المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تلخص في المسألة أربعة مذاهب: - إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌المثال الرابع: أن يخاف أن يُؤجِره مالا يملك

- ‌المثال الثالث عشر: إذا اشترى دارًا أو أرضًا، وخاف أن تخرج وقفًا أو مستحقة

- ‌ الأمَةُ المشتراة إذا وطئها، ثم استُحِقّت لم يلزمه المهر

- ‌المثال الخامس عشر: إذا وكّله في بيع جارية، ووكّله آخر في شرائها

- ‌تلخَّص في المسألة أربعة مذاهب:

- ‌المثال الخامس والسبعون: إذا أقرضه مالًا وأجَّله لزم تأجيله على أصح المذهبين

- ‌ الحيلة في تصحيح الرهن والوثيقة

- ‌الثاني: ما لا يظهر ذلك فيه

- ‌الطريق الخامسة: طريق مَنْ يُفصّل بين الحلف بصيغة الشرطِ والجزاءِ، والحلف بصيغة الالتزام:

- ‌التزامُ التطليق لا يوجب وقوعَ الطلاق

- ‌الوجه الرابع: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة

- ‌فصلوأما استدلالكم بالمعاريض على جواز الحيل

- ‌«ليس بكاذبٍ من أصلح بين الناس

- ‌ المحبة والإرادة أصلٌ للبغض والكراهة، وعِلّةٌ لهما من غير عكسٍ

- ‌ الصافات صفا

- ‌الملائكةُ الموكَّلة بالإنسان من حين كَوْنه نطفةً إلى آخر أمره

- ‌ العبادة تَتَضَمّن غاية الحُبّ بغاية الذّلّ

- ‌التوحيد ملجأ الطالبين، ومفزع الهاربين، ونجاة المكروبين، وغياث الملهوفين

- ‌قد قيل: إن فساد القَصْدِ من فساد العلم

- ‌المحبة مع الله: أصل الشرك

- ‌ومنهم من يرى أن التحريم إنما هو إكراه الصبي على(2)فعل الفاحشة

- ‌العشق المحرَّم من أعظم الغَيّ

- ‌أصلُ الغيّ من الحبّ لغير الله

- ‌أصحاب العشق الشيطاني لهم مِن تَوَلَّي الشيطان والإشراك به بقَدْر ذلك

- ‌ العِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالمَجَانِينِ

- ‌ افتتانِ المشركين بفقراء المهاجرين

- ‌الفتنة لا بدّ منها في الدنيا والآخرة

- ‌ اتباع الهوى يُضلّ عن سبيل الله

- ‌ بالصبر واليقين تُنالُ الإمامة في الدين

- ‌البصائر: جمع بَصيرة، وهى فعيلة بمعنى مُفْعِلَة

- ‌ الإبصار يستعمل لازمًا ومتعديًا

- ‌الرحمةُ المقارنةُ للهدى في حَقِّ المؤمنين: عاجلة وآجلة

- ‌ وَسِعَ رَبُّنا كلَّ شيء رحمةً وعلمًا

- ‌لا بد من حصول الألم والمحنة لكل نفس

- ‌{قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً

- ‌ محبة المخلوق إذا لم تكن لله فهي عذاب للمُحبِّ ووبال

- ‌فصلفى بيان كيد الشيطان لنفسه، قبل كَيده للأبوين

- ‌ وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليُسرى

- ‌ قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}

- ‌(مِنْ) لا تدخل إلا على مفعول لا مفعول دونه

- ‌ هلالُ بن المحسن الصابئ

- ‌الحكمة التي جاءت بها الرسُلُ

- ‌ فلاسفة اليونان

- ‌اتخذ للملاحدة مدارسَ، ورامَ جَعْلَ «إشارات» إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن

- ‌ثم كان لهم مجمع عاشر:

- ‌وأما تلاعبه بهم في صلاتهم فمن وجوه:

- ‌هم أبدًا يعتقدون الصواب والحق مع مَنْ يُشَدّدُ ويُضَيّقُ

- ‌أعزّ ما صادفه الإسلام من هذه الأمة: يهود خيبر، والمدينة

الفصل: ‌تلخص في المسألة أربعة مذاهب:

العقود بمقاصدها لا بصورها، فإن كان الوضع والتعجيل

(1)

مفسدة فالاحتيال عليه لا يزيل مفسدته، وإن لم يكن مفسدة لم يُحْتَجْ إلى الاحتيال عليه.

ف‌

‌تلخَّص في المسألة أربعة مذاهب:

المنع مطلقًا، بشرط وبدونه، في دَين الكتابة وغيره، كقول مالك.

وجوازه في دَين الكتابة دون غيره، كالمشهور من مذهب أحمد، وأبي حنيفة.

وجوازه في الموضعين، كقول ابن عباس، وأحمد في الرواية الأخرى.

وجوازه بلا شرط، وامتناعه مع الشرط المقارن، كقول أصحاب [90 أ] الشافعي، والله أعلم.

المثال الحادي والعشرون: إذا كان له عليه ألف درهم، فصالحه منها على مئة درهم يؤديها إليه في شهر كذا من سنة كذا، فإن لم يفعل فعليه مئتان:

فقال القاضي أبو يَعلى: هو جائز، وقد أبطله قومٌ آخرون.

والحيلة في جوازه على مذهب الجميع: أن يُعَجّل ربّ المال حطّ ثمان مئة بَتًّا، ثم يصالح عن

(2)

المطلوب من المئتين الباقيتين على مئة، يؤديها إليه في شهر كذا، على أنه إن أخّرها عن هذا الوقت فلا صلح بينهما.

المثال الثاني والعشرون: إذا كاتَبَ عبده على ألف يؤديها إليه في سنتين، فإن لم يفعل فعليه ألفٌ أخرى فهي كتابة فاسدة، ذكره القاضي؛ لأنه علّق إيجاب المال بخطرٍ، ولا يجوز ذلك.

(1)

«والتعجيل» ساقطة من م.

(2)

«عن» ساقطة من الأصل.

ص: 685

والحيلة في جوازه: أن يكاتبه على ألفي درهم، ثم يصالحه منها على ألف درهم يؤديها إليه في سنتين، فإن لم يفعل فلا صلح بينهما، فيكون قد علّق الفسخ بخطر، فيجوز، وتكون كالمسألة التي قبلها.

المثال الثالث والعشرون: إذا كان له عليه دَيْنٌ حالٌّ، فصالحه على تأجيله، أو تأجيل بعضه، لم يلزم التأجيل، فإن الحالّ لا يتأجل.

والصحيح: أنه يتأجّل، كما يتأجل بدل القرض.

وإن كان النزاع في الصورتين، فمذهب أهل المدينة في ذلك هو الراجح.

وطريق الحيلة في صحة التأجيل ولزومه: أن يُشْهد على إقرار صاحب الدَّين أنه لا يستحق المطالبة به قبل الأجل الذي اتفقا عليه، وأنه متى طالب به قبله فقد طالب بما لا يستحق، فإذا فعل هذا أمِنَ رجوعه في التأجيل.

المثال الرابع والعشرون: إذا اشترى من رجل دارًا بألف، فجاء الشفيعُ يطلبُ الشُّفعة، فصالحه المشتري على نصف الدار بنصف الثمن، جاز ذلك؛ لأن الشفيع صالَح على بعض حقه، كما لو صالَح من ألف على خمس مئة.

فإن صالَحه على بيت من الدار بعينه بحصته من الثمن، يُقوَّم البيت ثم تخرج حِصّته من الثمن، جاز أيضًا؛ لأن حِصّته معلومة في أثناء الحال، فلا يضرّ كونها مجهولةً حالة الصلح، كما إذا اشترى شِقْصًا وسَيْفًا، فللشفيع أن يأخذ الشِّقص بحصته من الثمن، وإن كانت مجهولةً حال العقد؛ لأن مآلها إلى العلم.

وقال القاضي وغيره من أصحابنا: لا يجوز؛ لأنه صالحه على شيء مجهول.

ص: 686

ثم قال: والحيلة في تصحيح ذلك: أن يشتري الشفيع هذا البيت من المشتري بثمن مُسَمّى، ثم يُسَلّم الشفيع للمشتري ما بقي من الدار، وشراء الشفيع لهذا البيت تسليمٌ للشُّفعة، ومساومته بالبيت تسليمٌ للشُّفعة.

فإن أراد الشفيع شراء البيت المعيَّن وبقاءه على شُفعته في الباقي،

فالحيلة أن لا يبدأ بالمساومة، بل يصبر حتى يبتدئ المشتري، فيقول: هذا البيت أخذته بكذا وكذا، فيقول الشفيع: قد استوجبته بما أخذته به، ولا يكون مُسَلّمًا للشفعة في باقي الدار، وليس في هذه الحيلة إبطال حق غيره، وإنما فيها التَّوصل إلى حقه.

المثال الخامس والعشرون: يجوز تعليقُ الوكالة على الشرط، كما يجوز تعليقُ الولاية والإمارة على الشرط، وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم تعليق الإمارة بالشرط

(1)

، وهي وكالة وتفويضٌ وتوليةٌ، ولا مَحذور في تعليق الوكالة بالشرط البتة.

والحيلة في تصحيحها: أن يُنجز الوكالة، ويُعلّق الإذن في التصرف بالشرط؛ وهذا في الحقيقة تعليقٌ لها نفسها بالشرط؛ فإن مقصود الوكالة صحة التصرف ونُفُوذه، والتوكل وسيلةٌ [90 ب] وطريق إلى ذلك، فإذا لم يمتنعْ تعليقُ المقصود بالشرط؛ فالوسيلة أولى بالجواز.

المثال السادس والعشرون: يجوز تعليق الإبْراءِ بالشرط ويصحّ، وفَعَله الإمام أحمد، وقال أصحابنا: لا يصح.

(1)

يشير إلى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم عن تأمير زيد بن حارثة، وقد أخرجه البخاري (4261) عن ابن عمر.

ص: 687

قالوا: فإذا قال: إن مِتُّ فأنت في حِلّ مما لي عليك، فإن علّقَ ذلك بموت نفسه صحّ؛ لأنه وصية.

وإن علّقه بموت مَنْ عليه الدين لم يصحّ؛ لأنه تعليق للبراءة بالشرط، ولا يصح، كما لا يصح تعليقُ الهبة.

فيقال أولًا: الحكم في الأصل غير ثابتٍ بالنصّ، ولا بالإجماع، فما الدليلُ على بُطلان تعليق الهبة بالشرط؟ وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علّق الهبةَ بالشرط في حديث جابرٍ

(1)

،قال:«لَوْ قَدْ جاءَ مالُ البَحْرين لأعطيتُك هكذا، ثم هكذا، ثم هكذا» ثلاث حَثَيات، وأنجز له الصديق رضي الله عنه لمّا جاء مالُ البحرين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

فإن قيل: كان ذلك وعدًا.

قلنا: نعم، والهِبَة المعلّقة بالشرط وعدٌ، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث إلى النجاشي بهدية من مَسَك، وقال لأمّ سلمة:«إني قد أهديتُ إلى النجاشي حُلّة وأواقِيّ من مَسَك، ولا أرى النجاشي إلا قد مات، ولا أرى هديتي إلا مردودة، فإن رُدّتْ عليّ فهي لك» ، وذكر الحديث. رواه أحمد

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (3164)، ومسلم (2314).

(2)

مسند أحمد (6/ 404) من حديث أمّ كلثوم، ورواه أيضًا ابن سعد في الطبقات (8/ 95)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3459)، وابن المنذر في الأوسط (895)، والطحاوي في شرح المشكل (323)، والطبراني في الكبير (25/ 81)، والبيهقي في الكبرى (6/ 26)، وغيرهم، وفي إسناده اختلاف، وصححه الحاكم (2766)، فتعقبه الذهبي بقوله:«منكر، ومسلم الزنجي ضعيف» ، وصححه ابن حبان (5114) من حديث أم كلثوم عن أم سلمة، قال الهيثمي في المجمع (4/ 262):«فيه مسلم بن خالد الزنجي، وثقه ابن معين وغيره وضعفه جماعة، وأم موسى بن عقبة لم أعرفها، وبقية رجاله رجال الصحيح» ، وحسّن إسناده ابن حجر في الفتح (5/ 222)، وضعفه الألباني في الإرواء (1620).

ص: 688

فالصحيح: صحةُ تعليق الهبة بالشرط عملًا بهذين الحديثين.

وأيضًا فالوصية تمليكٌ، وهي في الحقيقة تعليقٌ للتمليك بالموتِ، فإنه إذا قال: إن متّ من مرضي هذا فقد أوصيتُ لفلان بكذا، فهذا تمليكٌ معلّق بالموت.

وكذلك الصحيح: صحة تعليق الوقف بالشرط، نص عليه في رواية الميموني في تعليقه بالموت.

وسائرُ التعليق في معناه، ولا فرق البتة، ولهذا طَرَدهُ أبو الخطاب، وقال: لا يصح تعليقه بالموت.

والصواب طَرْدُ النص، وأنه يصح تعليقه بالموت وغيره، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد، وهو مذهب مالك، ولا يُعرفُ عن أحمد نصٌّ على عدم صحته، وإنما عدم الصحة قول القاضي وأصحابه.

وفى المسألة وجهٌ ثالث: أنه يصح تعليقه بشرط الموت، دون غيره من الشروط، وهذا اختيارُ الشيخ مُوفّق الدين، وفرّق بأن تعليقَه بالموت وصيّةٌ، والوصية أوسع من التصرف في الحياة، بدليل الوصية بالمجهول والمعدوم، والحَمْل.

والصحيح: الصحة مطلقًا، ولو كان تعليقه بالموت وصيةً لامتنع على الوارث، ولا خلاف أنه يصحّ تعليقه بالشرط بالنسبة إلى البطون، بَطْنًا بعد

ص: 689

بطن، وأن كونه وقفًا على البطن الثاني مشروط بانقضاء الأول، وقد قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقال صلى الله عليه وسلم:«المسلمون عند شروطهم»

(1)

.

والقياس الصحيح يقتضي صحة تعليقه؛ فإنه أشبه بالعتق منه بالتمليك، ولهذا لا يشترط فيه القبول إذا كان على جهةٍ اتفاقًا.

وكذلك إذا كان على آدميٍّ معين، في أقوى الوجهين، وما ذاك إلا لشَبَهه بالعتق.

والمقصود: أن تعليق الإبراء بالشرط أولى من ذلك كله، فمَنْعُه مخالفٌ لموجب الدليل والمذهب.

ويقال ثانيًا: لا يلزم من بُطلان تعليق الهبة بطلانُ تعليق الإبراء، بل

(1)

علّقه مجزومًا به البخاري في كتاب الإجارة، باب: أجر السمسرة، ووصله أبو داود (3596)، والطحاوي في شرح المعاني (5408)، وابن عدي في الكامل (6/ 68)، والدارقطني (3/ 27)، والحاكم (2309)، والبيهقي في الكبرى (6/ 79، 166، 249)، وغيرهم من حديث أبي هريرة، وصححه ابن الجارود (637، 1001)، وابن قدامة في الكافي (2/ 213)، وابن دقيق العيد في الإلمام (1044)، قال النووي في المجموع (9/ 376):«إسناده حسن أو صحيح» ، وقال ابن تيمية كما في المجموع (29/ 147):«أسانيده وإن كان الواحد منها ضعيفا فاجتماعها من طرق يشدّ بعضها بعضًا» ، وصحّحه المصنف في الفروسية (ص 164)، وحسنه ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/ 54)، وقال ابن حجر في التغليق (3/ 281):«رُوي من حديث أبي هريرة وعمرو بن عوف وأنس بن مالك ورافع بن خديج وعبد الله بن عمر وغيرهم، وكلّها فيها مقال، لكن حديث أبي هريرة أمثلها» ، وصححه الألباني في الإرواء (1303)، وقد أبعد من بالغ وزعم أنه مكذوب.

ص: 690

القياس الصحيح يقتضي صحة تعليقه؛ لأنه إسقاط محض، ولهذا لا يفتقر إلى قبول المُبْرِئ ولا رضاه، فهو بالعتق والطلاق أشبَهُ منه بالتمليك.

وعلى هذا: فيُسْتغنى بالصحة في ذلك كله عن الحيلة.

فإن احتاج إلى التعليق، وخاف أن ينقض عليه، [91 أ] فالحيلة أن يقول: لا شيء لي عليه بعد هذا الشهر، أو العام، أو لا شيء لي عليه عند قدوم زيد، أو كل دعوى أدّعيها عليه بعد شهر كذا، أو عام كذا، أو عند قدوم زيد بسبب كذا، أو من دَين كذا: فهي دَعْوَى باطلة، أو يقول: كل دعوى أدّعيها في تَرِكَتِه بعد موته من دَيْن كذا أو عن كذا: فهي دعوى باطلة.

وعلى ما قررناه: لا يحتاج إلى شيء من ذلك.

المثال السابع والعشرون: إذا أعسر الزوجُ بنفقة المرأة ملكت الفسخ، فإن تحمّلها عنه غيره لم يَسْقُط مِلكها للفسخ؛ لأن عليها في ذلك مِنّة، كما إذا أراد قضاء دينٍ عن الغير، فامتنع ربّه من قبوله لم يُجبر على ذلك.

وطريق الحيلة في إبطال حَقّها من الفسخ: أن يحيلها بما وجب لها عليه من النفقة على ذلك الغير، فتصح الحوالة، وتلزمُ على أصلنا، إذا كان المُحالُ عليه غنيًّا.

وطريق صحة الحوالة: أن يُقر ذلك الغير للزوج بقدر معين لنفقتها سنةً أو شهرًا، أو نحو ذلك، ثم يحيلها الزوج عليه، فإن لم يمكنه الإجبارُ على القبول لعدم من يرى ذلك، وكل الزوج الملتزم لنفقتها في

(1)

الإنفاق عليها، والزوج مُخيّر بين أن يُنفق عليها بنفسه، أو بوكيله.

(1)

«في» ساقطة من م.

ص: 691

وهكذا العمل في مسألة أداء الدين عن الغريم سواءً.

المثال الثامن والعشرون: إذا خاف المضاربُ أن يُضَمّنه المالك بسببٍ من الأسباب التي لا يملكها بعقد المضاربة، فخَلَطَ المال بغيره، أو اشترى به بأكثر من رأس المال، والاستدانة على مال المضاربة، أو دَفْعه إلى غيره مُضاربة أو إبضاعًا، أو إيداعه، أو السفر به.

فطريق التخلُّص من ضمانه في هذا كله: أن يُشهد على ربّ المال أنه قال له: اعمل برأيك، أو ما تراه مصلحةً.

المثال التاسع والعشرون: إذا كان لكل من الرجلين عُروض، وأرادا أن يشتركا فيها شركة عنان، ففي ذلك روايتان:

إحداهما: تصح الشركة، وتقوم العروض عند العقد، ويكون قيمتها هو رأس المال، فيقسم الرّبح على حَسْبه، أو على ما شرطاه.

وإذا أرادا الفسخ رجع كلٌّ منهما إلى قيمة عروضه، واقتسما الربح على ما شرطاه.

وهذا القول هو الصحيح.

والرواية الثانية: لا تصح إلا على النقدين؛ لأنهما إذا تفاسخا الشركة، وأراد كل واحدٍ منهما الرجوع إلى رأس ماله، ويقتسما

(1)

الربح؛ لم يُعَلمْ ما مقدار رأس مال كلٍّ منهما إلا بالتقويم، وقد تزيد قيمة العروض وتنْقص قبل العمل، فلا يستقر رأس المال.

(1)

كذا بحذف النون.

ص: 692

وأيضًا فمقتضى عقد الشركة: أن لا ينفرد أحد الشريكين بربح مال الآخر، وهذه الشركة تُفضي إلى ذلك؛ لأنه قد تزيد قيمة عرض أحدهما، ولا تزيد قيمة عرض الآخر، فيشاركه مَنْ لم تزد قيمة عرضه، وهذا إنما يصح في المتقوّمات، كالرقيق، والحيوان، ونحوهما. فأما المِثْليّات فإن ذلك مُنتفٍ فيها، ولهذا كان الصحيح عند من منع الشركة بالعروض جوازها بالمثليات.

والصحيح: الجوازُ في الموضعين؛ لأن مبنى عقد الشركة على العدل من الجانبين، وكلٌّ من الشريكين مترددّ بين الربح والخسران، فهما في هذا الجواز مستويان.

فتجويز ربح أحدهما دون الآخر في مقابلة عكسه، فقد استويا في رجاء الغُنْم وخوف الغُرْم، وهذا هو العدل، كالمضاربة، فإنه يجوز أن يربحا، وأن يخسرا، وكذلك المساقاة والمزارعة.

وطريق الحيلة في تصحيح هذه المشاركة عند من لا يجوّزها بالعرُوض: أن يبيع كلٌ منهما بعض عرضه ببعض عرض صاحبه، فإذا كان عَرضُ [91 ب] أحدهما يساوى خمسة آلاف، وعرضُ الآخر يساوي ألفًا، فيشتري صاحبُ العرض الذي قيمته خمسة آلاف من صاحبه خمسة أسداس عرضه الذي يساوي ألفًا بسُدس عرضه الذي يساوي خمسة آلاف، فإذا فَعَلا ذلك صارا شريكين، فيصير للذي يساوي متاعه ألفًا سدس جميع المتاع، وللآخر خمسةُ أسداسه، أو يبيع كلٌّ منهما صاحبه بعض عرضه بثمن مسمى، ثم يتقابضا فيصير مُشتركًا بينهما، ثم يأذن كلُّ واحد منهما لصاحبه في التصرُّف، فما حصل من الربح يكون بينهما على ما شرطاه عند أحمد، وعلى قدر رؤوس أموالهما عند الشافعيّ، والخُسران على قَدْر المال اتفاقًا.

ص: 693

المثال الثلاثون: إذا تزوَّجها على أن لا يُخرجها من دارها أو بلدها، أو لا يتزوج عليها، ولا يتسرّى عليها، فالنكاح صحيحٌ، والشرط لازمٌ.

هذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين؛ فإنه صحّ عن عمر

(1)

، وسعد

(2)

، ومعاوية

(3)

، ولا مُخالف لهم من الصحابة، وإليه ذهب عامةُ التابعين، وقال به أحمد.

وخالف في ذلك الثلاثة، فأبطلوا الشرط، ولم يوجبوا الوفاء به.

فإذا احتاجت المرأة إلى ذلك، ولم يكن عندها حاكمٌ يرى صحة ذلك ولزومه، فالحيلة لها في حصول مقصودها: أن تمتنع من الإذن، إلا أن تشترط بعد العقد أنه إن سافر بها، أو نقلها من دارها، أو تزوج عليها فهي طالق، أو لها الخيار في المُقام معه، أو الفسخ، فإن لم تثق به أن يفعل ذلك فإنها تطلب مهرًا كثيرًا جدًّا إن لم يفعل، وتطلب ما دونه إن فعل، فإن شرط

(1)

علّقه البخاري عن عمر مجزومًا به في كتابي الشروط والنكاح، باب: الشروط في المهر، وباب: الشروط في النكاح، وهو موصول عند عبد الرزاق (6/ 227، 228)، وسعيد بن منصور (662، 663، 680)، وابن أبي شيبة (3/ 499، 4/ 451)، والبيهقي في الكبرى (7/ 249)، وابن عبد البر في التمهيد (18/ 168)، وغيرهم، وصححه الألباني في الإرواء (1893).

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في المحتضرين (256) وفي غيره من طريق ابن المبارك عن داود بن قيس عن أمه عن سعد، وفيه قصّة، ومن طريق ابن أبي الدنيا رواه ابن عبد البر في التمهيد (18/ 168 ــ 169) وابن عساكر في تاريخ دمشق (20/ 350).

(3)

روى عبد الرزاق (6/ 228)، وسعيد بن منصور (664)، وابن أبي شيبة (3/ 499)، وابن حزم في المحلى (9/ 517) من طريق سعيد بن منصور، وغيرهم عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: أتي معاوية في امرأة شرط لها زوجها أن لها دارَها، فسأل عمرو بن العاص فقال: أرى أن يفي لها بشرطها.

ص: 694

لها ذلك رضيت بالمهر الأدنى، وإن لم يشرط ذلك طالبته بالأعلى، وجعلته حالًا ولها أن تمنع نفسها حتى تقبضه، أو يشرط لها ما سألته.

فإن قيل: فعلى أي المهرين يقع العقد؟

قيل: يقع على المهر الزائد؛ لتتمكن من إلزامه بالشرط.

فإن خاف أن يشرط لها ما طلبت، ويستقرّ عليه المهر الزائد، فالحيلة: أن يُشهد عليها أنها لا تستحق عليه بعد الاشتراط شيئًا من المبلغ الزائد على الصداق الأدنى، وأنها متى ادّعت به فدعواها باطلةٌ، فيستوثق منها بذلك، ويُكتب هو والشرطُ.

ولها أن تُطالب بالصَّداق الزائد، إذا لم يَف لها بالشرط؛ لأنها لم ترض بأن يكون الأدنى مهرًا إلا في مقابلة منفعة أخرى تُسَلَّم لها، وهي المُقامُ في دارها، أو بلدها، أو يكون الزوج لها وحدها، وهذا جارٍ مجرى بعض صَداقها، فإذا فاتها فلها المطالبة بالمهر الأعلى.

المثال الحادي والثلاثون: إذا زوّج ابنته بعبده صح النكاح، فإن حضره الموتُ فخاف هو أو المرأة أن ترث جزءًا منه، فينفسخ النكاح:

فالحيلة في بقائه: أن يبيع العبد من أجنبيٍّ، فإن شاء قبض ثمنه، وإن شاء جعله دينًا في ذمَّته، يكون حكمه حكم سائر ديونه، فإذا ورثت نصيبها من ثمنه لم ينفسخ نكاحها. وإن باع العبد من أجنبي قبل العقد، ثم زوّجه الابنة أمِنَ هذا المحذور أيضًا.

وكذلك إذا أراد أن يزوِّج أمَتَه بابنه، وخاف أن يموت، فترث زوجته، فينفسخ النكاح، باعها من أجنبي، ثم زوّجها الابن، أو يبيعها من الأجنبي بعد العقد.

ص: 695

المثال الثاني والثلاثون: إذا أحاله بدَينه، وخاف المحال أن يَتْوَى ماله عند المُحال عليه، وأراد التوثُّق لماله:

فالحيلة في ذلك أن يقول: لا تُحِلْني بالمال، لكن وكّلني في المطالبة به، واجعل ما أقبضه في ذمّتي قرضًا، فيبرآن جميعًا بالمقاصّة.

فإن خاف المُحيل أن يَهلك المالُ في يد الوكيل قبل اقتراضه، فيرجع عليه بالدين:

فالحيلة له: أن يقول [92 أ] للمحال عليه: اضمَنْ عني هذا الدّيْنَ لهذا الطالب، فيضمنه، فإذا قبضَه قبضَهُ لنفسه، فإن امتنع المحالُ عليه من الضمان احتالَ الطالبُ عليه؛ على أنه إن لم يُوَفّه حَقّهُ إلى وقت كذا وكذا فالمحيل ضامنٌ لهذا المال، ويصح تعليقُ الضمان بالشرط، فإن وفّاه المحال عليه، وإلا رجع إلى المحيل، وآخذه بالمال.

المثال الثالث والثلاثون: إذا كان له دَين على أحدٍ، فرَهَنه به عبدًا، فخاف أن يموتَ العبد، فيُحاكمه إلى من يَرَى سقوط الدين بتلف الرهان:

فالحيلة في تخليصِه من هذا المحذور: أن يشتري العبد منه بدينه، ولا يقبض العبد، فإن وَفّاه دَينه أقالَهُ في البيع، وإن لم يوفّه الدَّين طالبه بالتسليم، وإن تلف العبدُ كان من ضمان البائع، ورجع المشتري إلى دينه الذي هو ثمنه.

المثال الرابع والثلاثون: إذا كان له عليه دَين، فرهنه به رهنًا، ثم خاف أن يستحق الرهنُ فتبطل الوثيقة:

فالحيلة فيه: أن يُضَمّنَ دَينه لمن يخاف منه استحقاق الرهن، فإذا

ص: 696

استحقه عليه طالبه بالمال، أو يُضَمّنه دَرَك الرّهن، أو يُشهد عليه أنه لا حقّ له فيه، ومتى ادّعى فيه حقًّا فدعواه باطلة.

المثال الخامس والثلاثون: إذا كان له عليه مئة دينارٍ، خمسون منها بوثيقة، وخمسون بغير وثيقة، وجحده الغريمُ القَدْرَ الذي بغير وثيقةٍ:

فالحيلة له في تخليص ماله: أن يوكّل رجلًا غريبًا بقَبْضِ المال الذي بالوثيقة، ويُشهد على وكالته علانيةً، ثم يُشهد شهودًا آخرين: أنه قد عزله عن الوكالة، ثم يطالب الوكيل المطلوب بذلك المال، ويُثبت شهود وكالته، فإذا قبض الخمسين دينارًا دفعها إلى مستحقِّها وغاب، ثم يطالبه المستحقّ بالخمسين، فإن قال: دفعتها إلى وكيلك أقام البيّنة أنه كان قد عَزَله عن الوكالة، فيُلْزِمُه الحاكِم بالمال، ويقول له: اتْبَعِ القابض، فخُذ مالك منه.

فإن كان الغريم حَذِرًا لم يدفع إلى الوكيل شيئًا خَشْيَة مثل هذا، ويقول: لا أدفع إليك إلا بحضرة الموكِّل وإقراره أنك وكيله، فتبطل هذه الحيلة.

المثال السادس والثلاثون: إذا حضره الموتُ، ولبعض ورثته عليه دين، وأراد تخليص ذمته، فإن أقرّ له به لم يصحَّ إقراره، وإن وصّى له به كانت وصيةً لوارث.

فالحيلة في خلاصه: أن يُواطِئه على أن يأتي بمن يثقُ به، فيُقِرّ له بذلك الدَّين، فإذا قبضه أوصله إلى مُستحقه، فإن خاف الأجنبيّ أن يُلزمه الحاكم أن يحلف

(1)

أن هذا الدين واجبٌ لك على الميت، ولم تبرئه منه، ولا من شيء منه، لم يَجُزْ له أن يحلف على ذلك، وانتقلنا إلى حيلة أُخرى، وهي أن

(1)

«أن يحلف» ساقطة من م.

ص: 697

يقول له المريضُ: بعْ دارَك أو عبدك من وارثي، بالمال الذي له عليّ فيفعل، فإذا ألْزَمْتَهُ اليمين بعد هذا حلف على أمرٍ صحيح، فإن لم يكن له ما يبيعه إيّاه وهب له الوارثُ عبدًا أو أمَةً، فقبضه، ثم باعه من الوارث بالدَّين الذي على الميت.

المثال السابع والثلاثون: إذا نكح أمَةً، حيثُ يجوز له نكاح الإماء، وخاف أن يَسْترِقّ سيدُها ولده:

فالحيلة في ذلك: أن يسأل سيد الأمة أن يقول: كلُّ ولدٍ تلده منك فهو حرٌّ، فإذا قال هذا فما ولدته منه فهم أحرار.

المثال الثامن والثلاثون: إذا قال لامرأته: إن سألتِني الخُلعَ فأنت طالق ثلاثًا إن لم أخلعك، وقالت المرأة: كل مملوكٍ لها حُرّ، إن لم أسألك الخلعَ اليوم.

فسُئل أبو حنيفة عنها، فقال للمرأة: سَلِيهِ الخُلع، فقالت: أسألك أن تخلعني، فقال للزوج: قل: خَلَعْتُكِ على ألف درهم، فقال ذلك، فقال أبو حنيفة للمرأة: قولي: لا أقبلُ، فقالت: لا أقبلُ، فقال أبو حنيفة:[92 ب] قومي مع زوجك، فقد برّ كل منكما في يمينه.

المثال التاسع والثلاثون: سُئل أبو حنيفة عن أخَوين تزوجَا أختين، فزُفّت امرأةُ كل واحد منهما إلى الآخر، فوطئها، ولم يعلموا بذلك حتى أصبحوا، فقيل له: ما الحيلة في ذلك؟ فقال: أكلٌّ منهما راضٍ بالتي دخل بها؟ قالا: نعم، فقال: ليطلّقْ كل واحدٍ منهما امرأتَه طَلْقَة، ففعلا، فقال: ليتزوج كل منهما المرأة التي وَطِئها، فطابَتْ أنفسُهما.

ص: 698

المثال الأربعون: إذا كان لرجلٍ على رجل مالٌ، وللذي عليه المال عقارٌ، فأراد أن يجعل عقاره في يَد غريمه يستغلّه، ويقبض غَلّته من دَيْنه، جاز ذلك؛ لأنه توكيل له فيه، فإن خاف الغريمُ أن يعزله صاحب العقار عن الوكالة:

فالحيلة: أن يَسْتَرهنه منه ويستديم

(1)

قبضه، ثم يأذن له في قبض أجرته من دينه، ولو لم يأذن له فله أن يقبضها قصاصًا.

وله حيلة أُخرى: أن يستأجره منه بمقدار دينه، فما وجب له عليه من الأجرة سقط من دينه بقدره قصاصًا.

المثال الحادي والأربعون: إذا كان له جارية، فأراد وَطْأها، وخاف أن تَحْبلَ منه، فتصير أمَّ ولدٍ، لا يمكنه بيعها:

فالحيلة: أن يبيعها لأبيه، أو أخيه، أو أخته، فإذا مَلَكَها سأله أن يُزَوّجه إيّاها فيطأها بالنكاح، ويكون ولَدُه منها حرًّا يَعتِقُون على البائع بالرّحِم، وهذا إذا كان ممن يجوز له نكاح الإماء، بأن لا يكون تحته حُرّةٌ عند أبي حنيفة، أو يكون خائفًا للعَنَت، عادمًا لطَوْل حُرّةٍ عند الجمهور.

المثال الثاني والأربعون: إذا بانت منه امرأته بَيْنُونة صُغرى، وأراد أن يُجدّد نكاحها، فخاف إن أعلمها لم تتزوج به؛ فله في ذلك حيل:

إحداها: أن يقول: قد حلفتُ بيمين، ثم استفتيتُ، فقيل لي: جَدّد نكاحك، فإن كانت قد بانت منك عاد النكاح، وإلا لم يَضُرّك، فإن كان لها وليّ جدّد نكاحها، وإلا فالحاكم أو نائبه.

(1)

في م: «يستدين» . والمثبت من بقية النسخ.

ص: 699

ومنها: أن يُظهر أنه يريدُ سفرًا، وأنه يريد أن يجعلَ لها شيئًا من ماله، وأن الاحتياط أن يجعله صَداقًا بعقْدٍ يُظْهِرُه.

ومنها: أن يُظهر مرضًا، وأنه يريدُ أن يُقِرّ لها بمال، أو يُوصي لها به، وأن ذلك لا يتم، والأحوطُ أن يُظهر عَقْدَ نكاحٍ، وجعل ذلك صداقًا فيه.

فإن قيل: إذا بانت منه ملكتْ نفسها، ولم يصح نكاحُها إلا برضاها، ولعلّها لو علمت الحال لم ترضَ بالنكاح الثاني.

قيل: رضاها بتجديد النكاح

(1)

للغرض

(2)

الذي يُريده يتضمنُ رضاها بالنكاح، وهي لو هَزَلَتْ بالإذن صحّ إذنها، وصحّ النكاح، مع أنها لم تقصده، كما لو هَزَلَ الزوجُ بالقبول صح نكاحُهُ، وهاهنا قد قصدت بقاء النكاح، ورضيت به، فهو أولى بالصحة.

فإن قيل: فالرجل قاصد إلى النكاح، والمرأة غير قاصدة له.

قيل: بل قصدت إلى تجديد نكاح يتم به غرضها، فلم تخرج بذلك عن القصد والرِّضا.

ولو قال رجل لرجل هَزْلًا ومِزاحًا: زوّجْني ابنَتك على مئة درهم، أو قال: زوِّجني مُولِيتَك، وهي تسمع، فقال له مزاحًا وهزلًا قد زوجتكها، انعقدَ النكاح، وحَلَّ له وطؤها، لحديث أبي هريرة الذي رواه أهل «السنن»

(3)

، عن

(1)

في بقية النسخ: «العقد» .

(2)

ث: «للعوض» .

(3)

رواه أبو داود (2196)، والترمذي (1184)، وابن ماجه (2039)، والطحاوي في شرح المعاني (4297 ــ 4299)، والدارقطني (3/ 256، 257، 4/ 18، 19)، والبيهقي في الكبرى (7/ 340)، وغيرهم من طريق عبد الرحمن بن حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن ابن ماهك عن أبي هريرة، قال الترمذي:«حسن غريب» ، وصححه ابن الجارود (712)، والحاكم (2800)، وابن دقيق العيد في الإلمام (1334)، قال الذهبي:«عبد الرحمن بن حبيب فيه لين» ، وضعف إسناده ابن الملقن في البدر المنير (8/ 82)، وحسنه بشواهده الألباني في الإرواء (1826). وفي الباب عن عبادة بن الصامت وفضالة بن عبيد وأبي ذر وأبي الدرداء وعن الحسن مرسلًا. وقد أبعد من بالغ وزعم أنه مكذوب.

ص: 700

النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ جِدّهنّ جِدٌّ، وهَزْلُهنّ جِدٌّ: النكاحُ، والطلاقُ، والرّجعةُ» .

المثال الثالث والأربعون: إذا كان الرجل حَسَن التصرف في ماله، غيرَ مبذّرٍ له، فرُفع إلى الحاكم، وشُهِدَ أنه مُبَذّر، فخاف أن يَحْجُر عليه، فقال: إن حجرت علي فعبيدي أحرارٌ، ومالي صدقةٌ على المساكين، لم يَملك القاضي أن يحجُر عليه بعد ذلك؛ لأنه إنما يحجرُ عليه صيانةً [93 أ] لماله، وفى الحجر عليه إتلاف ماله، فهو يعودُ على مقصود الحجر بالإبطال.

المثال الرابع والأربعون: يصحّ الصلح عندنا وعند أبي حنيفة ومالك على الإنكار، فإذا ادّعى عليه شيئًا فأنكره، ثم صالحه على بعضه جاز.

والشافعي لا يُصَحّح هذا الصلح؛ لأنه لم يَثُبتْ عنده شيء، فبأيّ طريقٍ يأخذ ما صالحه عليه؟ بخلاف الصلح على الإقرار، فإنه إذا أقرّ له بالدَّين أو العين، فصالحه على بعضه، كان قد وهبه، أو أبرأهُ من البعض الآخر.

والجمهور يقولون: قد دلّ الكتاب والسنة والقياسُ على صحة هذا الصلح؛ فإن الله سبحانه وتعالى ندب إلى الإصلاح بين الناس، وأخبر أن الصلح خير، وقال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]،

ص: 701

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الصلح بين المسلمين

(1)

جائز، إلا صلحًا أحلّ حرامًا أو حرّم حلالًا»

(2)

.

وأما القياس: فإن المدّعَى عليه يفتدي مُطالبتَه باليمين وإقامة البَيّنة وتوابع ذلك بشيء من ماله يبذله، ليتخلص من الدعوى ولوازمها، وذلك غرضٌ صحيح، مقصود عند العقلاء، وغاية ما يُقدّر أن يكون المدّعي كاذبًا، فهو يتخلّص من تحليفه له، وتعريضه للنكول، فيقضى عليه به، أو تُرد اليمين، بل عند الخِرَقي: لا يصحّ الصلح إلا على الإنكار، ولا يصح مع الإقرار، قال: لأنه يكون هضمًا للحق.

فإذا صالحه مع الإنكار، فخاف أن يرفعه إلى حاكمٍ يُبطلُ الصلح فالحيلة في تخليصه من ذلك: أن يصالحَ أجنبي عن المنكر على مال، ويُقرّ الأجنبيّ لهذا المدّعي بما ادعاه على غريمه، ثم يصالحه مِن دعواه على مالٍ،

(1)

في بعض النسخ: «الناس» .

(2)

رواه أحمد (2/ 366)، وأبو داود (3596) واللفظ له، وابن عدي في الكامل (6/ 68)، والدارقطني (3/ 27)، والحاكم (2309، 7058)، والبيهقي في الكبرى (6/ 63، 64)، وغيرهم عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة، وصححه ابن الجارود (638، 1001)، وابن حبان (5091)، وابن دقيق في الإلمام (1042)، قال الذهبي:«كثير ضعفه النسائي ومشاه غيره» ، وحسّن إسناده ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/ 54)، وصحّحه الألباني في الإرواء (1303). ورواه الدارقطني (3/ 27) عن عبد الله بن الحسين عن عفان عن حماد بن زيد عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة، وصححه الحاكم (2313)، وتبعه ابن دقيق العيد (1041)، وتعقبه الذهبي بقول ابن حبان في عبد الله:«يسرق الحديث» ، وبمثل ذلك أعلّه ابن القيم في التهذيب (9/ 374)، وابن الملقن في البدر المنير (6/ 686)، وابن حجر في التغليق (3/ 282). وفي الباب عن عمرو بن عوف.

ص: 702

ولا يفتقر إلى إذن المدعى عليه

(1)

، ولا وكالته له، إن كان المدّعَى دينًا؛ لأنه يقول: إن كان كاذبًا فقد استنقذته من هذه الدعوى، وذلك بمنزلة فِكاك الأسير، وإن كان صادقًا فقد قضيتُ عنه بعضَ دينه، وأبرأه المدعي من باقيه، وذلك لا يفتقر إلى إذنه.

وإن كان المدعَى عينًا لم يصحّ حتى يقول: قد وكَّلني المنكر؛ لأنه يقول: قد اشتريتُ له هذه العين المدَّعاة بالمال الذي أصالحك عليه، فإن لم يعترف أنه وكله، لم يصح.

فإن لم يعترف بوكالته فطريق الصحة: أن يصالح الأجنبي لنفسه، فيكون بمنزلة شراء العين المغصوبة، فإن اعترف بها للمدّعي باطنًا صار هو الخصمَ فيها، وإن لم يعترف بها له لم يَسَعْه أن يخاصم فيها المدّعَى عليه، ويكون اعترافه له بها ظاهرًا حيلةً على تصحيح الصلح.

وعلى هذا: فإن كان المدعى دارًا خَلّفها الميتُ لابنه وامرأته، فادَّعاها رجلٌ، فصالحاه من دعواه على مال، فإن كان صلحًا على الإنكار فالمال بينهما على ثمانية أسهم: على المرأة الثُّمُنُ، وعلى الابن سَبْعَةُ أثمان، وإن كان على الإقرار فالمال بينهما نصفان، والدار لهما نصفان.

فإذا أراد لُزُوم الصلح على الإنكار

(2)

صالح عَنهما أجنبيّ على الإقرار، فلزم الصلح، وكان المال بينهما على سبعة أثمان، وكذلك الدار؛ فإنهما لم يُقِرَّا له بالدار، وإقرار الأجنبي لا يلزمهما حكمه.

(1)

«عليه» ساقطة من م.

(2)

«على الإنكار» ساقطة من الأصل.

ص: 703

المثال الخامس والأربعون: إذا ادّعى عليه أرضًا في يده، أو دارًا، أو بستانًا، فصالحه على عشرة أذْرُعٍ أو أقَلّ أو أكثر جاز، وكذلك لو صالحه على عشرة أذرع من أرض أو دار أخرى جاز؛ لأنه يقول: قد أخذتُ بعض حَقّي وأسقطتُ البعض.

فإن خاف أن يرفَعَه إلى حاكم حنفي، لا يَرى جواز ذلك بناءً على أنه لا يجوز بيعُ ذراع، ولا عشرة من أرضٍ أو دارٍ؛ فطريق الجواز: أن يَذرَع الدار التي صالحه على هذا القدر منها، ثم ينسبه إلى المجموع، فما أخرجته النسبة أوْقَع عقد الصلح عليه، ويصح [93 ب] ذلك ويلزم.

المثال السادس والأربعون: إذا أوصى لرجل بخدمة عبده مُدّةً معينة أو ما عاش جاز ذلك، فإذا أراد الوارث أن يشتري من الموصي له خِدْمة العبد لم يصحّ؛ لأن حَقّ الموصي له إنما هو في المنافع، وبيعُ المنافع لا يجوز.

والحيلة في الجواز: أن يُصالحه الوارث من وَصِيَّته على مال معيَّن، فيجوز ذلك.

وكذلك لو أوصى له بحَمْل شاته، أو أمَتِه، أو بما يَحْمل شَجَرُه عامًا، فإذا أراد الوارث شراءه منه لم يصح، وله أن يُصالحه عليه؛ فإن الصلح وإن كان فيه شائبة من البيع فهو أوسع منه.

المثال السابع والأربعون: لو شَجّه رجلٌ، فعفا المشجوج عن الشّجّة، وما يحدث منها، ثم مات منها، لم يلزم الشاجَّ شيءٌ، ولو قال: عفوتُ عن هذه الجراحة، أو الشجّة، ولم يقل: وما يحدث منها، فكذلك في إحدى الروايتين.

ص: 704

وفى الأخرى: يضمن بقِسْطها من الدّية.

ولو قال: عفوت عن هذه الجناية، فلا شيء له في السّراية، روايةً واحدة.

وعند أبي حنيفة: له المطالبة بالدّية في ذلك كله، إلا إذا قال: عفوت عنها، وعما يحدث منها.

فالحيلة في تخلص المعفوِّ عنه: أن يشهد على المجني عليه: أنه عَفا عن هذه الجناية أو الشّجة وما يحدث منها، فيتخلص عند الجميع.

المثال الثامن والأربعون: إذا مات وتَرك زوجةً وورثة، فأرادت الزوجة أن يُصالحها الورثةُ على حَقِّها، نظرنا في التَّرِكة، وفى الذي وقع عليه الصلح.

فإن كان في التَّركة أثمانٌ ذهبٌ وفضة

(1)

، فصالَحتْهم على شيء من الأثمان لم يصح، لإفضائه إلى الربا؛ لأن صلحها بيع نصيبها منهم.

وإن صالحتْهم على عَرض أو عقارٍ، أو كان في التركة دراهم، فصالحتهم بدنانير، أو بالعكس جاز، ولا تَضُرّ جهالةُ حقها؛ لأن عقد الصلح أوسعُ من البيع كما تقدم.

فإن كان في التركة ديون لم يَصِحَّ الصلح؛ لأن بَيع الدَّين من غير الذي هو في ذِمّتِه لا يصح، ويحتمل أن يقول بصحته، كما يصح عن المجهول، وإن لم يصح بيعه

(2)

.

(1)

م، ش:«أثمانًا ذهبًا وفضةً» . والمثبت من باقي النسخ.

(2)

ح، ظ، ت:«بنفسه» .

ص: 705

فالحيلة في صلحها عن الدَّين أيضًا: أن يُعَجّل لها حِصَّتها من الدَّين، يُقِرضها الورثة ذلك، وتُوكّلهم باقتضائه، ثم تُصالحهم من الأعيان على ما اتفقوا عليه؛ لأنهم إذا أقرضوها حِصّتها

(1)

من الدَّين، ثم وَكّلَتهم بقبض حِصّتها من الدَّين، فإذا قبضوا حِصّتها من الدين فقد حصل في أيديهم من مالها من جنس ما لهم عليها فيتقاصّان، ويكون عقدُ الصلح قد وقع عن العروض والمتاع خاصة.

فإن لم تَطِبْ أنفسهم أن يُقرضوها قَدْرَ حِصّتها من الدَّين، وأحبت تعجيل الصلح، صالحتهم من حقها من المتاع والعُروض، دون الديون، وكلما قُبض من الدين شيءٌ أخذت حقها منه، فإن تعسّر ذلك، وشقّ عليها، وأحبّت الخلاص، حابَوها في الصلح من الأعيان بأكثر من حقها منها، وأقرت أن الدّين حقّ للورثة دونها، من ثمن متاعٍ باعه الميت لهم.

فإن أرادوا قسمة الدين في الذمم فالمشهور: أنه لا يصح؛ لأن الذّمم لا تتكافأ.

وفيه رواية أخرى: تجوز قسمته، وهي الصحيحة، فإنه قد تكون مصلحة الورثة والغرماء في ذلك، وتفاوُتُ الذمم لا يمنعُ القسمة؛ فإن التفاوت في المحل، والمقسومُ واحد مُتماثلٌ، وإن اختلفت محالُّه.

وإذا كان الغرماء كلهم مُوسِرين أو مُعْسِرين، أو بعضهم موسرًا، وبعضهم معسرًا، فأخذ كلٌّ من الورثة موسرًا ومعسرًا، كان هذا عَدْلًا غير ممتنع، وقد تراضوْا به، ولا وجه لبطلانه، وبالله التوفيق.

(1)

في الأصل: «حقها» .

ص: 706

المثال التاسع والأربعون: إذا كان لرجل على رجل دَين، [94 أ] فقال: تصدّق به عَنّي، ففعل، لم يَبْرأ، وكانت الصدقةُ عن المُخْرج ودَينُه باقٍ، قاله أصحابنا؛ لأنه لم يتعين، ولأنه لا يكون مُبرِئًا لنفسه بفعله.

قالوا: وطريق الصحة أن يقول: تصدّق عنى بكذا بقدر دينه، ويكون ذلك اقتراضًا منه، فإذا فعل ثبت له في ذمته ذلك القَدْرُ، وعليه له مثله، فيتقاصّان.

وكذلك لو قال له: ضارِبْ بالمالِ الذي عليك والربحُ بيننا، لم يصح.

والحيلة في صحته أن يقول: أذنتُ لك في دَفْعه إلى ابنك، أو زوجتك وديعةً، ثم وكّلتك في أخذه والمضاربة به.

والظاهر: أنه لا يحتاج إلى شيء من ذلك، ويكفي قبضه من نفسه لربّ المال، وإذا تصدق عنه بالذي قال كان على الأمر، هذا هو الصحيح، وهو تخريج لبعض أصحابنا ولا حاجة به إلى هذه الحيلة، فإذا عَيّنه بالنّية تعيَّن، وكان قابضًا من نفسه لموكله، وأيّ محذور في ذلك؟

المثال الخمسون: يجوز استئجار الأجير بطعامه وكسوته عندنا، وكذلك الدابّة بعلَفِها وكذلك المرضِعة، وهو مذهب مالك.

وقال الشافعي: لا يجوز فيهما.

وجوَّزه أبو حنيفة في الظِّئْرِ خاصة.

فإذا عقد الإجارة كذلك، ثم خاف أن يرفعه إلى حاكم يرى بُطلانها، فيُلْزِمَه بأجرة مثله:

فالحيلة في تصحيح ذلك: أن يستأجره بنقدٍ معلوم، يكون بقدرِ الطعام

ص: 707

والكسوة، ثم يُشْهد عليه أنه وَكّله في إنفاق ذلك على نفسه وكسوته، وكذلك في الدابّة.

المثال الحادي والخمسون: يجوز للمستأجر أن يُؤجِر ما استأجره للمؤجر، كما يجوز لغيره.

وأبو حنيفة يبطل هذه الإجارة.

فالحيلة في لزومها: أن يؤجِر ذلك لأجنبي غير المؤجر، ثم يؤجره إياه الأجنبيُّ.

المثال الثاني والخمسون: إذا كَفَل اثنان واحدًا، فسلّمه أحدهما، برئ الآخر، كما لو ضمنا دينًا، فقضاه أحدهما، فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم لا يرى ذلك، ويُلزم الآخر بتسليمه:

فالحيلة في خلاصه: أن يَكْفلا بهذا المكفول به، على أنه إذا دفعه أحدهما فهما جميعًا بريئان، أو يُشهدا عليهما أن كل واحد منهما وكيل صاحبه في دفع المكفول به إلى الطالب، والتبرُّؤ إليه منه، فيَبْرآن على قول الجميع.

المثال الثالث والخمسون: يصح ضمانُ المجهول، وضمان ما لم يجب عندنا، كما يصح ضمان الدّرَك، فإذا قال: ما أعطيتَ لفلان فأنا ضامنٌ له صح ولزمه.

وقال الشافعي: لا يصح.

فالحيلة في صحته لئلا يُبطل ذلك حاكمٌ يرى بطلانه: أن يقول: ما أعطيت لفلان من درهم إلى ألف؛ فأنا ضامن له.

ص: 708

فإن ضمنه اثنان وأطلقا جاز، واستويا في الغُرْم، فإن ضمناه على أن على أحدهما الثلث، وعلى الآخر الثلثين، جاز ذلك؛ لأن المال إنما يجب على كل منها بالتزامه، فإذا التزماه على هذا الوجه صحَّ.

فإن أراد أحد الضامِنَيْن أن يضمّن الآخر ما لزمه من هذا الضمان، فيصير ضامنًا، جاز ذلك أيضًا؛ لأن المال قد ثبت في ذِمّة كل واحد منهما، فإذا ضمنه أحدهما جاز، كما يجوز في الأصل.

المثال الرابع والخمسون: إذا اشترك رجلان شرِكَةَ عنان، فسافر

(1)

أحدهما بالمال بإذن شريكه، فخاف أن يموت المقيم، فيشتري بالمال بعد موته متاعًا، فيضمن؛ لأنه قد انتقل إلى الورثة، وبطلت الشركة.

فالحيلة في تخلصه من ذلك: أن يُشهد على شريكه المقيم أن حِصّته في المال الذي بينه وبينه لولده الصغار، وقد أوصى إلى شريكه بالتصرف فيه، وأمره أن يشتري لهما

(2)

ما أحب في حياته وبَعْدَ وفاته، فإن كان [94 ب] ولده كبارًا أشهد على نفسه أن هذا المال لهم، ثم يأمر ولَدُه الكبارُ هذا الشريكَ أن يعمل لهم في مالهم هذا بما يرى، ويشتري لهم ما أحب.

المثال الخامس والخمسون: إذا كان لرجلين على امرأة ألف درهم مثلًا، فتزوجها أحدهما على نصيبه في المال الذي عليها، صح النكاح، وبرئت ذمَّة المرأة من ذلك القدر، ولم يلزم الزوجَ أن يضمن لصاحبه شيئًا منه؛ لأنه لم يقبض شيئًا من نصيبه، ولم يحصل في ضمانه، فجرى مجرى إبرائها له منه.

(1)

م: «فأقر» . والمثبت من باقي النسخ.

(2)

الأصل: «لها» .

ص: 709

وبعض الفقهاء يضمّنه نصيب شريكه من المهر، ويجعله كالمقبوض؛ لأنه عاوض عليه بالبُضْع، فهو كما لو اشترى منها به سِلْعة، فإنها تكون بينهما، وهاهنا تعذّرت مشاركته في البُضْع، فيشاركه في بدله، وهو المهر، فكأنها وفّته نصيبه من الدين.

وطريق الحيلة في تخلصه من ذلك: أن يهبَ لها نصيبه مما عليها، ثم يتزوجها بعد ذلك على خمس مئة في ذمَّته، ثم تَهبَ له المرأة ما لها عليه من الصّداق؛ فإن أحد الشريكين إذا وهب نصيبه من المال المشترك لا يضمن لشريكه شيئًا؛ لأنه متبرِّع.

فإن خاف أن يهبها أو يُبرئها فتغدر به، ولا تتزوج به:

فالحيلة له

(1)

: أن يُشهد على إقرارها أنه يستحق عليها ذلك المبلغ مادامت أجنبية منه، وأنه لا يستحق على زوجته فلانة شيئًا من ذلك المال.

وأكثر ما فيه: أنه يسميها زوجة قبل العقد، فإذا تمّ العقدُ بَرِئَتْ من الدين.

فإن خاف أن لا تُبرئه من الصّداق، وتطالبه به، ويسقط حقه من المال الذي عليها:

فالحيلة له: أن يُشْهد عليها في العقد: أنه بَرِئ إليها من الصداق، وأنها لا تستحق المطالبة به.

المثال السادس والخمسون: إذا أراد أن يشتري جارية، وعرض له آخر يريد شراءها، فاستحلف أحدُهما صاحبه: أنه إن اشتراها فهي بينه وبينه نصفين، فأراد أن يشتريها وتكون له، تأوّل في يمينه: أنه إن اشتراها بنفسه

(1)

«له» ساقطة من الأصل، م.

ص: 710

فهي بينه وبينه، فإذا وكّل من يشتريها له كانت له وحده.

فإن استحلفه أنه إن ملكها فهو شريكه فيها، بطلت هذه الحيلة، فله أن يأمر مَنْ يثق به أن يشتريها لنفسه، ويؤدي عنه الثمن، ثم يُزَوّجه إياها، فإذا أراد بيعها اسْتَبرأها، ثم أمر ذلك الرجل أن يبيعها ويُرجع ثمنها إليه.

المثال السابع والخمسون: إذا كان بينهما عَرض من العُروض، فاشتراه منهما أجنبي بمائة درهم، وقبضه، ثم إن المشتري أراد أن يُصالح أحدهما من جميع الثمن على بعضه، على أن يضمن له الدّرَك من شريكه، حتى يُخَلّصه منه، أو يَرُدّ عليه جميع الثمن الذي وقع العقد عليه.

فقال القاضي: لا يجوز ذلك؛ لأن الضمان لما كان على شريكه إنما يجب بقبضه المال، وذلك لم يُوجد، فلا يكون مضمونًا عليه.

فالحيلة للمشتري: أن يكون بريئًا، وإن أدركه دَرَك من شريكه، رَجَع به على الذي صالحه أن يَحُطّ الشريكُ المصالحُ عن المشتري نصيبه كلَّه من الثمن، ثم يدفع المشتري إليه نصيب صاحبه، قضاء له

(1)

على أنه ضامنٌ لما أدْرَكه من شريكه، حتى يُخلّصه منه، أو يَرُدَّ عليه ما قَبضه منه، ويُبرئه هو من نصيبه؛ لأنه إذا أبرأه من نصيبه لم يبقَ من الدَّين إلا نصيب صاحبه، فإذا قَبضه كان مضمونًا عليه؛ لأنه قبضَ دَيْن الغير بغير أمْره.

المثال الثامن والخمسون: إذا كان عبد بين شريكين مُوسرين، فأراد كل منهما عِتْقَ نصيبه، وأن لا يَغْرَمَ لشريكه شيئًا:

فالحيلة: أن يوكِّلا رجلًا فيعتقه عنهما، ويكون [95 أ] ولاؤه بينهما.

(1)

ح، ت:«فصالحه» .

ص: 711

المثال التاسع والخمسون: إذا سأله عبده أن يُزَوّجه أمَتَه فحلف أن لا يفعل، ثم بَدَا له في تزويجه:

فالحيلة: أن يبيع العبد والأمة لمن يَثِقُ به، ثم يُزَوّجه المشتري، فإذا تم العقد أقالَه في البيع.

ولا بأسَ بمثل هذه الحيلة، فإنها لا تتضمن إبطال حقٍّ، ولا تحليلَ مُحَرَّم، وذلك غيرُ ممتنع على أصلنا؛ لأن الصفة وهي عقد النكاح قد وُجدت في حال زوال ملكه، فلا يتعلق بها حِنثٌ، ولا يحنثُ أيضًا باستدامة التزويج بعد ملكهما؛ لأن التزويج عبارة عن العقد، وقد انقضى، وإنما بقي حكمه.

ولهذا لو حلف: لا يتزوج، فاستدام التزويج، لم يحنث، وهذا بخلاف ما إذا حلف على عبده: أنه لا يدخلُ الدار، فباعه، ودخلها، ثم ملكه، فإن دخلها حَنِثَ؛ لأنه ابتدأ الدخول واليمينُ باقية، ولو دخلها في حال زوال ملكه، ثم ملكه وهو داخل فيها حَنِثَ؛ لأن الدخول عبارة عن الكَوْنِ، وذلك موجود بعد الملك الثاني، فيحنث به، كما لو كان موجودًا في الملك الأول.

وقد قال أحمد في رواية مُهَنّا في رجل قال لامرأته: أنت طالق إن رهنتِ كذا وكذا، فإذا هي قد رَهَنَته قبل يمينه، فقال: أخاف أن يكون حَنِثَ.

قال القاضي: وهذا محمول على أنه قال: إن كنتِ رهنْتِهِ، وهذا تأويل منه لكلام أحمد.

وظاهر كلامه: أنه جعل استدامة الرّهن بمنزلة ابتدائه، كالدخول.

المثال الستون: إذا كان له عليه مال، فمرض المستحق، وأراد أن يُبرئه منه، وهو يخرج من ثلثه، فخاف أن يكْتُم الورثة ماله، ويقولوا: لم يَدَعْ إلا

ص: 712

الدَّينَ الذي على هذا.

فالحيلة في خلاصه: أن يُخرِج المريض من ماله بقدر الدَّين الذي على غريمه، فيملّكه إياه، ثم يستوفيه منه، ويشهد على ذلك، وكذلك إذا أراد المريض أن يعتق عبدًا، وله مال، يُخرج من ثلثه، ويملِّكه ماله، فخاف أن يقول الورثة: لم يدع

(1)

الميت شيئًا غير هذا العبد:

فالحيلة: أن يُملّكه

(2)

من رجل يثقُ به، ويقبض الثمن، فيهبه للمشتري ثم يعتقه المشتري.

فإن كان على الميت دين، وله وفاء وفَضْل يَخرج العبدُ من ثلثه، فخاف المريضُ أن يُغَيّب الورثةُ ماله، ثم يقولوا: أعتق العبد ولا مال له غيره، فلا يجوز له ما صنع من ذلك:

فالحيلة فيه: أن يبيع العبد من نفسه، ويقبض الثمن منه، بمحضر من الشهود، ثم يهب المريض للعبد ما قبض منه في السّرّ، فيأمن حينئذٍ من اعتراض الورثة، فإن لم يكن للعبد مال يشتري به نفسه وَهَبه السيد مالًا في السرِّ، وأقْبَضه إياه، فيشتري به العبدُ نفسه من سيده.

فإن لم يُردِ السيد عتقه، وأراد بيعه من بعض ورثته بمال للوارث على المريض، ليست له به بينة:

فالحيلة في ذلك: أن يقبض وارثه ماله عليه في السرِّ، ثم يبيعه العبدُ ويُشْهد له على ذلك، ويقبض الثمن بمحضر من الشهود، فيتخلّص من

(1)

في م: «يخلف» .

(2)

م: «يبيع المريض العبد» .

ص: 713

اعتراض الورثة.

المثال الحادي والستون: إذا أوصى إلى رجل، فخاف أن لا يقبل، فقال: إن لم يقبل ففلان وصييِّ، صح ذلك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة التي لا تجوز مخالفتها، حيث عَلّق الإمارة بالشرط

(1)

، فتعليق الوصية أولى؛ لأنه يستفيد بالإمارة أكثر مما يستفيد بالوصية.

وبعض الفقهاء يبطل ذلك.

فالحيلة في ذلك: أن يُشهد المريض أنهما جميعًا وَصِيَّاه، فإن لم يقبل أحدهما، وقبِل الآخر، فالذي قَبِل منهما وصِيٌّ وحده، فإن قبِلا [95 ب] جميعًا فلكلِّ واحد منهما أن يَنْفَردَ بالتصرّف عن صاحبه؛ لأنه رَضي بتصرُّف كلِّ واحد منهما، قاله القاضي.

فإن خاف أن يمنع ذلك مَن لا يرى انفرادَ أحدهما بالتصرّف، ويقول: قد شَرّك بينهما، وجعلهما بمنزلة وَصيٍّ واحد:

فالحيلة في الجواز: أن يقول: أو صيتُ إليهما على الاجتماع والانفراد.

المثال الثاني والستون: إذا تصرّف الوصي، وباع واشترى، وأنفق على اليتيم، فللحاكم أن يُحاسبه ويسأله عن وجوه ذلك، ولا يمنعه من مُحاسبته كونُه أمينًا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم حاسب عُمّاله، كما ثبت في «صحيح البخاري»

(2)

: أنه بعث ابن اللُّتْبِيَّةِ عاملًا على الصّدقة، فلما جاء حاسبه.

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

برقم (7197) عن أبي حميد الساعدي.

ص: 714

فإن أراد الوصيّ أن يتخلص من ذلك، فالحيلة له: أن يجعل غيره هو الذي يتولى بَيْع التركة، وقَبْضَ الدَّين والإنفاق، ولا يَشْهد على نفسه بوصول شيء من ذلك إليه، فإذا سأله الحاكم قال: لم يَصِلْ إليَّ شيءٌ من التركة، ولا تَصَرّفتُ فيها، فإن كانت التركة قد بِيعَتْ بأمره وقُبض ثمنُها بأمره، وصُرِفَ بأمره، فحلّفه الحاكم إنه لم يقبض، ولم يُوَكّل مَنْ قبض وتصرف وأنفق، فإن كان مُحسنًا قد وضع التركة موضعها ولم يَخُنْ، وسعه أن يتأوّل في يمينه، وإن كان ظالمًا؛ لم ينفعه تأويله.

المثال الثالث والستون: يصحُّ وَقْفُ الإنسان على نفسه، على أصحّ الروايتين، ويجوز اشتراط النظر لنفسه، ويجوز أن يستثني الإنفاق منه على نفسه ما عاش، أو على أهله، وغيرنا يُنازعنا في ذلك، فإذا خاف من حاكم يُبطل الوقف على هذا الوجه:

فالحيلة له: أن يُمَلّكه لولده أو زَوْجته، أو أجنبيٍّ يَقِفُه عليه، ويشترط له النظر فيه، وأن تُقدّم على غيره من الموقوف عليهم بِغَلَّتِه، أو بالإنفاقِ عليه، فيصحّ حينئذٍ، ولا يبقى للاعتراض عليه سبيل.

المثال الرابع والستون: إذا اشترى جاريةً وقبضها، فوجد بها عَيْبًا، ولم يكن نَقَد ثمنها، فأراد رَدّها، فصالحه البائعُ على أن يأخذ البائع الجارية بأقل من الثمن الذي اشتراها به.

فقال القاضي: لا يجوز ذلك؛ لأن هذا في الصلح بمعنى البيع، وبيعُ المبيع من بائِعه بأقلَّ من ثمنه لا يجوز؛ لأنه ذَريعة إلى الرّبا، وهو كمسألة العِينة، فإن كان قد حدثَ بالجارية عيبٌ عند المشتري جاز ذلك؛ لأن مقدار الحَطّ يكون بإزاء العيب الذي حَدَثَ عند المشتري، فلا يؤدي إلى مسألة العِينة.

ص: 715

والحيلة في جواز ذلك، في الصورة الأولى على وجه لا يُشْبِهُ العينة: أن يُخرج الجارية من مُلْكه، فيبيعها لرجل بالثمن الذي يأخذها به البائع، فيصالح الذي في يده الجاريةُ البائع على أن يَقْبَلها بدون الثمن الذي وقعَ عليه العَقْدُ، ويجعل هذا الثمن الذي يأخذ به الجارية قضاءً عن مُشتري الجارية؛ لأن المشتري الثاني متى صالح البائع، على أن يقبل الجارية بدون الثمن الذي اشتُريت به، فهو عَقْدٌ جرى بينهما مبتدًا، من غير بناء أحدِ العقدين على الآخر، فإذا اشتراها البائعُ من هذا الثاني حصل ثمنُها في ذمَّته له، وله هو على المشتري الأول ثمنُها، فإذا طالبه البائعُ بالثمن أحاله على المشتري الأول، فيتقاصّان.

المثال الخامس والستون: الضمانُ لا يبرئ ذمة المضمون عنه بمجرَّده، حَيًّا كان المضمون عنه أو مَيِّتًا.

وفيه روايةٌ أخرى: أنه يُبرئ ذمة الميت دون الحيّ، وهو مذهب [96 أ] أبي حنيفة.

وفيه قول ثالث: أنه يبرئ ذمة الحي والميت، كالحَوالة، وهو مذهب داود.

فإذا أراد الضامن أن يكون ضمانه مُبرئًا لذمِّة المضمون عنه،

فالحيلة في ذلك أن يقول: لا أضمنُ دينَه إلا بشرط أن تبرئه منه، فمتى أبرأتَه منه فأنا ضامنٌ له.

ويصح تعليقُ الضمان بالشرط في أقوى الوجهين، فإذا أبرأه صحَّت البراءة، ولزم الدينُ الضامن وحده.

ص: 716

فإن خاف رب الدين أن يرفعه إلى حاكم لا يَرى صحة الضمان المعلق، فيُبْطل دينه من ذمَّة الأصيل بالإبراء، ولا يثبت له في ذمة الضامن:

فالحيلة: أن يكتبَ ضمانه ضمانًا مطلقًا، ويُشْهد عليه به من غير شرط، بعد إقراره ببراءة الأصل، فيحصل مقصودهما.

المثال السادس والستون: الحوالة تَنْقُل الحق من ذِمّة المُحيل إلى ذمة المُحال عليه، فلا يملك مطالبة المحيل بعد ذلك إلا في صورة واحدة، وهي: أن يشترط مَلاءة المُحال عليه فيتبين مُفْلسًا.

وعند أبي حنيفة: إذا تَوَى المالُ على المحال عليه، بأن جحده حقه، وحلف عليه، أو مات مُفلسًا، رجع على المحيل.

وعند مالك: إن ظنّ ملاءته، فبان مُفْلسًا، رجع، وإن طرأ عليه الفَلَسُ لم يكن له الرجوع.

فإذا أراد صاحب الحق التوثُّق لنفسه، وأنه إن تَوى ماله على المحال عليه رجع على المحيل:

فالحيلة له في ذلك: أن يحتالَ حوالة قبض، لا حوالة استيفاء، فيقول للمحيل: أحِلْني على غريمك أن أقبضَ لك ما عليه من الدَّين، فيُجيبه إلى ذلك، فما قبضه منه كان على مُلْك المحيل، فيأذن له في استيفائه.

فإن خاف المحيل أن يهلكَ هذا المال في يَدِ القابض، ولا يغرمه، لأنه وكيل في قبضه:

فالحيلة أن يقول له: ما قبضتُه فهو قَرْضٌ في ذمّتك، فيثبت في ذمّته نظيرُ ما لَه عليه، فيتقاصّان.

ص: 717

فالحوالة ثلاثة أنواع: حوالة قَبض محضٍ، فهي وكالة، وحوالة استيفاء، وهي التي تَنْقل الحقّ، وحوالة إقراض:

فالأولى: لا تُثبِت المقبوض في ذمة المحال، والثانية: تجعل حَقّه في ذمة المحال عليه، والثالثة: تثبت المأخوذ في ذمته بحكم الاقتراض.

المثال السابع والستون: إذا ضمِنَ الدين ضامنٌ فلمستحقّه مطالبة أيهما شاء.

وعن مالك روايتان، إحداهما: كذلك، والثانية: أنه ليس له مطالبة الضامن إلا إذا تعذّر مُطالبة الأصل.

فإن أراد الضامن أن يضمنَ على هذا الوجه، فالحيلة أن يقول: إن تعذّر مالُكَ قِبَلَهُ فأنا ضامن له.

ويصح تعليق الضمان على الشرط على الأصحّ.

فإن أراد أن يصحّح ذلك على كلّ قول، ويأمن رَفْعه إلى من يرى بطلان ذلك:

فالحيلة فيه: أن يقول: ضمنت ما يَتْوَى لك على فلانٍ، أو يَعْجِزُ عن أدائه، فيصح ذلك، ولا يتمكن من مطالبته إلا إذا توى المالُ على الأصل، أو عجز عنه.

المثال الثامن والستون: إذا بَذَتْ عليه امرأته، فقال: الطلاق يلزمني منك؛ لا تقولين لي شيئًا؛ إلا قلت لك مثله، فقالت: أنتَ طالق ثلاثًا:

فقال بعضهم: يقول لها: أنتَ طالق ثلاثًا بفتح التاء، ولا تطلق؛ لأن الخطاب لا يصلح لها.

ص: 718

وهذا ضعيف جدًّا؛ لأن قوله: أنتَ طالق؛ إما أن يعنيها به، أو يعني غيرها، فإن لم يَعْنِها لم يكن قد قال لها مثل ما قالت، بل يكون القولُ لغيرها، فلا يَبرُّ به؛ وإن عَنَاها به طلقت للمواجهة، وفتح التاء لا يمنع صحة الخطاب، والمعنى: أنتَ أيها الشخصُ أو الإنسان!

ثم يقول هذا القائل إذا قالت له: فعل الله بك كذا، فقال لها: فعل الله بك وفتح الكاف، هل يكون بارًّا في يمينه بذلك؟

فإن قال: لا يَبَرّ، لزمه مثله في الطلاق.

وإن قال: يبرُّ، كان قائلًا لها ذلك، فيكون مطلّقًا لها.

وأجود من هذا: [96 ب] أن يكون قوله على التراخِي، ما لم يُقَيّده بالفَوْر، بلفظه أو نيّته.

وقالت طائفة: يقول لها: أنت طالق ثلاثًا، إن لم أفعل كذا وكذا، وإن فعلتِ، لما لا تَقْدرُ هي عليه، فيكون قد قال لها مثل ما قالت، وزاد عليه.

وفى هذا ضعف لا يخفى؛ لأن هذه الزيادة تنقص الكلام، فهي زيادةٌ في اللفظ ونُقصان في المعنى، فإنه إذا علّق الطلاق بشرط خرج من التّنْجيز إلى التعليق، وصار كله كلامًا واحدًا، وهي لم تُعلّق كلامها، وإنما نَجَّزته، فالمماثلة تقتضي تنجيزًا مثله.

وأجود من هذا كله أن يقال: لا يدخل هذا الكلام الذي صدر منها في يمينه؛ لأنه لم يُرده قطعًا، ولا خطر بباله، فيمينهُ لم يتناوله، فهو غير محلوف عليه بلا شك، واللفظ العام يختص بالنية والعُرْف، والعرف في مثل هذا لا يدخل فيه قولها له ذلك، والأيمان يُرجَع فيها إلى العرف والنية والسبب،

ص: 719

وهذا مُطّرِدٌ ظاهر على أصول مالك وأحمد، في اعتبارهم عرفَ الحالف ونيّته وسببَ يمينه، والله أعلم.

المثال التاسع والستون: يجوز أن يستأجر الشاةَ والبقرة ونحوهما مُدّة معلومةً لِلَبَنِهَا، ويجوز أن يستأجرها لذلك بعَلَفِها وبدراهم مُسَمّاة، والعلفُ عليه، هذا مذهب مالك، وخالفه الباقون.

وقوله هو الصحيح، واختاره شيخنا رحمه الله؛ لأن الحاجة تدعو إليه، ولأنه كاستئجار الظِّئْرِ للبنها مدة، ولأن اللبن وإن كان عينًا فهو كالمنافع في استخلافه وحدوثه شيئًا بعد شيء، ولأن إجارة الأرض لما يَنْبت فيها من الكلأ والشوك

(1)

جائزة، وهو عينٌ، ولأن اللبن حصلَ بعلفه وخِدمته، فهو كحصول المُغَلِّ بِبذْرِه وخدمته، ولا فرق بينهما، فإن تولُّد اللبن من العلف كتولُّد المُغَلِّ من البَذر، فهذا من أصح القياس.

وأيضًا فإنه يجوز أن يقفها، فينتفعَ الموقوف عليها بلبنها، وحق الواقف إنما هو في منفعة الموقوف مع بقاء عَيْنه.

وأيضًا فإنه يجوز أن يمنحها غيره مُدّة معلومة لأجل لبنها، وهي باقيةٌ على ملك المانح، فتجري منيحتها مَجْرى إعارتها، والعارية إباحةُ المنافع، فإذا كان اللبن يجري مجرى المنفعة في الوقف والعارية جرَى مجراها في الإجارة.

وأيضًا فإن الله سبحانه وتعالى قال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فسمى ما تأخُذه المُرْضعة في مقابلة اللبن أجرًا، ولم يُسَمّها ثمنًا.

(1)

«والشوك» ساقطة من م. والمثبت من ح، ت.

ص: 720

وأيضًا فيجوز أن يستأجر بئرًا مدةً معلومة لمائها، والماء لم يَحْصُل بعمله، فَلأنْ يجوز استئجار الشاة للبنها الحاصل بعلفه والقيام عليها أوْلَى.

وأيضًا فإنه يجوز أن يستأجر بِرْكَةً يُعشش فيها السمك لأجله، فهذا أولى بالجواز؛ لأنه معلوم بالعُرْف، وهو حاصل بعلفه والقيام على الحيوان.

وقياسُ المنع على تحريم بيع اللبن في الضّرْع قياسٌ فاسدٌ؛ فإن ذلك بيع مجهول لا يُعرف قدرُه، وما يَتَحَصّل منه، وهو بيع معدوم، فلا يجوز، والإجارة أوْسع من البيع ولهذا يجوزُ على المنافع المعدومة المستخلفة شيئًا بعد شيء، فاللبنُ في ذلك كالمنفعة سواءً، وإن كان عينًا، فهذا القول هو الصحيح.

فإن خاف أن يَرْفَعَه إلى حاكم يُبطل هذا العقد:

فالحيلة في لزومه: أن يُؤجِره الحيوان مُدة بدراهم مُسَمَّاة، ثم يأذن له في عَلَفه بها، ويُبيحَه اللبن.

وهذه الحيلة تتأتى في إجارة البقرة، والناقة، والجاموس؛ إذ يمكن الحرثُ عليها وركوبُها، وأما الشاة فلا يراد منها إلا الدّرّ والنّسْل، فلا تتهيأ الإجارة على منفعتها:

فالطريق في ذلك: أن يستأجرها لرضاع سَخْلَة له مُدّة معلومة، ويُوَكله في النفقة عليها بأجرتها، أو ببعضها، ويُبيحه اللبن.

المثال [97 أ] السبعون: إذا دفع إليه ثوبه، وقال: بِعْهُ بعشرة، فما زاد فَلَك:

ص: 721

فنصَّ أحمد على صحته، تبعًا لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما

(1)

، ووافقه إسحاق، ومنعه أكثرهم.

ووجه الخلاف: أن في هذا العقد شائبة الوكالة والإجارة والمضاربة، فمن رَجّح جانب الوكالة صَحّح العقد، ومن رجح جانب الإجارة أو المضاربة أبطله؛ لأن الأجرة والربح الذي جُعل له مجهول.

والصحيح الجواز؛ لأن العَشَرَة تَجْري مجرى رأس المال في المضاربة، وما زاد فهو كالربح، فإذا جعله كلّه له كان بمنزلة الإبضاع، إذا دَفع إليه مالًا يُضارب به، وقال: ما رَبِحْتَ فهو لك، فليس العقدُ من باب الإجارات، بل هو بالمشاركات أشبه.

فإن خاف أن يَرْفعه إلى حاكم يرى بطلانه:

فالحيلة في ذلك: أن يقول: وكَّلتك في بيعه بعشرة، فإن بِعْته بأكثر فلا حقّ لى في الزيادة، فيصح هذا، وتكون الزيادة للوكيل.

المثال الحادي والسبعون: قال الإمام أحمد رضي الله عنه في رواية مُهنَّا: لا بأس أن يحْصُد الزّرْعَ ويصرم النّخْلَ بسُدُس ما يخرجُ منه، وهو أحب إلي من المقاطعة.

يعني: أن يقاطعه على كيل مُعَيَّن، أو دراهم أو عروض.

(1)

علَّقه البخاري عنه بصيغة الجزم في كتاب الإجارة: باب أجر السمسرة. ووصله عبد الرزاق (8/ 234) وأبو عبيد في غريب الحديث (4/ 232) ــ ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (6/ 121) ــ وابن أبي شيبة (4/ 302) عن هشيم حدثنا عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس.

ص: 722

ولذلك نص في رواية الأثرم وغيره، في رجل دفع دابته إلى آخر ليعمل عليها، وما رَزَق الله بينهما نصفين: أن ذلك جائز.

وقال أحمد أيضًا: لا بأس بالثوب يُدْفع بالثلث والرّبع، لحديث جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خَيْبَر على الشّطر

(1)

.

ونقل عنه أبو داود فيمن يعطي فَرسه على النّصف من الغَنيمة: أرجو أن لا يكون به بأس.

وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم: إذا كان على النصف والربع؛ فهو جائز.

ونقل عنه أحمد بن سعيد، فيمن دفع عبده إلى رجل ليكتسب عليه، ويكون له ثُلث الكسب، أو رُبعه: أنه جائز.

ونقل عنه حَرْبٌ فيمن دفع ثوبًا إلى خَيّاط ليُفَصّله قمصانًا ويبيعها، وله نصفُ ربحها بحقّ عمله، فهو جائز.

ونَصّ في رجل دفع غَزْله إلى رجل يَنْسِجُه ثوبًا بثُلثِ ثَمنه أو ربعه: أنه جائز.

وقال في «المغني»

(2)

: وعلى قياس قول أحمد يجوز أن يُعْطَى الطحّانُ أقْفِزَةً معلومة يطحنها بقفيز دقيق منها.

وحُكِي عن ابن عقيل المنع منه، واحتج بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قَفيزِ الطّحان

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري (2329)، ومسلم (2551) عن ابن عمر.

(2)

المغني (7/ 118).

(3)

رواه أبو يعلى (1024)، والطحاوي في شرح المشكل (2/ 187)، والدارقطني (3/ 47) ــ ومن طريقه البيهقي في الكبرى (5/ 339) ــ عن الثوري عن هشام أبي كليب عن ابن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري قال: نُهِي عن قفيز الطحان، وفي إسناده اختلاف، فقيل: عن عطاء بن السائب عن ابن أبي نعم عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: عن عطاء عن ابن أبي نعم مرسلا، وقيل: عن عطاء عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وضعفه ابن قدامة في المغني (5/ 119)، وقال ابن تيمية كما في المجموع (30/ 113): «هذا الحديث باطل لا أصل له

ليس من كلام النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنّما هو من كلام بعض العراقيّين»، وقال الذهبي في الميزان (7/ 90):«هذا منكر، وراويه لا يعرف» ، وقال ابن القيم فيما يأتي:«لا يصحّ» ، وقال البوصيري في إتحاف الخيرة (3/ 330):«مداره على عبد الرحمن الإفريقي وهو ضعيف» ، وقال ابن حجر في الدراية (2/ 190):«في إسناده ضعف» ، وحسّنه بعضهم، وصححه الألباني في الإرواء (1476).

ص: 723

قال الشيخ

(1)

وهذا الحديث لا نعرفه، ولا يثبت عندنا صحّته. وقياس قول أحمد: جوازه، لما ذكرنا عنه من المسائل.

وكذلك لو دفع شَبكَته إلى صَيّاد ليصيد بها، والسمكُ بينهما نصفين.

قال في «المغني»

(2)

: فقياس قول أحمد صحة ذلك، والسمكُ بينهما شَرِكة.

وقال ابن عَقيل: السمك للصائد، ولصاحب الشبكة أجرة مثلها.

ولو كان له على رجلٍ مالٌ، فقال لرجل: اقْبِضْه منه، ولك رُبُعه، أو ثلثه، أو قال: إن قبضته

(3)

منه فلك منه الربعُ أو الثلث، فهو جائز.

(1)

أي ابن قدامة في المغني (7/ 118).

(2)

(7/ 118).

(3)

ت، ظ:«أو ما اقتصته» .

ص: 724

وكذلك لو غُصِبَتْ منه عَيْنٌ، فقال لرجل: خَلّصها لي، ولك نصفُها، جاز أيضًا.

ولو غرق متاعه في البحر، فقال لرجل: ما خَلّصتَه منه فلك نصفُه أو ربعه، جاز.

ولو أبَقَ عبده، فقال لرجل أو قال: من رَدّه عليّ فله فيه نصفه أو ربعه، أو شَرَدَتْ دابَّته، فقال ذلك؛ صحّ ذلك كله.

قلت: وكذلك يجوز أن يقولَ له: انفُضْ لي هذا الزيتون بالسدُس، أو الربع، أو اعْصره بالثلث أو الربع، أو اكسر هذا الحَطَب بالربع، أو اخْبزْ هذا العجين بالربع، وما أشبه ذلك، فكل هذا جائز على نُصوصه وأصوله، وهو أحب إليه من المقاطعة في بعض الصور.

ولم يُجِز الشافعي وأبو حنيفة شيئًا من ذلك.

وأما مالك فقال أصحابه عنه: إذا قال: احصُدْ زَرْعي ولك نصفُه فذلك جائز، وإن قال: احْصُد اليوم، فما حصدتَ فلك نصفُه، لم يجز عند ابن القاسم.

[97 ب] وفى «العُتبية» : أنه يجوز.

فإن قال: الْقُطْ زَيْتوني، فما لَقَطْتَ فلك نصفه، فهو جائز عند ابن القاسم، وروى سُحْنون أنه لا يجوز.

ولو قال: انفُضْ زيتوني، فما نقضتَ فلك نصفه، لم يجز عند ابن القاسم، وأجازه عبد الملك بن حبيب.

ص: 725

فإن قال: اقْبض لي المئة دينار التي على فلان، ولك عُشرها، جاز عند ابن القاسم وابن وَهْبٍ، وعند أَشْهَب: لا يجوز.

فلو قال: اقبض ديني الذي على فلان، ولك من كل عَشرة واحد، ولم يبيّن قَدْر الدَّين، لم يَجُزْ عند ابن وَهْب، وأجازه ابن القاسم وأصبغُ.

والذين منعوا الجواز في ذلك جعلوه إجارة، والأجر فيها مجهول.

والصحيح: أن هذا ليس من باب الإجارات، بل من باب المشاركات، وقد نص أحمد على ذلك.

فاحتجَّ على جواز دفع الثوب بالثلث والربع بحديث خَيْبَرَ

(1)

، وقد دَلّت السنّة على جواز ذلك، كما في «المسند» و «السنن»

(2)

عن رُويفع بن ثابت، قال: إن كان أحدُنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليَأخُذُ نِضْوَ أخيه على أن له النّصف مما يَغْنَم ولنا النصف، وإن كان أحدُنا ليطير له النّصْلُ والريشُ وللآخر القِدْح.

وأصل هذا كله: أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع أرض خيبر إلى اليهود، يَعْملونها بشَطْر ما يخرج منها من ثمرٍ أو زرع.

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

مسند أحمد (4/ 108)، سنن أبي داود (36)، ورواه أيضًا ابن عبد الحكم في فتوح مصر (ص 72، 307)، والطبراني في الكبير (5/ 28)، والخطابي في غريب الحديث (2/ 169) والبيهقي في الكبرى (1/ 110) كلاهما من طريق أبي داود، وفي إسناده اختلاف، وحسنه النووي في المجموع (2/ 116)، وصحّح متنه ابن مفلح في الآداب الشرعية (3/ 141)، وهو في صحيح سنن أبي داود (27).

ص: 726

وأجمع المسلمون على جواز المضاربة، وأنها دفع ماله لمن يعمل عليه بجُزْءٍ من ربحه، فكلّ عينٍ تَنمي فائدتها من العمل عليها جاز لصاحبها دفعها لمن يعمل بجزء من ربحها.

فهذا محضُ القياس، وموجَب الأدلّة، وليس مع المانعين حُجّةٌ سوى ظنهم أن هذا من باب الإجارات بعوضٍ مجهول، وبهذا أبطلوا المساقاة والمزارعة.

واستثنى قومٌ بعض صورها، وقالوا: المضاربة على خلاف القياس، لظنّهم أنها إجارة بعوضٍ لا يُعْلم قَدْره.

وأحمدُ رحمه الله عنده هذا الباب كله أطيبُ وأحلّ من المؤاجرة؛ لأنه في الإجارة يحصل المؤجر على سلامةِ العوض قطعًا، والمستأجر مُتردِّدٌ بين سلامة العوض وهلاكه، فهو على خَطَرٍ.

وقاعدةُ العدل في المعاوضات: أن يستوي المتعاقدان في الرّجاء والخوف، وهذا حاصل في المزارعة، والمساقاة، والمضاربة، وسائر هذه الصور الملحقة بذلك؛ فإن المنفعة إن سَلِمتْ سَلِمتْ لهما، وإن تَلِفتْ تَلِفتْ عليهما، وهذا من أحسن العدل.

واحتج المتأخّرون من المانعين بحديث أبي سعيد الذي رواه الدارقطني

(1)

: نُهي عن قفِيز الطحان، وهذا الحديث لا يصح.

وسمعتُ شيخ الإسلام رحمه الله يقول: «هو موضوع»

(2)

.

(1)

سنن الدارقطني (3/ 47). وقد تقدم تخريجه.

(2)

وحكم عليه بالوضع في منهاج السنة (7/ 311).

ص: 727

وحمله بعضُ أصحابنا على أن المنهي عنه طحن الصُّبرة لا يُعلم كَيْلُها بقَفِيز منها؛ لأن ما عداه مجهول، فهو كبيعها إلا قَفيزًا منها، فأما إذا كانت معلومة القُفْزانِ، فقال: اطحن هذه العشرة بقفيزٍ منها صح حَبًّا ودَقيقًا: أما إذا كان حَبًّا فقد استأجره على طحنِ تسعة أقفزةٍ بقفيز حِنْطة، وأما إذا كان دقيقًا فقد شاركه في ذلك على أن العُشُرَ للعامل وتسعةَ الأعشار للآخر، فيصير شريكه بالجزء المسمى.

فإن قيل: فالشركة عندكم لا تصح بالعُروض.

قيل: بل أصح الروايتين صحّتُها.

وإن قلنا بالرواية الأخرى فإلحاق هذه بالمساقاة والمزارعة أوْلَى منها بإلحاقها بالمضاربة على العروض؛ لأن المضاربة بالعُروض تتضمن التجارة والتصرّف في رِقْبَة المال بإبداله بغيره، بخلاف هذا.

فإن قيل: دَفْعُ حَبِّهِ إلى مَنْ يطحنه بجزء منه مطحونًا، أو غَزْله إلى من يَنْسِجُه بجزء منه منسوجًا، يتضمنُ محذورين:

أحدهما: أن يكون طحنُ قَدْرِ الأجرة ونسجُه مستحقًّا على العامل بحكم الإجارة، ومستَحقًّا له بحكم كونه أجرة، وذلك [98 أ] تناقض؛ فإن كونه مستحقًّا عليه يقتضي مطالبة المستأجر به، وكونه مستحقًّا له يقتضي مطالبته للمؤجر به.

الثاني: أن يكون بعض المعقود عليه هو العوضَ نفسه، وذلك ممتنع.

قيل: إنما نشأ هذا من ظَنِّ كونه إجارةً، وقد بَيّنا أنه مشاركة لا إجارة، ولو سُلّم أنه من باب المؤاجرة فلا تناقض في ذلك؛ فإن جهة الاستحقاق مختلفة، فإنه يستحق له بغير الجهة التي يستحق بها عليه، فأي محذورٍ في ذلك؟

ص: 728

وأما كون بعض المعقود عليه يكون عِوضًا: فهو إنما عقد على عمله فالمعقود عليه العمل، والنفع بجزء من العين، وهذا أمر مُتَصوَّرٌ شرعًا وحِسًا.

فظهر أن صحة هذا الباب هي مقتضى النص والقياس، وبالله التوفيق.

وعلى هذا: فلا يُحتاج إلى حيلةٍ لتصحيح ذلك إلا إذا خيف غَدْرُ أحدهما، وإبطالُه للعقد، والرجوعُ إلى أجرة المِثْلِ.

فالحيلة في التخلص من ذلك: أن يدفعَ إليه ربع الغَزْل والحب أو نصفه، ويقول: انسْجْ لي باقيَهُ بهذا القدر، فيصيران شريكين في الغَزْل والحب، فإذا تشاركا فيه بعد ذلك صح، وكان بينهما على قدر ما شرطاه.

والعجب أن المانعين جَوَّزوا ذلك على هذا الوجه، وجعلوه مشاركة لا مؤاجرة، فَهلّا أجازوه من أصله كذلك؟ وهل الاعتبار في العقود إلا بمقاصدها وحقائقها، دون صُوَرها وألفاظها؟ وبالله التوفيق.

المثال الثاني والسبعون: إذا كان لرجل على رجل دينٌ، فتوارَى عن غريمه، وله هو دينٌ على آخر، فأراد الغريم أن يقبض دينه من الدين الذي له على ذلك، لم يكن له ذلك إلا بحوالة أو وكالة، وقد توارَى عنه غريمه، فتعذّر عليه الحوالة والوكالة.

فالحيلة له في اقتضاء دينه من ذلك: أن يوكّله، فيقول: وكَّلتك في اقتضاء ديني الذي على فلان، وبالخصومة فيه، ووكلتك أن تجعلَ ما له عليك قصاصًا مما لي عليه، وأجزتُ أمرك في ذلك، فيقبل الوكيل، ويُشهد عليه شهودًا، ثم يُشهد الوكيلُ أولئك الشهودَ، أو غيرهم: أن فلانًا وكلني

ص: 729

بقبض ما لَهُ على فلان، وأن أجعله قصاصًا بما لفلان عليّ، وأجاز أمري في ذلك، وقد قبلتُ من فلان ما جعل إليّ من ذلك، واشْهدُوا أن قد جعلت الألف درهم التي لفلان عليّ قصاصًا بالألف التي لفلانٍ موكلي عليه، فتصير الألف قصاصًا، ويتحول ما كان للرجل المتواري على هذا الوكيل: للرجل الذي وكّله.

المثال الثالث والسبعون: إذا كان لرجل على رجل مالٌ، فغاب الذي عليه المال، وأراد الرجلُ أن يُثْبت ما لَه عليه، حتى يحكم الحاكمُ عليه وهو غائب، جاز للحاكم أن يحكمَ عليه في حال غَيْبَته مع بقائه على حُجّته، في أصح المذهبين، وهو قول أحمد في الصحيح عنه، ومالك، والشافعي.

وعند أبي حنيفة: لا يجوز الحكم على الغائب.

فإذا لم يكن في الناحية إلا حاكم يَرى هذا القول، ويَخْشَى صاحبُ الحق من ضياع حَقّه:

فالحيلة: أن يجيء رجل، فيضمن لهذا الرجل الذي له المال جميعَ ما لَهُ على الرجل الغائب، ويُسميه ويَنْسبه، ويشهد على ذلك، ثم يُقدّمه إلى القاضي، فيُقرّ الضامن بالضمان، ويقول: قد ضمنت له ما لَهُ على فلان بن فلان، ولا أدري كم له عليه؟ ولا أدري: له عليه مال أم لا؟ فإن القاضي يُكلّفُ المضمون له أن يُحْضر بَيِّنَتَه على ذلك بما لَهُ على فلان، فإذا أحضر البينة؛ قَبِلَها القاضي بمحضرٍ من هذا الضمين، وحكم على الغائب، وعلى هذا الضامن بالمال بموجَب ضمانه، ويجعل القاضي هذا الضمين بالمال خصمًا على الغائب؛ لأنه قد ضمن ما عليه.

ص: 730

ولا يجوز الحكم على هذا الضمين حتى يحكم على المضمون عنه، ثم يحكم بذلك على الضمين؛ لأنه فَرْعه، فما لم يثبت المال على الأصل لا يثبتُ على الفَرْع.

[98 ب] المثال الرابع والسبعون: إذا غصبه متاعًا له، ويقول له في السرّ: بِعْنيه، ويجْحَده في العلانية، ويريد تخليص مالِهِ منه.

فالحيلة له: أن يبيعه ممّن يثقُ به، ويُشهد له على ذلك بيّنة عادلة، ثم يبيعه بعد ذلك من الغاصب، ويكون بين البيعين من المدّة ما يَعْرِفه الشهود، ليُوَقتوا بذلك عند الأداء، فإذا أشْهَدَ للغاصب بالبيع في الوقت المعين جاء الذي باع منه المغصوب قَبْله ببينته، فيُحكم له لسَبق بَيِّنَتِهِ، فيرجع الغاصب على المغصوب منه بالثمن الذي دفعه إليه، ويُسِلّم العين للمغصوب منه.

وكذلك لو أقرّ بها المغصوب منه لرجل يثِقُ به، ثم باعها بعد ذلك للغاصب، ثم جاء المقِرّ له، فأقام بينة على الإقرار السابق.

فإن قيل: فلو خاف الغاصب من هذه الحيلة، وقال للمغصوب منه: لستُ أبتاع منك هذه السلعة خَشْية هذا الصنيع، ولكن آمُرُ من يبتاعها منك لي، فأراد المغصوب منه حيلةً يَرجع إليه بها سلعته:

فالحيلة: أن يبيعها أولًا ممّنْ يثق به، ولا يكتب في كتاب التبايع قَبْضَهُ، ثمّ يبيعها بعد ذلك من الرجل الذي يريد شراءها للغاصب، ويكتب في هذا الشراء الثاني قَبض المشتري، فإنه إذا أقرّ وكيل الغاصب بقبض العين من المغصوب منه، ثم جاء الرجلُ الذي كتب له المغصوب منه الشراء، كان أولى بها من وكيل الغاصب؛ لأن وقت شرائه أقدمُ، وإقراره بقبضها وتسليمها إلى الرجل المشتري لها أوّلًا أولى، ويرجع وكيل الغاصب على

ص: 731