفس على الامتثال.
ومن المعلوم أن هذا إنما يكون في أول الأولاد، لا في آخرها، فلما حصل هذا المقصود من الولد الأول لم يُحْتَجْ في الولد الآخر إلى مثله، فإنه لو زاحمت محبّة الولد الآخر الخُلّة لأمر بذبحه، كما أمر بذبح الأول.
فلو كان المأمور بذبحه هو الولدَ الآخر لكان قد أقرّه في الأول على مزاحمة الخُلّة به مدةً طويلةً، ثم أمره بما يُزيل المُزاحم بعد ذلك، وهذا خلاف مقتضى الحكمة، فتأمَّلْهُ.
التاسع: أن إبراهيم عليه السلام إنما رُزق إسحاق عليه السلام على الكِبَرِ، وإسماعيل عليه السلام رُزِقَهُ في عُنفوانه وقوّته، والعادة أن القلب أعلقُ بأول الأولاد، وهو إليه أمْيَلُ، وله أحبّ، بخلاف من يُرْزَقُه على الكبر، ومحلُّ الولد بعد الكبر كمحلّ الشهوة للمرأة.
العاشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتخر بقوله: «أنا ابنُ الذّبيحَيْن»
(1)
يعني: أباه عبد الله وجدّه إسماعيل.
والمقصود: أن هذه اللفظة مما زادوها في التوراة.
ونحن نذكر السبب الموجِبَ لتغيير ما غُيّر منها، والحق أحقُّ ما اتُّبع، فلا نغلو غُلُوّ المستهينين بها، المستجمرين بها، بل معاذَ الله من ذلك! ولا
(1)
كذا ذكره الحاكم (2/ 609) بلا إسناد، لكن ليس فيه ذكر الافتخار، وروى الطبري في تفسيره (21/ 85) والأموي في مغازيه كما في تفسير ابن كثير (7/ 35) والحاكم (4036) وابن عساكر في تاريخ دمشق (56/ 200، 201) وغيرهم من طريق عبد الله بن سعيد عن الصنابحي عن معاوية أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن الذبيحين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، وفي إسناده اختلاف، قال القرطبي في تفسيره (15/ 113):«سنده لا يثبت» ، وقال الذهبي:«إسناده واه» ، وقال ابن كثير في تفسيره (7/ 35):«هذا حديث غريب جدًا» ، وضعفه السيوطي في الدر المنثور (7/ 105) وقال في فتاويه (2/ 35):«هذا حديث غريب، وفي إسناده من لا يعرف حاله» ، وأبطله الألوسي في روح المعاني (23/ 136)، وهو في السلسلة الضعيفة (331، 1677).
نقول: إنها باقية كما أُنزلت من كل وجه كالقرآن. فنقول وبالله التوفيق:
إن علماء اليهود وأحبارهم لا يعتقدون أن هذه التوراة التي بأيديهم هي التي أنزلها الله تعالى على موسى بن عمران بعينها، لأن موسى عليه السلام صان التوراة عن بني إسرائيل خوفًا من اختلافهم من بعده في تأويلها، المؤدّي إلى تفرُّقهم أحزابًا، وإنما سَلّمها إلى عشيرته أولاد لاوي.
ودليل ذلك قوله في التوراة: «وكتبَ موسى هذه التوراة ودَفَعها إلى الأئمة من بني لاوي» .
وكان بنو هارون قضاةَ اليهود وحكّامهم، لأن الإمامة وخِدمَة القرابين وبيت المقدس كانت موقوفة عليهم، ولم يَبذلُ موسى عليه السلام من التوراة لبني إسرائيل إلا نصف سورةٍ، وهي التي قال فيها:«وكتبَ موسى هذه السورة وعلّمها بني إسرائيل» .
هذا نصّ التوراة عندهم.
قال: «وتكون لي هذه السورة شاهدةً على بني إسرائيل» .
وفيها: قال الله تعالى: «إن هذه السورة لا تُنْسَى من أفواه أولادهم» .
وهذه السورة مشتملةٌ على ذمّ طبائعهم، وأنهم سيخالفون شرائعَ التوراة، وأن السخط يأتيهم بعد ذلك، وتُخَرّبُ ديارهم، ويُسْبَوْنَ في البلاد، فهذه السورةُ تكون متداولة في أفواههم، كالشاهد عليهم، الموقفِ لهم على صحةِ ما قيل لهم.
فما نصّت التوراة أن هذه السورة لا تُنْسَى من أفواه أولادهم دَلّ ذلك على أن غيرها من السور ليس كذلك، وأنه يجوز أن يُنْسَى من أفواههم.
وهذا يدلّ على أن موسى عليه السلام لم يُعْط بني إسرائيل من التوراة إلا هذه السورة، فأما بقيَّتها فدفعها إلى أولاد هارون، وجعلها فيهم، وصانها عن سواهم.
وهؤلاء الأئمة الهارونيُّون الذين كانوا يعرفون التوراة، ويحفظون أكثرها، قتلهم بُخْتنصّر على دم واحد يوم [176 أ] فتح بيت المقدس، ولم يكن حفظُ التوراة فرضًا عليهم ولا سُنَّةً، بل كان كلّ واحدٍ من الهارونيين يحفظ فَصْلاً من التوراة.
فلما رأى عُزَيرٌ
(1)
أن القوم قد أُحرق هيكلهم، وزالت دولتهم، وتفرّق جمعهم، ورُفع كتابهم، جمع من محفوظاته ومن الفصول التي يحفظها الكَهَنة ما اجتمعت منه هذه التوراة التي بأيديهم، ولذلك بالغوا في تعظيم عُزَيرٍ هذا غاية المبالغة.
فزعموا أن النور الآن يظهر على قبره، وهو عند بطائح العراق، لأنه جمع لهم ما يحفظ دينهم.
وغلا بعضهم فيه، حتى قال: هو ابن الله، ولذلك نسب الله تعالى ذلك إلى اليهود، إلى جنسهم لا إلى كلّ واحدٍ منهم.
فهذه التوراة التي بأيديهم في الحقيقة كتاب عُزَيرٍ، وفيها كثيرٌ من التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى عليه الصلاة والسلام، ثم تداولتها أمّة قد مزّقها الله تعالى كلّ مُمزّق، وشَتّتَ شملها، فلحقها ثلاثة أمور:
أحدها: بعض الزيادة والنقصان.
(1)
كذا في م. وفي باقي النسخ: «عزرا» . وكلاهما صواب.
الثاني: اختلاف الترجمة.
الثالث: اختلاف التأويل والتفسير.
ونحن نذكرُ من ذلك أمثلةً تُبيِّن حقيقة الحال:
المثال الأول: ما تقدم من قوله: «ولحم في الصحراء فريسة لا تأكلوا، وللكلب ألقوه» .
وتقدم بيانُ تحريفهم هذا النصّ، وحمله على غير محمله.
المثال الثاني: قوله في التوراة: «نبيًّا أُقيمُ لهم من وسط إخوتهم مثلك، فليؤمنوا به» .
فحرّفوا تأويله، إذ لم يمكنهم أن يبدّلوا تنزيله، وقالوا: هذه بشارة بنبيٍّ من بني إسرائيل، وهذا باطل من وجوه:
أحدها: أنه لو أراد ذلك لقال: «من أنفسهم» ، كما قال في حق محمد صلى الله عليه وسلم:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164]، وقال تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128]، ولم يقل:«من إخوتكم» .
الثاني: أن المعهود في التوراة أن إخوتهم غيرُ بني إسرائيل.
ففي الجزء الأول من السِّفْر الخامس قوله لهم: «أنتم عابرون في تُخُوم إخوتكم بني العِيصِ، المقيمين في سَيعير، إيّاكم أن تطْمعوا في شيء من أرضهم» .
فإذا كان بنو العيص إخوةً لبني إسرائيل، لأن العيص وإسرائيل وَلَدا إسحاق، والرومُ هم بنو العيص، واليهودُ هم بنو إسرائيل، وهم إخوتهم،
فكذلك بنو إسماعيل إخوةٌ لجميع ولد إبراهيم.
الثالث: أن هذه البشارة لو كانت بشَمُويِل أو غيره من بني إسرائيل لم يصحّ أن يقال: بنو إسرائيل إخوة بني إسرائيل، وإنما المفهوم من هذا: أن بني إسماعيل أو بني العيص هم إخوةُ بني إسرائيل.
الرابع: أنه قال: «أُقِيمُ لهم نبيًّا مثلك» ، وفي موضع آخر:«أُنْزِلُ عليه توراةً مثل توراة موسى» .
ومعلوم أن شمويل وغيره من أنبياء بني إسرائيل لم يكن فيهم مثل موسى، لا سيما وفي التوراة:«لا يقومُ في بني إسرائيل مثلُ موسى» .
وأيضًا فليس في بني إسرائيل مَنْ أُنزل عليه توراةٌ مثل توراة موسى إلا محمدٌ والمسيح صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والمسيح كان من أنْفُسِ بني إسرائيل، لا من إخوتهم، بخلاف محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه من إخوتهم بني إسماعيل.
وأيضًا فإن في بعض ألفاظ هذا النص: «كلُّكم له تسمعون» ، وشَمُويِلُ لم يأت بزيادة ولا نسخ، لأنه إنما أُرسل ليقوّي أيديهم على أهل فلسطين، وليَرُدّهم إلى شرع التوراة، فلم يأت بشريعةٍ جديدة، ولا كتابٍ جديد، وإنما حكمه حكم سائر أنبياء بني إسرائيل، فإنهم كانت تسوسهم الأنبياء، كلّما هلك نبيٌّ قام فيهم نبي.
فإن كانت هذه البشارةُ بشمويل فهي بشارةٌ بسائر الأنبياء الذين بُعثوا فيهم، ويكونون كلهم مثل موسى عليه السلام، وكلهم قد أنزل عليهم كتاب مثل كتاب موسى عليه السلام.
المثال الثالث: قوله في التوراة: «جاء الله تعالى من طور سَيْناء، وأشرق نوره من سيعير، واستعْلَن من جبال فاران، [176 ب] ومعه ربوات المقدسين» .
وهم يعلمون أن جبل سيعير هو جبلُ السَّرَاةِ، الذي يسكنه بنو العيص، الذين آمنوا بعيسى، ويعلمون أن في هذا الجبل كان مقام المسيح، ويعلمون أن سيناء هو جبل الطور.
وأما جبال فاران: فهم يحملونها على جبال الشام وهذا من بَهتهم وتحريف التأويل.
فإن جبال فاران هي جبالُ مكة، وفاران اسمٌ من أسماء مكة، وقد دلّ على هذا نص التوراة: أن إسماعيل لما فارق أباه سكن في بَرّية فاران.
ولفظ التوراة: «أن إسماعيل أقام في بريَّة فاران، وأنكحته أمُّه امرأةً من أرض مصر» .
فثبت بنصّ التوراة أن جبال فاران مسكن لولد إسماعيل، وإذا كانت التوراة قد أشارت إلى نبوةٍ تنزل على جبال فاران لزم أنها تنزل على ولد إسماعيل، لأنهم سُكَّانها.
ومن المعلوم بالضرورة أنها لم تنزل على غير محمد صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل عليه السلام.
وهذا من أظهر الأمور بحمد الله تعالى.
فصل
ومما يدلّ على غَلَط أفهام هذه الأمة الغضبية، وقلّة فقههم، وفسادِ رأيهم وعقولهم كما جاء في التوراة:«أنهم شعبٌ عادمو الرأي، وليس فيهم فطانة» أنهم سمعوا في التوراة: «بكور ثمار أرضك تُحمَلُ إلى بيت الله ربِّك، ولا يُنْضَج الجديُ بلبن أمّه» .
والمراد من ذلك: أنهم أُمروا عَقِيب افتراض الحج إلى بيت المقدس عليهم أن يستصحبوا معهم إذا حَجُّوا أبكار أغنامهم، وأبكار مُسْتَغلّات أرضهم، لأنه كان فُرض عليهم قبل ذلك أن تبقى سُخولة البقر والغنم وراء أمّها سبعة أيامٍ، وفي اليوم الثامن فصاعدًا يصلُح أن تكون قُرْبانًا، فأشار في هذا النص بقوله:«لا يُنْضَجُ الجديُ بلبن أمّه» إلى أنهم لا يُبَالغون في إطالة مُكثِ باكور أولاد البقر والغنم وراء أمهاتها، بل يَسْتصحبون أبكارهن اللاتي قد عبرن سبعة أيام منذُ ميلادهن معهم، إذا حجوا إلى بيت المقدس، ليتخذوا منها القرابين.
فتوهَّم المشايخ البُلْهُ أن الشرع يريد بالإنضاج: إنضاج الطبيخ في القِدْر، وأنهم نُهوا أن يطبخوا لحم الجدي باللبن.
ولم يَكْفِهم هذا الغلط، حتى حرَّموا أكل سائر اللُّحْمان باللبن، فألغوا لفظ «الجدي» ، وألغوا حليب «أمه» ، وحمَّلوا النص ما لا يحتمله، وإذا أرادوا أن يأكلوا اللحم واللبن أكلوا كلًّا منهما على حِدة.
والأمر في هذا ونحوه قريبٌ.
فصل
ولا يُسْتبعدُ اصطلاح كافة هذه الأمة على المحال، واتفاقهم على أنواع من الضلال:
فإن الدولة إذا انقرضت عن أمة باستيلاء غيرها عليها، وأخذها بلادها انطمست معالم دينها، واندرست آثارها.
فإن الدولة إنما يكون زوالها بتتابع الغارات والمصافّات، وإخراب البلاد وإحراقها، ولا تزال هذه الأمور متواترة عليها إلى أن يعود علومها جهلاً، وعِزّها ذُلًّا، وكثرتها قلة، وكلما كانت الأمة أقدم، واختلفت عليها الدول المتناولة لها بالذُلّ والصّغار، كان حَظّها من اندراس معالم دينها وآثارها أوفر.
وهذه الأمة أوفر الأمم حظًّا من هذا الأمر، لأنها من أقدم الأمم، ولكثرة الأمم التي استولت عليها: من الكشدانيين، والكلْدانيين، والبابليين، والفرس، واليونان، والنصارى، وآخر ذلك المسلمون.
وما من هذه الأمم إلا من طلب استئصالهم، وبالغ في إحراق بلادهم وكتبهم، وقطع آثارهم، إلا المسلمين، فإنهم أعدل الأمم فيهم وفي غيرهم، حفظًا لوصية الله لهم، حيث يقول:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8].
وصادف الإسلام هذه الأمة تحت ذِمّة الفُرس، وذمة النصارى، بحيث لم يَبْقَ [177 أ] لهم مدينة ولا جيش.