الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال الروياني: الطلاق لازم لي: صريح، وعدَّ
(1)
ذلك في صرائح الطلاق، ولعل وَجهه غلبةُ استعماله لإرادة الطلاق.
وقال القفّال في «فتاويه» : «ليس بصريح ولا كناية، حتى لا يقعَ به الطلاق وإن نواه؛ لأن الطلاقَ لابُدّ فيه من الإضافة إلى المرأة، ولم يتحقق» . هذا لفظه.
وحكى شيخنا هذا القول عن بعض أصحاب أحمد.
فقد صار الخلافُ في هذا الباب في المذاهب الأربعة بنقل أصحابها في كتبهم.
ولهذا التفريق مَأخذ آخر، أحسن من هذا الذي ذكره الشارح، وهو أن الطلاق لا يصح التزامه، وإنما يلتزم التطليق؛ فإن الطلاقَ هو الواقع بالمرأة، وهو اللازم لها، وإنما الذي يلتزمه الرجل هو التطليق، فالطلاقُ لازم لها إذا وَقَع.
وإذا تبين هذا ف
التزامُ التطليق لا يوجب وقوعَ الطلاق
؛ فإنه لو قال: إن فعلتِ كذا فَعَلَيّ أن أطلقك، أو فَلِلَّه عليّ أن أطلقك، أو فتطليقك لازم لي، أو واجبٌ عليّ، وحيث لم يقع عليه الطلاقُ، فهكذا إذا قال: إن فعلتِ كذا فالطلاق يلزمني؛ لأنه إنما التزم التطليق، ولا يقع بالتزامه.
والموقعون يقولون: هو قد التزم حكم الطلاق، وهو خروج البُضْعِ من ملكه، وإنما يلزمه حكمه إذا وقع، فصارَ هذا الالتزام مستلزمًا لوقوعه.
فقال لهم الآخرون: إنما يلزمه حكُمه إذا أتى بسببه، وهو التطليق،
(1)
م: «وغير» ، وهو تحريف.
فحينئذٍ يلزمُه حكمه، وهو لم يأت بالتطليق مُنجَّزًا بلا ريب، وإنما أتى به مُعلِّقًا له، والتزام التطليق بالتنجيز لا يلزم، فكيف يلزم بالتعليق؟
والمنصف المتبصِّر لا يخفى عليه الصحيح، وبالله التوفيق.
فصل
وممن ذكر الفرقَ بين الطلاق وبين الحلف بالطلاق: القاضي أبو الوليد هشام بن عبد الله بن هشام الأزدي القرطبي في كتابه «مُفيد الحُكَّام فيما يَعْرِضُ لهم من نوازل الأحكام» .
فقال في كتاب الطلاق من ديوانه، وقد ذكر اختلافَ أصحاب مالك في الأيمان اللازمة. ثم قال: «ولا ينبغي أن تُتلقَّى هذه المسألة هكذا تَلقّيًا تقليديًّا؛ إلا أن يُشِمَّها نورُ الفهم ويُوضحها لسانُ البرهان، وأنا أُشير لك إلى نُكتةٍ تَسْعَدُ بالعرض فيها إن شاء الله تعالى.
منها: الفرقُ بين الطلاق إيقاعًا، وبين اليمين بالطلاق، وفى «المدونة» كتابان موضوعان: أحدهما لنفس الطلاق، والثاني للأيمان بالطلاق، ووراء هذا الفنّ فقهٌ على الجملة، وذلك أن الطلاق صورته في الشّرع: حَلٌّ وارِدٌ على عَقْدٍ، واليمين بالطلاق عَقدٌ، فليُفْهم هذا.
وإذا كان عقدًا لم يحصُل منه حَلٌّ، إلا أن يُنْقَل من موضع العقد إلى موضع الحلّ بنية يخرج بها [110 أ] اللفظُ من حقيقة إلى كناية، فقد نَجَمت هذه المسألة في أيام الحجّاج بعد أن استقل الشرع بأصوله وفروعه، وحقائقه ومجازاته في أيمان البيعة، وليس في أيمان الطلاق إلا ما أذكره لك، وذلك أن الطلاق على ضَرْبين: صريح وكناية.
فالصريح: كل لفظ استقلّ بنفسه في إثبات حُكمه تحديدًا.
والكناية على ضربين: كناية غالبة، وغير غالبة:
فالغالبة: كل ما أشْعَرَ بثبوت الطلاق في موضوع اللغة أو الشرع، كقوله: الحَقي بأهلك، واعْتَدّي.
وغير الغالبة: كل مالا يُشعر بثبوت الطلاق في وَضع اللغة والشرع، كقوله: ناوليني الثوب، وقال: أردتُ بذلك الطلاق.
فإذا عرضنا لفظ الأيمان «يلزمني» على صريح الطلاق لم تكن من قِسْمه، وإن عرضناها على الكناية لم تكن من قسمها إلا بقرينة من شاهد حال، أو جاري عُرفٍ، أو نيَّة تقارن اللفظ، فإن اضطرب شاهدُ الحال، أو جاري العُرْف باحتمال يحتمله، فقد تعذر الوقوف على النية، ولا ينبغي لحاكم ولا لغيره أن يُمدَّ القلم في فتوى حتى يتأمل مثل هذه المعاني؛ فإن الحكم إن لم يقع مُسْتَوضحًا عن نورٍ فكريٍّ مُشْعرٍ بالمعنى المربوط اضمحلّ».
ثم ذكر اختلاف أهل العلم
(1)
في الحلف بالأيمان اللازمة.
والمقصود: أنه ذكر الفرق الفطري العقلي الشرعي بين إيقاع الطلاق، والحلف بالطلاق، وأنهما بابان مفترقان بحقائقهما، ومقاصدهما، وألفاظهما، فيجب افتراقهما حكمًا.
(1)
«أهل العلم» ساقطة من م.
أما افتراقهما بالحقيقة، فما ذكره من أن الطلاق حَلٌّ وفسخ، واليمين عقد والتزام، فهما إذن حقيقتان مختلفتان، قال تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89].
ثم أشار إلى الافتراق في الحكم بقوله: «وإذا كانت اليمين عقدًا لم يحصل بها حلّ، إلا أن ينقل من موضع العقد إلى موضع الحلّ، ومن البَيِّن أن الشارع لم ينقلها من العقد إلى الحلّ، فيجب بقاؤها على ما وضعت عليه.
نعم، لو قصد الحالفُ بها إيقاع الطلاق عند الحنثِ فقد استعملها في العقد والحِلّ، فتصيرُ كنايةً في الوقوع، وقد نواه، فيقع به الطلاق؛ لأن هذا العقد صالح للكناية، وقد اقترنت به النية، فيقع الطلاق، أما إذا نوى مُجَرَّد العقد، ولم ينو الطلاق البتة بل هو أكْرَه شيء إليه؛ فلم يأت بما ينقل اليمين من موضوعها الشرعي، ولا نقلها عنها الشارع، فلا يلزمه غير موجب الأيمان».
فليتأمل المُنْصِفُ العالمُ هذا الفرق، ويُخْرِجْ قَلْبَهُ ساعةً من التعصب والتقليد، واتَّباع غير الدليل.
والمقصود أن باب اليمين وباب الإيقاع يختلفان في الحقيقة والقصد واللفظ، فيجب اختلافهما في الحكم:
أما الحقيقة فما تقدم.
وأما القصد فلأن الحالف مقصوده الحض والمنع، والتصديق أو التكذيب، والمطلِّق مقصوده التخلُّص من الزوجة من غير أن يخطر بباله حضّ ولا منع، ولا تصديق ولا تكذيب، فالتسوية بينهما لا يخفى حالها.
وأما اختلافهما لفظًا فإن لفظ اليمين لا بدَّ فيها من التزام قَسَمِيٍّ يأتي فيه بجواب القسم، أو تعليق شَرْطيٍّ يقصد فيه انتفاء الشرط والجزاء، أو وقوع الجزاء على تقدير وقوع الشرط، وإن كان يكرهه، ويقصد انتفاءه، فالمقدَّمُ في الصورة الأولى مؤخَّر في الثانية، والمنفيُّ في الأولى ثابت في الثانية، ولفظ الإيقاع لا يتضمن شيئًا من ذلك.
ومن تصوَّر هذا حقَّ التصوُّر جزم بالحق في هذه المسألة، والله الموفق.
الطريقة السادسة: أن يزول [111 أ] المعنى الذي كانت اليمين لأجله، فإذا فعل المحلوف عليه بعد ذلك لم يحنث؛ لأن امتناعه باليمين إنما كان لِعِلّةٍ، فيزول بزوالها، وهذا مطَّرِدٌ على أصول الشرع، وقواعد مذهب أحمد وغيره، ممن يعتبر النيَّة والقصد في اليمين تعميمًا وتخصيصًا، وإطلاقًا وتقييدًا.
فإذا حلف: لا أكلِّم فلانة، وكان سبب اليمين أو الذي هَيّجَها كونَها أجنبية، يخاف الوقوع في عرضه بكلامها، فتزوجها، لم يحنث بكلامها؛ إعمالًا لسبب اليمين وما هَيّجها في التقييد بكونها أجنبية، هذا إذا لم تكن له نِيّةٌ، فإن كانت له نيَّة ما دامت كذلك فلا إشكال في تقييد اليمين بها.
ونظيره: أن يحلف: لا يكلِّم فلانًا، ولا يعاشره؛ لكونه صبيًّا، فصار رجلًا، وكانت نيَّته وسبب يمينه لأجل صباه.
ونظيره: أن يحلف: لا دخلت هذه الدار؛ لأجل مَنْ يَظُنّ به التهمة لدخولها، فمات أو سافر، فدخلها، لم يحنث.
وبذلك أفتى أبو حنيفة وأبو يوسف: من حلف: لا دخلت دار فلان هذه، ولا كلمت عبده هذا، فباع العبدَ والدار.
ونظير هذا: أن يحلف أن لا يكلم فلانًا، والحامل له على اليمين كونه تاركًا للصلاة، أو مرابيًا، أو خمَّارًا، أو واليًا، فتابَ من ذلك كله، وزالت الصفة التي حلف لأجلها، لم يحنث بكلامه.
وكذلك إذا حلف: لا تزوجت فلانة، والحامل له على اليمين صفة فيها، مثل كونها بغيًا أو غير ذلك، فزالت تلك الصفة، لم يحنث بتزوُّجها.
كل هذا مراعاة للمقاصد التي الألفاظ دالَّةٌ عليها، فإذا ظهر القصد كان هو المعتبر.
ولهذا لو حلف: لَيَقْضِيَنّه حقَّه في غدٍ، وقَصْدُه أو السببُ: أن لا يجاوزه، فقضاه قبله، لم يحنث.
ولو حلف: لا يبيع عبده إلا بألف، فباعه بأكثر، لم يحنث.
ولو حلف: أن لا يخرج من البلد إلا بإذن الوالي، والنية أو السبب: يقتضي التقييد مادام كذلك، فإذا عُزل لم يحنث بالخروج بغير إذنه.
وكذلك لو حلف على زوجته، أو عبده، أو أمته أن لا تخرج إلا بإذنه، فطلّق، أو أعتق، أو باع، لم يحنث بخروجهم بغير إذنه؛ لأن اقتضاء السبب والقصد للتقييد في غاية الظهور.
ونظائر ذلك كثيرة جدًّا.
وسائر الفقهاء يعتبرون ذلك، وإن خالفوه في كثير من المواضع.
وهذا هو الصواب؛ لأن الألفاظ إنما اعتبرت لدلالتها على المقاصد، فإذا ظهر القصد كان الاعتبار له، وتقيَّد اللفظ به.
ولهذا لو دُعي إلى غداء، فحلف: لا يتغدّى، تقيدت يمينه بذلك الغداء
وحده؛ لأن النية والسبب وبساط
(1)
اليمين لا يقتضي غيره.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى
(2)
. وما لم ينوِه بيمينه، أو كان السبب لا يقتضيه، لا يجوز أن يُلزَم به، مع القطع بأنه لم يُرِدْهُ، ولا خطر على باله.
وقد أفتى غير واحدٍ من الفقهاء منهم ابن عقيل وشيخنا وغيرهما، فيمن قيل له: إن امرأتك قد خرجت من بيتك، أو قد زنت بفلان، فقال: هي طالق، ثم تبيّن له أنها لم تخرج من البيت، وأن الذي رُميتْ به في بلد بعيد، لا يمكن وصوله إليها، أو أنه حين رميت به كان مَيْتًا، ونحو ذلك مما يعلم به أنها لم تَزْنِ: فإنه لا يقع عليه الطلاق؛ لأنه إنما طلقها بناءً على هذا السبب، فهو كالشرط في طلاقها.
وهذا الذي قالوه هو الذي لا يقتضي المذهب وقواعد الفقه غيره؛ فإنهم قد قالوا: لو قال لها: أنت طالق، وقال:(أردتُ: إن قمتِ)، دُيِّنَ، ولم يقع به الطلاق، فهذا مثله سواءً.
ونظير هذا ما قالوه: إن المكاتب لو أدّى إلى سيده المال، فقال: أنت حُرٌّ، فبان أن المال الذي أعطاه مستَحَقّ أو زُيوف، لم يقع العتق، وإن كان [111 ب] قد صرَّح به، ذكره أصحاب أحمد والشافعي؛ لأنه إنما أعتقه بناءً على سلامة العوض، ولم يسلَّم له.
وقواعد الشريعة كلها مبنية على أن الحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها.
(1)
ح: «مناط» .
(2)
أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907) عن عمر بن الخطاب.
وأمثلة ذلك أكثر من
(1)
أن تحصر.
فهذه الطريقة تخلِّص من كثير من الحنث.
وإذا تأملت هذه الطرق لرأيت أيّتَها سلكت أحسنَ من طرق الحيل التي يتحيَّلون بها على عدم الحنث، وهى أنواع:
أحدها: التسريح.
الثاني: خلع اليمين.
الثالث: التحيُّل لفساد النكاح، إما أن يكون الولي كان قد فعل ما يفسق به، أو الشهود كانوا جلوسًا على مقعد حرير، ونحو ذلك، فيكون النكاح باطلًا، فلا يقع فيه الطلاق.
الرابع: الاحتيال على فعل المحلوف عليه، بتغيير اسمه، أو صفته، أو نقله من مالكٍ إلى مالك، ونحو ذلك.
فإذا غُلبوا عن شيء من هذه الحيل الأربعة فَزِعوا إلى التيس المستعار، فاستأجروه ليَسْفِدَ ويأخذ على سِفاده أجرًا.
فليُوازِن من يعلم أنه موقوف بين يدي الله تعالى ومسؤول: بين هذه الطرق وتلك الطرق التي قبلها، ولْيَقُمْ لله ناظرًا ومناظرًا، مُتجرّدًا من العصبية والحَمِيّة، فإنه لا يكاد يخفى عليه الصواب، وبالله التوفيق.
فصل
وأما قوله تعالى لأيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44].
(1)
«من» ساقطة من م.
فمن العجب أن يَحتجّ بهذه الآية مَنْ يقول: إنه لو حلف: ليضربنّه عشرةَ أسواط، فجمعها وضربه بها ضَرْبَةً واحدة لم يَبَرّ في يمينه.
هذا قول أصحاب أبي حنيفة، ومالك، وأصحاب أحمد.
وقال الشافعي: إن علم أنها مَسّته كلُّها برّ في يمينه، وإن علم أنها لم تمسّه لم يبرّ، وإن شكَّ لم يحنث.
ولو كان هذا موجبًا لبِرّ الحالف لسقط عن الزاني والقاذف والشارب بعدد الضرب؛ بأن يَجمع له مئة سوط أو ثمانين، ويضرب بها ضربةً واحدة، وهذا إنما يجزئ في حق
(1)
المريض، كما قال الإمام أحمد في المريض عليه الحدّ: يُضرب بِعِثكالٍ يُسقط عنه الحدّ.
واحتج بما رواه عن أبي أمامة بن سهل، عن سعيد بن سعد بن عُبادة، قال: كان بين أبياتنا رُوَيجلٌ ضعيف مُخْدَجٌ، فلم يَرُعِ الحيَّ إلا وهو على أمةٍ من إمائهم يَخبُثُ بها، قال: فذَكَرَ ذلك سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكان ذلك الرجل مسلمًا، فقال:«اضربوه حدَّهُ» ، فقالوا: يا رسول الله! إنه أضعفُ مما تحسِب، لو ضربناه مئةً قتلناه. فقال:«خذوا له عِثْكالًا فيه مئةُ شِمْراخ، ثم اضربوه ضربةً واحدةً» ، ففعلوا
(2)
.
(1)
«حق» ساقطة من م.
(2)
رواه أحمد (5/ 222)، والنسائي في الكبرى (7309)، وابن ماجه (2574)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2024)، والطبراني في الكبير (6/ 63)، والبيهقي في الكبرى (8/ 230)، وغيرهم، وفي إسناده اختلافٌ وعنعنةُ ابنِ إسحاق، ورجّح بعضهم إرساله، وحسنه ابن عبد الهادي في المحرر (1147) وقال:«لكن فيه اختلاف، وقد روِي مرسلًا» ، قال ابن الملقن في البدر المنير (8/ 626):«الظاهر أنَّ هذا الاختلافَ لا يضرّه» ، وحسنه ابن حجر في البلوغ (ص 155)، وهو في السلسلة الصحيحة (2986).
وأما قصة أيوب عليه السلام فلها فقهٌ دقيق؛ فإن امرأته كانت لشِدّة حرصها على عافيته وخَلاصِه من دائه، تلتمسُ له الدواء بما تقدِرُ عليه، فلما لَقِيَها الشيطانُ وقال ما قال أخبرت أيوب عليه السلام بذلك، فقال: إنه الشيطانُ، ثم حلف لئن شفاه الله تعالى ليَضربَنّها مئة سوط، فكانت معذورةً محسنةً في شأنه، ولم يكن في شرعهم كَفّارةٌ؛ فإنه لو كان في شَرْعهم كفارة لعدَل إلى التكفير، ولم يَحْتَجْ إلى ضَرْبِها، فكانت اليمينُ موجِبةً عندهم كالحدود، وقد ثبت أن المحدود إذا كان معذورًا خُفّفَ عنه، بأن يُجمع له مئة شمْراخ أو مئة سوط، فيُضرَب بها ضربةً واحدة، وامرأةُ أيوبَ كانت معذورة، لم تعلم أنّ الذي خاطبها الشيطانُ، وإنما قصدت الإحسانَ، فلم تكن تستحقّ العقوبة، فأفتى الله سبحانه نبيَّه أيوب عليه السلام أن يُعاملها معاملة المعذور، هذا مع رِفْقها به، وإحسانها إليه، فجمع الله له بين البرّ في يمينه، والرفق بامرأته المحسنة المعذورة، التي لا تستحقّ العقوبة.
فظهر موافقة نصّ القرآن في قصة أيوب عليه السلام لنَصّ السنة في شأنِ الضعيف الذي زَنَى، فلا يُتعدّى بهما عن مَحَلِّهِما.
فإن قيل: فقولوا هذا في نظير ذلك ممن حلفَ: ليضربنّ امرأته أو أمته [112 أ] مئةً، وكانا معذورَيْنِ، لا ذنب لهما: إنه يَبَرّ بجمع ذلك في ضربة بمئة شِمراخ.
قيل: قد جعل الله له مَخْرجًا بالكفارة، ويجب عليه أن يُكفّر يمينه، ولا يعصي الله بالبر في يمينه هاهنا، ولا يحلّ له أن يبرّ فيها، بل بِرّه فيها هو حِنثه
مع الكفارة، ولا يَحِلّ له أن يضرِبها، لا مُفرّقًا ولا مجموعًا.
فإن قيل: فإذا كان الضربُ واجبًا كالحدّ، هل تقولون: ينفعه ذلك؟
قيل: إما أن يكون العذُر مرجوَّ الزوالِ، كالحَرّ والبرد الشديد والمرض اليسير، فهذا يُنتظرُ زواله، ثم يحدّ الحدّ الواجب، كما روى مسلم في «صحيحه»
(1)
عن علي رضي الله عنه: أن أمَةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم زَنَتْ، فأمرني أن أجلدها، فأتيتها، فإذا هي حديثةُ عهد بنِفاس، فخشِيْتُ إن جَلدتُها أن أقتلها، فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«أحسنتَ، اترُكْها حتى تَماثَلَ» .
فصل
وأما حديث بلال في شأن التمر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له:«بع التمرَ بالدراهم، ثم اشترِ بالدراهم جَنيبًا»
(2)
.
فقال شيخنا: ليس فيه دلالة على الاحتيال بالعقود التي ليست مقصودة، لوجوه:
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يبيعَ سِلْعته الأولى، ثم يبتاعَ بثمنها سِلعةً أخرى، ومعلوم أن ذلك إنما يقتضي البيعَ الصحيح، ومتى وُجِد البيعان على الوجه الصحيح جاز ذلك بلا ريب، ونحن نقول: كلُّ بيع صحيح يُفيد الملك.
لكن الشأن في بُيوع قد دلّت السنةُ وأقوالُ الصحابة على أن ظاهرها وإن كان بيعًا فإنها ربًا، وهى بيع فاسد، ومعلوم أن مثل هذه لا تدخل في الحديث، ولو اختلف رجلان في بيع مثل هذا، هل هو صحيح أو فاسد؟
(1)
برقم (1705).
(2)
تقدم تخريجه.
وأراد أحدهما إدخاله في هذا اللفظ، لم يمكنه ذلك، حتى يُثبتَ أنه بيع صحيح، ومتى أثبت أنه بيع صحيح لم يَحْتَجْ إلى الاستدلال بهذا الحديث.
فتبيَّن أنه لا حُجة فيه على صورة من صور النزاع البتة.
قلت: ونظير ذلك أن يحتج به محتجٌّ على جواز بيع الغائب، أو على البيع بشرط الخيار أكثر من ثلاث، أو على البيع بشرط البراءة، وغير ذلك من أنواع البيوع المختلف فيها، ويقول: الشارع قد أطلق الإذن في البيع، ولم يقيِّده.
وحقيقة الأمر أن يقال: إن الأمر المطلق بالبيع إنما يقتضي البيع الصحيح، ونحن لا نسلّم له أن هذه الصورة التي تواطآ فيها على ذلك بيع صحيح.
الوجه الثاني: أن الحديث ليس فيه عموم؛ لأنه قال: «وابتع بالدراهم جَنيبًا» ، والأمر بالحقيقة المطلقة ليس أمرًا بشيء من قيودها؛ لأن الحقيقة مشتركة بين الأفراد، والقدر المشترك ليس هو ما يميِّز كل واحد من الأفراد عن الآخر، ولا هو مستلزمًا له، فلا يكون الأمر بالمشترك أمرًا بالمميز بحال.
نعم هو مستلزم لبعض تلك القيود لا بعينه، فيكون عامًّا لها على سبيل البدلِ، لكن ذلك لا يقتضي العموم بالأفراد على سبيل الجمع، وهو المطلوب.
فقوله: بعْ هذا الثوب، لا يقتضي الأمر ببيعه من زيد أو عمرو، ولا بكذا وكذا، ولا بهذه السوق أو هذه؛ فإن اللفظ لا دلالة له على شيء من ذلك، لكن إذا أتى بالمسمى حصل ممتثلًا من جهة وجود تلك الحقيقة، لا من جهة وجود تلك القيود.
إذا تبين ذلك فليس في الحديث أنه أمره أن يبتاعَ من المشتري، ولا أمره أن يبتاع من غيره، ولا بنَقْدِ البلد ولا غيره، ولا بثمن حالٍّ أو مؤجَّل؛ فإن هذه القيود خارجة عن مفهوم اللفظ، ولو زعم زاعم أن اللفظ يَعُمّ هذا كله كان مبطلًا، لكن اللفظ لا يمنع [112 ب] الإجزاء إذا أتى بها.
وقد قال بعض الناس: إن عدم الأمر بالقيود يستلزم عدم الإجزاء إذا أتى بها إلا بقرينة. وهذا غلط بيّن؛ فإن اللفظ لا تَعَرُّض فيه للقيود بنفي ولا إثبات، ولا الإتيان بها ولا تركُها من لوازم الامتثال، وإن كان المأمورُ به لا يخلو عن واحد منها، ضرورة وقوعه جزئيًّا مُشَخِّصًا، فذلك من لوازم الواقع، لا أنه مقصود للأمر، وإنما يستفاد الأمر بتلك اللوازم أو النهي عنها من دليل منفصل.
وقد خرج بهذا الجوابُ عن قول من قال: لو كان الابتياعُ من المشتري حرامًا لنهى عنه، فإن مقصوده صلى الله عليه وسلم إنما هو بيان الطريق التي يحصل بها اشتراءُ التمر الجيِّد لمن عنده رديء، وهو أن يبيع الرديء بثمن، ثم يبتاع بالثمن جيِّدًا، ولم يتعرض لشروط البيع وموانعه، فلا معنى للاحتجاج بهذا الحديث على نفي شرط مخصوص، كما لا يُحتجّ به على نفي سائر الشروط.
وهذا بمنزلة الاحتجاج بقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] على جواز أكل كُلّ ذي نابٍ من السباع ومِخْلبٍ من الطير، وعلى حِلّ ما اختُلِف فيه من الأشربة، ونحو ذلك؛ فالاستدلال بذلك استدلال غير صحيح، بل هو من أبطل الاستدلال؛ إذ لا تعرُّض للَّفظ لذلك، ولا أُريد به تحليل مأكول ومشروب، وإنما أُريد به بيان وقت الأكل والشرب وانتهائه.
وكذلك من استدل بقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] على جواز نكاح الزانية قبل التوبة، وصحة نكاح المحلِّل، وصحة نكاح الخامسة في عدة الرابعة، أو نكاح المتعة أو الشغار أو غير ذلك من الأنكحة الباطلة= كان استدلاله باطلًا.
وكذلك من استدل بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] على حِلّ بيع الكلب أو غيره مما اختلف فيه= فاستدلاله باطل؛ فإن الآية لم يُرَدْ بها بيان ذلك، وإنما أريد بها الفرق بين عقد الربا وبين عقد البيع، وأنه سبحانه حَرّم هذا وأباح هذا، فأمَّا أن يُفْهم منه أنه أحلَّ بيع كل شيء فهذا غير صحيح.
وهو بمنزلة الاستدلال بقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] على حل كل مأكولٍ ومشروب.
وبمنزلة الاستدلال بقوله: «من استطاع منكم الباءةَ فليتزوَّجْ»
(1)
على حِلّ الأنكحة المختلف فيها.
وبمنزلة الاستدلال بقوله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] على جواز جمع الثلاث ونفوذه، وعلى صحة طلاق المكره والسكران.
وبمنزلة الاستدلال بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] على صحة النكاح بلا ولي، أو بلا شهود وغير ذلك من الصور المختلف فيها.
(1)
أخرجه البخاري (1905)، ومسلم (1400) عن ابن مسعود.
وبمنزلة الاستدلال بقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ
…
} [النساء: 3] على حِلِّ
(1)
كل نكاح اختلف فيه، فيستدل به على صحة نكاح المتعة، والمحلل، والشغار، والنكاح بلا ولي وبلا شهود، ونكاح الأخت في عدة أختها، ونكاح الزانية، والنكاح المنفيِّ فيه المهرُ، وغير ذلك.
وهذا كله استدلال فاسد في النظر والمناظرة.
ومن العجب أن يُنْكِر مَنْ يسلكه على ابن حَزم استدلاله بقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] على وجوب نفقة الزوجة على زوجها إذا أعسر بالنفقة، وكان لها ما تنفق منه، فإنها وارثة له.
وهذا أصح من تلك الاستدلالات؛ فإنه استدلال بعام لفظًا ومعنى قد عُلّق الحكم فيه بمعنى مقصود يقتضي العموم، وتلك مطلقة لا عموم فيها لفظًا ولا معنى، ولم يقصد بها تلك الصور التي [113 أ] استدلُّوا بها عليها.
إذا عُرف هذا فالاستدلال بقوله: «بعِ الجَمْع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جَنيبًا» لا يدلّ على جواز بيع العِينة بوجه من الوجوه، فمن احتج به على جوازه وصحته فاحتجاجه باطل.
وليس الغالب أن بائع التمر بدراهم يبتاع بها من المشتري، حتى يقال: هذه الصورة غالبة، بل الغالب أنّ من يفعل ذلك يعرضه على أهل السوق عامة، أو حيث يقصد، أو ينادي عليه، وإذا باعه لواحد منهم فقد تكون عنده السلعة التي يريدها، وقد لا تكون.
ومثل هذا: إذا قال الرجل فيه لوكيله: بع هذا القطن، واشترِ بثمنه ثياب
(1)
«حل» ساقطة من م.