الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على موضع القتل والصلب، وعلموا أنهم إن لم يفعلوا لم يتخلَّصوا من عُقوبتها.
ومنها: أن عُبّاد الصليب يقولون: إن المسيح لما قُتل غار دمه، ولو وقع منه قَطرة على الأرض ليبستْ ولم تنبتْ.
فيا عجبًا! كيف يَحْيَا الميتُ، ويبرأ العليل بالخشبة التي شُهر عليها وصلب؟ أهذا كله من بركتها، وفرَحِها به، وهو مشدود عليها يبكي ويستغيث؟
ولقد كان الأليق أن يَتفَتّت الصليبُ ويضمحلّ لهيبة من صُلب عليه وعظمته، تُخسَف الأرض بالحاضرين عند صلبه، والمتمالئين عليه، بل تتفطّر السماوات، وتنشقّ الأرض، وتخرّ الجبال هَدًّا.
ثم يقال لعُبّاد الصليب: لا يخلو أن يكون المصلوب الناسوت وحده، أو مع اللاهوت:
فإن كان المصلوبُ هو الناسوت وحده، فقد فارقتهُ الكلمة، وبطل اتحادها به، وكان المصلوب جسدًا من الأجساد، ليس بإله، ولا فيه شيء من الإلهية والربوبية البتة.
وإن قلتم: إن الصَّلب وقع على اللاهوت والناسوت معًا، فقد أقررتم بصلب الإله وقتله وموته، وقدرة الخلق على أذاه، وهذا أبطلُ الباطل، وأمحلُ المحال.
فبطل تعلُّقكم بالصليب من كل وجه عقلًا وشرعًا.
وأما تلاعبه بهم في صلاتهم فمن وجوه:
أحدها: صلاة كثير منهم بالنجاسة والجنابة، والمسيحُ بريء من هذه الصلاة، وسبحان الله أن يُتقَرّب إليه بمثل هذه الصلاة! فَقَدْره أعلى، وشأنه أجلُّ من ذلك.
ومنها: صلاتهم إلى مشرق الشمس، وهم يعلمون أن المسيح لم يصلّ إلى المشرق أصلًا، وإنما كان يُصلّي إلى قِبلة بيت المقدس.
ومنها: تصليبهم على وجوههم عند الدخول في الصلاة، والمسيحُ بريء من ذلك.
فصلاةٌ مفتاحها النجاسة، وتحريمها التصليب على الوجه، وقبلتها الشرق، وشعارها الشرك: كيف يخفى على العاقل أنها لا تأتي بها شريعة من الشرائع البتة؟
ولمَّا علمت الرّهبان والمطارنة والأساقفة أن مثل هذا الدِّين تنفرُ عنه العقول أعظم نُفْرة، شَدُّوه بالحِيَل والصُّوَر في الحيطان، بالذّهب واللازْوَرد والزّنجفر، وبالأرغُل، وبالأعياد المحدثة، ونحو ذلك مما يَرُوجُ على السفهاء و ضعفاء العقول والبصائر.
وساعدهم ما عليه اليهود من القسوة، والغلظة، والمكر، والكذب، والبَهت، وما عليه كثير من المسلمين من الظّلم، والفواحش، والفجور، والبِدعة، والغلوّ في المخلوق، حتى يتخذه إلهًا من دون الله، واعتقادُ كثيرٍ من الجهّال أن هؤلاء من خواصّ المسلمين وصالحيهم.
فترَكّب من هذا وأمثاله تَمَسُّكُ القوم بما هم فيه، ورُؤيتهم أنه خيرٌ من كثير مما عليه المنتسبون إلى الإسلام من البِدَع، والفجور، والشرك، والفواحش.
ولهذا لما رأى النصارى الصحابة وما هُم عليه، آمن أكثرهم اختيارًا وطوْعًا، وقالوا: ما الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء.
ولقد دعونا نحن وغيرنا كثيرًا من أهل الكتاب إلى الإسلام، فأخبروا [163 أ] أن المانع لهم ما يرون عليه المنتسبين إلى الإسلام ممَّن يُعَظّمهم الجهال، من البدع والظلم، والفجور، والمكر، والاحتيال، ونسبة ذلك إلى الشرع، فساءَ ظنهُم بالشرع وبمن جاء به.
فالله طليبُ قُطّاع طريق الله، وحسيبهم!
فهذه إشارة يسيرة جدًّا إلى تلاعُب الشيطان بعُبَّاد الصليب، تدلّ على ما بعدها، والله الهادي الموفق!
* * * *
فصل
في ذكر تلاعبه بالأمة الغضبيّة وهم اليهود
قال الله تعالى في حقهم: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة: 90].
وقال تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة: 60].
وقال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 80].
وقد أمرنا الله سبحانه أن نسأله في صلواتنا أن يَهْدِينَا صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالّين.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اليهودُ مغضوبٌ عليهم، والنصارى ضالُّون»
(1)
.
فأوّلُ تلاعب الشيطان بهذه الأمة: في حياة نبيّهَا، وقُرب العهد بإنجائهم من فرعون، وإغراقه وإغراق قومه، فلما جاوَزُوا البحر رأوا قومًا يَعْكُفون على أصنام لهم، فقالوا:{يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، فقال لهم موسى عليه السلام: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا
(1)
تقدم تخريجه.
هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 138، 139].
فأي جهلٍ فوق هذا؟ والعهد قريبٌ، وإهلاك المشركين أمامهم بِرَأيِ عيونهم، فطلبوا من موسى عليه السلام أن يَجعلَ لهم إلهًا، فطلبوا من مخلوق أن يجعل لهم إلهًا مخلوقًا، وكيف يكون الإله مجعولًا؟ فإن الإله هو الجاعلُ لكلّ ما سواه، والمجعولُ مربوبٌ مصنوعٌ، فيستحيل أن يكون إلهًا.
وما أكثر الخَلَف لهؤلاء في اتخاذ إله مجعول، فكل من اتخذ إلهًا غير الله فقد اتخذ إلهًا مجعولًا!
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان في بعض غزواته، فمرّوا بشجرة يُعَلِّق عليها المشركون أسلحتهم وشاراتهم وثيابَهم، يسمُّونها ذات أنواطٍ، فقال بعضهم: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذاتُ أنواط! فقال: «الله أكبر! قلتم كما قال قوم موسى لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]! ثم قال: «لتركبُنّ سَنَنَ من كان قبلكم حَذْوَ القُذّة بالقُذّة»
(1)
.
فصل
ومن تلاعبه بهم: عبادتُهم العجلَ من دون الله تعالى، وقد شاهدوا ما حلّ بالمشركين من العقوبة، والأخذة الرابية، ونبيّهم حَيٌّ لم يمت.
هذا، وقد شاهدوا صانِعَهُ يصنعه ويصوغُه، ويُصْلِيه النارَ، ويَدُقّه بالمطرقة، ويَسْطُو عليه بالمبرد، ويُقَلّبه بيديه ظهرًا لبطن.
(1)
تقدم تخريجه.
ومن عجيب أمرهم: أنهم لم يَكْتَفُوا بكونه إلهَهمْ، حتى جعلوه إله موسى، فنسبوا موسى عليه السلام إلى الشرك، وعبادة غير الله تعالى، بل عبادة أبْلَدِ الحيوانات، وأقلِّها دَفعًا عن نفسه، بحيث يُضربُ به المثلُ في البلادة والذُّلِّ، فجعلوه إله كليم الرحمن.
ثم لم يكتفوا بذلك، حتى جعلوا موسى عليه السلام ضالًّا مخطئًا، فقالوا:{فَنَسِيَ} [طه: 88].
قال ابن عباس
(1)
: أي ضَلّ وأخطأ الطريق.
وفي رواية عنه
(2)
: أي إن موسى ذهبَ يطلب ربه، فَضَلّ، ولم يعلم مكانه.
وعنه أيضًا
(3)
: نسي أن يذكر لكم أن هذا إلهه وإلهكم.
وقال السُّدِّي
(4)
: أي ترك موسى إلهه هاهنا، وذهب يطلبه.
وقال قتادة
(5)
: أي إن موسى إنما يطلب هذا، ولكنه نَسِيَهُ وخالفه في طريق آخر.
(1)
أقوال المفسرين في البسيط للواحدي (14/ 500). وقول ابن عباس في الكشف والبيان (6/ 257)، ومعالم التنزيل (5/ 290)، والجامع لأحكام القرآن (11/ 236).
(2)
رواه الطبري في تفسيره (18/ 356) من طريق عطية العوفي عن ابن عباس، وعزاه في الدر المنثور (3/ 535، 5/ 588) لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3)
رواه الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (5/ 595).
(4)
رواه الطبري في تفسيره (2/ 65، 18/ 357).
(5)
رواه الطبري في تفسيره (18/ 356).
[163 ب] على هذا القول المشهور أن قوله: {فَنَسِيَ} من كلام السامريّ وعُبّاد العجل معه.
وعن ابن عباس
(1)
رواية أخرى: أن هذا من إخبار الله تعالى عن السامري أنه نسي أي ترك ما كان عليه من الإيمان.
والصحيح: القول الأول، والسياق يدل عليه.
ولم يذكر البخاريُّ في التفسير
(2)
غيره فقال: يقول: أخطأ الربّ.
فإنه لمَّا جعله إله موسى استحضر سؤالًا من بني إسرائيل يوردونه عليه، فيقولون له: إذا كان هذا إله موسى فلأي شيء ذهب عنه لموعد إلهه؟ فأجاب عن هذا السؤال قبل إيراده عليه بقوله: فنسي.
وهذا من أقبح تلاعب الشيطان بهم!
فانظر إلى هؤلاء، كيف اتخذوا إلهًا مصنوعًا مَصُوغًا من جَوْهر أرضي، إنما يكون تحت التراب، محتاجًا إلى سَبْك بالنار، وتصفية وتخليص لخبثه منه، مدقوقًا بمطارق الحديد، مقلَّبًا في النار مرة بعد مَرّة، قد نُحِت بالمبارد، وأحدث الصانع صورته وشكله على صورة الحيوان المعروف بالبلادة والذل والضيم، وجعلوه إله موسى، ونسبوه إلى الضلال، حيث ذهب يطلب إلهًا غيره؟
(1)
رواه الطبري في تفسيره (2/ 66، 18/ 356).
(2)
(8/ 432)(مع الفتح).
قال محمد بن جرير
(1)
: وكان سببُ اتخاذهم العجل: ما حدثني به عبد الكريم بن الهيثم، قال: حدثني إبراهيم بن بشار الرمادي، حدثنا سفيان بن عُيينة، حدثنا أبو سعيد، عن عِكرمة، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: لما هجم فرعون على البحر هو وأصحابه، وكان فرعون على فَرَسٍ أدهم حصان، فلما هجم فرعون على البحر هابَ الحصانُ أن يقتحم في البحر، فمثَّل له جبريل على فرس أنثى، فلما رآها الحصان تَقَحّم خَلْفَها، قال: وعرف السامري جبريل، فقبض قَبْضة من أثر فرسه، قال: أخذ من تحت الحافر قبضة.
قال سفيان: وكان ابن مسعود يقرؤها: «فَقَبَضْتُ قَبْضةً مِنْ أَثَرِ فَرَسِ الرّسُولِ» .
قال عكرمة عن ابن عباس: وأُلقِي في رُوع السامري: إنك لا تلقيها على شيء، فتقول: كُنْ كذا وكذا، إلا كان، فلم تَزَل القبضةُ معه في يده، حتى جاوز البحر، فلما جاوز موسى وبنو إسرائيل البحر، وغرَّق الله آل فرعون، قال موسى لأخيه هارون: اخْلُفْنِي في قَوْمي وأصْلِحْ، ومضى موسى لَموعد ربه، قال: وكان مع بني إسرائيل حُلِيٌّ من حلي آل فرعون قد استعاروه، فكأنهم تأثّموا منه، فأخرجوه لتنزل النارُ فتأكله، فلما جمعوه قال السامري بالقَبْضَة التي كانت في يده هكذا، فقذفها فيه وقال: كن عِجْلًا جَسَدًا له خُوَارٌ، فصار عجلًا جسدًا له خوار، فكان يدخل الريح من دُبُره ويخرج من فيه، يُسْمَعُ له صوت، {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [طه: 88]، فعكفوا على العجل يعبدونه، فقال هارون: {يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ
(1)
تفسير الطبري (918).
فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه: 90، 91].
وقال السّدي
(1)
: لما أمر الله موسى أن يَخرج ببني إسرائيل من أرض مصر، أمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا، وأمرهم أن يستعيروا الحُلِيّ من القِبْطِ، فلما نَجّى الله موسى ومَنْ معه من بني إسرائيل من البحر، وأغرق آل فرعون، أتى جبريلُ إلى موسى ليذهب به إلى الله، فأقبل على فرس، فرآه السامريّ، فأنكره، ويقال: إنه فرس الحياة، فقال حين رآه: إن لهذا لشأنًا، فأخذ من تربة حافر الفرس، فانطلق موسى عليه السلام، واستخلف هارونَ على بني إسرائيل، وواعدهم ثلاثين ليلةً، فأتمَّها الله تعالى بعشر، فقال لهم هارونُ: يا بني إسرائيل! إن الغنيمة لا تَحِلّ لكم، وإن حُليّ القِبْطِ إنما هو غنيمة، فاجمعوها جميعًا واحفروا لها حُفْرَة، [164] فادفنوها، فإن جاء موسى فأحلَّها أخذتموها، فجمعوا ذلك الحلي في تلك الحفرة، وجاء السامريّ بتلك القبضة، فقذفها، فأخرج الله من الحلي عجلًا جسدًا له خُوارٌ، فلما رأوه قال لهم السامري:{هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} ، يقول: ترك موسى إلهه هاهنا، وذهب يطلبه، فعكفوا عليه يعبدونه، وكان يخور ويمشي، فقال لهم هارون: يا بني إسرائيل! {إِنَّمَا فُتِنْتُمْ} يقول: إنما ابتليتم بالعجل، {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ} ، فأقام هارون ومن معه من بني إسرائيل لا يقاتلونهم، وانطلق موسى إلى الله يكلِّمه، فلما كلَّمه قال له: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا
(1)
رواه الطبري في تفسيره (919) من طريق أسباط بن نصر عن السدي.
قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه: 83 ـ 85]، فأخبره خبرهم، قال موسى: يا رب! هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل، فالروحُ مَنْ نفخها فيه؟ قال الرب تعالى: أنا، قال: يا ربِّ! أنت إذًا أضللتهم!
وقال ابن إسحاق
(1)
، عن حكيم بن جُبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان السامري من قوم يعبدون البقر، فكان يحبُّ عبادة البقر في نفسه، وكان قد أظهر الإسلام في بني إسرائيل، فلما ذهب موسى إلى ربه قال لهم هارون: أنتم قد حملتم أوزارًا من زينة القوم آل فرعون وأمتعةً وحُلِيًّا، فتطهَّروا منها فإنها نَجَس، وأوقد لهم نارًا، فقال: اقذفوا ما كان معكم من ذلك فيها، فجعلوا يأتون بما كان معهم من تلك الأمتعة والحلي، فيقذفون به فيها، حتى إذا انكسر الحليّ فيها، ورأى السامريّ أثر فرس جبريل، فأخذ ترابًا من أثر حافره، ثم أقبل إلى النار، فقال لهارون: يا نبي الله! أُلقي ما في يدي؟ ولا يَظنّ هارون إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من الحلي والأمتعة، فقَذَفه فيها، فقال: كُن عجلًا جسدًا له خوار، فكان البلاء والفتنة، فقال هذا إلهكم وإله موسى، فعكفوا عليه، وأحبوه حبًّا لم يحبُّوا شيئًا مثله قط، يقول الله عز وجل:{فَنَسِيَ} أي: ترك ما كان عليه من الإسلام، يعني: السامري {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه: 89].
(1)
رواه الطبري في تفسيره (921)، وروى بعضه ابن أبي حاتم في تفسيره (8986) من طريق القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير بنحوه.
فلما رأى هارونُ ما وقعوا فيه قال: {يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه: 90، 91]! فأقام هارون فيمن معه من المسلمين ممن لم يَفْتَتِنْ، وأقام مَن يعبد العجل على عبادة العجل، وتخوف هارون إن سار بمن معه من المسلمين أن يقول له موسى:{فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94]، وكان له هائبًا مطيعًا.
فقال تعالى مذكرًا لبني إسرائيل بهذه القصة التي جرت لأسلافهم مع نبيهم: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} [البقرة: 51]، يعني: من بعد ذهابه إلى ربِّه، وليس المراد من بعدِ موته، {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة: 51]، أي: بعبادة غير الله تعالى لأن الشّرك أظلم الظلم، لأن المشرك وضع العبادة في غير موضعها.
فلما قَدِمَ موسى عليه السلام، ورأى ما أصابَ قومه من الفتنة، اشتد غضبه، وألقى الألواح عن رأسه، وفيها كلامُ الله الذي كتبه له، وأخذ برأس أخيه ولِحْيَتِهِ، ولم يَعْتبِ الله عليه في ذلك لأنه حمله عليه الغضبُ لله، وكان الله عز وجل قد أعلمه بفتنة قومه، ولكن لما رأى الحال مشاهدةً حدث له غضبٌ آخر فإنه ليس الخبر كالمعاينة.
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة في حياة نبيهم أيضًا: ما قصَّه الله تعالى في كتابه حيث يقول: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55]، أي عِيانًا.
قال ابن جرير
(1)
: ذَكّرهم الله سبحانه [164 ب] بذلك اختلافَ آبائهم، وسوء استقامة أسلافهم لأنبيائهم، مع كثرة معاينتهم من آيات الله ما يُثلَجُ بأقلِّها الصدورُ، وتطمئن بالتصديق معها النفوسُ، وذلك مع تتابع الحجج عليهم، وسُبوغ نِعَم الله تعالى لديهم، وهم مع ذلك مرة يسألون نبيّهم أن يجعل لهم إلهًا غير الله، ومرة يعبدون العجلَ من دون الله، ومرة يقولون: لا نُصَدّقك حتى نرى الله جَهْرة، وأخرى يقولون له إذا دُعُوا إلى القتال:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، ومرة يقال لهم:{وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ} [الأعراف: 161] فيقولون: «حنطةفي شعرة» ، ويدخلون من قِبَل أسْتاههم، ومرة يُعرض عليهم العمل بالتوراة، فيمتنعون من ذلك، حتى نَتَقَ الله تعالى عليهم الجبلَ كأنه ظُلّة، إلى غير ذلك من أفعالهم، التي آذوا بها نبيّهم، التي يكثر إحصاؤها.
فأعلم ربنا تبارك وتعالى الذين خاطبهم بهذه الآيات من يهود بني إسرائيل، الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لن يَعْدُوا أن يكونوا في تكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، وجحودهم نبوته، وتركهم الإقرار به وبما جاء به، مع علمهم به، ومعرفتهم بحقيقة أمره: كأسلافهم وآبائهم الذين قصّ الله علينا قصصهم.
قال محمد بن إسحاق
(2)
: لما رجع موسى إلى قومه، فرأى ما هم فيه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحرّق العجل وذَرّاه في
(1)
تفسيره (1/ 289).
(2)
رواه الطبري في تفسيره (957، 15153).
اليمِّ، اختار موسى منهم سبعين رجلًا، الخيّر فالخيّرَ، وقال: انطلقوا إلى الله عز وجل، فتوبوا إلى الله مما صنعتم، وسَلُوه التوبة على من تَرَكْتُمْ وراءكم من قومكم، فصوموا وتَطَهّرُوا، وطهِّرُوا نِيّاتكم، فخرج بهم إلى طُور سَيْناء لميقاتٍ وَقّته له ربُّه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه، فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا لِلَقاء الله: يا موسى! اطلب لنا إلى رَبِّك أن نسمع كلام رَبّنا، فقال: أفعلُ، فلما دَنا موسى من الجبل وقع عليه الغَمام، حتى تغشَّى الجبلُ كلُّه، ودنا موسى، فأدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا، وكان موسى عليه السلام إذا كلّمَه رَبُّه وَقعَ على جَبهته نُورٌ ساطعٌ لا يستطيع أحدٌ من بني آدم أن ينظر إليه، فضُرب دُونه بالحجاب، ودنا القوم، حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودًا، فسمعوه تعالى وهو يُكلم نبيَّه موسى، يأمره وينهاه: افعل، ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم، فقالوا لموسى عليه السلام:{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] فأخذتهم الصاعقة، فماتُوا جميعًا، وقام موسى عليه السلام يُناشدُ ربه ويدعوه، ويرغب إليه ويقول:{رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} [الأعراف: 155].
فإن قيل: فما مقصود موسى بقوله: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ} ؟
فقد ذُكر فيه وجوهٌ:
فقال السُّدِّي
(1)
: لما ماتوا قام موسى يبكي، ويقول: رب! ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتُهم وقد أهلكتَ خيارهم؟
(1)
أقوال المفسرين هنا مأخوذة من البسيط للواحدي (9/ 389 ــ 390). وقول السدَّي رواه الطبري في تفسيره (958، 15152) وابن أبي حاتم في تفسيره (545) من طريق أسباط بن نصر عن السدي.
وقال ابن إسحاق
(1)
: اخترتُ منهم سبعين رجلًا، الخيّر فالخيّر، أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد؟ فما الذي يُصدّقوني به أو يأمنوني عليه بعد هذا؟
وعلى هذا فالمعنى: لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا، فكان بنو إسرائيل يُعاينون ذلك ولا يتَّهمونني.
وقال الزجَّاج
(2)
: المعنى: لو شئت أمتَّهم من قبل أن تَبتليَهم بما أوجب عليهم الرجفة.
قلت: وهؤلاء كلهم حاموا حول المقصود.
والذي يظهر ــ والله [165 ب] أعلم بمراده ومراد نبيِّه ــ: أن هذا استعطافٌ من موسى عليه السلام لربّه، وتوسُّلٌ إليه بعفوه عنهم من قَبْلُ حين عبد قومهم العجل ولم يُنكروا عليهم، يقول موسى: إنهم قد تَقَدّمَ منهم ما يقتضي هلاكهم ومع هذا فوسعهم عفوُك ومغفرتك ولم تُهلكهم، فليَسعهم اليوم ما وسعهم من قبلُ.
وهذا كما يقول مَنْ واخَذه سيّده بجُرم: لو شئت واخذتَني من قبل هذا بما هو أعظم من هذا الجُرم، ولكن وسعني عفوُك أولًا، فليسعني اليوم.
ثم قال نبي الله: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155].
فقال ابن الأنباري وغيره: هذا استفهام على معنى الجَحْد أي: لست تفعل ذلك.
(1)
رواه الطبري في تفسيره (957، 15169).
(2)
معاني القرآن (2/ 380).
والسفهاء هنا: عَبَدَةُ العجل.
قال الفراء
(1)
: ظنّ موسى أنهم أُهلكوا باتخاذ قومهم العجل، فقال:{أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} وإنما كان إهلاكهم بقولهم: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153].
ثم قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} [الأعراف: 155] وهذا من تمام الاستعطاف أي: ما هي إلا ابتلاؤك واختبارك لعبادك، فأنت ابتليتهم وامتحنتهم، فالأمر كلُّه لك وبيدك، لا يَكشفه إلا أنت، كما لم يمتحن به ويختبر به إلا أنت، فنحن عائذون بك منك، ولاجئون منك إليك.
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة وكيده لهم: أنهم قيل لهم وهم مع نبيّهم، والوحي ينزل عليه من الله تعالى:{ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} [البقرة: 58].
قال قتادة
(2)
، وابن زيدٍ
(3)
، والسدي
(4)
، وابن جرير
(5)
وغيرهم: هي قرية بيت المقدس.
(1)
معاني القرآن له (1/ 395).
(2)
رواه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 46) عن معمر عن قتادة، ومن طريق عبد الرزاق رواه الطبري في تفسيره (999) وابن أبي حاتم في تفسيره (569).
(3)
الذي رواه عنه الطبري في تفسيره (1002) هو قوله: «هي أريحا، وهي قريبة من بيت المقدس» .
(4)
رواه الطبري في تفسيره (1000) من طريق أسباط بن نصر عن السدي.
(5)
جامع البيان (2/ 102).
{فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} [البقرة: 58] أي: هنيئًا واسعًا.
{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [البقرة: 58] قال السدي
(1)
: هو بابٌ من أبواب بيت المقدس، وكذلك قال ابن عباس
(2)
، قال
(3)
: والسجود بمعنى الركوع.
وأصل السجود: الانحناء لمن تُعظِّمه، فكل منحنٍ لشيء معظمًا له فهو ساجدٌ، قاله ابن جرير
(4)
، وغيره.
قلت: وعلى هذا فانحناء المتلاقيين عند السلام أحدهما لصاحبه: من السجود المحرّم، وفيه نهيٌ صريحٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم
(5)
.
(1)
رواه الطبري في تفسيره (1005) من طريق أسباط بن نصر عن السدي.
(2)
رواه الطبري في تفسيره (1006) من طريق عطية العوفي عن ابن عباس.
(3)
رواه الطبري في تفسيره (1007، 1008) وابن أبي حاتم في تفسيره (590) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، وعزاه في الدر المنثور (1/ 172) لوكيع والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر، وصححه الحاكم (3040).
(4)
جامع البيان (2/ 104).
(5)
نهيُ النبي صلى الله عليه وسلم عن الانحناء عند اللقاء رواه أحمد (3/ 198) وعبد بن حميد (1217) والترمذي (2728) وابن ماجه (3702) والبزار (7360، 7361، 7362) وأبو يعلى (4287، 4289) والطحاوي في شرح المعاني (6398، 6399) وابن عدي في الكامل (2/ 422) من طرق عن حنظلة عن أنس رضي الله عنه، قال أحمد كما في العلل رواية المروذي (368):«حديث منكر» ، وقال البيهقي في الكبرى (7/ 100):«هذا ينفرد به حنظلة السدوسي، وقد كان اختلط، تركه يحيى القطان لاختلاطه» ، وأما الترمذي فحسنه، وصححه ابن القيم في الزاد (4/ 160)، وهو في السلسلة الصحيحة (160).
ثم قيل لهم: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] أي: حُطّ عَنّا خطايانا.
هذا قول الحسن، وقتادة
(1)
، وعطاء
(2)
.
وقال عكرمة
(3)
وغيره: أي قولوا: لا إله إلا الله.
وكأن أصحاب هذا القول اعتبروا الكلمة التي تُحَطّ بها الخطايا، وهي كلمة التوحيد.
وقال سعيد بن جُبير، عن ابن عباس
(4)
: أُمروا بالاستغفار.
وعلى القولين فيكونون مأمورين بالدخول بالتوحيد والاستغفار، وضَمِنَ لهم بذلك مغفرة خطاياهم، فتلاعب الشيطان بهم، فبدّلوا قولًا غير الذي قيل لهم، وفعلًا غير الذي أمروا به.
فروى البخاري في «صحيحه» ومسلم
(5)
أيضًا من حديث هَمّام بن مُنَبِّه عن أبى هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سُجّدًا، وقولوا: حِطّةٌ نغفر لكم خطاياكم، فبدّلوا، فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم، وقالوا: حبة في شعرة» فبدّلوا القولَ والفعل معًا، فأنزل الله عليهم رجزًا من السماء.
(1)
رواه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 47) عن معمر عنهما، ومن طريق عبد الرزاق رواه الطبري في تفسيره (1009) وابن أبي حاتم في تفسيره (584).
(2)
رواه الطبري في تفسيره (1014).
(3)
رواه الطبري في تفسيره (1015)، وابن أبي حاتم في تفسيره (582)، والطبراني في الدعاء (1564)، وعزاه في الدر المنثور (1/ 173) لعبد بن حميد.
(4)
رواه الطبري في تفسيره (1016)، وابن أبي حاتم في تفسيره (580).
(5)
البخاري (3403)، ومسلم (3015).
قال أبو العالية
(1)
: هو الغضبُ.
وقال ابن زيد
(2)
: هو الطاعون.
وعلى هذا فالطاعون بالرَّصد لمن بَدّل دين الله قولًا وعملًا.
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهم: أنهم كانوا في البريّة قد ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المنّ والسلوى، فملُّوا ذلك، وذكروا عيش الثّوم، والبصل، والعدس، والبَقل، والقِثّاء، فسألوه موسى عليه السلام.
وهذا من سوء اختيارهم لأنفسهم، وقِلّة بصرهم بالأغذية النافعة الملائمة، واستبدال الأغذية الضارة القليلة التغذية منها، ولهذا قال لهم موسى عليه السلام:{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا} أي مصرًا من الأمصار {فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61].
فكانوا في أفسح الأمكنة وأوسعها، [165 ب] وأطيبها هواءً، وأبعدها من الأذى، ومجاورة الأنتان والأقذار، سَقْفُهم الذي يُظلهم من الشمس: الغمام، وطعامهم: السلوى، وشرابهم: المنّ.
قال ابن زيد
(3)
: كان طعامُ بني إسرائيل في التّيه واحدًا، وشرابهم واحدًا، كان شرابهم عسلًا ينزل من السماء يقال له: المنّ، وطعامهم طيرٌ يقال له: السلوى، يأكلون الطير ويشربون العسل، لم يكن لهم خبز ولا غيره.
(1)
رواه الطبري في تفسيره (1039)، وابن أبي حاتم في تفسيره (593).
(2)
رواه الطبري في تفسيره (1040).
(3)
رواه الطبري في تفسيره (1061).
ومعلومٌ فضلُ هذا الغذاء والشراب على غيرهما من الأغذية والأشربة.
وكان مع ذلك يتفجّر لهم من الحجر اثنتا عشرة عينًا من الماء، فطلبوا الاستبدال بما هو دون ذلك بكثير، فذُمّوا على ذلك.
فكيف بمن استبدل الضلال بالهدى، والغي بالرشاد، والشّرك بالتوحيد، والسنة بالبدعة، وخدمة الخالق بخدمة المخلوق، والعيش الطيب في المساكن الطيبة في جوار الله تعالى بحظّه من العيش النكد الفاني في هذه الدار؟
فصل
ومن تلاعبه بهم: أنهم لما عُرضت عليهم التوراة لم يقبلوها، وقد شاهدوا من الآيات ما شاهدوه، حتى أمر الله سبحانه جبريل، فقلع جبلًا من أصله على قَدْرهم، ثم رفعه فوق رؤوسهم، وقيل لهم: إن لم تَقْبلوها ألقيناه عليكم، فقبلوها كرهًا.
قال الله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171].
قال عبد الله بن وهب: قال ابن زيد
(1)
: لما رجع موسى من عند ربه بالألواح قال لبني إسرائيل: إن هذه الألواح فيها كتاب الله، وأمرُهُ الذي أمرَكم به، ونهيُه الذي نهاكم عنه، فقالوا: ومَنْ يأخذ بقولك أنت؟ لا والله، حتى نَرَى الله جَهْرَة، حتى يَطْلُعَ الله علينا، فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلِّمنا كما كلَّمك أنت يا موسى! فيقول: هذا كتابي فخذوه؟ فجاءت غضبة
(1)
رواه الطبري في تفسيره (959، 1115).
من الله تعالى، فجاءتهم صاعقة فصعقتهم، فماتوا أجمعون، قال: ثم أحياهم الله تعالى بعد موتهم، فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله، فقالوا: لا، فقال: أيُّ شيء أصابكم؟ قالوا: متنا ثم حَيِينا، فقال: خذوا كتاب الله، قالوا: لا، قال: فبعث الله ملائكته، فنَتَقَت الجبلَ فوقهم، فقيل لهم: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم الطور، قال: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم، قال: فأخذوه بالميثاق.
وقال السُّدي
(1)
: لما قال الله تعالى لهم: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] فأبوا أن يسجدوا، فأمر الله الجبل أن يرتفع فوق رؤوسهم، فنظروا إليه وقد غَشِيهم، فسقطوا سُجَّدًا على شِقٍّ، ونظروا بالشق الآخر، فكشفه عنهم، ثم تولَّوا من بعد هذه الآيات وأعرضوا، ولم يعملوا بما في كتاب الله، ونبذوه وراء ظهورهم، فقال تعالى مذكِّرًا لهؤلاء بما جرى من أسلافهم:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة: 63، 64].
فصل
ومن تلاعبهم بهم: أن الله سبحانه أنجاهم من فرعون وسلطانه وظلمه، وفَرَق بهم البحر، وأراهم الآيات والعجائب، ونصرهم وآواهم، وأعزَّهم وآتاهم ما لم يُؤْتِ أحدًا من العالمين، ثم أمرهم أن يدخلوا القرية التي كتب الله لهم.
(1)
رواه الطبري في تفسيره (1122)، وابن أبي حاتم في تفسيره (654) من طريق أسباط بن نصر عن السدي.
وفي ضمن هذا بشارتهم بأنهم منصورون، ومفتوح لهم، وأن تلك القرية لهم، فأبوا طاعته وامتثال أمره، وقابلوا هذا الأمر والبشارة بقولهم:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24].
وتأمَّلْ تَلَطُّف نبيّ الله تعالى موسى عليه السلام بهم، وحسن خطابه لهم، وتذكيرهم [166 أ] بنعم الله عليهم، وبشارتهم بوعد الله لهم: بأن القرية مكتوبة لهم، ونهيهم عن معصيته بارتدادهم على أدبارهم، وأنهم إن عصوا أمره ولم يمتثلوا انقلبوا خاسرين.
فجمع لهم بين الأمر والنهي، والبشارة والنذارة، والترغيب والترهيب، والتذكير بالنعم السالفة، فقابلوه أقبح المقابلة، فعارضوا أمر الله تعالى بقولهم:{يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المائدة: 22] فَلَمْ يوقِّروا رسوله وكليمه، حتى نادوه باسمه، ولم يقولوا: يا نبي الله! وقالوا: {يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} ونسوا قدرة جبار السماوات والأرض الذي يُذلّ الجبابرة لأهل طاعته، وكان خوفهم من أولئك الجبارين
(1)
الذين نواصيهم بيد الله أعظمَ من خوفهم من الجبار الأعلى سبحانه، وكانوا أشدَّ رهبةً في صدورهم منه.
ثم صرَّحوا بالمعصية والامتناع من الطاعة، فقالوا:{لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} [المائدة: 22]، فأكَّدوا معصيتهم بأنواع من التأكيد:
أحدها: تمهيد عذر العصيان بقولهم: {يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} .
(1)
«الجبارين» ساقطة من م.
والثاني: تصريحهم بأنهم غير مطيعين، وصَدّروا الجملة بحرف التأكيد، وهو (إنّ)، ثم حققوا النفي بأداة (لن) الدالة على نفي المستقبل أي: لا ندخلها الآن، ولا في المستقبل، ثم علَّقوا دخولها بشرط خروج الجبارين منها، فقال لهم رجلان من الذين أنعم الله عليهما بطاعته والانقياد إلى أمره، من الذين يخافون الله.
هذا قول الأكثرين، وهو الصحيح.
وقيل: من الذين يخافونهم من الجبارين، أسْلَما واتّبعا موسى عليه السلام:{ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة: 23] أي: باب القرية، فاهجموا عليهم، فإنهم قد مُلئوا منكم رعبًا، {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة: 23] ثم أرشدهم إلى ما يحقق النصر والغلبة لهم، وهو التوكل.
فكان جواب القوم أن: {قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24].
فسبحان من عَظُم حلمه حيث يقابَل أمره بمثل هذه المقابلة، ويُواجَه رسوله بمثل هذا الخطاب، وهو يَحْلُمُ عنهم، ولا يعاجلهم بالعقوبة، بل وَسعهم حلمه وكرمه، وكان أقصى ما عاقبهم به: أن ردّدهم في بَرّية التّيه أربعين عامًا، يظل عليهم الغمام من الحرّ، ويُنزل عليهم المنّ والسّلوى.
وفي «الصحيحين»
(1)
: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لقد شهدت من المقداد بن الأسود مشهدًا لأن أكون صاحبَهُ أحبّ إلي مما عُدل به، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول لك كما قال قوم
(1)
البخاري (3952). ولم أجده عند مسلم.
موسى لموسى: اذهب أنتَ وربّك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكنا نقاتل عن يمينك وشمالك، وبين يديك ومن خلفك، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه لذلك وسُرّ به.
فلما قابلوا نبي الله بهذه المقابلة
(1)
فصل
ومن تلاعبه بهم في حياة نبيهم أيضًا: ما قصّه الله سبحانه وتعالى في كتابه من قصة القتيل الذي قتلوه وتدافعوا فيه، حتى أُمروا بذبح بقرة وضربه ببعضها.
وفي القصة أنواع من العِبَرِ:
منها: أن الإخبار بها من أعلام نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنها: الدلالة على نبوة موسى، وأنه رسول رب العالمين.
ومنها: الدلالة على صِحَّة ما اتفقت عليه الرسل من أوَّلهم إلى خاتمهم: من معاد الأبدان، وقيام الموتى من قبورهم.
ومنها: إثبات الفاعل المختار، وأنه عالم بكل شيء، قادر على كل شيء، عَدْل لا يجوز عليه الظلم والجور، حكيم [166 ب] لا يجوز عليه العبث.
ومنها: إقامة أنواع الآيات والبراهين والحُجَج على عباده بالطرق
(1)
ح: «المقالة» .
المتنوعات، زيادةً في هداية المهتدي، وإعذارًا وإنذارًا للضلَّال.
ومنها: أنه لا ينبغي مقابلة أمر الله تعالى بالتعنّت، وكثرة الأسئلة، بل يُبادر إلى الامتثال فإنهم لما أُمروا أن يذبحوا بقرة كان الواجب عليهم أن يبادروا بالامتثال بذبح أيّ بقرة اتفقت فإن الأمر بذلك لا إجمال فيه ولا إشكال، بل هو بمنزلة قوله: أعْتِقْ رَقَبَةً، وأطعم مسكينًا، وصُمْ يومًا، ونحو ذلك.
ولذلك غلط من احتج بالآية على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب فإن الآية غنيّة عن البيان المنفصل، مبيَّنة بنفسها، ولكن لما تعنّتوا وشدَّودا شُدِّد عليهم.
قال أبو جعفر ابن جرير
(1)
، عن الربيع، عن أبي العالية: لو أن القوم حين أُمروا أن يذبحوا بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إيّاها، ولكنهم شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم.
ومنها: أنه لا يجوز مقابلة أمر الله الذي لا يَعْلَمُ المأمورُ به وَجْه الحكمة فيه بالإنكار، وذلك نوع من الكفر فإن القوم لما قال لهم نبيهم:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} قابلوا هذا الأمر بقولهم: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} ، فلما لم يعلموا وجه الحكمة في ارتباط هذا الأمر بما سألوه عنه قالوا:{أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} ، وهذا من غاية جهلهم بالله ورسوله فإنه أخبرهم عن أمر الله لهم بذلك، ولم يكن هو الآمر به ولو كان هو الآمر به لم يَجُزْ لمن آمن بالرسول
(1)
جامع البيان (1173، 1243).
أن يقابل أمره بذلك، فلما قال لهم:{أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67] وتيقّنوا أن الله سبحانه أمره بذلك، أخذوا في التعنُّت بسؤالهم عن عينها ولونها، فلما أُخبروا عن ذلك رجعوا إلى السؤال مرة ثالثة عن عينها، فلما تَعيّنت لهم، ولم يبق إشكالٌ، توقَّفوا في الامتثال، ولم يكادوا يفعلون.
ثم من أقبح جهلهم وظلمهم: قولهم لنبيهم: {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 71]، فإن أرادوا بذلك: أنك لم تأتِ بالحق قبل ذلك في أمر البقرة، فتلك رِدّة وكفرٌ ظاهر، وإن أرادوا: أنك الآن بينت لنا البيان التامَّ في تعيين البقرة المأمور بذبحها، فذلك جهلٌ ظاهر فإن البيان قد حصل بقوله:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} فإنه لا إجمال في الأمر، ولا في الفعل، ولا في المذبوح، فقد جاء رسول الله بالحق من أول مرة.
قال محمد بن جرير: وقد كان بعض من سلف يزعم أن القوم ارتدُّوا عن دينهم، وكفروا بقولهم لموسى:{الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} ، وزعم أن ذلك نفيٌ منهم أن يكون موسى عليه السلام أتاهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك، وأن ذلك كفر منهم.
قال: وليس الأمر كما قال عندنا لأنهم قد أذعنوا بالطاعة بذبحها، وإن كان قولهم الذي قالوا لموسى جَهْلةً منهم، وهفوةً من هفواتهم.
فصل
ومنها: الإخبار عن قساوة قلوب الأمة وغِلظها، وعدم تمكُّن الإيمان فيها.
قال عبد الصمد بن مَعْقِل
(1)
، عن وهب: كان ابن عباس يقول: إن القوم بعد أن أحيا الله تعالى الميتَ فأخبرهم بقاتله، أنكروا قتله، وقالوا: والله ما قتلناه، بعد أن رأوا الآية والحق.
قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74].
ومنها: مقابلة الظالم الباغي بنقيض قصده شرعًا وقَدرًا فإن القاتل قصدُه ميراثُ المقتول، ودفع القتل عن نفسه، فَفَضَحه الله تعالى، وهتكه وحرَمه ميراث المقتول.
ومنها: أن بني إسرائيل فُتنوا بالبقرة مرّتين من بين سائر الدواب ففتنوا بعبادة العجل، وفُتنوا بالأمر بذبح البقرة، والبقر [167 أ] من أبلد الحيوان، حتى لَيُضرب به المثل.
والظاهر: أن هذه القصة كانت بعد قصة العجل ففي الأمر بذبح البقرة تنبيهٌ على أن هذا النوع من الحيوان، الذي لا يمتنعُ من الذبح والحرث والسقي: لا يصلح أن يكون إلهًا معبودًا من دون الله تعالى، وأنه إنما يصلح للذبح والحرث والسقي والعمل.
فصل
ومن تلاعبه بهذه الأمة أيضًا: ما قصه الله سبحانه علينا من قصة أصحاب السبت، حين مسخهم قِردَةً لما تحيّلوا على استحلال محارمه.
(1)
رواه الطبري في تفسيره (1289) قال: حدِّثت عن إسماعيل بن عبد الكريم عن عبد الصمد بن معقل به، ورواه أيضًا (1290، 1314) من طريق عطية العوفي عن ابن عباس.
ومعلومٌ أنهم كانوا يعصون الله تعالى بأكل الحرام، واستباحة الفروج الحرام، والدم الحرام، وذلك أعظم إثمًا من مُجَرّد العمل يوم السبت، ولكن لما استحلّوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل، وتلاعبوا بدينه، وخادعوه كمُخادعة الصبيان، ومَسَخُوا دينه بالاحتيال، مَسَخَهم الله قِردَةً.
وكان الله سبحانه قد أباح لهم الصيد في كل أيام الأسبوع إلا يومًا واحدًا، فلم يَدَعْهُم حِرْصُهم وجَشَعُهُمْ حتى تعدَّوا إلى الصيد فيه، وساعد القدر بأن عوقبوا بإمساك الحيتان عنهم في غير يوم السبت، وإرسالها عليهم يوم السبت.
وهكذا يفعلُ الله سبحانه بمن تَعَرّض لمحارمه فإنه يُرْسِلُها عليه بالقَدَر، حتى تَزْدَلِفَ إليه بأيها يبدأ.
فانظر ما فعلَ الحرص، وما أوجبَ من الحرمان بالكُلّية ومن هاهنا قيل: مَنْ طَلَبَه كلّهُ فاته كُلّه.
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهم أيضًا: أنهم لما حُرّمت عليهم الشحوم أذابوها، ثم باعوها، وأكلوا أثمانها. وهذا من عدم فِقْههِمْ وفهْمهم عن الله تعالى دينه فإن أثمانَها بدلٌ منها، فتحريمها تحريمٌ لبدلها والمعاوضة عنها، كما أن تحريم الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير يتناولُ تحريم أعيانها وأبدالها.
ومن تلاعبه بهم أيضًا: اتخاذُ قبور أنبيائهم مساجد، وقد لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولَعنَتُه تتناول مَنْ فعل فِعْلهم.
ومن تلاعبه بهم أيضًا: أنهم كانوا يقتلون الأنبياء الذين لا تُنالُ الهداية إلا على أيديهم، ويتخذون أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله تعالى، يُحَرّمون عليهم ويُحِلّون لهم، فيأخذون بتحريمهم وتحليلهم، ولا يلتفتون: هل ذلك التحريمُ والتحليل من عند الله تعالى أم لا؟
قال عدي بن حاتم: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31]، فقلت: يا رسول الله! ما عبدوهم فقال: «حرّموا عليهم الحلال، وأحلُّوا لهم الحرام، فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إيَّاهم» . رواه الترمذي، وغيره
(1)
.
وهذا من أعظم تلاعب الشيطان بالإنسان: أن يَقتل أو يُقاتل مَنْ هُداه على يده، ويتخذ مَنْ لم تُضْمَنْ له عصمته نِدًّا لله، يحرِّم عليه، ويُحَلِّلُ له
ومن تلاعبه بهم: ما كان منهم في شأن زكريا ويَحْيى عليهما السلام، وقتلهم لهما، حتى سلّط الله عليهم بُخْتَنَصّر، وسَنْجاريب، وجنودَهما، فنالوا منهم ما نالوه.
(1)
سنن الترمذي (3095) من طرق عن عبد السلام بن حرب عن غطيف بن أعين عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم، وبهذا الإسناد رواه البخاري في التاريخ الكبير (7/ 106)، والطبري في تفسيره (16631، 16632، 16633)، وابن أبي حاتم في تفسيره (10057)، والطبراني في الكبير (17/ 92)، والبيهقي في الكبرى (10/ 116)، وغيرهم، قال الترمذي:«هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث» ، وله طرق أخرى، منها ما عند ابن سعد في الطبقات (289 ــ الجزء المتمم ـ) من طريق أبان بن صالح عن عامر بن سعد عن عدي بنحوه، وقد حسنه ابن تيمية كما في المجموع (7/ 67)، والألباني في السلسلة الصحيحة (3293).
ثم كان منهم في شأن المسيح ورَمْيهِ وأمّه بالعظائم، وهم يعلمون أنه رسول الله تعالى إليهم، فكفروا به بَغْيًا وعنادًا، وراموا قَتْله وصَلْبه، فصانه الله تعالى من ذلك، ورفعه إليه، وطَهّره منهم، فأوقعوا القتل والصّلب على شِبْهِه، وهم يظنُّون أنه رسول الله عيسى صلى الله عليه وسلم، فانتقم الله تعالى منهم، ودَمّر عليهم أعظم تدميرٍ، ولزمَهم كلَّهم حكمُ الكفر بتكذيبهم بالمسيح، كما لزم النصارى معهم حكمُ الكفر بتكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ولم يزل أمر اليهود بعد تكذيبهم بالمسيح وكفرهم به في سِفال ونَقْصٍ، إلى أن قَطّعهم الله تعالى في الأرض أُممًا، ومَزّقهم كلّ مُمَزَّق، وسَلَبهم عزَّهم وملكهم، [167 ب] فلم يَقُمْ لهم بعد ذلك مُلك.
فلما بعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم، فكفروا به وكذَّبوه: أتمّ عليهم غَضَبه، ودمرهم غاية التدمير، وألزمهم ذُلًّا وصَغارًا لا يُرفع عنهم إلى أن ينزل أخوه المسيح من السماء، فيستأصل شأفتَهم، ويُطَهّر الأرض منهم، ومن عُبّاد الصليب.
قال تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة: 90].
فالغضب الأول: بسبب كفرهم بالمسيح، والغضب الثاني: بسبب كفرهم بمحمد صلوات الله وسلامه عليهما.
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة: أن ألْقَى إليهم أن الربّ سبحانه وتعالى محجور عليه في نَسْخ الشرائع، فحجروا عليه أن يفعل ما يشاء
ويحكم ما يُريد، وجعلوا هذه الشبهة الشيطانية تُرْسًا لهم في جَحْد نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرّروا ذلك بأن النسخ يستلزم البَداءَ، وهو على الله تعالى محالٌ.
وقد أكذبهم الله سبحانه في نَصّ التوراة، كما أكذبهم في القرآن.
فتضمنت هذه الآيات بيان كَذِبهم صريحًا في إبطال النسْخ، فإنه سبحانه وتعالى أخبر أن الطعام كُلّه كان حِلًّا لبني إسرائيل قبل نزول التوراة، سوى ما حَرّمَ إسرائيل على نفسه منه.
ومعلومٌ أن بني إسرائيل كانوا على شريعة أبيهم إسرائيل ومِلَّته، وأن الذي كان لهم حَلالًا إنما كان بإحلال الله تعالى له على لسان إسرائيل والأنبياء بعده إلى حين نزول التوراة، ثم جاءت التوراة بتحريم كثير من المآكل عليهم، التي كانت حلالًا لبني إسرائيل، وهذا محضُ النّسخ.
وقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} متعلِّق بقوله: {كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: كان لهم حلالًا قبل نزول التوراة، وهم يعلمون ذلك.
ثم قال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} هل تجدون فيها أن إسرائيل حرّم على نفسه ما حَرّمته التوراة عليكم؟ أم تجدون
فيها تحريم ما خصّه بالتحريم؟ وهو لحوم الإبل وألبانُها خاصة؟
وإذا كان إنما حرّم هذا وحده، وكان ما سواه حلالًا له ولبنيهِ، وقد حرّمت التوراة كثيرًا منه، ظهر كذبكم وافتراؤكم في إنكار نسخ الشرائع، والحَجْر على الله تعالى في نسخها.
فتأمل هذا الموضع الشريف، الذي حامَ حوله أكثرُ المفسرين، وما أوردوه.
وهذا أولى من احتجاج كثير من أهل الكلام عليهم بأن التوراة حَرّمت أشياء كثيرةً من المناكح، والذبائح، والأفعال، والأقوال، وذلك نسخٌ لحكم البراءة الأصلية فإن هذه المناظرة ضعيفة جدًا فإن القوم لم ينكروا رَفْع البراءة الأصلية بالتحريم والإيجاب إذ هذا شأن كل الشرائع، وإنما أنكروا تغيير ما أباحه الله تعالى، فيجعله حرامًا، أو تحليل ما كان حرمه، فيجعله مباحًا، وأما رفع البراءة والاستصحاب فلم ينكره أحد من أهل الملل.
ثم يقال لهذه الأمة الغضبية: هل تُقرّون أنه كان قبل التوراة شريعة أم لا؟ فهم لا ينكرون أن يكون قبل التوراة شريعة.
فيقال لهم: فهل رفعت التوراة شيئًا من أحكام تلك الشرائع المتقدمة أم لا؟
فإن قالوا: لم تَرْفع شيئًا من أحكام تلك الشرائع، فقد جاهروا بالكذب [168 أ] والبَهْتِ.
وإن قالوا: قد رفعت بعض الشرائع المتقدمة، فقد أقرُّوا بالنسخ قطعًا.
وأيضًا فيقال للأمة الغضبية: هل أنتم اليومَ على ما كان عليه موسى عليه السلام؟
فإن قالوا: نعم.
قلنا: أليس في التوراة: أن من مَسّ عظم ميّتٍ، أو وَطِئ قبرًا، أو حَضَر ميّتًا عند موته، فإنه يصير من النجاسة بحالٍ لا مخرج له منها إلا رماد البقرة التي كان الإمام الهارونيّ يَحْرقها؟ فلا يمكنهم إنكار ذلك.
فيقال لهم: فهل أنتم اليوم على ذلك؟
فإن قالوا: لا نقدر عليه.
فيقال لهم: فلِمَ جعلتم أن مَنْ لمَس العظم والقبر والميت طاهرًا يصلح للصلاة، والذي في كتابكم خلافه؟
فإن قالوا: لأنا عَدِمْنَا أسباب الطهارة، وهي رَماد البقرة، وعَدِمنا الإمام المطهِّر المستغفر.
فيقال لهم: فهل أغناكم عَدَمُه عن فعله، أو لم يُغْنِكُم؟
فإن قالوا: أغنانا عدمه عن فعله.
قيل لهم: فقد تَبَدّل الحكم الشرعي من الوجوب إلى إسقاطه لمصلحة التعذُّر.
فيقال: وكذلك يتبدَّل الحكم الشرعيّ بنسخه لمصلحة النسخ فإنكم إن بَنَيتم على اعتبار المصالح والمفاسد في الأحكام فلا ريب أن الشيء يكون مصلحة في وقت دون وقت، وفي شريعة دون أخرى، كما كان تزويجُ الأخ بالأخت مصلحةً في شريعة آدم عليه السلام، ثم صار مَفْسدةً في سائر
الشرائع، وكذلك إباحة العمل يوم السبت كان مصلحةً في شريعة إبراهيم عليه السلام ومَنْ قبله، مفسدة في شريعة موسى عليه السلام.
وأمثال ذلك كثيرة.
وإن منعتم مراعاة المصالح في الأحكام، ومنعتم تعليلها بها، فالأمر حينئذٍ أظهرُ فإنه سبحانه يُحَلّلُ ما يشاء، ويُحرّم ما يشاء، والتحليل والتحريم تبعٌ لمجرَّد مشيئته، لا يُسْألُ عمّا يَفْعلُ.
وإن قلتم: لا نستغني في الطهارة عن ذلك الطُّهور الذي كان عليه أسلافنا فقد أقررتم بأنكم الأنجاسُ أبدًا، ولا سبيل لكم إلى حصول الطهارة.
فإن قالوا: نعم، الأمر كذلك.
قيل لهم: فإذا كنتم أنجاسًا على مقتضى أصولكم، فما بالُكم تعتزلون الحائض بعد انقطاع الحيض وارتفاعه سبعة أيام اعتزالًا تخرجون فيه إلى حدٍّ، لو أن أحدكم لمس ثوبُه ثوبَ المرأة نجّسْتموه مع ثوبه؟
فإن قلتم: ذلك من أحكام التوراة.
قيل لكم: أليس في التوراة: أن ذلك يراد به الطهارة، فإذا كانت الطهارة قد تعذَّرت عندكم، والنجاسة التي أنتم عليها لا ترتفع بالغسل، فهي إذًا أشد من نجاسة الحيض.
ثم إنكم ترون أنَّ الحائض طاهر إذا كانت من غير ملتكم، ولا تَخشون مِنْ لَمْسها، ولا الثوب الذي تلمسه، فتخصيص هذا الأمر بطائفتكم ليس في التوراة.
فصل
قالت الأمة الغضبية: التوراة قد حَظَرَت أمورًا كانت مباحة من قبل، ولم تأتِ بإباحة محظور، والنسخ الذي نُنكره ونمْنَع منه: هو ما أوجب إباحة محظور لأن تحريم الشيء إنما هو لأجل ما فيه من المفسدة، فإذا جاءت شريعة بتحريمه كان ذلك من مؤكِّداتها ومقرِّراتها، فإذا جاء مَنْ أباحَه علمنا بإباحته المفسدةَ أنه غير نَبيٍّ، بخلاف تحريم ما كان مباحًا فإنا نكون متعبِّدين بتحريمه.
قالوا: وشريعتكم جاءت بإباحة كثير مما حرَّمته التوراة، مع أنه إنما حُرّم لما فيه من المفسدة.
فهذه النُّكتة هي التي تعتمد عليها الأمة الغضبية، ويتلقّاها خالفٌ منهم عن سالف، والمتكلِّمون لم يَشْفوهم في جوابها، وإنما أطالوا معهم الكلام في رفع البراءة الأصلية بالشرائع، وفي نسخ الإباحة بالتحريم.
ولَعَمْرُ الله، إنه لمِمَّا يبطل شُبهتهم لأن رفع البراءة الأصلية، ورفع الإباحة [168 ب] بالتحريم: هو تغيير لما كان عليه الحكم الاستصحابي أو الشرعي بحكم آخر لمصلحة اقتضت تغييره، ولا فرق في اقتضاء المصلحة بين تغيير الإباحة بالتحريم، أو تغيير التحريم بالإباحة.
والشبهة التي عَرَضت لهم في أحد الموضعين: هي بعينها في الموضع الآخر فإن إباحة الشيء في الشريعة تابع لعدم مفسدته إذ لو كانت فيه مفسدة راجحة لم تأتِ الشريعة بإباحته، فإذا حرَّمته الشريعة الأخرى وجب قطعًا أن يكون تحريمه فيها هو المصلحة، كما كان إباحته في الشريعة الأولى هي المصلحة، فإن تضمَّن إباحةُ المحرم في الشريعة الأولى إباحة المفاسد
ــ وحاشا لله ــ تَضَمّن تحريم المباح في الشريعة الأولى تحريمُ المصالح، وكلاهما باطل قطعًا.
فإذا جاز أن تأتي شريعة التوراة بتحريم ما كان إبراهيم ومَنْ تَقَدَّمهُ يستبيحه، فجائزٌ أن تأتي شريعة أخرى بتحليل بعض ما كان في التوراة محظورًا.
وهذه الشبهة الباطلة الداحضة هي التي رَدّتْ بها الأمة الغضبيةُ نُبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، هي بعينها التي رَدّ بها أسلافُهم نبوة المسيح، وتوارثوها كافرًا عن كافر، وقالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم، كما قال أسلافهم للمسيح: لا نُقِرّ بنبوة من غيَّر شريعة التوراة.
فيقال لهم: فكيف أقررتم لموسى بالنبوة، وقد جاء بتغيير بعض شرائع مَنْ تقدَّمه؟ فإن قَدَحَ ذلك في المسيح ومحمد عليهما الصلاة والسلام قدح في موسى، فلا تقدحون في نبوّتهما بقادح إلا ومثله في نبوة موسى سواءً، كما أنكم لا تثبتون نبوّة موسى ببرهان إلا وأضعافُه شاهد على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم!
فمِن أبين المُحال: أن يكون موسى رسولًا صادقًا، ومحمدٌ ليس برسول، أو يكون المسيح رسولًا، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس برسول.
ويقال للأمة الغضبية أيضًا: لا يخلو المحرَّم إما أن يكون تحريمه لعَيْنِه وذاته بحيث تمتنع إباحته في زمان من الأزمنة، وإما أن يكون تحريمه لما تَضَمّنه من المفسدة في زمان دون زمان، ومكان دون مكان، وحال دون حال.
فإن كان الأول لزم أن يكون ما حرَّمته التوراة محرَّمًا على جميع الأنبياء في كل زمان ومكان، من عهد نوح إلى خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وإن كان الثاني ثبت أن التحريم والإباحة تابعان للمصالح، وإنما يختلفان باختلاف الزمان والمكان والحال، فيكون الشيء الواحد حرامًا في مِلّة دون ملة، وفي وقت دون وقت، وفي مكان دون مكان، وفي حال دون حال، وهذا معلومٌ بالاضطرار من الشرائع، ولا يليق بحكمة أحكم الحاكمين غيرُ ذلك.
ألا ترى أن تحريم السبت لو كان لعينه لكان حرامًا على إبراهيم، ونوح، وسائر النبيين؟
وكذلك ما حرَّمته التوراة من المطاعم والمناكح وغيرها، لو كان حرامًا لعينه وذاته لوجب تحريمه على كل نبيٍّ، وفي كل شريعة.
وإذا كان الرب تعالى لا حَجْر عليه، بل يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ويبتلي عباده بما يشاء، ويَحكُم ولا يُحكَم عليه، فما الذي يُحِيلُ عليه ويمنعه أن يأمر أمّة بأمرٍ من أوامر الشريعة، ثم ينهَى أُمّة أخرى عنه، أو يُحرّم محرّمًا على أُمَّة، ويُبيحَهُ لأُمَّة أخرى؟
بل أيّ شيء يمنعه سبحانه أن يفعل ذلك في الشريعة الواحدة في وقتين مختلفين، بحسب المصلحة؟
وقد بيّن ذلك سبحانه وتعالى بقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 106، 107].
فأخبر سبحانه أن عموم قُدْرته ومُلْكِه وتَصرّفه في مملكته وخَلقِه لا يمنعه أن يَنْسَخَ ما يشاء، ويُثْبتَ ما يشاء، كما أنه [169 أ] يمحو من أحكامه القَدَريّة الكونية ما يشاء ويُثبتُ، فهكذا أحكامُه الدينية الأمْرية، ينسخُ منها ما يشاء، ويُثبتُ منها ما يشاء.
فمن أكفر الكفر، وأظلم الظلم: أن يُعارَض الرسول الذي جاء بالبينات والهدى، وتُدْفَع نُبُوّتُه، وتُجْحَد رسالته، بكونه أتى بإباحة بعض ما كان مُحَرّمًا على مَنْ قَبْله، أو بتحريم بعض ما كان مباحًا لهم. وبالله التوفيق، يُضلّ مَنْ يشاء ويهدي من يشاء.
ومن العجب أن هذه الأمة الغضبية تَحجُر على الله تعالى أن ينسخ ما يشاء من شرائعه، وقد تركوا شريعة موسى عليه السلام في أكثر ما هم عليه، وتمسّكوا بمَا شرعه لهم أحبارهم وعلماؤهم.
فمن ذلك: أنهم يقولون في صلواتهم ما ترجمته هكذا: «اللهم! اضربْ ببُوق عظيم لفيفنا، واقْبضنا جميعًا من أربعة أقطار الأرض إلى قُدُسِك، سبحانك يا جامع شتاتِ قومه إسرائيل» .
ويقولون كل يوم ما ترجمته هكذا: «ارْدُد حُكَّامنا كالأولين، ومشيرينا كالابتداء، وابْنِ أورشَليم قرية قُدْسِك في أيامِنا، وأَعِزَّنا ببنيانها
(1)
، سبحانك يا باني يُورشليم».
(1)
م: «وعزنا بنيانها» .
فهذا قولهم في صلاتهم، مع علمهم بأن موسى وهارون عليهما السلام لم يقولا شيئًا من ذلك، ولكنها فصولٌ لَفَّقُوها بعد زوال دولتهم.
وكذلك صيامُهم كصوم إحراق بيت المقدس، وصوم حصبا، وصوم كَدَلْيا التي جعلوها فرضًا، لم يَصُمْها موسى، ولا يُوشَع بن نون، وكذلك صومُ صَلبِ هامان، ليس شيء من ذلك في التوراة، وإنما وضعوها لأسبابٍ اقتضت وَضْعَهَا عندهم.
هذا مع أنه في التوراة ما ترجمته: «لا تزيدوا على الأمر الذي أنا مُوصيكم به شيئًا، ولا تَنقصوا منه شيئًا» .
وقد تضمنت التوراة أوامر كثيرة جدًّا، هم مجمعون على تعطيلها وإلغائها، فإما أن تكون منسوخةً بنصوصٍ أخرى من التوراة، أو بنقلٍ صحيح عن موسى عليه السلام، أو باجتهاد علمائهم وأحبارهم.
وعلى التقادير الثلاثة: فقد بطلت شُبْهتهم في إنكار النسخ.
ثم من العجب: أن أكثر تلك الأوامر التي هم مجمعون على عدم القول بها والعمل بها: إنما يستندون فيها إلى أقوال علمائهم وآرائهم، وقد اتفقوا على تعطيل الرّجْم للزّاني، وهو نصُّ التوراة، وتعطيل أحكام كثيرة منصوصةٍ في التوراة.
ومن تلاعب الشيطان بهم: أنهم يزعمون أن الفقهاء إذا أحلّوا لهم الشيء صار حلالًا، وإذا حرّموه صار حرامًا، وإن كان نصّ التوراة بخلافه.
وهذا تجويزٌ منهم لنسخهم ما شاءوا من شريعة التوراة، فحجروا على الربّ تعالى وتقدس أن يَنسخ ما يريد من شريعته، وجَوّزوا ذلك لأحبارهم وعلمائهم.
كما تَكَبّر إبليس أن يسجد لآدم، ورأى أن ذلك يغضُّ منه، ثم رضي أن يكون قَوَّادًا لكل عاصٍ وفاسقٍ.
وكما أَنِفَ
(1)
عُبّادُ الأصنام أن يكون النبيُّ المرسَلُ إليهم بشرًا، ثم رَضُوا أن يكون إلههُمْ ومعبودُهم حجرًا.
وكما نَزّهت النصارَى بَتَارِكَهم عن الولَدِ والصاحبة، ولم يَتحاشَوْا من نِسبة ذلك إلى الله سبحانه تعالى.
وكما نزّهَت الفرعونية من الجهمية الربَّ سبحانه أن يكون مستويًا على عرشه لئلا يلزَم الحصر، ثم جعلوه سبحانه في الآبار والحانات، وأجواف الحيوانات!
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهم: ما شدّدوه على أنفسهم في باب الذبائح وغيرها، مما ليس له أصل عن موسى عليه السلام، ولا هو في التوراة، وإنما هو من أوضاع الحخاميم وآرائهم، وهم فقهاؤهم.
ولقد كان لهذه الأمة في قديم الزمان بالشام والعراق والمدائن مدراسُ وفقهاء كثيرون، وذلك في زمن دولة البابليّين والفُرْس، ودولة اليونان والروم، حتى اجتمع [169 ب] فقهاؤهم في بعض تلك الدول على تأليف المِشْنَا والتلمود.
فأما المِشْنا فهو الكتاب الأصغر، ومبلغُ حجمه نحو ثمان مئة ورقة.
وأما التلمود فهو الكتاب الأكبر، ومبلغه نحو نِصْف حمل بَغْل لكثرته.
(1)
كذا في م. وفي بقية النسخ: «أبى» .
ولم يكن الفقهاء الذين ألّفوه في عصر واحد، وإنما ألفوه جيلًا بعد جيل، فلمَّا نظر المتأخِّرون منهم إلى هذا التأليف، وأنه كلَّما مَرّ عليه الزمان زادوا فيه، وأن في الزيادات المتأخّرة ما يُناقضُ أوائل هذا التأليف، علموا أنهم إن لم يَقْطعوا ذلك ويمنعوا من الزيادة فيه، أدى إلى الخلل الذي لا يمكن سده، قطعوا الزيادة فيه، ومنعوا منها، وحظروا على الفقهاء الزيادة فيه، وإضافة شيء آخر إليه، وحرموا مَنْ يُضيف إليه شيئًا آخر، فوقف على ذلك المقدار.
وكانت أئمتهم قد حَرّموا عليهم في هذين الكتابين مُؤاكلة الأجانب وهم مَنْ كان على غير مِلّتهم، وحظروا عليهم أكل اللُّحمان من ذبيحة مَنْ لم يكن على دينهم لأن علماءهم علموا أن دينهم لا يبقى في هذه الخلوة، مع كونهم تحت الذل والعبودية، إلا أن يصُدّوهم عن مخالطة مَنْ هو على غير ملَّتهم، فحرَّموا عليهم الأكل من ذبائحهم، ومناكحتهم، ولم يمكنهم تقرير ذلك إلا بحجة يبتدعونها من أنفسهم، ويكذبون بها على الله تعالى، لأن التوراة إنما حرمت عليهم مناكحة غيرهم من الأمم لئلا يوافقوا الأزواج في عبادة الأصنام والشرك بالله، وحرَّم عليهم في التوراة أكل ذبائح الأمم التي يذبحونها قُربانًا إلى الأصنام لأنه قد سُمّي عليها اسمُ غير الله تعالى، فأما الذبائحُ التي لم تُذبح قُربانًا للأصنام فلم تنطق التوراة بتحريمها، وإنما نطقت بإباحة الأكل من أيدي غيرهم من الأمم، وموسى عليه السلام إنما نهاهم عن مناكحة عبَّاد الأصنام، وأكل ما يذبحونها على اسمها، فما بالُ هؤلاء لا يأكلون من ذبائح المسلمين، وهم لا يذبحون للأصنام، ولا يذكرون اسمها عليها؟
فلما نظر أئمتهم إلى أن التوراة غيرُ ناطقة بتحريم مآكل الأمم عليهم إلا عُبّاد الأصنام، وأن التوراة قد صَرّحت بأن تحريم مؤاكلتهم ومخالطتهم خوفَ استدراج المخالطة إلى المناكحة، وأن مناكحتهم إنما مُنع منها خوفَ استتباعها إلى الانتقال إلى أديانهم، وعبادة أوثانهم، ووجدوا جميع هذا واضحًا في التوراة، اختلقوا كتابًا في علم الذّباحة، ووضعوا فيه من التشديد والآصار والأغلال ما شغلوهم به عمَّا هم فيه من الذل والمشقة.
وذلك أنهم أمروهم أن ينفخوا الرّئة، حتى يملأوها هواءً، ويتأملونها: هل يخرجُ الهواء من ثقب منها أم لا؟ فإن خرج منها الهواء حَرّموها، وإن كان بعض أطراف الرئة لاصقًا ببعض لم يأكلوه.
وأمروا الذي يتفقد الذبيحة أن يدخل يده في بطن الذبيحة، ويتأمل بأصابعه: فإن وجد القلب ملتصقًا إلى الظهر، أو أحد الجانبين ولو كان الالتصاق بعرق دقيق كالشعرة، حرموه ولم يأكلوه، وسمَّوه طَريفا؛ يعنون بذلك أنه نجس وأكله حرام.
وهذه التسمية هي أصل بلائهم.
وذلك أن التوراة حَرّمت عليهم أكل الطريفا، والطريفا: هي الفريسة التي يفترسها الأسد أو الذئب، أو غيرهما من السباع، وهو الذي عَبّر عنه القرآن بقوله تعالى:{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة: 3].
والدليل على ذلك أنه قال في التوراة: «ولحمًا في الصحراء فريسةً لا تأكلوه، وللكلب ألقوه» .
وأصل لفظ «طريفا» : طوارف، وقد جاءت هذه اللفظة في التوراة في
قصة يوسف عليه السلام، لما جاء إخوته على قميصه بدمٍ كذبٍ، وزعموا أن الذئب افترسه.
وقال في التوراة: «ولحمًا في الصحراء [170 أ] فريسة لا تأكلوا» ، والفريسة إنما توجد غالبًا في الصحراء.
وكان سبب نزول هذا عليهم: أنهم كانوا ذوي أخبية، يسكنون البر لأنهم مكثوا يتردَّدون في البرِّ والتِّيه أربعين سنة، كانوا لا يجدون طعامًا إلا المَنّ والسّلْوَى، وهو طائر صغير يُشبه السمان، وفيه من الخاصية: أن أكل لحمه يُلَيّن القلب، ويذهب بالحزون والقساوة فإن هذا الطائر يموت إذا سمع صوت الرعد، كما أن الخُطّاف يقتله البَرْدُ، فألهمه الله سبحانه وتعالى أن يسكن جزائر البحر التي لا يكون بها مَطَرٌ ولا رَعْد، إلى انقضاء أوانِ المطر والرعد، فيخرج من الجزائر، وينتشر في الأرض.
فجلب الله تعالى إليهم هذا الطائر لينتفعوا به، ويكون اغتذاؤهم به كالدواء لغلظ قلوبهم وقسوتها.
والمقصود: أن مشايخهم تعدَّوا في تفسير الطريفا عن موضوعها وما أريد بها.
وكذلك فقهاؤهم اختلقوا من أنفسهم هذيانات وخرافات تتعلق بالرّئة والقلب، وقالوا: ما كان من الذبائح سليمًا من تلك الشروط فهو (دخنا)، ومعنى هذه اللفظة: أنه طاهر، وما كان خارجًا عن هذه الشروط فهو (طريفا)، وتفسيرها: أنه حرام.
قالوا: ومعنى نص التوراة: «ولحمًا فريسة في الصحراء لا تأكلوه، وللكلب ألقوه» أي: إنكم إذا ذبحتم ذبيحة، ولم توجد فيها هذه الشروط، فلا
تأكلوها، بل تبيعونها على من ليس من أهل ملتكم.
وفسَّروا قوله: «للكلب ألقوه» أي: لمن ليس من أهل مِلّتكم فأطعموه وبيعوه، وهم أحق بهذا اللقب، وأشبه بالكلاب.
ثم إن هذه الأمة الغضبية فرقتان:
إحداهما: عرفوا أن أولئك السلف الذين ألفوا المِشْنا والتلمود، وهم فقهاء اليهود، كذبوا على الله وعلى موسى النبي، وهم أصحابُ حماقات وتَنَطُّع، ودعاوَى كاذبة، يزعمون أنهم كانوا إذا اختلفوا في شيء من تلك المسائل يُوحي الله تعالى إليهم بصوت يسمعه جمهورهم، يقول: الحق في هذه المسألة مع فلان، ويسمون هذا الصوت:(بَثْ قُول).
فلما نظرت اليهود القرَّاؤون
(1)
وهم أصحاب عانان وبنيامين إلى هذه المحالات الشنيعة، وهذا الافتراء الفاحش، والكذب البارد، انفصلوا بأنفسهم عن الفقهاء، وعن كل من يقول بمقالاتهم، وكذَّبوهم في كل ما افتروا على الله، وزعموا أنه لا يجوز قبول شيءٍ من أقوالهم، حيث ادَّعَوا أن الله تعالى كان يوحي إليهم كما يوحي إلى الأنبياء.
وأما تلك الترَّهات التي ألفها الحخاميم وهم فقهاؤهم، ونسبوها إلى التوراة وإلى موسى، فإن القَّرَّائين اطَّرَحُوها كلها، وألغَوْها، ولم يحرِّموا شيئًا من الذبائح التي يتولَّون ذبيحتها البتة، ولم يحرموا سوى لحم الجَدْيِ بلبن أمه فقط، مراعاةً لنص التوراة:«لا يُنْضَجُ الجدي بلبن أمه» ، وليسوا بأصحاب قياس، بل أصحاب ظاهر فقط.
(1)
م: «القرابون» .
وأما الفرقة الثانية: فهم الرَّبَّانيُّون، وهم أصحاب القياس، وهم أكثر عددًا من القرائين، وفيهم الحخاميم المفترون على الله تعالى الكذب، الذين زعموا أن الله تعالى كان يخاطب جميعهم في كل مسألةٍ بالصوت، الذي يسمونه:(بَثْ قُول).
وهذه الطائفة أشدّ اليهود عداوةً لغيرهم من الأمم لأن حخاميمهم أوهموهم أن المأكولات إنما تحلّ للناس إن استعملوا فيها هذا العلم الذي نسبوه إلى موسى عليه السلام وإلى الله تعالى، وأن سائر الأمم لا يعرفون هذا، وأنهم إنما شَرّفهم الله تعالى بهذا، وأمثال ذلك من التُّرَّهَات، فصار أحدهم ينظر من ليس على مذهبه وملَّته كما ينظر إلى الحيوان البهيم، وينظر إلى مآكل الأمم وذبائحهم كما ينظر إلى العَذِرة.
[170 ب] وهذا من كيد الشيطان لهم، ولعبه بهم، فإن الحخاميم قصدوا بذلك المبالغة في مخالفتهم الأمم، والإزْراء عليهم، ونسبتهم إلى قلة العلم، وأنهم اختصوا دون الأمم بهذه الآصار والأغلال والتشديدات.
وكلما كان الحخاميم فيهم أكثر تكلُّفًا، وأشد إصرًا، وأكثر تحريمًا قالوا: هذا هو العالم الرَّبَّانيُّ.
وممَّا دعاهم إلى التشديد والتضييق: أنهم مُبدَّدون في شرق الأرض وغربها، فما من جماعة منهم في بلدة إلا وإذا قدم عليهم رجل من أهل دينهم من بلاد بعيدة، يُظْهر لهم الخشونة في دينهم، والمبالغة في الاحتياط، فإن كان من المتفقّهة فهو يشرع في إنكار أشياء عليهم، ويوهِمُهم التنزّه عَمَّا هم عليهم، وينسبُهم إلى قلَّة الدِّين، وينسب ما ينكره عليهم إلى مشايخه