الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 109 ـ 111]، فأخبر سبحانه أنه جزاهم على صبرهم، كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20].
قال الزَّجَّاج
(1)
: أي: أتصبرون على البلاء؟ فقد عرفتم ما وجد الصابرون.
قلت: قَرَنَ الله سبحانه الفتنةَ بالصبر هاهنا، وفى قوله:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} [النحل: 110]، فليس لمن قد فُتن بفتنةٍ دواءٌ مثل الصبر، فإن صبر كانت الفتنة مُمَحِّصةً له، ومُخلّصة من الذنوب، كما يُخلّص الكيرُ خَبَثَ الذهب والفضة.
فالفتنةُ كِيْر القلوب، ومَحَكّ الإيمان، وبها يَتبيّن الصادق من الكاذب.
قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3].
فالفتنةُ قَسَمت الناس إلى صادقٍ وكاذبٍ، ومؤمن ومنافق، وطيبٍ وخبيثٍ، فمن صبر عليها كانت رحمةً في حَقِّه، ونجا بصبره من فتنةٍ أعظم منها، ومن لم يَصْبر عليها وقع في فتنةٍ أشدّ منها.
ف
الفتنة لا بدّ منها في الدنيا والآخرة
، كما قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ
(1)
معاني القرآن (4/ 63).
يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات: 13، 14]، فالنار فتنةُ مَنْ لم يصبر على فتنة الدنيا، قال تعالى في شجرة الزقوم:{إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات: 63].
قال قتادة
(1)
: لمَّا ذكر الله تعالى هذه الشجرة افتتنَ بها الظَّلمةُ، فقالوا: يكون في النار شجرةٌ والنار تأكل الشجر؟ فأنزل الله عز وجل: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 64]، فأخبرهم أن غِذاءها من النار، أي: غُذَيِت بالنار.
قال ابن قتيبة
(2)
: قد تكون شجرةُ الزقوم نبتًا من النار، ومن جَوْهرٍ لا تأكله النار، وكذلك سلاسل النار وأغلالها وأنكالها، وعقاربها وحيّاتها، ولو كانت على ما نعلم لم تَبْقَ على النار، وإنما دلَّنا الله على الغائب عنده بالحاضر عندنا، فالأسماءُ مُتفقةٌ للدّلالة، والمعاني مختلفةٌ، وما في الجنة من ثمرها وفُرُشها وشجرها وجميع آلاتها على مثل ذلك.
والمقصود أن هذه الشجرة فتنةٌ لهم في الدنيا بتكذيبهم بها، وفتنة لهم في الآخرة بأكلهم منها.
وكذلك إخباره سبحانه بأن عِدّة الملائكة الموكّلين بالنار تسعة عشر كان فتنةً للكفار، حيث قال عدوّ الله أبو جهل
(3)
عليه لعنة الله: أيُخَوّفكم
(1)
رواه الطبري في تفسيره (17/ 486، 21/ 52)، وعزاه في الدر المنثور (7/ 95) لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(2)
تأويل مشكل القرآن (ص 70).
(3)
رواه الطبري في تفسيره (24/ 28) من طريق عطية العوفي عن ابن عباس بنحوه، ورواه عبد الرزاق في تفسيره (3/ 329) والطبري (24/ 28، 29) عن قتادة بمعناه مرسلًا.
محمدٌ بتسعة عشر، وأنتم الدُّهْمُ؟ أفيعجز كل مئةٍ منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم تخرجون من النار؟ فقال أبو الأشُدَّينِ
(1)
لعنه الله: يا معشر قريش! إذا كان يوم القيامة فأنا أمشي بين أيديكم على الصراط، فأدفع عشرة بمَنكبي الأيمن، وتسعة بمنكبي الأيسر في النار، ونمضي فندخل الجنة.
فكان ذكرُ هذا العدد فتنةً لهم في الدنيا، وفتنةً لهم يوم القيامة.
والكافرُ مفتونٌ بالمؤمن في الدنيا، كما أن المؤمن مفتون به، ولهذا سأل المؤمنون ربّهم أن لا يجعلهم فتنةً للذين كفروا، كما قال الحنفاء:{رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة: 4، 5]، وقال أصحاب موسى:{فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس: 85].
قال مجاهد
(2)
: المعنى: لا تعذِّبنا بأيديهم، ولا بعذابٍ من عندك، فيقولوا لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم هذا.
(1)
عزاه في الدر المنثور (8/ 333) لابن أبي حاتم عن السدي بنحوه.
(2)
أقوال المفسرين في البسيط للواحدي (21/ 411)، وقول مجاهد علّقه البخاري عنه بصيغة الجزم في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة الممتحنة، وهو موصول عند الحربي في غريب الحديث (3/ 939) والطبري في تفسيره (15/ 169، 170، 23/ 319، 320) وابن أبي حاتم في تفسيره (10522) من طرق عن مجاهد، وعزاه في الدر المنثور (4/ 382، 8/ 129) لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ.
وقال الزَّجاج
(1)
: معناه: لا تُظهرهم علينا، فيظنوا أنهم على حقٍّ، فيفتتنوا بذلك.
وقال الفرّاء
(2)
: لا تُظهر علينا الكفار، فيَرَوْا أنهم على حقٍّ وأنا على باطل.
[128 ب] وقال مقاتل
(3)
: لا تُقَتِّرْ علينا الرزق وتبسطه عليهم، فيكون ذلك فتنةً لهم.
وقد أخبر الله سبحانه أنه قد فَتن كلًا من الفريقين بالفريق الآخر، فقال:{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} ، وقال تعالى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53].
والمقصود أنه سبحانه فَتَنَ أصحاب الشهوات بالصور الجميلة، وفتن أولئك بهم، فكلٌّ من النوعين فتنةٌ للآخر، فمن صبر منهم على تلك الفتنة نجا مما هو أعظم منها، ومن أصابته تلك الفتنةُ سقط فيما هو شرّ منها، فإن تدارك ذلك بالتوبة النصوح، وإلا فبسبيل مَنْ هلك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما تركتُ بعدي فتنةً أضرّ من النساءِ على الرجال»
(4)
أو كما قال.
فالعبدُ في هذه الدار مفتونٌ بشهواته، ونفسه الأمّارة، وشيطانه المُغوِي المزَيِّن، وقُرنائه، وما يراه ويشاهده مما يعجز صبره عنه، ويتفق مع ذلك
(1)
معاني القرآن له (5/ 157).
(2)
معاني القرآن (3/ 150).
(3)
تفسير مقاتل (3/ 350). وفيه: فيكون ذلك فتنة لنا.
(4)
أخرجه البخاري (5096)، ومسلم (2740) عن أسامة بن زيد.