الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7]، وقال:{وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].
والمقصود أن محبة الظلم والعدوان سببها فسادُ العلم، أو فساد القصد، أو فسادهما جميعًا.
و
قد قيل: إن فساد القَصْدِ من فساد العلم
، وإلا فلو عَلِمَ ما في الضارّ من المضرّة ولوازمها حقيقةَ العلم لما آثره، ولهذا مَن علم مِنْ طعامٍ شَهِيٍّ لذيذ أنه مسموم فإنه لا يُقْدِمُ عليه، فضعْفُ علمه بما في الضارِّ من وجوه المضرة، وضعفُ عَزمه على اجتنابه يوقعه في ارتكابه، ولهذا كان الإيمان الحقيقي هو الذي يحمل صاحبه على فعل ما ينفعه، وترك ما يَضُرُّهُ، فإذا لم يفعل هذا ولم يترك هذا، لم يكن إيمانه على الحقيقة، وإنما معه من الإيمان بحسب ذلك.
فإن المؤمن بالنار حقيقةَ الإيمان حتى كأنه يراها، لا يسلك طريقها الموصلة إليها، فضلًا عن أن يسعى فيها بجهده.
والمؤمن بالجنة حقيقةَ الإيمان لا تطاوعه نفسُه أن يقعدَ عن طلبها، وهذا أمر يجدُه الإنسانُ في نفسه فيما يسعى فيه في الدنيا من المنافع، أو التخلُّص منه من المضارّ.
فصل
إذا تبيَّن هذا، فالعبدُ أحوجُ شيء إلى معرفة ما يَضُرّه ليجتنبه، وما يَنفَعُه ليحرصَ عليه ويفعله، فيُحبّ النافع، [122 أ] ويُبْغضَ الضارّ، فتكون محبته وكراهته موافقتين لمحبة الله تعالى وكراهته، وهذا من لوازم العبودية
والمحبة، ومتى خرجَ عن ذلك أحبّ ما يُسْخِطُ ربَّه، وكره ما يحبه، فنقصَتْ عبوديته بحسب ذلك.
وهاهنا طريقان: العقلُ والشرع.
أما العقلُ: فقد وضع الله سبحانه في العقول والفِطَر استحسان الصدق، والعدل، والإحسان، والبرِّ، والعفّة، والشجاعة، ومكارم الأخلاق، وأداء الأمانات، وصلة الأرحام، ونصيحة الخَلْق، والوفاء بالعهد، وحِفْظ الجوار، ونَصر المظلوم، والإعانة على نوائب الحقّ، وقِرَى الضيف، وحمل الكَلّ، ونحو ذلك.
ووَضَع في العقول والفِطَر استقباح أضدادِ ذلك، ونسبةُ هذا الاستحسان والاستقباح إلى العقول والفِطَر كنسبة استحسان شربِ الماء البارد عند الظَّمَأ، وأكل الطعام اللذيذ النافع عند الجوع، ولُبْس ما يُدْفِئُه عند البَرْد، فكما لا يمكنه أن يَدْفع عن نفسه وطبعه استحسان ذلك ونفعه، فكذلك لا يَدْفَعُ عن نفسه وفِطرته استحسانَ صفاتِ الكمال ونفعها واستقباح أضدادها.
ومن قال: إن ذلك لا يُعْلَم بالعقل ولا بالفطرَة، وإنما عُرفَ بمجرَّد السمع، فقولُه باطل، وقد بيّنّا بطلانه في كتاب «المفتاح»
(1)
من ستين وجهًا، وبَيّنا هناك دلالةَ القرآن والسنة والعقول والفِطَرِ على فساد هذا القول.
والطريق الثاني لمعرفة الضار والنافع من الأعمال السمعُ، وهو أوْسَعُ وأبينُ وأصدق من الطريق الأول، لخفاء صفات الأفعال وأحوالها ونتائجها، وأن العالمَ بذلك على التفصيل ليس هو إلا الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
(1)
مفتاح دار السعادة (2/ 2 ــ 118).
فأعلم الناس وأصَحّهم عقلًا ورأيًا واستحسانًا: مَنْ كان عقله ورأيه واستحسانه وقياسه موافقًا للسنة.
كما قال مجاهد
(1)
: أفضل العبادة الرأيُ الحَسَن، وهو اتباع السنة.
قال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6].
وكان السلف يُسَمُّون أهل الآراء المخالفة للسنة وما جاء به الرسولُ في مسائل العلم الخَبَرِيَّة، ومسائل الأحكام العمَلية، يسمونهم أهل الشبهات والأهواء، لأن الرأي المخالف للسنة جهلٌ لا علم، وهَوًى لا دينٌ، فصاحبه ممن اتَّبعَ هواه بغير هُدًى من الله، واتَّبع هواه بغير علم، وغايتُه الضلالُ في الدنيا والشقاء في الآخرة.
وإنما ينتفي الضلالُ والشقاء عمَّن اتّبع هُدَى الله الذي أرْسل به رُسله، وأنزلَ به كتبه، كما قال تعالى:{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123،124].
واتِّباع الهوى يكون في الحب والبغض، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ
(1)
رواه ابن أبي شيبة (6/ 168) وابن قتيبة في مختلف الحديث (ص 57) وأبو نعيم في الحلية (3/ 293) من طريق الأعمش عن مجاهد.
تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].
والهوى المنهيُّ عن اتباعه كما يكون هو هَوى الشخص في نفسه، فقد يكون أيضًا هوَى غيره، فهو منهيّ عن اتباع هذا وهذا، لمضادّة كلٍّ منهما لهُدَى الله الذي أرْسلَ به رسله، وأنزل به كُتُبَه.
فصل
فمن المحبة النافعة: محبة الزوجة وما ملكت يمينُ الرجل، فإنها مُعينة على ما شرع الله سبحانه له من النكاح وملك اليمين، من إعفاف الرجل نفسه وأهله، فلا تطمح نفسه إلى سواها من الحرام، ويُعِفّها فلا تطمح نفسها إلى غيره، وكلما كانت المحبة بين [122 ب] الزوجين أتمّ وأقوى كان هذا المقصود أتمَّ وأكمل، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]، وقال:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21].
وفى «الصحيح»
(1)
عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل: من أحبُّ الناس إليك؟ فقال: «عائشة» .
(1)
أخرجه البخاري (3662) ومسلم (2384) عن عمرو بن العاص.
ولهذا كان مسروق رحمه الله يقول
(1)
إذا حدث عنها: حدثتني الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق، حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الُمَبرَّأة من فوق سبع سماوات.
وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حُبّبَ إليّ من دنياكم: النساءُ والطيبُ، وجُعلت قُرّة عيني في الصلاة»
(2)
.
(1)
رواه ابن سعد في الطبقات (8/ 66)، وأحمد (6/ 241)، والطبراني في الكبير (23/ 181) وفي الأوسط (5411)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 44)، والبيهقي في الكبرى (2/ 458)، وابن عبد البر في التمهيد (13/ 35)، وابن قدامة في إثبات صفة العلو (ص 110)، وغيرهم من طرق عن مسروق، وفي بعض هذه المصادر:«المبرّأة في كتاب الله» ، وصحّحه الذهبي في العلو (317)، وابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (ص 163)، والألباني في السلسلة الصحيحة (6/ 1010).
(2)
رواه ابن سعد (1/ 398) وأحمد (3/ 128، 199، 285) والنسائي (3949) وأبو يعلى (3482، 3530) وأبو عوانة (4020) والعقيلي في الضعفاء (2/ 160) وغيرهم عن سلام أبي المنذر عن ثابت عن أنس، وقوّى إسناده الذهبي في الميزان (3/ 255)، وصحّحه ابن الملقن في البدر المنير (1/ 501)، وابن حجر في الفتح (3/ 15، 11/ 345)، والهيتمي في الفتاوى الحديثية (ص 197)، والألوسي في تفسيره (6/ 187، 14/ 87). ورواه ابن أبي عاصم (235) وابن عدي في الكامل (3/ 305) وأبو الشيخ في أخلاق النبيّ (ص 98) عن سلام بن أبي الصهباء عن ثابت به. ورواه النسائي (3950) ــ وعنه الضياء في المختارة (1608) ــ وأبو عوانة (4021) عن جعفر بن سليمان عن ثابت به، صححه الحاكم (2676)، وحسنه ابن مفلح في الآداب الشرعية (2/ 383)، وابن الملقن (1/ 502)، والعراقي في المغني (1419). ورواه ابن عدي (3/ 303) عن سلام بن أبي خبزة عن ثابت وعلي بن زيد عن أنس. وروِي عن يوسف بن عطية عن ثابت به وفيه زيادة، وعن ثابت مرسلا، قال الدارقطني في العلل (12/ 41):«المرسل أشبه بالصواب» ، قال ابن الملقن:«ما أدري ما وجه ذلك!» . ورواه المروزي في الصلاة (321)، والعقيلي (4/ 420)، والطبراني في الصغير (741)، والأوسط (5772)، والخطيب في تاريخه (12/ 371، 14/ 189)، والضياء (1532، 1533) عن الأوزاعي عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس به مختصرًا عند أكثرهم. وانظر: السلسلة الصحيحة (1107، 1809، 3329). وفي الباب عن المغيرة بن شعبة وعن ليث مرسلًا.
فلا عيب على الرجل في محبته لأهله وعشقه لها، إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له من محبة الله ورسوله، وزاحم حبَّه وحبَّ رسوله، فإن كل محبة زاحمت محبة الله ورسوله بحيث تضعفها وتنقصها فهي مذمومة، وإن أعانت على محبة الله ورسوله وكانت من أسباب قوتها فهي محمودة.
وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الشراب البارد الحلو، ويحب الحلوى والعسل، ويحب الخيل، وكان أحبَّ الثياب إليه القميص، وكان يحب الدُّبَّاء، فهذه المحبة لا تزاحم محبة الله، بل قد تجمع الهمّ والقلب على التفرغ لمحبة الله، فهذه محبة طبيعية تتبع نيّة صاحبها وقصده بفعل ما يحبه.
فإن نوى به القوة على أمر الله تعالى وطاعته كانت قُرْبة، وإن فعل ذلك بحكم الطبع والميل المجرد لم يُثَبْ ولم يعاقب، وإن فاته درجةُ مَنْ فعله متقربًا به إلى الله.
فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع: محبة الله، ومحبة في الله، ومحبة ما يعين على طاعة الله تعالى واجتناب معصيته.
والمحبَّة الضارة ثلاثة أنواع: المحبة مع الله، ومحبة ما يبغضه الله، ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله تعالى أو تنقصها.