المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ هلال بن المحسن الصابئ - إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌المثال الرابع: أن يخاف أن يُؤجِره مالا يملك

- ‌المثال الثالث عشر: إذا اشترى دارًا أو أرضًا، وخاف أن تخرج وقفًا أو مستحقة

- ‌ الأمَةُ المشتراة إذا وطئها، ثم استُحِقّت لم يلزمه المهر

- ‌المثال الخامس عشر: إذا وكّله في بيع جارية، ووكّله آخر في شرائها

- ‌تلخَّص في المسألة أربعة مذاهب:

- ‌المثال الخامس والسبعون: إذا أقرضه مالًا وأجَّله لزم تأجيله على أصح المذهبين

- ‌ الحيلة في تصحيح الرهن والوثيقة

- ‌الثاني: ما لا يظهر ذلك فيه

- ‌الطريق الخامسة: طريق مَنْ يُفصّل بين الحلف بصيغة الشرطِ والجزاءِ، والحلف بصيغة الالتزام:

- ‌التزامُ التطليق لا يوجب وقوعَ الطلاق

- ‌الوجه الرابع: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة

- ‌فصلوأما استدلالكم بالمعاريض على جواز الحيل

- ‌«ليس بكاذبٍ من أصلح بين الناس

- ‌ المحبة والإرادة أصلٌ للبغض والكراهة، وعِلّةٌ لهما من غير عكسٍ

- ‌ الصافات صفا

- ‌الملائكةُ الموكَّلة بالإنسان من حين كَوْنه نطفةً إلى آخر أمره

- ‌ العبادة تَتَضَمّن غاية الحُبّ بغاية الذّلّ

- ‌التوحيد ملجأ الطالبين، ومفزع الهاربين، ونجاة المكروبين، وغياث الملهوفين

- ‌قد قيل: إن فساد القَصْدِ من فساد العلم

- ‌المحبة مع الله: أصل الشرك

- ‌ومنهم من يرى أن التحريم إنما هو إكراه الصبي على(2)فعل الفاحشة

- ‌العشق المحرَّم من أعظم الغَيّ

- ‌أصلُ الغيّ من الحبّ لغير الله

- ‌أصحاب العشق الشيطاني لهم مِن تَوَلَّي الشيطان والإشراك به بقَدْر ذلك

- ‌ العِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالمَجَانِينِ

- ‌ افتتانِ المشركين بفقراء المهاجرين

- ‌الفتنة لا بدّ منها في الدنيا والآخرة

- ‌ اتباع الهوى يُضلّ عن سبيل الله

- ‌ بالصبر واليقين تُنالُ الإمامة في الدين

- ‌البصائر: جمع بَصيرة، وهى فعيلة بمعنى مُفْعِلَة

- ‌ الإبصار يستعمل لازمًا ومتعديًا

- ‌الرحمةُ المقارنةُ للهدى في حَقِّ المؤمنين: عاجلة وآجلة

- ‌ وَسِعَ رَبُّنا كلَّ شيء رحمةً وعلمًا

- ‌لا بد من حصول الألم والمحنة لكل نفس

- ‌{قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً

- ‌ محبة المخلوق إذا لم تكن لله فهي عذاب للمُحبِّ ووبال

- ‌فصلفى بيان كيد الشيطان لنفسه، قبل كَيده للأبوين

- ‌ وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليُسرى

- ‌ قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}

- ‌(مِنْ) لا تدخل إلا على مفعول لا مفعول دونه

- ‌ هلالُ بن المحسن الصابئ

- ‌الحكمة التي جاءت بها الرسُلُ

- ‌ فلاسفة اليونان

- ‌اتخذ للملاحدة مدارسَ، ورامَ جَعْلَ «إشارات» إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن

- ‌ثم كان لهم مجمع عاشر:

- ‌وأما تلاعبه بهم في صلاتهم فمن وجوه:

- ‌هم أبدًا يعتقدون الصواب والحق مع مَنْ يُشَدّدُ ويُضَيّقُ

- ‌أعزّ ما صادفه الإسلام من هذه الأمة: يهود خيبر، والمدينة

الفصل: ‌ هلال بن المحسن الصابئ

فلهم هيكلٌ كبير للشمس، وهيكلٌ للقمر، وهيكلٌ للزُّهَرَة، وهيكلٌ للمُشْتري، وهيكل للمرّيخ، وهيكلٌ لعُطادر، وهيكلٌ لزُحَل وهيكلٌ للعلة الأولى.

ولهذه الكواكب عندهم عباداتٌ ودعواتٌ مخصوصة، ويصوِّرونها في تلك الهياكل، ويتخذون لها أصنامًا تخصّها، ويقرّبون لها القرابين، ولها صلواتٌ خمسٌ في اليوم والليلة، نحو صلوات المسلمين.

وطوائفُ منهم يصومون شهر رمضان، ويستقبلون في صلواتهم الكعبة، ويعظّمون مكة، ويرون الحجّ إليها، ويُحرّمون الميتة والدم ولحم الخِنزير، ويحرِّمون من القَرابات في النكاح ما يُحَرّمه المسلمون.

وعلى هذا المذهب كان جماعة من أعيان الدولة ببغداد، منهم‌

‌ هلالُ بن المحسن الصابئ

صاحب الديوان الإنشائي، وصاحب الرسائل المشهورة، وكان يصوم مع المسلمين، ويُعيِّدُ معهم، ويزَكِّي، ويُحرّم المحرمات، وكان الناس يتعجبون من موافقته للمسلمين، وليس على دينهم.

وأصل دين هؤلاء فيما زعموا: أنهم يأخذون بمحاسن ديانات العالم ومذاهبهم، ويخرجون من قبيح ما هُمْ عليه قولًا وعملًا، ولهذا سُمُّوا صابئة أي: خارجين، فقد خرجوا عن تقيُّدهم بجملة كل دين وتفصيله إلا ما رأوه فيه من الحق.

وكانت كفَّار قريش تُسمّي النبي صلى الله عليه وسلم الصابئ، وأصحابَه الصُّبَاةَ.

يقال: صبأ الرجل بالهمز: إذا خرج من شيء إلى شيء، وصبا يصبو: إذا مال، ومنه قوله:{وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} [يوسف: 33]، أي:

ص: 1009

أمِلْ، والمهموز والمعتل يشتركان، فالمهموز: ميل عن الشيء، والمعتل: ميلٌ إليه، واسم الفاعل من المهموز: صابئ بوزن قارئ، ومن المعتل: صابٍ بوزن قاضٍ، وجمع الأول: صابئون كقارئون، والثاني: صابُون كقاضُون، وقد قرئ بهما.

والمقصود أن هذه الأمة قد شاركت جميع الأمم وفارقتهم، فالحنفاءُ منهم: شاركوا أهل الإسلام في الحنيفية، والمشركون: شاركوا عُبَّاد الأصنام، ورأوا أنهم على صواب.

وأكثر هذه الأمة فلاسفة، والفلاسفة يأخذون بزعمهم محاسنَ ما دلَّت عليه العقول، وعقلاؤهم يوجبون اتباع الأنبياء وشرائعهم، وبعضهم لا يوجب ذلك ولا يحرِّمه، وسفهاؤهم وسِفْلتهم يمنعون ذلك، كما سيأتي ذكرُ تلاعب الشيطان بهم بعد هذا.

ولهذا لم يكن هؤلاء ولا الصابئة من الأمم المستقلّة التي لها كتاب ونبيٌّ، وإن كانوا من أهل دعوة الرسل.

فما مِن أمة إلا وقد أقام الله سبحانه عليها حجَّته، وقطع عنها حجّتها:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وتكون حجته عليهم.

والمقصود أن الصابئة فِرَقٌ: فصابئة حنفاء، وصابئة مشركون، وصابئة فلاسفة، وصابئة يأخذون بمحاسن ما عليه أهل الملل والنِّحَلِ من غير تقيد بملَّة ولا نِحْلَة.

ثم منهم من يُقِرّ بالنبوَّات جملةً ويتوقف في التفصيل، ومنهم من يقرّ بها جملة وتفصيلًا، ومنهم من ينكرها [149 ب] جملة وتفصيلًا.

ص: 1010

وهم يقرّون أن للعالم صانعًا، فاطرًا، حكيمًا، مقدَّسًا عن العيوب والنقائص.

ثم قال المشركون منهم: لا سبيل لنا إلى الوصول إلى جلاله إلا بالوسائط، فالواجب علينا أن نتقرب إليه بتوسُّطات الروحانيات القريبة منه، وهم الروحانيُّون المقرَّبون المقدَّسون عن المواد الجِسْمانية، وعن القوى الجسدانية، بل قد جُبلوا على الطهارة، فنحن نتقرّب إليهم، ونتقرّب بهم إليه، فهم أربابنا وآلهتنا وشفعاؤنا عند رب الأرباب وإله الآلهة، فما نعبدهم إلا ليقرِّبونا إلى الله زُلْفَى، فالواجب علينا أن نُطَهّر نفوسنا عن الشهوات الطبيعية، ونهذِّب أخلاقنا عن علائق القوى الغضبية، حتى تحصل المناسبة بيننا وبين الروحانيات، وتتصل أرواحنا بهم، فحينئذٍ نسأل حاجتنا منهم، ونعرض أحوالنا عليهم، ونَصْبو في جميع أمورنا إليهم، فيشفعون لنا إلى إلهنا وإلههم.

وهذا التطهير والتهذيب لا يحصل إلا باستمداد من جهة الروحانيات، وذلك بالتضرُّع والابتهال بالدعوات، من الصلوات، والزكوات، وذبح القرابين، والبخورات، والعزائم، فحينئذٍ يحصل لنفوسنا استعدادٌ واستمدادٌ من غير واسطة الرسل، بل نأخذ من المَعْدِن الذي أخذت منه الرسل، فيكون حكمنا وحكمهم واحدًا، ونحن وإياهم بمنزلة واحدة.

قالوا: والأنبياء أمثالنا في النوع، وشركاؤنا في المادة، وأشكالنا في الصورة، يأكلون مما نأكل، ويشربون مما نشرب، وما هم إلا بشر مثلنا، يريدون أن يتفضلوا علينا.

وزادت الاتحادية أتباع ابن عربي، وابن سِبعين، والعفيف التِّلمساني،

ص: 1011

وأضرابهم على هؤلاء بما قاله شيخ الطائفة محمد بن عربي: أن الولي أعلى درجة من الرسول، لأنه يأخذ من المَعْدِنِ الذي يأخذ منه المَلَكُ الذي يوحي إلى الرسول، فهو أعلى منه بدرجتين.

فجعل هؤلاء الملاحدة أنفسهم وشيوخهم أعلى في التلقِّي من الرسل بدرجتين، وإخوانُهم من المشركين جعلوا أنفسهم في ذلك التلقِّي بمنزلة الأنبياء، ولم يدّعوا أنهم فوقهم.

والمقصود: أن هؤلاء كفروا بالأصلين اللذين جاءت بهما جميع الرسل والأنبياء، من أولهم إلى آخرهم.

أحدهما: عبادةُ الله وحده لا شريك له، والكفر بما يُعبدُ من دونه من إله.

والثاني: الإيمان برسله، وما جاءوا به من عند الله تصديقًا وإقراراً، وانقيادًا وامتثالًا.

وليس هذا مختصًّا بمشركي الصابئة، كما غلط فيه كثيرٌ من أرباب المقالات، بل هذا مذهب المشركين من سائر الأمم، لكن شرك الصابئة كان من جهة الكواكب العُلْوِيّات، ولذلك ناظرَهُمْ إمام الحنفاء صلوات الله، وسلامه عليه في بُطلان إلهيتها بما حكاه الله سبحانه في سورة الأنعام أحسن مناظرةٍ وأبْيَنَهَا، ظهرت فيها حُجّته، ودَحضَت حجتهم، فقال بعد أن بَيّن بطلان إلهية الكواكب والقمر والشمس بأفُولها، وأن الإله لا يليقُ به أن يغيب ويأفُل، بل لا يكونُ إلا شاهدًا غير غائب، كما لا يكون إلا غالبًا قاهرًا، غير مغلوب ولا مقهور، نافعًا لعابده، يملك لعابده الضّرّ والنفع، فيسمع كلامه، ويرى مكانه، ويَهْدِيه، ويُرْشِدُهُ، ويدفع عنه كل ما يضُرّه ويؤذيه، وذلك ليس إلا الله وحده، فكل معبودٍ سواه باطلٌ.

ص: 1012

فلما رأى إمامُ الحنفاء أن الشمس والقمر والكواكب ليست بهذه المثابة، صعد منها إلى فاطرها وخالقها ومبدعها، فقال:{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 79].

وفي ذلك إشارة إلى أنه سبحانه خالق أمكنتها ومَحالِّها، التي هي [150 أ] مفتقرة إليها، ولا قِوام لها إلا بها، فهي محتاجة إلى محل تقوم به، وفاطر يخلقها ويدبِّرها ويَرُبُّها، والمحتاج المخلوق المربوب المدبَّر لا يكون إلهًا، فحاجّه قومه في الله، ومن حاجّ في عبادة الله فحجَّته داحضة، فقال إبراهيم عليه السلام:{أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} ؟ وهذا من أحسن الكلام، أي: أتريدون أن تصرفوني عن الإقرار بربي وبتوحيده، وعن عبادته وحده، وتُشكّكوني فيه، وقد أرشدني وبيّن لي الحق، حتى استبان لي كالعيان، وبيّن لي بطلان الشرك وسوء عاقبته، وأن آلهتكم لا تصلح للعبادة، وأن عبادتها توجب لعابديها غاية الضرر في الدنيا والآخرة. فكيف تريدون مني أن أنصرف عن عبادته وتوحيده إلى الشرك به، وقد هداني إلى الحق وسبيل الرشاد؟

فالمحاجَّة والمجادلة إنما فائدتها طلب الرجوع والانتقال من الباطل إلى الحق، ومن الجهل إلى العلم، ومن العمى إلى الإبصار، ومجادلتكم إيّاي في الإله الحق الذي كلّ معبود سواه باطل تتضمن خلاف ذلك!

فخَوَّفوه بآلهتهم أن تصيبه بسوء، كما يخوِّفُ المشركُ الموحدَ بإلهه الذي يَأْلَهُهُ مع الله أن يناله بسوء، فقال الخليل:{وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} ، فإن آلهتكم أقلّ وأحقر من أن تَضُرَّ مَنْ كفر بها وجحد عبادتها، ثم رد

ص: 1013

الأمر إلى مشيئة الله وحده، وأنه هو الذي يُخاف ويُرجَى، فقال:{إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} ، وهذا استثناء منقطع، والمعنى: لا أخاف آلهتكم، فإنها لا مشيئة لها ولا قدرة، لكن إن شاء ربي شيئًا نالني وأصابني، لا آلهتُكم التي لا تشاء ولا تعلم شيئًا، وربي له المشيئة النافذة، وقد وَسع كل شيءٍ علمًا، فمن أولى بأن يُخاف ويعبد؟ هو سبحانه أم هي؟

ثم قال: {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 80]، فتعلمون بطلان ما أنتم عليه من إشراك مَنْ لا مشيئة له ولا يعلم شيئًا، ممن له المشيئة التامة والعلم التامُّ؟

ثم قال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81]؟

وهذا من أحسن قَلْبِ الحجة، وجعل حجة المبطل بعينها دالَّةً على فساد قوله، وبطلان مذهبه، فإنهم خوفوه بآلهتهم التي لم يُنزل الله عليهم سلطانًا بعبادتها، وقد تبيّن بطلانُ إلهيتها ومضرّة عبادتها، ومع هذا فلا تخافون شرككم بالله وعبادتكم معه آلهةً أخرى؟

فأيّ الفريقين أحق بالأمن وأولى بأن لا يلحقه الخوف؟ فريق الموحدين أم فريق المشركين؟

فَحَكَم الله سبحانه بين الفريقين بالحُكْم العدل، الذي لا حكم أصحّ منه، فقال:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} أي: بشرك {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

ص: 1014

ولمَّا نزلت هذه الآية شقّ أمرها على الصحابة، وقالوا: يا رسول الله! وأيُّنا لم يظلم نفسه؟ فقال: «إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]؟» .

فحكمَ سبحانه للموحِّدين بالهدى والأمن، وللمشركين بضدّ ذلك، وهو الضلال والخوف.

ثم قال: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83].

قال أبو محمد بن حَزْمٍ

(1)

: وكان الذي ينتحلُه الصابئون أقدمَ الأديان على وجْه الدّهْر، والغالبَ على الدنيا، إلى أن أحْدَثوا الحوادث، وبدّلوا شرائعه، فبعث الله إليهم إبراهيم خليله بدين الإسلام، الذي نحن عليه اليوم، وتَصْحيح ما أفسدوه، وبالحنيفيّة السَّمْحَة التي أتانا بها محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، وكانوا في ذلك الزمان وبَعْدَه يُسَمَّون الحنفاء.

قلت: هم قسمان: صابئة مشركون، وصابئة حُنفاء، وبينهم مناظرات [150 ب]. وقد حكى الشّهْرِسْتَانيّ بعض مناظراتهم في كتابه

(2)

.

* * * *

(1)

في الفصل (1/ 36، 37).

(2)

الملل والنحل (ص 263 ــ 298).

ص: 1015

فصل

في ذِكْرِ تلاعُبه بالدّهْرِيّةِ

وهؤلاء قوم عَطّلوا المصنوعات عن صانعها، وقالوا ما حكاهُ الله سبحانه عنهم:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24].

وهؤلاء فرقتان:

فرقة قالت: إن الخالق سبحانه لمَّا خلق الأفلاك مُتَحرّكةً أعظم حركةٍ، دارت عليه فأحْرَقتْهُ، ولم يقدر على ضبطها وإمساك حركاتها.

وفرقة قالت: إن الأشياء ليس لها أول البتة، وإنما تخرج من القوة إلى الفعل، فإذا خرج ما كان بالقوة إلى الفعل تكوَّنت الأشياء مركباتها وبسائطها من ذاتها، لا من شيء آخر.

وقالوا: إن العالم دائم لم يَزل ولا يزالُ، لا يتغيَّر، ولا يضمحلُّ، ولا يجوز أن يكون المُبْدع يفعل فعلًا يبطلُ ويضمحلّ إلا وهو يبطلُ ويضمحلّ مع فعله، وهذا العالم هو الممسك لهذه الأجزاء التي فيه.

وهؤلاء هم المعطلة حقًا، وهم فحول المعطلة، وقد سَرى هذا التعطيل إلى سائر فرق المعطلة، على اختلاف آرائهم وتباينهم في التعطيل، كما سرى داءُ الشرك تأصيلًا وتفصيلًا في سائر فرق المشركين على اختلاف مذاهبهم فيه، وكما سرى جَحْدُ النبوات تأصيلًا وتفصيلًا في سائر مَنْ جحد النبوة أو صفة من صفاتها، وأقرّ بها جملة وجحد مقصودها وزُبدتها أو بعضه.

ص: 1016

فهذه الفرق الثلاث سَرَى داؤها وبلاؤها في الناس، ولم ينجُ منه إلا أتباع الرسول العارفون بحقيقة ما جاء به، المتمسِّكون به دون ما سواه، ظاهرًا وباطنًا.

فداءُ التعطيل، وداء الإشراك، وداءُ مخالفة الرسول، وجحد ما جاءَ به أو شيء منه: هي أصل بلاء العالم، ومنبع كل شرٍّ، وأساس كل باطل، فليست فرقة من فرق أهل الإلحاد والباطل والبدع إلا وقولها مشتقٌّ من هذه الأصول الثلاثة، أو من بعضها:

فإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِي عَظِيمَةٍ

وَإِلَّا فَإِنِّي لَا أظُنُّكَ نَاجِيا

(1)

فصل

فَسَرَتْ هذه البلايا الثلاثة في كثير من طوائف الفلاسفة، لا في جميعهم، فإن الفلسفة من حيث هي لا تُعطي ذلك، فإن معناها: محبةُ الحِكْمَة، والفيلسوف أصله: فِيْلاسوفا، أي: محب الحكمة، فـ (فيلا) هي الحبّ، و (سُوفا) هي الحكمة.

والحكمة نوعان: قولية وفعلية، فالقولية: قول الحقّ، والفعلية: فعل الصواب، وكل طائفةٍ من الطوائف لهم حكمة يتقيّدُون بها.

وأصحّ الطوائف حكمةً: من كانت حِكمتُهم أقرب إلى حكمة الرسل التي جاءوا بها عن الله تعالى.

(1)

البيت للأسود بن سريع في البيان والتبيين (1/ 367). وسرقه الفرزدق كما في المعارف (ص 557). وهو لعسعس بن سلامة في المستقصى (1/ 385). انظر تعليق المحقق على طبقات فحول الشعراء (ص 182).

ص: 1017