الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المغصوب منه بالثمن الذي دفعه إليه.
المثال الخامس والسبعون: إذا أقرضه مالًا وأجَّله لزم تأجيله على أصح المذهبين
، وهو مذهب مالك، وقولٌ في مذهب أحمد.
والمنصوص عنه: أنه لا يتأجل، كما هو قول الشافعي، وأبي حنيفة.
ويدل على التأجيل قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3]، وقوله:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«المسلمون عند شُروطهم»
(1)
، وقوله:«آية المنافق ثلاثٌ: إذا حدّث كذَبَ، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف»
(2)
، وقوله:«يُنْصَبُ لكلِّ غادر لواءٌ عند اسْتهِ يومَ القيامة بقدر غَدْرَته»
(3)
، وقوله:«لا تغدروا»
(4)
، وقوله:«إن الغدر لا يصلح»
(5)
، وقوله في صفة المنافق:«إذا وعد أخلف» ، وإخلاف الوعد مما فطر الله العباد على ذَمّه واستقباحه، وما رآه المؤمنون قبيحًا فهو عند الله قبيح.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري (33)، ومسلم (59) عن أبي هريرة.
(3)
أخرجه البخاري (711)، ومسلم (1735) عن ابن عمر.
(4)
أخرجه مسلم (1731) عن بريدة.
(5)
لم أقف عليه بهذا اللفظ، وروى الطبري في تاريخه (2/ 124 - 125) من طريق محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، فذكر قصة الحديبية، وفيها قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير:«ولا يصلح لنا في ديننا الغدر» . وانظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 292).
وعلى هذا: فلا حاجة إلى التحيُّل على لزوم التأجيل.
وعلى القول الأخر: قد يُحتاج إلى حيلة يلزم بها التأجيل.
فالحيلة فيه: أن يُحيل المستقرضُ صاحب المال بماله إلى سنةٍ أو نحوها، بقدر مدة التأجيل، فيكون المال على المحال عليه إلى ذلك الأجل، ولا يكون للطالب ولا لورثته على المستقرض سبيل، ولا على المحال عليه إلى الأجل؛ فإن الحوالة تنقُلُ الحقّ.
ولو أحال المحالُ عليه صاحبَ المال على رجل آخر إلى ذلك الأجل جازت الحوالة، فإن مات المحال عليه الأول لم يكن لصاحب المال على تَرِكَتِه سبيل، ولا على المحال عليه الثاني.
المثال السادس والسبعون: إذا رَهَنه دارًا أو سِلعة على دَين، وليس عنده من يشهد له على قَدْر الدَّين ويكتبه، فالقول قول المرتهن في قدره، ما لم يَدَّع أكثر من قيمته، هذا قول مالك.
وقال الشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد: القولُ قولُ الراهن.
وقول مالك هو الراجح، وهو اختيار شيخنا رحمه الله؛ لأن الله سبحانه جعل الرهن بدلًا من الكتاب، يشهدُ بقدر الحق، والشهود التي تشهد به، وقائمًا مقامه، فلو لم يُقبل قول المرتهن في ذلك بطلت التَّوْثِقَةُ من الرّهن، وادَّعى المرتهن أنه رهَن على أقل شيء، فلم يكن في الرهن فائدة، والله سبحانه [99 أ] قد قال في آية المُداينة التي أرشد بها عباده إلى حفظ حقوق بعضهم على بعض خشية ضياعها بالجحود أو النسيان، فأرشدهم إلى حفظها بالكتاب، وأكَّد ذلك بأن أمرَهَم بكتابة الدَّين، وأمر الكاتب أن يكتب، ثم أكد ذلك بأن نهاه أن يأبى أن يكتب، ثم أعاد الأمر بأن يكتب مرة أخرى،
وأمر مَن عليه الحق أن يُملِلَ، ويتقي ربه، ولا يبخس من الحق شيئًا، فإن تعذّر إملاؤه لسفهه، أو صغره، أو جنونه، أو عدم استطاعته، فَوليُّه مأمور بالإملاء عنه.
وأرشدهم إلى حفظها باستشهاد شهيدين من الرجال، أو رجل وامرأتين، فأمرهم بالحفظ بالنِّصاب التام، الذي لا يحتاج صاحبُ الحقّ معه إلى يمين، ونهى الشهود أن يأبَوْا إذا دُعوا إلى إقامة الشهادة.
ثم أكّد ذلك عليهم بنهيهم أن يمتنعوا من كتابة الحقير والجليل من الحقوق سآمةً ومللًا.
وأخبر أن ذلك أعدل عنده، وأقْوَم للشهادة، فيتذكرها الشاهد إذا عاين خَطّه، فيقيمها، وفى ذلك تنبيهٌ على أن له أن يقيمها إذا رأى خطَّه وتَيَقَّنه، وإلا لم يكن للتعليل بقوله:{وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} [البقرة: 282] فائدة.
وأخبر أن ذلك أقرب إلى اليقين، وعدم الرّيب، ثم رفع عنهم الجُناح بترك الكتابة إذا كان بيعًا حاضرًا فيه التقابُضُ من الجانبين، يأمَنُ به كلُّ واحد من المتبايعين من جُحود الآخر ونِسْيانه.
ثم أمرهم مع ذلك بالإشهاد إذا تبايعوا، خشية الجحود وغَدْر كل واحد منهما بصاحبه، فإذا أشهدَا على التبايع أمِنَا ذلك.
ثم نهى الكاتبَ والشهيدَ عن أن يُضارّا، إما بأنْ يمتنعا من الكتابة والشهادة تَحمّلًا وأداءً، أو أن يَطْلُبا على ذلك جُعْلًا يَضُرّ بصاحب الحق، أو يكتُم الشاهدُ بعض الشهادة، أو يؤخِّرا الكتابة والشهادة تأخيرًا يضرُّ بصاحب الحق، أو يَمْطُلا، ونحو ذلك.
أو هو نَهْيٌ لصاحب الحق أن يُضارّ الكاتب والشهيد، بأن يَشْغَلهما عن ضرورتهما وحوائجهما، أو يُكلّفهما من ذلك ما يَشُقّ عليهما.
ثم أخبر أن ذلك فسوق بفاعله.
فهذا كله عند القدرة على الكتاب والشهود.
ثم ذكر ما يحفظ به الحقوق عند عدم القدرة على الكتاب والشهود وهو السّفَر في الغالب، فقال:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283].
فدل ذلك دلالةً بَيّنة أن الرهن قائمةٌ مقام الكتاب والشهود، شاهدة مُخبرة بالحق، كما يُخبر به الكتاب والشهود.
وهذا والله أعلم سرُّ تقييد الرّهن بالسّفَر؛ لأنه حالٌ يتعذر فيها الكتاب الذي يَنْطِقُ بالحق غالبًا، فقام الرهنُ مقامه، ونابَ منابَهُ، وأكَّد ذلك بكونه مقبوضًا للمرتهن، حتى لا يتمكن الراهنُ من جحده.
فلا أحسنَ من هذه النصيحة، وهذا الإرشاد والتعليم، الذي لو أخذَ به الناس لم يَضِعُ في الأكثر حقُّ أحد، ولم يتمكنِ المُبطِلُ من الجحود والنسيان.
فهذا حكمه سبحانه المتضمنُ لمصالح العباد في معاشهم ومعادهم.
والمقصود: أنه لو لم يُقْبَل قول المرتهن على الراهن في قَدْر الدَّين لم يكن وثيقةً ولا حافظًا لدينه، ولا بدلًا من الكتاب والشهود؛ فإن الراهن يتمكنُ من أخذه منه، ويقول: إنما رَهَنْته منه على ثَمن درهم ونحوه، ومَن يجعلُ القولَ قولَ الراهن فإنه يُصدّقه على ذلك، ويَقْبَل قوله في رَهْن الرُّبع، والصيغة على هذا القدر.
فالذي نعتقده وندينُ الله به هو قول أهل المدينة.
فإذا أراد الرجلُ حفظ حَقّه، وخاف أن يقع التحاكم عند حاكم لا يرى هذا المذهب؛ فالحيلة في قبول قوله: أن
(1)
يَسْتَرْهِنه المرتهن على قيمته، ويدفع إليه ما اتفقا عليه، ويُشْهدَ الراهن أن الباقي من قيمته أمانةٌ عنده، أو قَرْضٌ في ذمَّته [99 ب] يطالبه به متى شاء، فيتمكّن كل واحد منهما من أخذ حقِّه، ويأمنُ ظلم الآخر له، والله أعلم.
المثال السابع والسبعون: إذا كان لرجل على رجل ألفُ درهم، وفي يَده رَهنٌ بالألف، وطالبَ صاحبُ الدَّين الغريمَ بالألف، وقدَّمه إلى الحاكم، وقال: لي على هذا ألفُ درهم، وخاف أن يقول: وله عندي رَهْن بالألف وهو كذا وكذا، فيقول الغريم: ما له عليّ هذه الألف التي يَدّعيها، ولا شيءٌ منها، وهذا الذي ادّعى أنه لي رهنٌ في يده هو لي كما قال، ولكنه ليس برهن، بل وَديعة، أو عارية، فيأخذه منه، ويبطل حقه:
فالحيلة في أمْنِه من ذلك: أن يدّعي بالألف، فيسأل الحاكمُ المطلوبَ عن المال، فإما أن يُقِرَّ به، وإما أن يُنكره، فإن أقرّ به وادّعى أن له رهنًا لزمه المال ودفع الرهن إلى صاحبه، أو بِيعَ في وَفائه، وإن أنكره وقال: ليس له علي شيءٌ، ولي عنده تلك العين إما الدار وإما الدابة، فليقل صاحبُ الحق للقاضي: سَلْهُ عن هذا الذي يَدّعي عليّ: على أيّ وجهٍ هو عندي؟ أعاريَّة، أم غَصْبٌ، أم وَديعة، أم رَهنٌ؟ فإن ادّعى أنه في يده على غير وَجْه الرهن حُلّفَ على إبطال دَعواه، وكان صادقًا، وإن ادّعى أنه في يده على وجه الرهن، قال للقاضي: سَلْه على كَمْ هو رَهْنٌ؟ إن أقرّ بقدرِ الحق أقر له بالعين، وطالب
(1)
«أن» ساقطة من م.
بحقه، وإن جحد بعضه حُلّف على نَفْي ما ادّعاه، وكان صادقًا.
المثال الثامن والسبعون: إذا باعه سِلعةً ولم يُقْبِضه إياها، أو آجره دارًا ولم يتسلّمها، أو زوَّجه ابنته ولم يُسلّمها إليه، ثم ادّعى عليه بالثمن، أو الأجرة، أو المهر، فخاف إن أنكره أن يستحلفه، أو يُقيم عليه البيّنة بجريان هذه العقود، وإن أقرّ لزمه ما ادّعى عليه به:
فالحيلة في تخلصه أن يقول في الجواب: إن ادعيت هذا المبلغ من ثمن مَبيع لم أقبضه، أو إجارة دار لم تسلمها إليّ، أو نكاح امرأة لم تسلمها إليّ، أو كانت المرأة هي التي ادَّعت، فقال: إن ادعيت هذا المبلغ من مَهْرٍ أو كُسْوةٍ أو نفقةٍ من نكاح لم تُسَلّمي إليّ نفسك فيه، ولم تُمكّنيني من استيفاء المعقود عليه، فأنا مُقرّ به، وإن كان غير ذلك فلا أقرّ به
(1)
، وهذا جواب صحيح يتخلّص به.
فإن قيل: فهذا تعليق للإقرار بالشرط، والإقرار لا يصح تعليقه، كما لو قال: إن شاء الله أو إن شاء زيد فله عليّ ألف.
قيل: بل يصح تعليق الإقرار بالشرط في الجملة، كقوله: إذا جاء رأس الشهر فله عليّ ألفٌ؛ فهذا إقرار صحيح، ولا يلزمه قبل مجيء الشهر، وكذا لو قال: إن شهد فلان عليّ بما ادّعاه صَدّقْتُه، صحَّ التعليق، فإذا شهد به عليه فلان كان مُقرًّا به، ولا فرق بين تقديم الشرط وتأخيره، كما في تعليق الطلاق والعتاق والخلع.
وفيه وجه آخر: أنه إن أخّر الشرط لم ينفعه، وكان إقرارًا ناجزًا، وهذا
(1)
«به» ساقطة من م.
ضعيف جدًّا؛ فإن الكلام بآخِره، ولو بطل الشرط الملحق به لبطل الاستثناء والبَدَلُ والصفة؛ فإن ذلك يُغيّر الكلام، ويخرجه من العموم إلى الخصوص، والشرطُ يخرجه من الإطلاق إلى التقييد، فهو أولى بالصحة.
وقد جاء تأخير الشرط في القرآن فيما هو أبلغ من الإقرار، كقوله تعالى حاكيًا عن نبيه شُعيب عليه السلام أنه قال لقومه:{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} [الأعراف: 89].
وقد وافق صاحب هذا الوجه على أنه إذا قال: له علي ألفُ درهم إذا جاء رأسُ الشهر أنه يصح، وجهًا واحدًا، وهذا يُبطلُ تعليله بأن إلحاق الشرط بعد الخبر كالرجوع عن الإقرار.
وعلى هذا فلو قال: له علي ألفٌ مؤجلة صحّ الإقرار، ولزمه الألف مؤجَّلًا.
وقيل: [100 أ] القول قول خصمه في حلوله، وشبهة هذا: أنه مُقرّ بالدَّين مُدّعٍ لحلوله. وهذا ظاهر البطلان؛ فإنه إنما أقرّ به على هذه الصفة، فلا يجوز إلزامه به مطلقًا، كما لو وصفها بنقدٍ غير النقد الغالب، أو استثنى منها شيئًا.
وكذا لو قال: له عليّ ألفٌ من ثمن مبيع لم أقْبِضْهُ، أو أجرةٍ عن دار لم أتسلّمها، أو قال: هلك قبل التمكّن من قَبْضه، على أصحّ الوجهين؛ لأنه إنما أقرّ به على هذه الصفة، فلا يجوز إلزامه به مطلقًا.
وكذا لو قال: كان له عليّ ألف فقَضّيْتُه، لم يلزمه؛ لأنه إنما أقرّ به في الماضي، لا في الآن، هذا منصوص أحمد، وليس الكلام بمتناقض في نفسه، فيكون بمنزلة قوله: له علي ألف لا يلزمني، والفرق بين الكلامين أظهر من
أن يَحتاج إلى بيان.
وعن أحمد رواية أخرى: أنه مُقِرّ بالحق مُدّعٍ لقضائه، فلا يُقبل منه إلا ببينةٍ، وهذا قول الأئمة الثلاثة.
وعنه رواية ثالثة: أن هذا ليس بجواب صحيح، فيُطالَبُ بردّ الجواب.
وعلى هذا فإذا قال: له علي ألف قضيته إيّاه، ففيه ثلاثُ رواياتٍ منصوصات:
إحداهن: أنه غير مُقِرٍّ، كما لو قال: كان له عليّ.
والثانية: أنه مقرٌّ مُدّع للقضاء، فلا يُقبل منه إلا ببينة.
والثالثة: أنه لا يسمع منه دعوى القضاء، ولو أقام به بينةً، بل يكون مكذبًا لها.
وعلى هذا إذا قال: كان له عليّ، ولم يَزد على هذا، فهو مُقرّ.
وخُرّج أنه غير مُقِرٍّ من نَصّه، على أنه إذا قال: كان له عليّ وقضيته، أنه غير مُقِرٍّ.
وهو تخريج في غاية الصحة؛ فإن أحمد لم يجعله غير مُقرٍّ من قوله: وقضيته؛ فإن هذا دعوى منه للقضاء، وإنما جعله كذلك من جهة أنه أخبر عن الماضي لا عن الحال، فلا يُلزَم بكونه في ذمَّته في الحال، وهو لم يُقرّ به.
والمقصود: أن المدَّعَى عليه إذا كان مظلومًا فالحيلة في تخلُّصه أن يقول: إن ادّعيت كذا من جهة كذا وكذا فأنا غيرُ مُقرٍّ به، وإن ادّعيته من جهة كذا وكذا فأنا مقر به: كان جوابًا صحيحًا، ولم يكن مُقرًّا على الإطلاق.
المثال التاسع والسبعون: قال أصحابنا: لا يملك البائع حبس المبيع على قبض ثمنه، بل يُجبَر على تسليمه إلى المشتري، ثم إن كان الثمن مُعينًا فتشاحنا في المبتدئ بالتسليم، جُعل بينهما عَدلٌ يقبضُ منهما، ويُسلّم إليهما، وإن كان دينًا أُجبر البائع على التسليم، ثم يُجبَرُ المشتري على دَفع الثمن، فإن كان مالُه غائبًا عن المجلس حُجر عليه في ماله كله، حتى يُسلّم الثمن، وإن كان غائبًا عن البلد فَوْقَ مسافة القصر ثبت للبائع الفسخ، وإن كان دونها فهل يُحْجر عليه، أو يثبتُ للبائع الفسخ؟ على وجهين، وإن كان المشتري مُعسرًا فللبائع الفسخ والرجوع في عَيْن ماله، هذا منصوص أحمد والشافعي.
وللشافعية وجه: أن تُباع السلعة، ويُقضى دينه من ثمنها، فإن فضل له فضلٌ أخذه، وإن فضل عليه شيء استقر في ذمته.
والصحيح: أن البائع يملك حَبس السلعة على الثمن، حتى يقبضه، هذا هو مُوجب العدل، وإلا ففي تمكين المشتري من القبض قبل الإقباض إضرار بالبائع؛ فإنه قد يتلف المبيع بأن يكون طعامًا أو شرابًا فيستهلكه، ويتعذّر أو يتعسر عليه
(1)
مطالبته بالثمن، فيضُرّ به ولا يزول ضرره إلا بحبس المبيع على ثمنه.
وعلى هذا لو دفع الثمن إلا درهمًا منه، فله حَبْس المبيع كله على باقي الثمن، كما نقول في الرهن.
وفيه قول آخر: أنه يملك أن يتسلَّم من المبيع بقدر ما دفع من الثمن؛
(1)
«عليه» ساقطة من م.
لأن كلّ جزء من المبيع في مقابلة كل جزء من أجزاء الثمن، فإذا سلّم بعض الثمن مَلَكَ تسلُّم ما يُقابله.
والفرق بينه وبين الرهن: أن الرهن ليس بعوض [100 ب] من الدين، وإنما هو وثيقة، فملك حَبْسه إلى أن يستوفي جميع الدين، والأول هو الصحيح؛ لأنه إنما رضي بإخراج المبيع من ملكه إذا سُلّم له جميع الثمن، ولم يرضَ بإخراجه ولا إخراج شيء منه ببعض الثمن.
فإذا خاف البائع أن يُجبر على التسليم، ثم يُحال على تقاضي المشتري؛ فالحيلة له في الأمن من ذلك: أن يبيعه العين بشرط أن يرتهنها على ثمنها، ويجوز شرط الرهن والضّمين في عَقْد البيع، ويصح رَهْنُه قبل قَبْضه على ثمنه في أصح الوجهين، كما يصح رهنه قبل القبض بدين آخر غير ثمنه، ومن غير البائع، بل رَهْنُه على ثمنه أولى؛ فإنه يملك حَبْسه على الثمن بدون الرهن كما تقدم، فلأن يصحَّ حبسُه على الثمن رهنًا أولى وأحرى.
وأيضًا فإذا جاز التصرّف فيه بالرهن من الأجنبي قبل القبض، فجوازه من البائع أولى، ولأن المشتري يملك من التصرف مع البائع قبل القبض بالإقالة وغيرها ما لا يملكه مع الأجنبي، ومَنْ مَنَعَ رَهْنه على ثمنه قبلَ قبضه لزمه أن يمنع رهنه على غير الثمن، أو من الأجنبيّ.
فإن قيل: الفرق بينهما: أنه قَبْلَ القبض عُرضةٌ للتلف، فيكون من ضمان البائع، وكونه رهنًا يقتضى أن يكون من ضمان راهنه، فيتنافى الأمران، حيث يكون مضمونًا له ومضمونًا عليه من جهة واحدة، وهذا بخلاف رَهنه من أجنبي قبل القبض؛ فإنه يكون مضمونًا عليه للأجنبي ومضمونًا له من البائع، ولا تنافي بين أن يكون مضمونًا له لشخص، ومضمونًا عليه لغيره، كالعين المؤجرة إذا
أجّرها المستأجر صارت المنافع مضمونةٌ عليه للمستأجر الثاني، ومضمونةً له من المؤجّر الأول، وكذلك الثمار إذا بدا صلاحها جاز للمشتري بيعها، وهي مضمونة له على البائع الأول، ومضمونة عليه للمشتري الثاني.
قيل: هذا هو الفرق الذي بُنيَ عليه هذا القول بالمنع
(1)
، ولكن يقال: أيُّ محذور في ذلك، وأن يكون مضمونًا له وعليه؟
وقولكم: إن ذلك من جهة واحدة، ليس كذلك؛ فإنه مضمون له من جهة كونه مشتريًا، فهو من ضمان البائع حتى يُمكّنه من قَبضه، ومضمونًا عليه من جهة كونه راهنًا، فإذا تلف تَلِفَ من ضمانه، حتى لو اتّحَدت الجهةُ لم يكن في ذلك محذورٌ، بحيث يكون مضمونًا له وعليه من جهة واحدة، كما قلتم: إنه يجوز للمستأجر إجارةُ ما استأجره لمؤجّره، فتكون المنافع مضمونة عليه وله، فأيّ محذور في ذلك؟
فإن قيل: فإذا تلف هذا الرهن، فمِنْ ضمان مَن يكون؟ فالبائع يقول للمشتري: يتلف من ضمانِك؛ لأنه رهن، والمشتري يقول: يتلف من ضمانك؛ لأنه مبيعٌ لم يُقبض، وليس أحدهما بترجيح جانبه أولى من الآخر.
قيل: بل يكون تَلَفه من ضمان البائع؛ لأن ضمانه أسبقُ من ضمان الراهن؛ لأنه لمَّا باعه كان من ضمانه حتى يُسَلّمه، فحبْسُه على ثمنه لا يُسْقِط عنه ضمانه، كما لو حبسه من غير ارتهان، فارتهانه إيّاه لم يُسقط عنه ما لزمه بعقد البيع من التسليم؛ فإنه إنما احتاط لنفسه بعقد الرهن، والراهنُ لم يتعوّض عن الرهن بدين يكون الرهنُ في مقابلته، فإذا تلفَ كان قد انتفع بالدين الذي أخذه في مقابلة الرهن.
(1)
في جميع النسخ: «المسح» .