الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان أعلمَ الصحابة باتفاق الصحابة، كما قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: وكان أبو بكر رضي الله عنه أعلمنا به يعني النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
فجمع الله له بين سَعة العلم والرحمة. وهكذا الرجل، كلما اتَّسع علمه اتَّسعَتْ رحمته.
وقد
وَسِعَ رَبُّنا كلَّ شيء رحمةً وعلمًا
، فوسعت رحمته كل شيء، وأحاط بكلِّ شيء علمًا، فهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، بل هو أرحم بالعبد من نفسه، كما هو أعلم بمصلحة العبد من نفسه. والعبد لجهله بمصالح نفسه وظلمه لها يسعى فيما يضرّها ويؤلمها، ويَنْقُصُ حظّها من كرامته وثوابه، ويُبعدها من قربه، وهو يَظنّ أنه ينفعها ويُكرمها.
وهذا غاية الجهل والظلم، والإنسان ظلوم جَهول، فكم من مُكرم لنفسه بزعمه وهو لها مُهين، ومُرَفّهٍ لها وهو لها مُتعب، ومعطيها بعض غرضها ولذتها وقد حال بينها وبين جميع لذّاتها، فلا علم له بمصالحها التي هي مصالحها، ولا رحمة عنده لها، فما يبلغ عدوّه منه ما يبلغ هو من نفسه. فقد بخسَها حظَّها، وأضاع حقَّها، وعطَّل مصالحَها، وباع نعيمها الباقي ولذتها الدائمة الكاملة بلذةٍ فانية مَشُوبة بالنغص، إنما هي كأضغاث أحلام، أو كطيفٍ زار في المنام.
(1)
أخرجه البخاري (3654)، ومسلم (2382).
وليس هذا بعجيب من شأنه، وقَدْ فَقَدَ نصيبه من الهدى والرحمة، فلو هُدِي ورُحم لكان شأنه غير هذا الشأن، ولكن الربّ تعالى أعلمُ بالمحلِّ الذي يصلح للهدى والرحمة، فهو الذي يؤتيهما العبد، كما قال عن عبده الخضر:{فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65].
{رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10].
فصل
ومما ينبغي أن يُعلم: أن الرحمة صفةٌ تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كرهتها نفسه، وشَقّت عليها، فهذه هي الرحمة الحقيقية، فأرْحَمُ الناس بك من شَقّ عليك في إيصال مصالحك، ودَفْعِ المضارّ عنك.
فمن رحمة الأب بولده: أن يُكرِهه على التأدّب بالعلم والعمل، ويشقّ عليه في ذلك بالضّرب وغيره، ويمنعه شهواته التي تعود بضرره، ومتى أهمل ذلك من ولده كان لقلة رحمته به، وإن ظنّ أنه يرحمه ويُرفّهُه ويُريحه، فهذه رحمة مقرونة بجهل، كرحمة الأم.
ولهذا كان من إتمام رحمة أرحم الراحمين: تسليطُ أنواع البلاء على العبد، فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أعراضه وشهواته: من رحمته به، ولكنّ العبد لجهله وظُلمه يتّهم ربَّه، ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه.
وقد جاء في أثر
(1)
: «إن المبتلى إذا دُعي له: اللهم ارحَمه، يقول الله
(1)
ذكره أبو طالب المكي في قوت القلوب (2/ 39) بغير إسناد فقال: رُوي أنّ موسى عليه السلام نظر إلى عبد عظيمِ البلاء فقال: يا ربّ ارحمه، فأوحى اللّه عز وجل إليه: كيف أرحمه ممّا به أرحمه.
سبحانه: كيف أرحمُه مِن شيء به أرحَمُه؟».
وفى أثر آخر
(1)
: «إن الله إذا أحبّ عبده حماه الدنيا وطيّباتِها وشهواتها، كما يحمِيْ أحدُكم مريضَه» .
فهذا من تمام رحمته به، لا من بُخْله عليه.
كيف وهو الجواد الماجد، الذي له الجودُ كلّه، وجُودُ جميع الخلائق في جَنب جُودِهِ أقلُّ من ذَرةٍ في جبال الدنيا ورمالها.
فمن رحمته سبحانه بعباده: ابتلاؤهم بالأوامر والنواهي رحمةً وحِمْيةً، لا حاجةً منه إليهم بما أمرهم به، فهو الغني الحميد، ولا بُخلًا منه عليهم بما نهاهم عنه، فهو الجواد الكريم.
(1)
هو أثر مرفوع، رواه البخاري في التاريخ الكبير (7/ 185)، والترمذي (2036)، وابن أبي الدنيا في الزهد (38)، وابن أبي عاصم في الزهد (190، 191)، وعبد الله في زوائد الزهد (ص 11)، والطبري في التهذيب (483 ـ مسند ابن عباس ـ)، والطبراني في الكبير (19/ 12)، والبيهقي في الشعب (7/ 320)، وغيرهم من طريق محمود بن لبيد عن قتادة بن النعمان مرفوعا:«إذا أحبَّ الله عبدًا حماه الدنيا كما يظلّ أحدكم يحمي سقيمَه الماء» ، ورُوِي عن محمود عن عقبة بن رافع، وعنه عن رافع بن خديج، وعنه عن أبي سعيد الخدري، قال الترمذي:«حديث حسن غريب، وقد روِي عن محمود بن لبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا .. ومحمود قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ورآه وهو غلام صغير» ، وصححه ابن حبان (669)، والحاكم (7464، 7857)، وحسن إسناده ابن مفلح في الآداب الشرعية (2/ 344). وفي الباب عن حذيفة.
ومن رحمته: أن نَغّص عليهم الدنيا وكدَّرها، لئلَّا يسكنوا إليها، ولا يطمئنوا إليها، ويرغبوا في النّعيم المُقيم في داره وجواره، فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان، فمنَعهم ليُعطيَهُمْ، وابتلاهُم ليُعافيَهُمْ، وأماتهم ليُحْييَهُمْ.
ومن رحمته بهم: أن حذَّرهم [131 ب] نفسه، لئلا يغترّوا به، ويعاملوه بما لا تَحْسُنُ معاملته به، قال الله تعالى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30].
قال غير واحد من السلف: من رأفته بالعباد حذّرهم الله من نفسه، لئلا يغتروا به
(1)
.
فصل
ولما كان تمام النعمة على العبد إنما هو بالهدى والرحمة، كان لهما ضدان: الضلال والغضب.
فأمرنا الله سبحانه أن نسأله كل يوم وليلةٍ مراتٍ عديدةً: أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم، وهم أولو الهُدى والرحمة، ويُجنّبنا طريق المغضوب عليهم وهم ضد المرحُومين، وطريق الضالين وهم ضد المهتدين، ولهذا كان هذا الدعاء من أجمع الدعاء، وأفضله، وأوجبه.
وبالله التوفيق.
(1)
روى عبد الرزاق في تفسيره (1/ 118) ــ ومن طريقه الطبري في تفسيره (6844) ــ عن ابن عيينة عن عمرو عن الحسن البصري قال: «مِن رأفته بهم أن حذّرهم نفسَه» ، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره (33/ 98) من طريق الفضيل بن عياض عن الحسن، وعزاه في الدر المنثور (2/ 177) لابن المنذر.
فصل
إذا كان كلّ عمل فأصله المحبّة والإرادة، والمقصود به التنعّم بالمراد المحبوب، فكل حيٍّ إنما يعمل لما فيه تنعُّمه ولذته، فالتنعُّم هو المقصود الأول من كلِّ قصد وكلّ حركة، كما أن العذاب والتألُّم هو المكروه المقصود أولًا بكلّ بغض وكلّ امتناع وكفٍّ.
ولكن وقع الجهلُ والظلم من بني آدم بجنسين
(1)
: بالدِّين الفاسد، والدُّنيا الفاجرة، طلبوا بهما النعيم، وفى الحقيقة فإنما فيهما ضدّه، ففاتهم النعيم من حيث طلبوه وآثروه، ووقعوا في الألم والعذاب من حيث هربوا منه.
وبيان ذلك: أن الأعمال التي يعملها جميع بني آدم إما أن يتّخذوها دينًا، أو لا يتخذوها دينًا.
والذين يتخذونها دينًا إما أن يكون الدِّين بها دينَ حقٍّ، وإما أن يكون دينًا باطلًا.
فنقول: النعيمُ التامُّ هو في الدِّين الحقّ علمًا وعملًا، فأهلُهُ هم أصحاب النعيم الكامل، كما أخبر الله تعالى بذلك في كتابه في غير موضع، كقوله:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7]، وقوله عن المتقين المهتدين بالكتاب:{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5]، وقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي
(1)
في أكثر النسخ: «بمعنيين» . والمثبت من م.
هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]، وفى الآية الأخرى:{فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]، وقوله:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13، 14]، والقرآن مملوء من هذا.
فوعدُ أهل الهُدى والعمل الصالح بالنعيم التامّ في الدار الآخرة، وَوَعْدُ أهل الضلال والفجور بالشقاء في الدار الآخرة، مما اتّفقت عليه الرسل من أوّلهم إلى آخرهم، وتضمّنته الكتب، ولكن نذكر هاهنا نُكتةً نافعة
(1)
:
وهى: الإنسان قد يسمع ويرى ما يُصيب كثيرًا من أهل الإيمان في الدنيا من المصائب، وما ينال كثيرًا من الكفار والفجار والظلَمَة في الدُّنيا من الرياسة والمال، وغير ذلك، فيعتقد أن النعيم في الدُّنيا لا يكون إلا للكفار والفجار، وأن المؤمنين حظهم من النّعيم في الدُّنيا قليل، وكذلك قد يعتقد أن العِزّة والنّصرة في الدُّنيا قد تستقرّ للكفار والمنافقين على المؤمنين. فإذا سمع في القرآن قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، وقوله:{وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173]، وقوله:{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]، وقوله:{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، ونحو هذه الآيات، وهو ممن يُصدّق بالقرآن= حَمَلَ ذلك على أن حصوله في الدار الآخرة فقط، وقال: أما الدنيا فإنّا نرى الكفار والمنافقين يغلبون فيها ويظهرون، ويكون لهم النَّصر والظَّفرُ، والقرآن لا يَرِدُ
(1)
هذه النكتة من كلام شيخ الإسلام في «قاعدة في المحبة» ضمن جامع الرسائل (2/ 324 وما بعدها).
بخلاف الحِسّ، ويعتمد على هذا الظن إذا أُديل عليه عدوٌّ من جنس الكفار والمنافقين أو الفجرة الظالمين، وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى، فيرَى أن صاحب الباطل قد علا [132 أ] على صاحب الحق، فيقول: أنا على الحقّ، وأنا مغلوبٌ، فصاحب الحقّ في هذه الدنيا مغلوبٌ مقهورٌ، والدَّوْلة فيها للباطل.
فإذا ذُكّر بما وَعَده الله تعالى من حُسْنِ العاقبة للمتقين والمؤمنين قال: هذا في الآخرة فقط!
وإذا قيل له: كيف يفعل الله تعالى هذا بأوليائه وأحبّائه وأهل الحق؟
فإن كان ممن لا يُعَلِّلُ أفعال الله تعالى بالحِكَم والمصالح قال: يفعلُ الله في مُلكه ما يشاء، ويحكم ما يريد:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].
وإن كان ممن يُعَلِّل الأفعال قال: فعلَ بهم هذا ليُعَرِّضهم بالصبر عليه لثواب الآخرة وعلُوّ الدرجات، وتَوْفيةِ الأجر بغير حساب.
ولكل أحدٍ مع نفسه في هذا المقام مُباحثاتٌ وإيراداتٌ وإشكالات وأجوبة، بحسب حاصله وبضاعته من المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاتِه وحكمته والجهل بذلك، فالقلوب تَغْلِي بما فيها، كالقدور إذا استجمعَتْ غَلَيانًا.
فلقد بَلغنَا وشاهَدْنَا من كثير من هؤلاء من التظلُّم لِلرَّبِّ تعالى، واتّهامه ما لا يَصْدُرُ إلا من عَدُوٍّ، فكان الجَهْمُ يخرج بأصحابه، فيقِفُهم على الجَذْمَى وأهل البلاء، ويقول: انظروا، أرْحَمُ الراحمين يفعلُ مثل هذا؟ إنكارًا لرحمته، كما أنكر حِكمته. فليس الله عند جهمٍ وأتباعه حَكيمًا ولا رحيمًا.
وقال آخرُ من كبار القوم
(1)
: ما على الخلق أضرُّ من الخالق.
وكان بعضهم يتمثل:
إذَا كَانَ هذَا فِعْلَهُ لِمُحِبِّهِ
…
فمَاذا تُرَاهُ في أَعَادِيهِ يَصْنَعُ
(2)
وأنت تشاهد كثيرًا من الناس إذا أصابه نوعٌ من البلاء يقول: تُرى ما كان ذنبي حتى فَعَلْتَ بي هذا؟
وقال لي غير واحد: إذا تبتُ إليه، وأنَبْتُ وعملتُ صالحًا، ضيّق عليّ رزقي، ونَكّد عليَّ معيشتي، وإذا راجَعْتُ معصيته، وأعطيتُ نفسي مُرادها، جاءني الرّزْقُ والعَوْنُ، أو نحو هذا.
فقلت لبعضهم: هذا امتحان منه، ليَرى صِدْقك وصَبرك، وهل أنتَ صادقٌ في مجيئك إليه، وإقبالك عليه، فتصبر على بلائه، فتكون لك العاقبةُ، أم أنت كاذبٌ، فترجع على عقبك.
وهذه الأقوال والظنون الكاذبةُ الحائدة عن الصواب مَبْنيَّةٌ على مُقدِّمتين:
إحداهما: حُسْنُ ظَنّ العبد بنفسه ودينه، واعتقادُه أنه قائمٌ بما يجبُ عليه، وتارك ما نُهيَ عنه، واعتقادُه في خَصْمه وعَدُوّه خلاف ذلك، وأنه تارك للمأمور، مرتكب للمحظور، وأنه نفسه أولَى بالله ورسوله ودينه منه.
والمقدمة الثانية: اعتقاده
(3)
أن الله سبحانه وتعالى قد لا يُؤَيِّد صاحبَ
(1)
هو أبو طالب المكي، كما في تاريخ بغداد (3/ 89)، والبداية والنهاية (15/ 467).
(2)
لم أجد البيت فيما بين يدي من المصادر.
(3)
«اعتقاده» ساقطة من م.
الدِّين الحق ويَنْصُره، وقد لا يجعلُ له العاقبة في الدنيا بوجهٍ من الوجوه، بل يَعيشُ عُمُرَهُ مظلومًا مقهورًا مُسْتضامًا، مع قيامه بما أُمِرَ به ظاهرًا وباطنًا، وانتهائه عما نُهِيَ عنه باطنًا وظاهرًا.
فهو عند نفسه قائمٌ بشرائع الإسلام وحقائق الإيمان، وهو تحت قَهْر أهل الظلم والفجور والعُدْوان.
فلا إله إلا الله، كم فَسد بهذا الاغترار مِنْ عابدٍ جاهلٍ! ومُتَدَين لا بصيرة له! ومُنْتسب إلى العلم لا مَعْرِفة له بحقائق الدين!
فإنه من المعلوم أن العبدَ وإن آمَن بالآخرة، فإنه طالبٌ في الدنيا لما لا بُدّ له منه من جَلْبِ النّفْع ودَفع الضرر، بما يعتقدُ أنه مُسْتَحَبّ أو واجب أو مباحٌ، فإذا اعتقد أن الدِّينَ الحقّ واتّباع الهدى والاستقامة على التوحيد ومتابَعة السّنة: ينافي ذلك، وأنه يُعادي جميع أهل الأرض، ويتعرّضُ لما لا يقدر عليه من البلاء، وفوات حظوظه ومنافعه العاجلة، لزم من ذلك إعراضه عن الرغبة في كمال دينه، وتجرُّده لله ورسوله، فيُعْرِضُ قلبه عن حال السابقين المقرّبين، [132 ب] بل قد يُعْرِضُ عن حال المقتصدين أصحاب اليمين، بل قد يدخُل مع الظالمين، بل مع المنافقين، وإن لم يكن هذا في أصل الدِّين كان في كثيرٍ من فُروعه وأعماله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(1)
.
وذلك أنه إذا اعتقد أن الدِّين الكامل لا يحصلُ إلا بفساد دُنياه، من
(1)
أخرجه مسلم (118) عن أبي هريرة.
حصول ضررٍ لا يحتمله، وفواتِ مَنْفعة لابُدّ له منها: لم يُقدِم على احتمال هذا الضرر، ولا تفويت تلك المنفعة.
فسبحان الله! كم صَدّت هذه الفتنة الكثير من الخلق بل أكثرهم عن القيام بحقيقة الدين؟
وأصلها ناشيءٌ من جَهْلين كبيرين: جهل بحقيقة الدِّين، وجهل بحقيقة النّعيم الذي هو غايةُ مطلوب النفوس وكمالها، وبه ابتهاجُها والتذاذُها، فيتولّدُ من بين هذين الجهلين: إعراضُهُ عن القيام بحقيقة الدِّين، وعن طلب حقيقة النعيم.
ومعلومٌ أن كمال العبد هو بأن يكون عارفًا بالنعيم الذي يطلُبُه، والعمل الذي يُوصلُ إليه، وأن يكون مع ذلك فيه إرادة جازمة لذلك العمل، ومحبّةٌ صادقة لذلك النعيم، وإلا فالعلمُ بالمطلوب وطريقه لا يُحَصّله إن لم يقترن بذلك العملُ، والإرادةُ الجازمة لا تُوجِب وجودَ المراد إلا إذا لازمها الصبر.
فصارت سعادةُ العبد وكمالُ لذّته ونعيمه موقوفًا على هذه المقامات الخمسة: علمه بالنعيم المطلوب، ومَحبّته له، وعلمه بالطريق الموصل إليه، وعمله به، وصبره على ذلك.
قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 ـ 3].
والمقصود أن المقدمتين اللّتين بُنِيتْ عليهما هذه الفتنة، أصلهما الجهل بأمر الله ودينه، وبوَعْده ووعيده.
فإن العبدَ إذا اعتقدَ أنه قائمٌ بالدِّين الحقّ فقد اعتقد أنه قد قام بفعل
المأمور باطنًا وظاهرًا، وتركِ المحظور باطنًا وظاهرًا، وهذا مِنْ جَهله بالدِّين الحق وما لله عليه وما هو المراد منه، فهو جاهلٌ بحق الله عليه، جاهلٌ بما معه من الدِّين، قَدْرًا ونوعًا وصفةً.
وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصُره الله تعالى في الدنيا والآخرة، بل قد تكون العاقبة في الدنيا للكفار والمنافقين على المؤمنين، وللفجّار الظالمين على الأبرار المتقين، فهذا من جَهله بوَعْد الله تعالى ووَعِيده.
فأما المقام الأول: فإن العبدَ كثيرًا ما يتركُ واجباتٍ لا يعلمُ بها ولا بوجوبها، فيكون مقصّرًا في العلم، وكثيرًا ما يتركُها بعد العلم بها وبوجوبها، إما كسَلًا وتهاونًا، وإما لنوع تأويل باطل، أو تقليد، أو لظنّه أنه مشتغلٌ بما هو أوجبُ منها، أو لغير ذلك.
فواجبات القلوب أشدّ وجوبًا من واجبات الأبدانِ وآكدُ منها، وكأنها ليست من واجبات الدِّين عند كثير من الناس، بل هي من باب الفضائل والمستحبات.
فتراهُ يتحرّجُ من ترْكِ واجب
(1)
من واجبات البدن، وقد ترك ما هو أهمّ واجبات القلوب وأفْرَضها، ويتحرّجُ من فعل أدنى المحرمات، وقد ارتكب من محرمات القلوب ما هو أشد تحريمًا وأعظم إثمًا.
بل ما أكثر مَنْ يتعبدُ لله عز وجل بترك ما أوْجَبَ عليه، فيتخلّى وينقطع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع قُدرته عليه، ويزعم أنه مُتقرّبٌ إلى الله تعالى بذلك، مجتمعٌ على رَبّه، تاركٌ ما لا يَعْنيه! فهذا من أمْقت
(1)
ت: «فرض أو واجب» .
الخلق إلى الله تعالى، وأبغضهم له، مع ظَنّه أنه قائمٌ بحق [133 أ] الإيمان، وشرائع الإسلام، وأنه من خواصّ أوليائه وحِزْبه.
بل ما أكثر من يتعبّدُ لله بما حَرّمه الله عليه، ويعتقد أنه طاعةٌ وقُرْبَة! وحالُه في ذلك شرٌّ من حالِ مَنْ يعتقد ذلك معصيةً وإثمًا، كأصحاب السماع الشِّعري الذي يتقربون به إلى الله تعالى، ويظنّون أنهم من أولياء الرحمن، وهم في الحقيقة من أولياء الشيطان.
وما أكثر مَنْ يعتقد أنه هو المظلوم المُحِقُّ من كل وجه، ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون معه نوعٌ من الحقّ ونوعٌ من الباطل والظلم، ومع خَصمه نوعٌ من الحقّ والعدل، وحُبُّك الشيء يُعمي ويُصِمّ.
والإنسان مجبولٌ على حُبِّ نفسه، فهو لا يرى إلا محاسنها، ومُبْغِضٌ لخصمه، فهو لا يرى إلا مساوئه، بل قد يَشْتَدّ به حُبّه لنفسه، حتى يرى مساوئها محاسن، كما قال تعالى:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَأَىهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]، ويشتد به بغضُ خصمه حتى يرى محاسنه مساوئ، كما قال:
نظَرُوا بِعَيْنِ عَدَاوَةٍ وَلَوَ انَّهَا
…
عَيْنُ الرِّضَا لاسْتَحْسَنُوا مَا اسْتَقْبَحُوا
(1)
وهذا الجهل مقرون بالهوَى والظلم غالبًا، فإن الإنسان ظلومٌ جهولٌ.
وأكثر ديانات الخلق إنما هي عاداتٌ أخذوها عن آبائهم وأسلافهم، وقلَّدوهم فيها، في الإثبات والنفي، والحبّ والبغض، والموالاة والمعاداة.
والله سبحانه إنما ضَمِنَ نصر دينه وحِزْبه وأوليائه بدينه علمًا وعملًا، لم
(1)
البيت للشريف الرضي في «ديوانه» (1/ 260). قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: الحاشية ليست (هكذا) في المطبوع. وتم التصويب من الأصل الوارد من «عطاءات العلم» جزاهم الله خيرا
يضمن نصْرَ الباطل ولو اعتقد صاحبه أنه مُحِقّ، وكذلك العِزّة والعُلُوّ إنما هما لأهل الإيمان الذي بعث الله به رُسُلَه، وأنزل به كتبه، وهو علمٌ وعملٌ وحالٌ.
قال تعالى: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، فللعبد من العلوّ بحسب ما معه من الإيمان.
وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، فله من العزة بحسب ما معه من الإيمان وحقائقه، فإذا فاتَهُ حَظّ من العلوّ والعزة، ففي مُقابلة ما فاته من حقائق الإيمان علمًا وعملًا، ظاهرًا وباطنًا.
وكذلك الدفعُ عن العبد هو بحسب إيمانه، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38]. فإذا ضَعف الدفعُ عنه فهو من نَقْص إيمانه.
وكذلك الكفاية والحَسْبُ هي بقَدْرِ الإيمان، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]، أي: حَسْبُك الله وحَسْبُ أتباعك، أي كافيك وكافيهم، فكفايته لهم بحسب اتّباعهم لرسوله، وانقيادهم له، وطاعتهم له، فما نقص من الإيمان عاد بنقصان ذلك كلِّه. ومذهب أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيدُ وينقص.
وكذلك ولاية الله تعالى لعبده هي بحسب إيمانه، قال تعالى:{وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]، وقال الله تعالى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257].
وكذلك مَعِيَّتُهُ الخاصة هي لأهل الإيمان، كما قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19]، فإذا نقص الإيمانُ وضعُفَ كان حَظّ العبد من ولاية الله له ومَعِيّته الخاصة بقدر حَظّه من الإيمان.
وكذلك النصر والتأييد الكامل إنما هو لأهل الإيمان الكامل، قال تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]، وقال:{فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14]، فمن نقص إيمانُه نقص نصيبه من النصر والتأييد.
ولهذا إذا أصيبَ العبد بمصيبةٍ في نفسه أو ماله أو بإدالة عَدُوّه عليه، فإنما هي بذنوبه، إما بترك واجبٍ، أو فعل محرم، وهو من نقْص إيمانه.
وبهذا يزول الإشكال الذي يُورده كثير من الناس على قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]. ويجيبُ عنه كثيرٌ منهم بأنه لن يَجْعَلَ لهم عليهم سبيلًا في الآخرة. ويجيب آخرون بأنه [133 ب] لن يجعل لهم عليهم سبيلًا في الحجة.
والتحقيق: أنها مثل هذه الآيات، وأن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل، فإذا ضعف الإيمان صار لعدوّهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوه من طاعة الله تعالى.
فالمؤمن عزيز عالٍ مُؤَيَّدٌ منصور مَكْفِيٌّ مَدْفوعٌ عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه مَنْ بأقطارها، إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته، ظاهرًا وباطنًا.
وقد قال تعالى للمؤمنين: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35]. فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم، التي هي جُندٌ من جنود الله، يحفظهم بها، ولا يُفْرِدُها عنهم،
ويقتطعها عنهم، فيُبْطِلها عليهم، كما يَتِرُ الكافرين والمنافقين أعمالهم، إذ كانت لغيره، ولم تكن مُوافقةً لأمره.
فصل
وأما المقام الثاني الذي وقع فيه الغلطُ: فكثيرٌ من الناس يَظنّ أن أهل الدِّين الحق يكونون في الدنيا أذِلّاءَ مقهورين مغلوبين دائمًا، بخلاف مَنْ فارقهم إلى سبيل أُخرى، وطاعة أخرى. فلا يَثِقُ بوعد الله بنصر دينه وعباده، بل إما أن يجعل ذلك خاصًّا بطائفة دون طائفة، أو بزمان دون زمانٍ، أو يجعله مُعَلَّقًا بالمشيئة، وإن لم يُصرح بها.
وهذا من عَدم الوثوقِ بوعد الله تعالى، ومن سوء الفهم في كتابه. والله سبحانه قد بَيّن في كتابه أنه ناصرُ المؤمنين في الدنيا والآخرة:
قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 20، 21]، وهذا كثيرٌ في القرآن.
وقد بَيَّن سبحانه فيه أنّ ما أصاب العبد من مصيبة، أو إدالة عَدوٍّ، أو كسرٍ وغير ذلك، فبذنوبه.
فبين سبحانه في كتابه كلا المقدّمتين، فإذا جَمَعْتَ بينهما تبيَّن لك
حقيقة الأمر، وزال الإشكالُ بالكُلِّيَّةِ، واستغنيتَ عن تلك التكلُّفات الباردة والتأويلات البعيدة.
فقرر سبحانه المقام الأوّل بوجوه من التقرير:
منها: ما تقدم.
ومنها: أنه ذَمّ مَنْ يطلبُ النّصر والعزّ من غير المؤمنين، كقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} إلى قوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} إلى قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 51 ـ 56].
فأنكر على مَنْ طلب النصر من غير حِزْبه، وأخبر أن حزبه هم الغالبون.
ونظير هذا قوله: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 138، 139].
وقال تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8].
وقال سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، أي: مَنْ كان يُريدُ العِزّة فليَطْلُبها بطاعة الله من الكلم الطيب والعمل الصالح.
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح: 28].
وقال: [134 أ]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} إلى قوله: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 10 ـ 13]، أي: ويعطيكم أخرى فوق مَغْفِرَةِ الذنوب ودُخول الجنة، وهى النّصْرُ والفتح، إلى قوله:{فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14].
وقال تعالى للمسيح: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران: 55]، فلما كان للنصارى نصيب ما من اتباعه كانوا فوق اليهود إلى يوم القيامة، ولما كان المسلمون أتبع له من النصارى كانوا فوق النصارى إلى يوم القيامة.
وقال تعالى للمؤمنين: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح: 22، 23]، فهذا خطابٌ للمؤمنين الذين قاموا بحقائق الإيمان ظاهرًا وباطنًا.
وقال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، وقال:{وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]. والمراد: العاقبةُ في الدنيا قبلَ الآخرة، لأنه ذكر ذلك عَقِيبَ قصة نوح، ونصره وصبره على قومه، فقال تعالى:{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]، أي: عاقبة النصر لك ولمن مَعك، كما كانت لنوح عليه السلام ومَنْ آمن معه.
وكذلك قوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].
وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120].
وقال: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125].
وقال إخبارًا عن يوسف عليه السلام أنه نُصِرَ بتقواه وصبره، فقال:{أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90].
وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [الأنفال: 29]، والفرقان: هو العزّ والنصر والنجاة والنور الذي يُفرِّق بين الحقّ والباطل.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2، 3].
وقد روى ابن ماجه وابن أبي الدنيا
(1)
عن أبى ذر رضي الله عنه، عن
(1)
سنن ابن ماجه (4220) والفرج بعد الشدة (9) من طريق أبي السليل عن أبي ذرّ بنحوه، وبهذا الإسناد رواه أحمد (5/ 178)، والدارمي (2725)، والنسائي في الكبرى (11603)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 166)، والبيهقي في الشعب (2/ 112)، وغيرهم، وصححه ابن حبان (6669)، والحاكم (3819)، قال ابن مفلح في الآداب الشرعية (3/ 529) والبوصيري في المصباح (4/ 241):«رجاله ثقات، إلا أنه منقطع، أبو السليل لم يدرك أبا ذر» ، وهو في ضعيف الترغيب والترهيب (1056).
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو عَمِل الناسُ كلهم بهذه الآية لَوسِعَتْهم» .
فهذا في المقام الأول.
وأما المقام الثاني، فقال تعالى في قصة أُحُدٍ:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155].
وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
وقال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
وقال: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} [الشورى: 48].
وقالَ: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36].
وقال: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 34].
وقال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79].
ولهذا أمر الله سبحانه رسولَه والمؤمنين باتباع ما أُنزل إليهم، وهو طاعته وهو المقدمة الأولى، [134 ب] وأمر بانتظار وَعده، وهو المقدمة الثانية، وأمر بالاستغفار والصبر، لأن العبد لا بدّ أن يحصل له نوع تقصير وسَرَف يزيله الاستغفار، ولا بدّ في انتظار الوعد من الصبر، فبالاستغفار تتمّ الطاعة، وبالصبر يتمّ اليقين بالوعد، وقد جمع الله سبحانه بينهما في قوله:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55].
وقد ذكر الله سبحانه في كتابه قصص الأنبياء وأتباعهم، وكيف نجَّاهم بالصبر والطاعة، ثم قال:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111].
فصل
وتمام الكلام في هذا المقام العظيم يتبين بأصول نافعة جامعة:
الأصل الأول: أن ما يصيبُ المؤمنين من الشرور والمحن والأذى دون ما يصيب الكفار، والواقع شاهد بذلك، وكذلك ما يصيب الأبرار في هذه الدنيا دون ما يصيب الفجار والفساق والظَّلَمة بكثير.
الأصل الثاني: أن ما يصيب المؤمنين في الله تعالى مقرونٌ بالرضا
والاحتساب، فإن فاتَهُم الرضا فمعَوَّلهم على الصبر والاحتساب، وذلك يُخفِّف عنهم ثقلَ البلاء ومَؤُونته، فإنهم كلما شاهدوا العِوَض هان عليهم تحمُّل المشاقّ والبلاء، والكفار لا رضا عندهم ولا احتساب، وإن صبروا فكصبر البهائم، وقد نبَّه سبحانه على ذلك بقوله:{وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104]. فاشتركوا في الألم، وامتاز المؤمنون برجاء الأجر والزُّلْفَى من الله تعالى.
الأصل الثالث: أن المؤمن إذا أُوذي في الله فإنه محمول عنه بحسب طاعته وإخلاصه، ووجود حقائق الإيمان في قلبه، حتى يُحْمَل عنه من الأذى ما لو كان شيء منه على غيره لعجَز عن حمله، وهذا من دَفع الله عن عبده المؤمن، فإنه يدفع عنه كثيرًا من البلاء، وإذا كان لابدّ له من شيء منه دَفع عنه ثقله ومَؤُونته ومشقَّته وتبعته.
الأصل الرابع: أن المحبَّة كلَّما تمكَّنت في القلب ورَسَخت فيه كان أذى المُحِبِّ في رضا محبوبه مُسْتحلًى غير مسخوط، والمحبُّون يَفْتَخِرُون عند أحبابهم بذلك، حتى قال قائلهم:
لَئنْ سَاءَنِي أَنْ نِلْتِنِي بَمسَاءةٍ
…
لَقَدْ سَرّنِي أَنِّي خَطَرْتُ بِبَالِكِ
(1)
فما الظنّ بمحبة المحبوب الأعلى، الذي ابتلاؤه لحبيبه رحمةٌ منه له وإحسانٌ إليه؟
الأصل الخامس: أن ما يصيبُ الكافر والفاجرَ والمنافق من العِزِّ والنصر
(1)
البيت لابن الدمينة في ديوانه (ص 17). وانظر: روضة المحبين (ص 113).
والجاه دون ما يحصلُ للمؤمنين بكثير، بل باطن ذلك ذُلٌّ وكسرٌ وهوانٌ، وإن كان في الظاهر بخلافه.
قال الحسن
(1)
رحمه الله: إنهم وإن هَمْلَجتْ بهم البغالُ، وطَقْطَقَت بهم النِّعال، إنّ ذلّ المعْصية لفي قلوبهم، أبَى اللهُ إلا أن يُذِلّ مَنْ عصاه.
الأصل السادس: أن ابتلاء المؤمن كالدّواء له يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته، أو نقصَت ثوابه، وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاءُ والامتحانُ منه تلك الأدواء، ويستعدُّ به لتمام الأجر وعلوّ المنزلة. ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«والذي نفسي بيده لا يَقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سَرّاءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاءُ صبر فكان خيرًا له»
(2)
.
فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزِّه وعافيته، ولهذا كان «أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأقرب إليهم فالأقرب، يُبتلى المرءُ على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة شُدّد عليه البلاء، وإن كان في دينه رِقَّة خُفِّف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن، حتى يمشي على وجه الأرض وما عليه خطيئة»
(3)
.
الأصل السابع: [135 أ] أن ما يصيب المؤمنَ في هذه الدار من إدالة عَدوِّه عليه، وغلبته له، وأذاه له في بعض الأحيان، أمرٌ لازم لابدَّ منه، وهو
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه مسلم (2999) عن صهيب.
(3)
هذا لفظ الحديث الذي أخرجه الترمذي (2398)، وابن ماجه (4023) وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص. وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم. وانظر: فتح الباري (10/ 111).
كالحَرِّ الشديد، والبرد الشديد، والأمراض والهموم والغموم، فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية في هذه الدار، حتى للأطفال والبهائم، لما اقتضته حكمةُ أحكم الحاكمين.
فلو تجرَّد الخيرُ في هذا العالم عن الشرّ، والنفعُ عن الضرّ، واللَّذَّة عن الألم، لكان ذلك عالمًا غير هذا، ونشأة أخرى غير هذه النشأة، وكانت تَفوتُ الحكمة التي مُزج لأجلها بين الخير والشرّ، والألم واللذة، والنافع والضار.
وإنما يكون تخليص هذا من هذا وتمييزه في دارٍ أخرى غير هذه الدار، كما قال تعالى:{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37].
الأصل الثامن: أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عَدُوّهم لهم وقهرهم وكَسرهم لهم أحيانًا، فيه حِكَم عظيمةٌ، لا يعلمها على التفصيل إلا الله عز وجل.
فمنها: استخراج عُبوديّتهم وذُلّهم لله، وانكِسارهم له، وافتقارهم إليه، وسؤالهم نصرَهم على أعدائهم، ولو كانوا دائمًا منصورين قاهرين غالبين لبَطِروا وأَشِرُوا، ولو كانوا دائمًا مَقهورين مَغلوبين منصورًا عليهم عدوُّهم لما قامت للدِّين قائمةٌ، ولا كانت للحقّ دولةٌ. فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرّفهم بين غلبتهم تارةً، وكونهم مغلوبين تارةً، فإذا غُلِبوا تضرّعُوا إلى ربهم، وأنابوا إليه، وخضعوا له، وانكسروا له، وتابوا إليه، وإذا غَلَبوا أقامُوا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عَدُوّه، ونصروا أولياءه.
ومنها: أنهم لو كانوا دائمًا منصورين غالبين قاهرين، لدخل معهم من ليس قَصْدُهُ الدِّين ومتابعةَ الرسول، فإنه إنما ينضاف إلى مَن له الغلبة والعزة، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائمًا لم يَدخُل معهم أحدٌ، فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارةً، وعليهم تارة، فيتميّز بذلك بين من يريد الله ورسوله، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه.
ومنها: أنه سبحانه يُحِبّ مِنْ عباده تكميلَ عُبوديتهم على السراء والضراء، وفى حال العافية والبلاء، وفى حال إدالتهم والإدالة عليهم، فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالين عُبُودِيّةٌ بمقتضى تلك الحال، لا تحصلُ إلا بها، ولا يستقيم القلب بدونها، كما لا تستقيمُ الأبدان إلا بالحَرّ والبَرْد، والجوع والعطش والنَّصب وأضدادها، فتلك المِحَنُ والبلايا شَرطٌ في حصول الكمال الإنساني، والاستقامة المطلوبة منه، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنعٌ.
ومنها: أن امتحانهم بإدالة عَدُوّهم عليهم يُمحّصهم ويُخلّصهُم ويُهَذّبهم، كما قال تعالى في حِكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أُحد:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} إلى قوله: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 139 ـ 144].
فذكر سبحانه أنواعًا من الحِكَم التي لأجلها أُدِيلَ عليهم الكُفار، بعد أن ثبَّتهم وقَوّاهم، وبشَّرهم بأنهم الأعلوْن بما أُعطوا من الإيمان، وسلّاهم بأنهم وإن مسّهم القَرْحُ في طاعته وطاعة رسوله، فقد مسَّ أعداءهم القرحُ في عداوته وعداوة رسوله.
ثم أخبرهم أنه سبحانه بحكمته يجعل الأيام دُوَلًا بين الناس، فيصيب كُلًّا منهم نصيبُه
(1)
[135 ب] منها، كالأرزاق والآجال.
ثم أخبرهم أنه فعل ذلك ليعلم المؤمنين منهم، وهو سبحانه بكل شيء عليم قبل كَونه وبعد كونه، ولكنه أراد أن يَعْلَمهم موجودين مُشاهَدين، فيعلم إيمانهم واقعًا.
ثم أخبر أنه يُحِبّ أن يتّخذ منهم شهداء، فإن الشهادة درجة عالية عنده، ومنزلة رفيعة لا تُنال إلا بالقتل في سبيله، فلولا إدالة العَدُوّ لم تحصُل درجة الشهادة التي هي من أحب الأشياء إليه، وأنفعها للعبد.
ثم أخبر سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين، أي تَخليصهم من ذنوبهم، بالتوبة والرجوع إليه، واستغفاره من الذنوب التي أديل بها عليهم العدو، وأنه مع ذلك يريد أن يَمْحقَ الكافرين ببغيهم وطغيانهم وعُدوانهم إذا انتصروا.
ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنّهم دخول الجنة بغير جهاد ولا صبر، وأن حكمته تأبى ذلك، فلا يدخلونها إلا بالجهاد والصبر، ولو كانوا دائمًا منصورين غالبين لما جاهدهم أحد، ولما ابْتُلوا بما يصبرون عليه من أذى أعدائهم.
(1)
«منهم نصيبه» ساقطة من م.
فهذا بعض حِكَمِه في نصر عدوهم عليهم، وإدالته في بعض الأحيان.
الأصل التاسع: أنه سبحانه وتعالى إنما خلق السماوات والأرض، وخلق الموت والحياة، وزين الأرض بما عليها، لابتلاء عباده وامتحانهم، ليعلم من يريده ويريد ما عنده ممن يريد الدنيا وزينتها.
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7].
وقال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7].
وقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].
وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].
وقال تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 ـ 3].
فالناس إذا أُرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنتُ، أولا يؤمن بل يستمر على السيئات والكفر، ولابد من امتحان هذا وهذا.
فأما من قال: آمنتُ فلا بد أن يَمتحنه الربُّ ويبتليَهُ، ليتبيّن هل هو صادقٌ في قوله: آمنت أو كاذبٌ؟