الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فمن عَدَّ مصيبة هذا القتل أعظم من مصيبة الموت على الفراش فهو جاهل، بل موتُ الشهيد من أيسر الموتات وأفضلها وأعلاها، ولكن الفارّ يظن أنه بفراره يطول عمره، فيتمتع بالعيش! وقد أكذب الله سبحانه هذا الظن، حيث يقول:{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 16].
فأخبر الله أن الفرار من الموت بالشهادة لا ينفعُ، فلا فائدة فيه، وأنه لو نفع لم ينفع إلا قليلًا، إذ لابدّ له من الموت، فيفوته بهذا القليل ما هو خيرٌ منه وأنفع، من حياة الشهيد عند ربه.
ثم قال:
{قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً
وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الأحزاب: 17].
فأخبر سبحانه أن العبد لا يعصمه أحدٌ من الله، إن أراد به سوءًا غيرَ الموت الذي فرّ منه، فإنه فَرّ من الموت لَمّا كان يسوؤُهُ، فأخبر الله سبحانه أنه لو أراد به سوءًا غيره لم يعصمه أحد من الله، وأنه قد يَفرّ مما يسوؤُه من القتل في سبيل الله، فيقع فيما يسوؤه مما هو أعظم منه.
وإذا كان هذا في مصيبة النفس، فهكذا الأمر في مصيبة المال والعرض والبدن، فإن مَنْ بَخِلَ بماله أن يُنْفِقه في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته سَلَبَه الله إياه، أو قَيّضَ له إنفاقه فيما لا ينفعه دنيا ولا أخرى، بل فيما يعود عليه بمضرَّته عاجلًا وآجلًا. وإن حبسه وادّخره منعه التَّمتُّعَ به، ونقله إلى غيره، فيكون له مَهْنَؤه وعلى مَخلِّفه وزْرُه.
وكذلك من رَفّه بَدَنه وعِرْضه، وآثر راحته على التعب لله وفى سبيله، أتعبه الله سبحانه أضعافَ ذلك في غير سبيله ومرضاته، وهذا أمر يعرفه الناس بالتجارب.
قال أبو حازم
(1)
: لَمَا يَلْقَى الذي لا يتقي الله مِنْ مُعالجة الخلق أعظمُ مما يَلْقى الذي يتقي الله من معالجة التقوى.
واعتبرْ ذلك بحال إبليس، فإنه امتنع من السجود لآدم [136 ب] فِرارًا أن يخضع له ويذلّ، وطلب إعزازَ نفسه، فصيّره الله أذلّ الأذلِّين، وجعله خادمًا لأهل الفسوق والفجور من ذُرِّيَّته، فلم يرضَ بالسجود له، ورضي أن يَخدِم هو وبَنُوه فُسّاقَ ذرِّيَّته.
وكذلك عُبّادُ الأصنام أنِفُوا أن يتَّبعوا رسولًا من البشر، وأن يعبدوا إلهًا واحدًا سبحانه، ورضُوا أن يعبدوا إلهًا من الأحجار.
وكذلك كلّ من امتنع أن يَذِلّ لله، أو يبذل مالَه في مَرْضاته، أو يُتعِبَ نفسه في طاعته، لابدّ أن يذلّ لمن لا يَسْوَى، ويبذل له ماله، ويُتعب نفسه وبدنه في طاعته ومرضاته عقوبةً له. كما قال بعض السلف
(2)
: من امتنع أن يمشي مع أخيه خُطُواتٍ في حاجته أمْشاه الله تعالى أكثرَ منها في غير طاعته.
فصل
في خاتمةٍ لهذا الباب هي الغايةُ المطلوبة، وجميع ما تقدّم كالوسيلة إليها.
(1)
رواه أبو نعيم في الحلية (3/ 245) بنحوه.
(2)
لم أقف عليه.
وهي أن محبة الله سبحانه والأُنْسَ به، والشوقَ إلى لقائه، والرضا به وعنه: أصلُ الدين، وأصلُ أعماله وإرادته، كما أن معرفته والعلم بأسمائه وصفاته وأفعاله أجلُّ
(1)
عُلومِ الدِّين كلِّها. فمعرفته أجلّ المعارف، وإرادةُ وجهه أجلّ المقاصد، وعبادته أشرف الأعمال، والثناء عليه بأسمائه وصفاته ومدحه وتمجيده أشرفُ الأقوال، وذلك أساس الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام.
وقد قال تعالى لرسوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُوصي أصحابه إذا أصْبحوا أن يقولوا: «أصبحنا على فِطْرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد، ومِلّة أبينا إبراهيم حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين»
(2)
.
وذلك هو حقيقةُ شهادة أن لا إله إلا الله، وعليها قامَ دينُ الإسلام الذي هو دينُ جميع الأنبياء والمرسلين، وليس لله دينٌ سواه ولا يَقبلُ من أحدٍ دينًا غيره:
(1)
م: «أصل» .
(2)
رواه الطبراني في الدعاء (294) من حديث عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنه، ورواه ابن أبي شيبة (5/ 324) وأحمد (3/ 406، 407) والدارمي (2688) والنسائي في الكبرى (9829 ـ 9831، 10175، 10176) وغيرهم عن عبد الرحمن بن أبزى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك، وفي إسناده اختلاف، قال الهيثمي في المجمع (10/ 156):«رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح» ، وصححه النووي في الأذكار (225)، والعراقي في تخريج الإحياء (1150)، وحسنه ابن حجر في نتائج الأفكار (2/ 401)، وهو في السلسلة الصَّحيحة (2989). وفي الباب عن ابن مسعود رضي الله عنه.
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
فمحبته سبحانه بل كونهُ أحبَّ إلى العبد من كل ما سواه على الإطلاق مِن أعظم واجباتِ الدِّين، وأكبر أصوله، وأجلّ قواعده.
ومن أحبَّ معه مخلوقًا مثلَما يُحِبُّه فهو من الشرك الذي لا يُغْفَر لصاحبه، ولا يُقبل معه عمل.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].
وإذا كان العبدُ لا يكون من أهل الإيمان حتى يكون الله ورسولُه أحبَّ إليه من نفسه وأهله وولده ووالده والناس أجمعين، ومَحبَّتُه تبعٌ لمحبة الله، فما الظنّ بمحبَّته سبحانه؟ وهو سبحانه لم يخلق الجنّ والإنْسَ إلا لعبادته، التي تتضمّنُ كمال محبته، وكمال تعظيمه، والذلّ له، ولأجل ذلك أرسل رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه، وعلى ذلك وضع الثواب والعقاب، وأُسّست الجنةُ والنار، وانقسم الناس إلى شقيٍّ وسعيدٍ.
وكما أنه سبحانه ليس كمثله شيءٌ، فليس كمحبته وإجلاله محبة وإجلالٌ ومخافة.
فالمخلوق كلَّما خِفتَه استوحشتَ منه وهربتَ منه، والله سبحانه كلما خفتَه أنِسْتَ به وفَررْت إليه.
والمخلوق يُخاف ظلمُه وعدوانه، والرب سبحانه إنما يُخاف عَدْلُهُ وقِسْطُهُ.