الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
فى بيان كيد الشيطان لنفسه، قبل كَيده للأبوين
، ثم لم يَقتصر على ذلك، حتى كاد ذُرّيَة نفسه وذرية آدم، فكان مشؤومًا على نفسه، وعلى ذريته، وأوليائه، وأهل طاعته [138 أ] من الجنّ والإنس.
أما كيده لنفسه: فإن الله سبحانه لمَّا أمره بالسجود لآدم عليه السلام كان في امتثال أمره وطاعته سعادتُه وفلاحه وعِزُّه ونجاته، فسوَّلتْ له نفسه الجاهلة الظالمة أن في سجوده لآدم عليه السلام غَضاضةً عليه، وهَضْمًا لنفسه، إذ يَخضع ويقعُ ساجدًا لمن خُلق من طينٍ، وهو مخلوقٌ من نار، والنار بزعمه أشرف من الطين، فالمخلوق منها خيرٌ من المخلوق منه، وخضوع الأفضل لمن هو دونه غَضاضَةٌ عليه، وهضْمٌ لمنزلته!
فلما قام بقلبه هذا الهَوَسُ، وقارنَه الحسد لآدم لِمَا رأى ربَّه سبحانه قد خصّه به من أنواع الكرامة، فإنه خَلَقه بيده، ونفخ فيه من رُوحه، وأسْجَدَ له ملائكته، وعلَّمه أسماء كلّ شيء، وميّزه بذلك عن الملائكة، وأسكنه جنته، فبلغ الحسد من عَدُوّ الله كلَّ مبلغٍ، وكان عدو الله يُطيفُ به وهو صلصالٌ كالفَخّار، فيعجب منه، ويقول: لأمرٍ عظيم قد خُلق هذا، ولئن سُلِّط عليّ لأعصينّه، ولئن سُلّطتُ عليه لأُهْلِكَنّه، فلما تَمّ خلقُ آدم عليه السلام في أحسن تقويم وأكمل صورة وأجملها، وكمَلت محاسِنُه الباطنة بالعلم والحلم والوقار، وتولى ربُّه سبحانه خَلْقَهُ بيده، فجاء في أحسن خلق، وأتمّ صورة، طوله في السماء ستون ذراعًا، قد أُلبس رداءَ الجمال والحسن والمهابة والبهاء، فرأت الملائكة منظرًا لم يشاهدوا أحسن منه ولا أجمل، فوقعوا كلُّهم سجودًا له بأمْرِ ربهم تبارك وتعالى، فشَقّ الحسودُ قميصَهُ من
دُبُرٍ، واشتعلت في قلبه نيران الحسد المتين، فعارض النص بالمعقول بزعمه، كفعل أوليائه من المبطلين، وقال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]، فأعرض عن النصّ الصريح، وقابله بالرأي الفاسد القبيح، ثم أردف ذلك بالاعتراض على العليم الحكيم، الذي لا تجدُ العقول إلى الاعتراض على حكمته سبيلًا، فقال:{أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 62].
وتحت هذا الكلام من الاعتراض معنى: أخبرني لِمَ كرّمتَه؟
وغَوْرُ هذا الاعتراض: أن الذي فعلتَهُ ليس بحكمة ولا صواب، وأن الحكمة كانت تقتضي أن يسجد هو لي، لأن المفضول يخضع للفاضل، فلم خالفتَ الحكمة؟
ثم أردف ذلك بتفضيل نفسه عليه وإزرائه به، فقال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} .
ثم قرَّر ذلك بحجَّته الداحضة، في تفضيل مادَّته وأصله على مادة آدم عليه السلام وأصله، فأنتجت له هذه المقدِّمات إباءه وامتناعه من السجود، ومعصية الرب المعبود، فجمع بين الجهل والظلم، والكِبْرِ والحسد والمعصية، ومعارضة النص بالرأي والعقل.
فأهانَ نفسَه كلَّ الإهانة من حيث أراد تعظيمها، ووضعها من حيث أراد رفعتها، وأذلَّها من حيث أراد عزتها، وآلمها كلّ الألم من حيث أراد لذتها، ففعل بنفسه ما لو اجتهد أعظمُ أعدائه في مَضَرّته لم يبلغ منه ذلك المبلغَ، ومن كان هذا غِشَّه لنفسه فكيف يسمع منه العاقل ويقبل ويواليه؟
فصل
وأما كيده للأبوين: فقد قَصّ الله سبحانه علينا قِصّته معهما، وأنه لم يزَل يخدعهما ويَعِدهما ويُمَنّيهما الخلود في الجنة، حتى حلف لهما بالله جَهْدَ يمينه أنه ناصحٌ لهما، حتى اطمأنّا إلى قوله، وأجاباه إلى ما طلبَ منهما، فجرى عليهما من المحنة، والخروج من الجنة، [138 ب] ونزْع لباسهما عنهما ما جرى، وكان ذلك بكَيْده ومكره الذي جرى به القلمُ، وسبقَ به القدر، ورَدّ الله سبحانه كيده عليه، وتدارك الأبوين برحمته ومغفرته، فأعادهما إلى الجنة على أحسن الأحوال وأجملها، وعاد عاقبةُ مكره عليه، {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]!
وظن عدو الله بجهله أن الغَلَبة والظَّفَر له في هذا الحرب، ولم يعلم بكَمين جيش:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، ولا بإقبال دَوْلَة:{ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122].
وظن اللعين بجهله أن الله سبحانه يتخلّى عن صَفِيِّه وحبيبه الذي خلقه بيده، ونفخ فيه من رُوحه، وأسجد له ملائكته، وعَلّمه أسماء كل شيء، من أجل أَكْلَةٍ أكلَها.
وما علم أن الطبيب قد عَلّم المريض الدواءَ قبل المرض، فلما أحسّ بالمرض بادر إلى استعمال الدواء، لمَّا رماهُ العدُوُّ بسهمه وقعَ في غير مَقتل،
فبادر إلى مُداواة الجُرْح، فقام كأنْ لم يكُن به قَلَبَةٌ.
بُلي العدوّ بالذنب فأصرّ، واحتج وعارَض الأمر، وقَدَح في الحكمة، ولم يسأل الإقالة، ولا ندم على الزّلّة. وبُلي الحبيبُ بالذنب، فاعترف وتاب وندم، وتضرّع واستكان وفَزِع إلى مَفْزَع الخليقة، وهو التوحيد والاستغفار، فأُزيل عنه العَيبُ، وغُفر له الذنب، فقُبل منه المتاب، وفُتح له من الرحمة والهداية كلُّ باب. ونحن الأبناء، ومن أشبه أباه فما ظلم، ومَنْ كانت شِيمتُهُ التوبة والاستغفار فقد هُدي لأحسن الشيم.
فصل
ثم كاد أحدَ وَلَدَيْ آدم، ولم يَزل يتلاعبُ به حتى قتلَ أخاه، وأسخَطَ أباهُ، وعصَى مولاه، فَسَنّ للذرية قتل النفوس، وقد ثبت في «الصحيح»
(1)
عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما مِنْ نفسٍ تُقتلُ ظلمًا إلا كان على ابنِ آدمَ الأوّلِ كِفْلٌ من دَمِها، لأنه أوّلُ مَنْ سَنَّ القتل» .
فكاد العدوّ هذا القاتل بقطيعة رحمه، وعقوق والديه، وإسخاط ربّه، ونقص عَدَدِه
(2)
، وظلم نفسه، وعَرّضه لأعظم العقاب، وحَرَمَه حظّه من جزيل الثواب.
فصل
ثم جرى الأمرُ على السداد والاستقامة، والأمّة واحدةٌ، والدينُ واحدٌ، والمعبود واحد، قال تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا
(1)
أخرجه البخاري (3335) ومسلم (1677) عن ابن مسعود.
(2)
م، ح:«وبغض عدوه» . والمثبت من الأصل، ت، ظ. ومحلها في ش ساقط.
وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 19]، وقال تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213].
قال سعيد عن قتادة
(1)
: ذُكِرَ لنا أنه كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرةُ قرون، كلهم على الهُدَى وعلى شريعة من الحقّ، ثم اختلفوا بعد ذلك، فبعثَ الله عز وجل نوحًا، وكان أولَ رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض، وبُعِث عند الاختلاف بين الناس وترْك الحق.
وقال ابن عباس
(2)
: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} كانوا على الإسلام كلهم.
وهذا هو القول الصحيح في الآية.
وقد روى عطية، عن ابن عباس
(3)
رضي الله عنهما: كانوا أمة واحدة
(1)
رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (1987، 1989، 7316، 10287). وروى عبد الرزاق في تفسيره (1/ 82) ــ ومن طريقه الطبري في تفسيره (4049) وابن أبي حاتم في تفسيره (1985) ــ عن معمر عن قتادة قال: «كانوا على الهدى جميعًا، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وكان أوّل نبيّ بعث نوح عليه السلام» . وعزاه في الدر المنثور (1/ 583) لعبد بن حميد.
(2)
سيأتي تخريجه.
(3)
ذكره الثعلبي في تفسيره (2/ 133) والبغوي في تفسيره (1/ 243) وغيرهما بلا إسناد فقالا: رُوِي عن ابن عباس .. وعزاه في الدر المنثور (1/ 583) للطبري وابن أبي حاتم، قال ابن تيمية في منهاج السنة (5/ 177):«هذا ليس بشيء، وتفسير عطية عن ابن عباس ليس بثابت» . والذي في تفسير الطبري (4055) من طريق عطية عن ابن عباس قال: «كان دينًا واحدًا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين» .
كانوا كفارًا.
وهذا قول الحسن، وعَطاء، قالا
(1)
: كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح عليهما السلام أمة واحدة، على مِلّة واحدة، وهى الكفر، كانوا كفارًا كلهم أمثال البهائم، فبعث الله نوحًا، وإبراهيم، والنبيين.
وهذا القول ضعيف جدًا، وهو منقطع عن ابن عباس، والصحيح عنه خلافه.
قال ابن أبي حاتم
(2)
: حدثنا أبو زُرعة، حدثنا شَيبان بن فَرُّوخ، حدثنا هَمّامٌ، حدثنا قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كانوا على الإسلام كلهم.
وهذا هو الصواب قطعًا، فإن في قراءة أُبيّ بن كعب:«فاختلفوا [139 أ] فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين» .
(1)
انظر: تفسير الثعلبي (2/ 132، 133)، وتفسير البغوي (243).
(2)
في المطبوع من تفسير ابن أبي حاتم (1983) بهذا الإسناد عن ابن عباس قال: «كانوا كفّارًا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين» ، فلعلّه حصل فيه سقط، لأنّ السيوطي عزاه في الدر (1/ 582) لابن أبي حاتم باللفظ الذي ذكره المصنف، ورواه أيضًا أبو يعلى (2606) والطبراني في الكبير (11/ 309) عن شيبان به، ورواه البزار (4815) والطبري في تفسيره (4048) وابن أبي حاتم في تفسيره (15184) عن هَمّام به ولفظه:«كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلّهم على شريعة من الحق» ، وصححه الحاكم (3654، 4009)، وابن تيمية في منهاج السنة (5/ 177)، وقال ابن كثير في تفسيره (1/ 569):«هذا القول عن ابن عباس أصحّ سندًا ومعنى» ، وصححه السيوطي، والألباني في السلسلة الصحيحة (13/ 92).
ويشهد لهذه القراءة قوله تعالى في سورة يونس: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} [يونس: 19].
والمقصود أن العدوّ كادهم وتلاعَبَ بهم، حتى انقسموا قسمين: كفارًا ومؤمنين، فكادهم بعبادة الأصنام، وإنكار البعث.
وكان أول ما كاد به عُبّاد الأصنام من جهة العكوف على القبور، وتصاوير أهلها، ليتذكروهم بها، كما قصّ الله سبحانه قصتهم في كتابه، فقال:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 13].
قال البخاري في «صحيحه»
(1)
عن ابن عباس رضي الله عنهما: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحَى الشيطانُ إلى قومهم أن انصِبُوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا، وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعْبَد، حتى إذا هلك أولئك ونُسِخَ العلم عُبِدَتْ.
وقال ابن جرير
(2)
: عن محمد بن قَيْس، قال: كانوا قومًا صالحين من بني آدم، كان لهم أتباعٌ يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم: لو صوَّرناهم كان أشوقَ لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوَّروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دَبّ إليهم إبليسُ، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسْقَون المطر، فعبدوهم.
وقال هشام بن محمد بن السائب الكلبي
(3)
: أخبرني أبي، قال: أول ما
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
كتاب الأصنام (ص 50)، وعنه رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 49).
عُبدت الأصنام أن آدم عليه السلام لمَّا مات جعله بنو شِيْث بن آدم في مغارة في الجبل الذي أُهبط عليه آدم بأرض الهند، ويقال للجبل: نوذ، وهو أخصب جبل في الأرض.
قال هشام
(1)
: فأخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: فكان بنو شيث عليه السلام يأتون جسد آدم في المغارة، فيعظِّمونه، ويترحمون عليه، فقال رجل من بني قابيل: يا بني قابيل! إن لبني شيث دُوَّارًا يدورون حولَه ويعظِّمونه، وليس لكم شيء، فنحَتَ لهم صنمًا، فكان أوّل من عملها.
قال هشام
(2)
: وأخبرني أبي، قال: كان ودٌّ، وسواعٌ، ويغوث، ويعوق، ونسرٌ قومًا صالحين، فماتوا في شهر، فجزع عليهم ذوو أقاربهم، فقال رجل من بني قابيل: يا قوم! هل لكم أن أعمل لكم خمسة أصنام على صورهم؟ غير أني لا أقدِرُ أن أجعل فيها أرواحًا، قالوا: نعم، فنحَتَ لهم خمسة أصنام على صورها، ونصبها لهم، فكان الرجل يأتي أخاه وعمه وابن عمه، فيعظمه ويسعى حوله، حتى ذهب ذلك القرن الأول، وكانت عُملت على عهد يَرْد بن مهلائيل بن قَينان بن أنوش بن شيث بن آدم، ثم جاء قرن آخر فعظموهم أشدّ من تعظيم القرن الأول، ثم جاء من بعدهم القرن الثالث، فقالوا: ما عظّم أوّلونا هؤلاء إلا يرجون شفاعتهم عند الله تعالى، فعبدوهم، وعظَّموا أمرهم، واشتدّ كفرهم، فبعث الله إليهم إدريس عليه السلام فدعاهم، فكذَّبوه، فرفعه الله مكانًا عليًّا.
(1)
كتاب الأصنام (ص 51)، وعنه رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 50).
(2)
كتاب الأصنام (ص 51 ـ 53)، وعنه رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 50).
ولم يزل أمرهم يشتد ــ فيما قال الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس ــ حتى أدرك نوح، فبعثه الله تعالى نبيًّا، وهو يومئذٍ ابن أربع مئة وثمانين سنةً، فدعاهم إلى الله تعالى في نبوّته عشرين ومئة سنةٍ، فعصوه وكذبوه، فأمره الله تعالى أن يصنع الفلك، ففرغ منها وركبها، وهو ابن ست مئة سنة، وغرق من غرق، ومَكث بعد ذلك ثلاث مئة وخمسين سنة، وكان بين آدم ونوح ألفا سنة [139 ب] ومئتا سنة، فأهبط الماء هذه الأصنام من أرض إلى أرض، حتى قذفها إلى أرض جُدّة، فلما نضب الماء وبقيت على الشَّطّ فَسَفت الريحُ عليها حتى وارَتْها.
قلت: ظاهر القرآن يدلُّ على خلاف هذا، وأن نوحًا عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وأن الله عز وجل أهلكهم بالغرق بعد أن لبث فيهم هذه المدة.
قال الكلبي
(1)
: وكان عمرو بن لُحَيٍّ كاهنًا، وله رَئِيٌّ من الجنّ، فقال له: عَجِّل المسيرَ والظَّعْنَ من تهامة، بالسعد والسلامة، ائتِ جُدّة، تجدْ فيها أصنامًا معدَّة، فأورِدْها تِهامة ولا تَهَبْ، ثم ادعُ العرب إلى عبادتها تُجَبْ. فأتى نهر جُدّة فاستثارها، ثم حملها حتى وَرَدَ تهامة، وحضر الحجّ، فدعا العرب إلى عبادتها قاطبةً، فأجابه عوفُ بن عُذرَةَ بن زيد اللَّات، فدفع إليه وَدًّا فحمله، فكان بوادي القُرى بدُومة الجَندل، وسمى ابنه عبد وَدّ، فهو أول من سُميّ به، وجعل عوفٌ ابنه عامرًا سادنًا له، فلم يزل بنوه يَسْدُنونه حتى جاء الله بالإسلام.
(1)
كتاب الأصنام (ص 54 - 55)، وعنه رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 50 - 51).
قال الكلبي
(1)
: فحدثني مالك بن حارثة أنه رأى وَدًّا، قال: وكان أبي يبعثني باللبن إليه، فيقول: اسْقِهِ إلهك، فأشربُه، قال: ثم رأيت خالد بن الوليد رضي الله عنه كَسَرَه فجعله جُذاذًا، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد لهدمه، فحالت بينه وبين هدمه بنو عبد ودّ وبنو عامر، فقاتلهم فقتلهم، وهدمه وكسره.
قال الكلبي
(2)
: فقلت لمالك بن حارثة: صِفْ لي ودًّا، حتى كأني أنظر إليه، قال: كان تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، قد زُبِرَ أي نُقِش
(3)
عليه حُلَّتان، مُتّزِرٌ بحلة، مُرْتَدٍ بأخرى، عليه سيفٌ قد تقلده، وقد تنكب قوسًا، وبين يديه حَرْبة فيها لواء، ووَفْضَةٌ فيها نَبْلٌ، يعني جَعْبةً.
وأجابت عمرَو بن لُحَيٍّ: مُضَرُ بن نزار، فدفع إلى رجل من هُذيل ــ يقال له: الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مُدركة بن الْيَأس بن مُضَر ــ سُواعًا، فكان بأرض يقال لها: رُهاط من بطن نخلة، يعبده من يليه من مُضر، وفى ذلك يقول رجل من العرب:
تَرَاهُمْ حَوْلَ قِبْلَتهِمْ عُكُوفًا
…
كَمَا عَكَفَتْ هُذَيْلُ عَلَى سُوَاعِ
(4)
وأجابته مَذْحِج، فدفع إلى أنْعُمَ بن عمرو المرادي: يغوث، وكان بأكمة
(1)
كتاب الأصنام (ص 55)، وعنه رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 51).
(2)
كتاب الأصنام (ص 56 - 58)، وعنه رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 51 - 52).
(3)
م: «دثر أي لفف» .
(4)
البيت بلا نسبة في كتاب الأصنام (ص 57)، ومعجم البلدان (3/ 276)، وتاج العروس (سوع).
باليمن، تعبده مَذْحِج ومن والاها.
وأجابته هَمْدان، فدفَع إلى مالك بن مرثد بن جُشَم: يعوق، فكان بقرية يقال لها: خَيْوان، فعبده هَمْدان ومن والاها من اليمن.
وأجابت حِمْيَر، فدفع إلى رجل من ذي رُعَين يقال له مَعْدِي كَرِبَ: نسرًا، فكان بموضع من أرض سبأ يقال له: بَلْخَع، تعبده حمير ومن والاها، فلم يزل يعبدونه حتى هَوّدهم ذو نُواس.
فلم تزل هذه الأصنام تُعبَد، حتى بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم، فهدمها وكسرها
(1)
.
قلت: هذا شرح ما ذكره البخاري في «صحيحه»
(2)
عن ابن عباس، قال: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعدُ: أما وَدّ فكانت لكَلْبٍ بدُومة الجَنْدَل، وأما سُواع فكانت لهذيل، وأما يَغوث فكان لمراد، ثم لبني غُطيف بالجُرف عند سبأ، وأما يَعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحِمْيرَ لآل ذي الكلاع، قال: وهؤلاء أسماء رجال صالحين من قوم نوح، وذكر ما تقدم.
وفى «صحيح البخاري»
(3)
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله [140 أ]صلى الله عليه وسلم: «رأيتُ عمرو بن عامر الخُزاعيّ يَجُرّ قُصْبَهُ في النار، وكان أولَ مَنْ سَيَّبَ السوائب» . وفى لفظٍ: «وَغَيّر دينَ إبراهيم» .
(1)
إلى هنا انتهى كلام الكلبي في كتاب الأصنام (ص 58).
(2)
برقم (4920).
(3)
برقم (2522، 4623).
وقال ابن إسحاق
(1)
: حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التّيمي، أن أبا صالح السمّان حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثَمَ بن الجَوْنِ الخُزَاعِيّ: «يا أكثم! رأيت عَمرو بن لُحيِّ بن قَمْعَة بن خِنْدَف يَجُرّ قُصْبَه في النار، فما رأيت رجلًا أشبه برجل منك به، ولا به منك» ، فقال أكثمُ: عسى أن يَضُرّني شَبهُه يا رسول الله؟ قال: «لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه كان أولَ مَنْ غَيّر دين إسماعيل، فنصبَ الأوثانَ، وبَحّر البحيرة، وسَيّب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي» .
قال ابن هشام
(2)
: وحدثني بعض أهل العلم: أن عمرو بن لُحَيٍّ خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم مآبَ من أرض البَلْقاء، وبها يومئذٍ العماليقُ، وهم وَلَدُ عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي تعبدون؟ فقالوا: نَستمطر بها فتُمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا، فقال: أفلا تُعطوني منها صنمًا، فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنمًا يقال له: هُبَلُ، فقدم به مكة، فنصبه، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه.
(1)
السيرة النبوية لابن هشام (1/ 201 - 202)، ومن طريق ابن إسحاق رواه ابن أبي عاصم في الأوائل (83)، والبزار (8991)، والطبري في تفسيره (12820، 12827)، وأبو عروبة في الأوائل (29)، وحسن إسناده سليمان آل الشيخ في التيسير (ص 268)، والألباني في السلسلة الصحيحة (4/ 243). ورواه أبو يعلى (6121) والطبري (12822) والدارقطني في المؤتلف والمختلف (1/ 126) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وصححه ابن حبان (7490)، والحاكم (8789)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (4/ 243). وفي الباب عن أبي بن كعب وجابر وابن مسعود وابن عباس.
(2)
السيرة النبوية (1/ 202).
قال هشام
(1)
: وحدثني أبي وغيره: أن إسماعيل عليه السلام لما سكن مكة، ووُلِدَ بها أولادُهُ، فكثروا، حتى ملأوا مكة، ونَفَوْا من كان بها من العماليق: ضاقت عليهم مكة، ووقعت بينهم الحروب والعداوات، وأخرج بعضهم بعضًا، فتفسحوا في البلاد والتماس المعاش، فكان الذي حملهم على عبادة الأوثان والحجارة أنه كان لا يَظعنُ من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجرًا من حجارة الحرم، تعظيمًا للحرم، وصبَابَةً بمكة، فحيثما حلّوا وضعوه وطافُوا به كطوافهم بالبيت، حُبًّا للبيت، وصبابةً به، وهم على ذلك يعظِّمون البيت ومكة، ويحُجُّون ويعتمرون، على إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ثم عبدوا ما استحسنوا، ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم غيرَهُ، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم، واستخرجوا ما كان يعبد قوم نوح عليه السلام، وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل يتنسكون بها من تعظيم البيت والطواف به، والحجّ والعمرة، والوقوف بعرفة والمزْدلفة، وإهداء البُدْن.
وكانت نِزَارُ تقول في إهْلالها: لَبّيْكَ اللّهُمَّ لبيْكَ، لا شريك لك إلا شريكٌ هو لك، تملكه وما ملك!
وكان أولَ مَنْ غَيّر دين إسماعيل فنَصبَ الأوثان، وسَيّب السائبة، ووصل الوصيلة، وحَمَى الحامي: عمرو بن ربيعة، وهو لحيّ بن حارثة، وهو أبو خُزاعة، وكانت أم عمرو فُهيرة بنت عمرو بن الحارث، وكان الحارث الذي يَلي أمر الكعبة، فلما بلغ عمرو بن لُحيّ نازعه في الولاية، وقاتل جرهم ببني إسماعيل، فظفر بهم، وأجلاهم عن الكعبة، ونفاهم من
(1)
كتاب الأصنام (ص 6 ـ 8)، وعنه رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 52).
بلاد مكة، وتولّى حِجابة البيت، ثم إنه مرض مرضًا شديدًا، فقيل له: إن بالبلقاء من الشام حَمّةً
(1)
، إن أتيتها بَرأت، فأتاها فاستَحَمّ فيها، فبرأ، ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: ما هذه؟ فقالوا: نستسقي بها المطر، ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها، ففعلوا، فقدم بها مكة، ونصبها حول الكعبة.
واتخذت العربُ الأصنام، فكانت أقدمُها مناةَ، وكان منصوبًا على ساحل البحر من ناحية المسلك بقُدَيْدٍ بين مكة والمدينة، وكانت العربُ جميعها تعظمه، وكانت الأوس والخرزج ومن ينزل المدينة ومكة وما [140 ب] قارب من المواضع يعظمونه، ويذبحون له، ويُهدون له، ولم يكن أحدٌ أشدّ إعظامًا له من الأوس والخزرج
(2)
.
قال هشام
(3)
: وحدثنا رجلٌ من قريش، عن أبي عُبيدة بن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عَمّار بن ياسر، قال: كانت الأوس والخزرج ومَنْ جاورهم من عرب أهل يثرب وغيرها يحجون، فيقفون مع الناس المواقف كلها، ولا يحلقون رؤوسهم، فإذا نفروا أتوه، فحلقوا عنده رؤوسهم، وأقاموا عنده، لا يرون لحجّهم تمامًا إلا بذلك.
وكانت مناةُ لهُذَيْلٍ وخُزاعة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا، فهدمها عام الفتح، ثم اتخذوا اللات بالطائف، وهى أحدث من مناة، وكانت صخرةً مُرَبّعة، وكان سدنتها من ثقيفٍ، وكانوا قد بَنَوْا عليها، وكانت قريش وجميع
(1)
الحمة: عين ماء حارة تنبع من الأرض، يُستشفى بالاغتسال من مائها.
(2)
كتاب الأصنام (ص 13)، وانظر: تلبيس إبليس (ص 53).
(3)
كتاب الأصنام (ص 14 ــ 18)، وعنه رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 53).