المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثم كان لهم مجمع عاشر: - إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌المثال الرابع: أن يخاف أن يُؤجِره مالا يملك

- ‌المثال الثالث عشر: إذا اشترى دارًا أو أرضًا، وخاف أن تخرج وقفًا أو مستحقة

- ‌ الأمَةُ المشتراة إذا وطئها، ثم استُحِقّت لم يلزمه المهر

- ‌المثال الخامس عشر: إذا وكّله في بيع جارية، ووكّله آخر في شرائها

- ‌تلخَّص في المسألة أربعة مذاهب:

- ‌المثال الخامس والسبعون: إذا أقرضه مالًا وأجَّله لزم تأجيله على أصح المذهبين

- ‌ الحيلة في تصحيح الرهن والوثيقة

- ‌الثاني: ما لا يظهر ذلك فيه

- ‌الطريق الخامسة: طريق مَنْ يُفصّل بين الحلف بصيغة الشرطِ والجزاءِ، والحلف بصيغة الالتزام:

- ‌التزامُ التطليق لا يوجب وقوعَ الطلاق

- ‌الوجه الرابع: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة

- ‌فصلوأما استدلالكم بالمعاريض على جواز الحيل

- ‌«ليس بكاذبٍ من أصلح بين الناس

- ‌ المحبة والإرادة أصلٌ للبغض والكراهة، وعِلّةٌ لهما من غير عكسٍ

- ‌ الصافات صفا

- ‌الملائكةُ الموكَّلة بالإنسان من حين كَوْنه نطفةً إلى آخر أمره

- ‌ العبادة تَتَضَمّن غاية الحُبّ بغاية الذّلّ

- ‌التوحيد ملجأ الطالبين، ومفزع الهاربين، ونجاة المكروبين، وغياث الملهوفين

- ‌قد قيل: إن فساد القَصْدِ من فساد العلم

- ‌المحبة مع الله: أصل الشرك

- ‌ومنهم من يرى أن التحريم إنما هو إكراه الصبي على(2)فعل الفاحشة

- ‌العشق المحرَّم من أعظم الغَيّ

- ‌أصلُ الغيّ من الحبّ لغير الله

- ‌أصحاب العشق الشيطاني لهم مِن تَوَلَّي الشيطان والإشراك به بقَدْر ذلك

- ‌ العِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالمَجَانِينِ

- ‌ افتتانِ المشركين بفقراء المهاجرين

- ‌الفتنة لا بدّ منها في الدنيا والآخرة

- ‌ اتباع الهوى يُضلّ عن سبيل الله

- ‌ بالصبر واليقين تُنالُ الإمامة في الدين

- ‌البصائر: جمع بَصيرة، وهى فعيلة بمعنى مُفْعِلَة

- ‌ الإبصار يستعمل لازمًا ومتعديًا

- ‌الرحمةُ المقارنةُ للهدى في حَقِّ المؤمنين: عاجلة وآجلة

- ‌ وَسِعَ رَبُّنا كلَّ شيء رحمةً وعلمًا

- ‌لا بد من حصول الألم والمحنة لكل نفس

- ‌{قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً

- ‌ محبة المخلوق إذا لم تكن لله فهي عذاب للمُحبِّ ووبال

- ‌فصلفى بيان كيد الشيطان لنفسه، قبل كَيده للأبوين

- ‌ وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليُسرى

- ‌ قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}

- ‌(مِنْ) لا تدخل إلا على مفعول لا مفعول دونه

- ‌ هلالُ بن المحسن الصابئ

- ‌الحكمة التي جاءت بها الرسُلُ

- ‌ فلاسفة اليونان

- ‌اتخذ للملاحدة مدارسَ، ورامَ جَعْلَ «إشارات» إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن

- ‌ثم كان لهم مجمع عاشر:

- ‌وأما تلاعبه بهم في صلاتهم فمن وجوه:

- ‌هم أبدًا يعتقدون الصواب والحق مع مَنْ يُشَدّدُ ويُضَيّقُ

- ‌أعزّ ما صادفه الإسلام من هذه الأمة: يهود خيبر، والمدينة

الفصل: ‌ثم كان لهم مجمع عاشر:

وكان [157 ب] رئيس هذا المجمع: بَتْرَك قُسطنطينية وبترك أنطاكية، فلَعنُوا مَنْ تقدّم من القدِّيسين والبتاركة واحدًا واحدًا، فلما لعنوهم جلسوا، فلخَّصوا الأمانة، وزادوا فيها، ونقصوا، فقالوا:

«نؤمن بأن الواحد من الناسوت

(1)

الابنُ الوحيد، الذي هو الكلمة الأزلية، الدائم المستوي مع الأب، الإله في الجَوْهَرِ، الذي هو رَبّنا يسوع المسيح بطبيعتين تامّتين، وفعلين، ومشيئتين، في أقنومٍ واحد، ووجهٍ واحد، تامًّا بلاهوته، تامًّا بناسوته، وشهدت أن الإله الابن في آخر الأيام اتخذ من العذراء السيدة مريم القِدِّسية جسدًا إنسانًا بنفسٍ ناطقة عقلية، وذلك برحمة الله تعالى: محب البشر، ولم يلحقه اختلاط، ولا فساد، ولا فرقة، ولا فصل، ولكن هو واحد، يعملُ بما يشبه الإنسان أن يعمله في طبيعته، وما يُشبه الإله أن يعمله في طبيعته، الذي هو الابنُ الوحيدُ، والكلمة الأزلية المتجسدة، التي صارت في الحقيقة لحمًا، كما يقول الإنجيل المقدس، من غير أن ينتقل من مَجْده الأزلي، وليست بمتغيرة، لكنها بفعلين ومشيئتين وطبيعتين: إلهيٍّ وإنسيٍّ، الذي بهما يكمل قولُ الحق، وكل واحدةٍ من الطبيعتين تعمل مع شركة صاحبتها مشيئتين، غير متضادتين، ولا متصارعتين، ولكن مع المشيئة الإنسية: المشيئة الإلهية القادرة على كل شيء».

هذه أمانة هذا المجمع، فوضعوها ولعنوا مَنْ لعنوه، وبين المجمع الخامس الذي اجتمعَ فيه الست مئة والثلاثون، وبين هذا المجمع مائة سنة.

‌ثم كان لهم مجمع عاشر:

وذلك لمّا مات الملك وولي ابنُه بعدَه، واجتمع أهل المجمع السادس،

(1)

في هداية الحيارى: «اللاهوت» .

ص: 1048

وزعموا أن اجتماعهم كان على الباطل، فجمع الملك مئة وثلاثين أسقفًا، فثبّتوا قول أهل المجامع الخمسة، ولعنوا مَنْ لعنهم وخالفهم، وانصرفوا بين لاعنٍ وملعونٍ.

فهذه عشرة مجامع كبارٍ من مجامعهم مشهورة، اشتملت على أكثر من أربعة عشر ألفًا من البتاركة والأساقفة والرهبان، كلهم ما بين لاعنٍ وملعونٍ.

فهذه حال المتقدمين مع قرب زمانهم من أيّام المسيح، ووجود أخباره فيهم، والدولة دولتهم، والكلمة كلمتهم، وعلماؤهم إذ ذاك أوفر ما كانوا، واهتمامهم بأمر دينهم واحتفالهم به كما ترى، وهم حيارَى تائهون، ضالُّون مضلُّون، لا يثبت لهم قَدَمٌ، ولا يستقر لهم قول في إلههم، بل كلٌّ منهم قد اتخذ إلهه هواه، وصرَّح بالكفر والتبرِّي ممن اتبع سواه، قد تفرقت بهم في نبيهم وإلههم الأقاويل، وهم كما قال الله تعالى:{قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77].

فلو سألت أهل البيت الواحد عن دينهم ومعتقدهم في ربهم ونبيهم لأجابك الرجل بجواب، وامرأته بجواب، وابنه بجواب، والخادم بجواب! فما ظنك بمن في عصرنا هذا، وهم نُخالة الماضين، وزُبالة الغابرين، ونُفاية المتحيرين! وقد طال عليهم الأمد، وبَعُدَ عهدهم بالمسيح ودينه.

وهؤلاء هم الذين أوجبوا لأعداء الرسل من الفلاسفة والملاحدة أن يتمسَّكوا بما هم عليه، فإنهم شرحوا لهم دينهم الذي جاء به المسيح على هذا الوجه، ولا ريب أن هذا دين لا يقبله عاقل، فتواصَى أولئك بينهم أن يتمسَّكوا بما هم عليه، وساءت ظنونهم بالرسل والكتب، ورأوا أن ما هم

ص: 1049

عليه من الآراء أقرب إلى العقول من هذا الدين، وقال لهم هؤلاء الحيارى الضلَّال: إن هذا هو الحق الذي جاء به المسيح، فتركّب من هذين الظنَّين الفاسدين إساءة الظن بالرسل، وإحسان الظن بما هم عليه.

ولهذا قال بعض ملوك الهند وقد ذُكرت له الملل الثلاث، فقال: أما النصارى فإن كان محاربوهم من أهل [158 أ] الملل يُحاربونهم بحكم شرعي، فإني أرى ذلك بحكم عقلي، وإن كُنّا لا نرى بحكم عقولنا قتالًا، ولكن أسْتَثْنِي هؤلاء القوم من بين جميع العوالم، لأنهم قصدوا مضادَّة العقل، وناصبوه العداوة، وحلُّوا ببيت الاستحالات، وحادوا عن المسلك الذي انتهجه غيرهم من أهل الشرائع، فشذُّوا عن جميع مناهج العالم الصالحة العقلية والشرعية، واعتقدوا كلَّ مستحيل ممكنًا، وبنوا على ذلك شريعة لا تُؤدِّي البتة إلى صلاح نوع من أنواع العالم، إلا أنها تُصيّر العاقل إذا تشرَّع بها أخرق، والرشيد سفيهًا، والمحسن مسيئًا، لأن من كان أصل عقيدته التي جرى نَشْؤُهُ عليها الإساءة إلى الخالق، والنيل منه، ووصفه بضدّ صفاته الحسنى فأخْلِقْ به أن يستسهل الإساءة إلى المخلوق، مع ما بلغنا عنهم من الجهل، وضعف العقل، وقلة الحياء، وخساسة الهمة.

فهذا، وقد ظهر له من باطلهم وضلالهم غَيْض من فيض، وكانوا إذ ذاك أقرب عهدًا بالنبوة.

وقال أفلاطون رئيس سَدَنة الهياكل بمصر، وليس بأفلاطون تلميذ سُقراط، ذاك أقدم من هذا:

«لما ظهر محمد بتِهَامةَ، ورأينا أمره يعلو على الأمم المجاورة له، رأينا أن نقصد إصطفن البابلي، لنعلم ما عنده، ونأخذ برأيه، فلما اجتمعنا على

ص: 1050

الخروج من مصر رأينا أن نصير إلى قراطيس معلِّمنا وحكيمنا لنودِّعه، فلما دخلنا عليه ورأى جمعنا أيقن أن الهياكل قد خَلَتْ منا، فغُشي عليه حينًا غَشْيَةً، ظننا أنه فارق الحياة فيها، فبكينا، فأومأ إلينا أن كُفّوا عن البكاء، فتصبّرنا جَهْدَنا حتى هَدَأ وفتح عينيه، وقال: هذا ما كنت أنهاكم عنه، وأحذِّركم منه، إنكم قوم غيّرتم فغُيِّر بكم، أطعتم جُهالًا من ملوككم، فخلطوا عليكم في الأدعية، فقصدتم البَشَر من التعظيم بما هو للخالق وحده، فكنتم في ذلك كمن أعطى القلم مَدْحَ الكاتب، وإنما حركة القلم بالكاتب».

ومن المعلوم أن هذه الأمة ارتكبت محذوريْنِ عظيميْنِ، لا يرضى بهما ذو عقل ولا معرفة:

أحدهما: الغلوُّ في المخلوق، حتى جعلوه شريك الخالق وجزءًا منه، وإلهًا آخر معه، وأنِفُوا أن يكون عبدًا له.

والثاني: تَنَقُّصُ الخالق وسَبُّه، ورميه بالعظائم، حيث زعموا أنه ــ سبحانه وتعالى عن قولهم علوًّا كبيرًا ــ نزل من العرش عن كرسيِّ عظمته، ودخل في فرج امرأة، وأقام هناك تسعة أشهر يتخبَّط بين البول والدم والنّجْوِ، وقد عَلَتْهُ أطباق المَشِيمَة والرحم والبطن، ثم خرج من حيث دخل، رضيعًا صغيرًا يمصّ الثدي، ولُفّ في القُمُطِ، وأُودع السرير، يبكي، ويجوع، ويعطش، ويبول، ويتغَوّط، ويُحمل على الأيدي والعواتق، ثم صار إلى أن لطمت اليهود خَدَّيْهِ، وربطوا يديه، وبصَقوا في وجهه، وصفعوا قفاه، وصلبوه جهرًا بين لِصْبَيْنِ، وألبسوه إكليلًا من الشوك، وسمَّروا يديه ورجليه، وجَرّعوه أعظم الآلام، هذا وهو الإله الحق، الذي بيده أُتْقنت العوالم، وهو

ص: 1051

المعبود المسجود له.

ولعَمْرُ الله إن هذه مَسَبّة لله سبحانه ما سبَّه بها أحد من البشر قبلهم، ولا بعدهم، كما قال تعالى فيما يحكي عنه رسوله الذي نَزَّهه ونزَّه أخاه المسيح عن هذا الباطل، الذي {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 90]، فقال:«شَتَمني ابنُ آدم، وما ينبغي له ذلك، وكذَّبني ابن آدم، وما ينبغي له ذلك، أما شتمه إيَّاي فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد، الذي لم ألد، ولم أولد، ولم يكن لي كفوًا أحد. وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما [158 ب] بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته»

(1)

.

وقال عمر بن الخطاب

(2)

رضي الله تعالى عنه في هذه الأمة

(3)

: أهينوهم ولا تظلموهم، فلقد سبُّوا الله عز وجل مسبّةً ما سَبّه إياها أحدٌ من البشر.

(1)

أخرجه البخاري (3193) عن أبي هريرة.

(2)

لم أقف عليه بهذا اللفظ، وروى أبو نعيم في تاريخ أصبهان (2/ 31) وابن عساكر في تاريخ دمشق (2/ 183) من طريق ضمرة بن حبيب عن عمر قال:«سمّوهم ولا تكنوهم، وأذلّوهم ولا تظلموهم، وإذا جمعتكم وإيّاهم طريق فألجئوهم إلى أضيقها» . وورد نحوه عن معاذ رضي الله عنه قال: «لا تأوَوا لهم؛ فإنّ الله قد ضربهم بذلّ مُفدَم، وإنهم سبُّوا الله سبًّا لم يسبّه أحد من خَلقْه؛ دعَوا الله ثالث ثلاثة» ، رواه الحربي في غريب الحديث (3/ 1074)، والطبراني في مسند الشاميين (1041)، والخطابي في غريب الحديث (2/ 311) واللفظ له، ولفظ الحربي:«بِذُلّ مُغرم» .

(3)

م: «الآية» تحريف.

ص: 1052

ولَعمْرُ الله إن عُبَّاد الأصنام مع أنهم أعداء الله عز وجل على الحقيقة، وأعداء رسله عليهم السلام، وأشدُّ الكفار كفرًا يأنفون أن يصفوا آلهتهم التي يعبدونها من دون الله تعالى، وهي من الحجارة والحديد والخشب، بمثل ما وصفت به هذه الأمةُ ربَّ العالمين، وإله السماوات والأرضين، وكان الله تعالى في قلوبهم أجلَّ وأعظمَ من أن يصفوه بذلك، أو بما يقاربه، وإنما شركُ القوم أنهم عبدوا من دونه آلهة مخلوقة مربوبة مُحْدَثةً، وزعموا أنها تقرِّبهم إليه، لم يجعلوا شيئًا من آلهتهم كفُوًا له، ولا نظيرًا، ولا ولدًا، ولم ينالوا من الرب تعالى ما نالت منه هذه الأمة.

وعُذْرُهم في ذلك أقبح من قولهم، فإن أصل معتقدهم: أن أرواح الأنبياء عليهم السلام كانت في الجحيم في سجن إبليس، من عهد آدم إلى زمن المسيح، وكان إبراهيم، وموسى، ونوح، وصالح، وهود عليهم الصلاة والسلام معذَّبين مسجونين في النار بسبب خطيئة آدم عليه السلام، وأكله من الشجرة، وكان كلما مات واحد من بني آدم أخذه إبليس وسجنه في النار بذنب أبيه. ثم إن الله سبحانه وتعالى لمَّا أراد رحمتهم وخلاصهم من العذاب تحيَّل على إبليس بحيلةٍ، فنزل عن كرسي عظمته، والتحم ببطن مريم، حتى وُلد وكَبِرَ وصار رجلًا، فمكّن أعداءه اليهود من نفسه، حتى صلبوه وقتلوه وسمَّروه، وتَوّجوه بالشوك على رأسه، فخلّص أنبياءه ورسله، وفداهم بنفسه ودمه، فهراق دمه في مرضاة جميع ولد آدم، إذ كان ذنبه باقيًا في أعناق جميعهم، فخلّصهم منهُ بأن مكّن أعداءه من صَلبه وتسميره وصفعه إلا من أنكر صَلبه أو شكّ فيه، أو قال بأن الإله يَجِلّ عن ذلك، فهو في سجن إبليس معذّب حتى يُقِرّ بذلك، وأن إلهه صُلب وصُفعَ وسُمرَ!

ص: 1053

فنسبوا الإله الحق سبحانه إلى ما يأنَفُ أسقط الناس وأقَلُّهم أن يفعله بمملوكه وعَبْدِه، وإلى ما يأنَفُ عُبّاد الأصنام أن تُنْسَبَ إليه أوثانهم

(1)

، وكَذّبُوا الله سبحانه في كونه تابَ على آدم عليه السلام وغَفَر له خَطيئته، ونسبوه إلى أقْبَح الظلم، حيث زَعموا أنه سَجَن أنبياءَه ورُسله وأولياءه في الجحيم، بسبب خطيئة أبيهم، ونسبوه إلى غاية السَّفَه، حيث خَلّصَهُم من العذاب بتمكينه أعداءه من نَفْسه، حتى قتلوه وصلبوه وأراقوا دَمه، ونسبوه إلى غاية العَجْز حيث عَجّزوه أن يُخَلّصهم بقُدرته من غير هذه الحيلة، ونسبوه إلى غاية النّقْص، حيث سَلّطَ أعداءه على نفسه وابنه، ففعلوا به ما فعلوا.

وبالجملة، فلا نعلم أمةً من الأمم سَبّت رَبّهَا ومعبودها وإلهها بما سَبّته به هذه الأمة، كما قال عمر رضي الله عنه: إنهم سبُّوا الله مَسَبّةً ما سَبّهُ إيّاها أحد من البَشَرِ.

وكان بعضُ أئمة الإسلام إذا رأى صَليبيًا أغمض عينيه عنه، وقال: لا أستطيعُ أن أملأ عيني ممن سَبّ إلهه ومعبوده بأقبح السب.

ولهذا قال عقلاء الملوك: إن جهاد هؤلاء واجب شرعًا وعقلًا، إنهم عارٌ على بني آدم، مفسدون للعقول والشرائع.

وأما شريعتهم ودينهم فليسوا متمسّكين بشيء من شريعة المسيح، ولا دينه البتة.

فأول ذلك: أمرُ القِبْلة، فإنهم ابتدعوا الصلاة إلى مَطْلع الشمس، مع

(1)

كذا في م. وفي باقي النسخ: «أربابهم» .

ص: 1054

علمهم أن المسيح عليه السلام لم يُصَلّ إلى المشرق أصلًا، بل قد نَقل مُؤرّخوهم أن ذلك حَدَث بعد المسيح بنحو ثلاث مئة سنة، وإلا فالمسيح إنما كان يصلي إلى قبلة بيت المقدس، وهي قبلة الأنبياء قَبْله، وإليها كان يصلي النبي صلى الله عليه وسلم مدّة [159 أ] مُقامه بمكة، وبعد هِجْرته ثمانية عشر شهرًا، ثم نقله الله تعالى إلى قِبْلة أبيه إبراهيم

(1)

.

ومن ذلك: أن طوائف منهم وهم الروم وغيرهم لا يرون الاستنجاء بالماء، فيبولُ أحدُهم ويَتغوّط، ويقومُ بأثر البول والغائط إلى صلاته بتلك الرائحة، فيستقبلُ الشرق، و يُصَلّب على وجهه، ويُحَدّثُ مَنْ يَليه بأنواع الحديث، كذبًا كان، أو فجورًا، أو غِيْبة، أو سَبًّا وشَتْمًا، ويخبره بسِعْر الخمر ولَحْم الخنزير، وما شاكل ذلك، ولا يَضُرّ ذلك في الصلاة، ولا يبطلها، وإن دعته الحاجةُ إلى البول في الصلاة بالَ وهو يصلي، ولا يضرُّ صلاته.

وكلّ عاقلٍ يعلم أن مواجهة إله العالمين بهذه العبادة قبيحٌ جدًّا، وصاحبُها إلى استحقاق غضبه وعقابه أقربُ منه إلى الرِّضا والثواب.

ومن العجيب أنهم يَقرأون في التوراة: «ملعونٌ من تعلّق بالصّليب» ، وهم قد جعلوا شعار دينهم ما يُلعَنون عليه، ولو كان لهم أدنى عقلٍ لكان الأولى بهم أن يُحرّقُوا الصليب حيث وجدوه، ويُكَسّروه ويُضمّخوه بالنجاسة، فإنه صُلبَ عليه إلههم ومعبودهم بزعمهم، وأُهين عليه، وفُضِح وخُزي.

(1)

في حديث البراء بن عازب الذي أخرجه البخاري (4486)، ومسلم (525):«ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا» . وانظر فتح الباري (1/ 97).

ص: 1055

فيا للعجب! بأي وجه بعد هذا يستحقُّ الصليبُ التعظيم، لولا أن القوم أضلّ من الأنعام!

وتعظيمهم للصليب مما ابتدعوه في دين المسيح بعده بزمان، ولا ذِكْر له في الإنجيل البتة، وإنما ذُكر في التوراة باللَّعْنِ لمن تَعَلّق به، فاتخذته هذه الأمة معبودًا يسجدون له، وإذا اجتهد أحدُهم في اليمين، بحيث لا يحْنَثُ ولا يكذبُ، حلف بالصّليب، ويكذبُ إذا حلف بالله، ولا يكذب إذا حلف بالصليب.

ولو كان لهذه الأمة أدنى مُسْكةٍ من عقلٍ لكان ينبغي لهم أن يَلعنُوا الصليب من أجل معبودهم وإلههم حين صُلب عليه، كما قالوا: إن الأرض لُعنت من أجل آدم حين أخطأ، وكما لعنت الأرضُ حين قتل قابيلُ أخاه، وكما في الإنجيل:«إن اللعنة تنزل على الأرض إذا كان أمراؤها الصبيان» .

فلو عقلوا لكان ينبغي لهم أن لا يحملوا صليبًا، ولا يمسّوه بأيديهم، ولا يذكرونه بألسنتهم، وإذا ذُكر لهم سَدّوا مَسامعهم عن ذكره.

ولقد صدق القائل: عدوٌّ عاقل خيرٌ من صديق أحمق؛ لأنهم بحُمْقِهم قصدوا تعظيم المسيح، فاجتهدوا في ذَمّه وتنقُّصه، والإزراء به، والطّعْن عليه، وكان مقصودهم بذلك التشنيع على اليهود، وتنفير الناس عنهم، وإغراءَهم بهم، فَنَفّروا الأمم عن النصرانية وعن المسيح ودينه أعظم تنفير، وعلموا أن الدِّين لا يقوم بذلك، فوضع لهم رُهبانُهم وأساقفتهم من الحِيل والمخاريق وأنواع الشّعْبَذَة ما استمالوا به الجُهّال، وربطوهم به، وهم يَسْتجيزون ذلك، ويستحسنونه، ويقولون: إنه يَشُدّ دين النصرانية!

ص: 1056

وكأنهم إنما عظموا الصليب لما رأوه قد ثبت لصَلْبِ إلههم، ولم ينشقّ، ولم يتطاير ويتكسّر من هيبته لما حُمل عليه، وقد ذكروا أن الشمس اسوَدّت وتَغَيّر حال السماء والأرض، فلما لم يتغيّر الصليبُ ولم يتطاير استحقّ عندهم التعظيمَ وأن يُعْبَد.

ولقد قال بعض عقلائهم: إن تعظيمنا للصليب جارٍ مَجْرى تعظيم قبور الأنبياء، فإنه كان قبر المسيح وهو عليه، ثم لمّا دُفنَ صار قبرُه في الأرض! وليس وراء هذا الحمق والجهل حُمْق، فإن السجود لقبور الأنبياء وعبادتها [159 ب] شركٌ، بل من أعظم الشرك، وقد لَعَنَ إمام الحنفاء وخاتمُ الأنبياء صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى، حيثُ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد

(1)

، وأصلُ الشرك وعبادة الأوثان: من العُكوف على القبور، واتخاذها مساجد.

ثم يقال: فأنتم تعظّمون كلَّ صليب، ولا تَخُصّون التعظيمَ بذلك الصليب بعينِهِ.

فإن قلتم: الصليب من حيث هو يُذَكِّر بالصليب الذي صُلب عليه إلهنا.

قيل: وكذلك الحُفَر تذكِّر بحفرته، فعَظِّموا كلَّ حُفْرةٍ، واسجدُوا لها، لأنها كحفرته أيضًا بل أولى، لأن خشبة الصليب لم يَسْتَقِرّ عليها استقرارَه في الحفرة.

ثم يقال: اليدُ التي مَسّته أولى أن تُعَظَّم من الصليب، فعظِّموا أيدي اليهود، لمسّهِم إيّاهُ، وإمساكهم له، ثم انقُلوا ذلك التعظيم إلى سائر الأيدي.

فإن قلتم: منع من ذلك مانعُ العداوة:

(1)

تقدم تخريجه.

ص: 1057

فعندكم أنه هو الذي رضي بذلك واختار، ولو لم يرضَ به لم يَصِلُوا إليه منه، فعلى هذا فينبغي لكم أن تشكروهم وتحمدوهم، إذ فعلوا مرضاته واختياره الذي كان سبب خلاص جميع الأنبياء والمؤمنين والقدّيسين من الجحيم ومن سِجْنِ إبليس، فما أعظم مِنّةَ اليهود عليكم وعلى آبائكم، بل وعلى سائر النبيين، من لدن آدم عليه السلام إلى زمن المسيح!

والمقصود: أن هذه الأمة جمعت بين الشرك وعَيْب الإله وتنقّصه، وتنقّص نبيهم وعيبه ومفارقة دينه بالكُلِّيَّة، فلم يتمسَّكوا بشيء مما كان عليه المسيح، لا في صلاتهم، ولا في صيامهم، ولا في أعيادهم، بل هم في ذلك أتباعُ كلّ ناعِق، مستجيبون لكل مُمَخْرِق ومبطِل، أدخلوا في الشريعة ما ليس منها، وتركوا ما أتت به.

وإذا شئتَ أن ترى العبر في دينهم فانظر إلى صيامهم الذي وضعوه لملوكهم وعُظمائهم، فلهم صيامٌ للحواريِّين، وصيامٌ لمارِ مريم، وصيام لمارِ جِرْجِس، وصيام للميلاد! وتركُهم أكل اللحم في صيامِهم مما أدخلوه في دين المسيح، وإلا فهم يعلمون أن المسيح عليه السلام كان يأكلُ اللحم، ولم يمنعهم منه في صومٍ ولا فطرٍ.

وأصل ذلك: أن المانوية كانوا لا يأكلون ذا رُوح، فلما دخلوا في النصرانية خافوا أن يتركوا أكل اللحم فيُقْتَلوا، فشرعوا لأنفسهم صيامًا، فصاموا للميلاد، والحواريين، ومار مريم، وتركوا في هذا الصوم أكل اللحم محافظةً على ما اعتادوه من مذهب مَانِيْ، فلما طال الزمانُ تبعهم على ذلك النّسطورية واليعقوبية، فصارت سنةً متعارفة بينهم، ثم تبعهم على ذلك الملكانية.

ص: 1058

فصل

ثم إنك إذا كشفت عن حالهم وجدت أئمة دينهم ورُهبانَهُم قد نصبوا حبائل الحِيَل ليقبضوا بها عقول العوامّ، ويتوصَّلوا بالتمويه والتلبيس إلى استمالتهم وانقيادهم، واستدرار أموالهم، وذلك أشهرُ وأكثر من أن يُذْكَر.

فمن ذلك: ما يعتمدونه في العيد الذي يسمونه عيد النور، ومحله بيت المقدس، فيجتمعون من سائر النواحي في ذلك اليوم، ويأتون إلى بيتٍ فيه قنديلٌ معلّق لا نار فيه، فيتلو أحبارهم الإنجيل، ويرفعون أصواتهم، ويبتهلون في الدعاء، فبينا هم كذلك وإذا نارٌ قد نزلت من سقف البيت، فتقع على ذبالَة القنديلِ، فيشرق ويضيء ويشتعل، فيضجُّون ضَجَّةً واحدةً، ويصلِّبون على وجوههم، ويأخذون في البكاء والشهيق.

قال أبو بكر الطُّرْطُوشي: كنتُ ببيت المقدس، وكان واليها إذ ذاك رجلاً يقال له: سقمان، فلما نما إليه خبرُ هذا العيد أنفذ إلى بتاركتهم، وقال: أنا نازلٌ إليكم في يوم هذا العيد لأكشف عن حقيقة ما تقولون، [160 أ] فإن كان حقًّا ولم يتضحْ لي وجه الحيلة فيه أقررتكم عليه وعظَّمته معكم بِعِلْمٍ، وإن كان مخرقةً على عوامِّكم أوقعتُ بكم ما تكرهونه، فصعُبَ ذلك عليهم جدًّا، وسألوه أن لا يفعل، فأبى وألحَّ، فحملوا له مالاً عظيمًا، فأخذه وأعرض عنهم.

قال الطرطوشي: ثم اجتمعت بأبي محمد بن الأقدم بالإسكندرية، فحدَّثني أنهم يأخذون خيطًا رقيقًا من نحاس وهو الشريط، ويجعلونه في

ص: 1059

وسط قبة البيت إلى رأس الفتيلة التي في القنديل، ويدهنونه بدهن اللبان، والبيتُ مظلمٌ، بحيث لا يدرك الناظرون الخيط النحاس، وقد عظّموا ذلك البيت، فلا يمكِّنون كلَّ أحد من دخوله، وفي رأس القبة رجلٌ، فإذا قدّسوا ودَعَوْا ألقى على ذلك الخيط شيئًا من نار النّفْط، فتجري النار مع دهن اللبان إلى آخر الخيط النحاس، فتَلْقَى الفتيلة، فتعلَّقُ بها.

فلو نصح أحدٌ منهم نفسه، وفتش على نجاته، لتتبَّع هذا القدر، وطلب الخيط النحاس، وفتش رأس القبة ليرى الرجُل والنفط، ويرى أن منبع ذلك النور من ذلك الممخرِق الملبّس، وأنه لو نزل من السماء لظهرَ من فوق ولم يكن ظهوره من الفتيلة.

ومن حِيلهم أيضًا: أنه قد كان بأرض الروم في زمن المتوكّل كنيسةٌ، إذا كان يوم عيدها يحجّ الناس إليها، ويجتمعون عند صنم فيها، فيشاهدون ثَدْيَ ذلك الصنم في ذلك اليوم يخرجُ منه اللبن، وكان يجتمع للسادِن في ذلك اليوم مالٌ عظيم، فبحث الملك عنها، فانكشف له أمرها، فوجد القَيّم قد ثَقب من وراء الحائط ثُقبًا إلى ثدي الصنم، وجعل فيها أنبوبةً من رَصاصٍ، وأصلحها بالجير ليَخْفَى أمرها، فإذا كان يومُ العيد فتحها وصبّ فيها اللبن، فيجري إلى الثدي، فيقطر منه، فيعتقد الجهال أن هذا سرٌّ في الصنم، وأنه علامة من الله تعالى لقبول قُربانهم، وتعظيمهم له، فلما انكشف له ذلك أمر بضرب عنق السادِن، ومحو الصور من الكنائس، وقال: إن هذه الصور مقام الأصنام، فمن سجد للصورة فهو كمن سجد للأصنام.

ولقد كان من الواجب على ملوك الإسلام أن يمنعوا هؤلاء من هذا وأمثاله لما فيه من الإعانة على الكفر، وتعظيم شعائره، فالمساعد على ذلك

ص: 1060

والمعين عليه شريك للفاعل، لكن لمَّا هان عليهم دينُ الإسلام، وكان السُّحت الذي يأخذونه منهم أحبَّ إليهم من الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام، أقَرّوهم على ذلك، ومكّنوهم منه.

فصل

والمقصود: أن دين الأمّة الصّليبية بعد أن بعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم، بل قَبْلَه بنحو ثلاث مئة سنة، مبنيٌّ على مُعاندة العقول والشرائع، وتنقُّصِ إله العالمين ورَمْيه بالعظائم، فكل نصراني لا يأخذ بحظّه من هذه البليّة فليس بنصراني على الحقيقة.

أفليس هو الدِّين الذي أسَّسه أصحاب المجامع المتلاعنين على أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد؟

فيا عجبًا! كيف رضي العاقل أن يكون هذا مبلغَ عقله، ومنتهى علمه؟

أتُرَى لم يكن في هذه الأمة مَنْ يَرْجِعُ إلى عقله وفطرته، ويعلم أن هذا عين المحال، وإن ضربوا له الأمثال، واستخرجوا له الأشباه، فلا يذكرون مثالًا ولا شبهًا إلا وفيه بيان خطئهم وضلالهم؟ كتشبيه بعضهم اتحاد اللاهوت بالناسوت وامتزاجه به، باتحاد النار والحديد، وتمثيل غيرهم ذلك باختلاط الماء باللبن، وتشبيه آخرين ذلك بامتزاج الغذاء واختلاطه بأعضاء البدن، إلى غير ذلك من الأمثال والمقاييس، التي تتضمن امتزاج حقيقتين واختلاطهما، حتى صارا [160 ب] حقيقة أخرى ــ تعالى الله عز وجل عن إفكهم وكذبهم.

ص: 1061

ولم يُقنعهم هذا القول في ربّ السماوات والأرض، حتى اتفقوا بأسْرهم على أن اليهود أخذوه، وساقوه بينهم ذليلًا مقهورًا، وهو يحمل خشبته التي صلبوه عليها، واليهود يبصقون في وجهه، ويضربونه، ثم صلبوه وطعنوه بالحربة، حتى مات، وتركوه مصلوبًا، حتى التصق شعره بجلده، لما يبس دمه بحرارة الشمس، ثم دُفن، وأقام تحت التراب ثلاثة أيام، ثم قام بلاهُوتيّتِه من قبره. هذا قول جميعهم، ليس فيهم من ينكر منه شيئًا.

فيا للعقول! كيف كان حال هذا العالِم الأعلى والأسفل في هذه الأيام الثلاثة؟ ومَنْ كان يُدَبّر أمر السماوات و الأرض؟ ومن الذي خَلَفَ الرب سبحانه وتعالى في هذه المدة؟ ومَن كان الذي يُمسك السماء أن تقع على الأرض، وهو مَدْفون في قبره؟

ويا عجبًا! هل دُفنت الكلمةُ معه بعد أن قُتِلت وصُلبت؟ أم فارقته وخذلته أحوج ما كان إلى نَصْرها له، كما خذله أبوه وقومه؟

فإن كانت قد فارقته وتَجَرّد منها فليس هو حينئذٍ المسيح، وإنما هو كغيره من آحادِ الناس. وكيف يصحّ مُفارقتها له بعد أن اتَّحَدَتْ به، ومازَجَتْ لحمه ودمه؟ وأين ذهب الاتحادُ والامتزاج؟

وإن كانت لم تفارقه، وقُتلت وصُلبت، ودُفنت معه، فكيف وصل المخلوق إلى قتل الإله، وصَلبه ودفنه؟

ويا عجبًا! أيّ قبر يسع إله السماوات والأرض؟

هذا وهو {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23].

ص: 1062

أَعُبّادَ المَسِيحِ لَنَا سُؤَالٌ

نُرِيدُ جَوَابَهُ مِمَّن وَعَاهُ

(1)

إِذَا ماتَ الإِلهُ بِصُنْع قومٍ

أمَاتُوهُ فَما هذَا الإِلهُ

وَهَلْ أرضاه ما نَالُوهُ مِنْهُ

فبُشْرَاهمْ إذا نالُوا رِضَاهُ

وَإِنْ سَخِطَ الذي فَعَلُوهُ فيه

فَقُوَّتُهمْ إِذًا أوْهَتْ قُوَاهُ

وَهَلْ بَقِي الوُجُودُ بِلَا إِلهٍ

سَمِيعٍ يَسْتَجِيبُ لِمَنْ دَعَاهُ

وَهَلْ خَلَتِ الطِّبَاقُ السَّبْعُ لَمّا

ثَوَى تَحتَ التُّرَابِ وَقَدْ عَلاه

وَهَلْ خَلَتِ الْعَوَالُم مِن إِلهٍ

يُدَبِّرهَا وَقَدْ سُمِرَتْ يَدَاهُ

وَكَيْفَ تَخَلَّتِ الأَمْلَاكُ عَنْهُ

بِنَصْرِهِمُ وَقَدْ سَمِعُوا بُكاهُ

وكَيْفَ أطَاقَتِ الخَشَبَاتُ حَمْلَ الْـ

إلَهِ الحَقِّ مَشْدُودًا قَفَاهُ

وَكيْفَ دَنَا الحَدِيدُ إِلَيْهِ حَتَّى

يُخَالِطَهُ وَيَلْحَقَهُ أذَاهُ

وَكيْفَ تَمكَّنَتْ أَيْدِي عِدَاهُ

وَطَالتْ حَيْثُ قَدْ صَفَعُوا قَفَاهُ

وَهَلْ عَادَ المَسِيحُ إِلَى حَيَاةٍ

أَمِ المُحْيي لَهُ رَبٌّ سِوَاهُ

وَيَا عَجَبًا لِقَبْرٍ ضَمَّ رَبًّا

وَأَعْجَبُ مِنْهُ بَطْنٌ قَدْ حَوَاهُ

أَقَامَ هُنَاكَ تِسْعًا مِنْ شُهُورٍ

لَدَى الظُّلُمَاتِ مِنْ حَيْضٍ غِذَاهُ

وَشَقَّ الْفَرْجَ مَوْلُودًا صَغِيرًا

ضَعِيفا فَاتِحًا لِلثَّدْي فَاهُ

وَيَأْكُلُ ثُمَّ يَشْرَبُ ثمَّ يَأْتِي

بِلَازِمِ ذَاكَ هَلْ هذَا إِلهُ

تَعَالَى اللهُ عَنْ إِفْكِ النَّصَارَى

سَيُسأَلُ كُلُّهُمْ عَمَّا افترَاهُ [161 أ]

أَعُبَّادَ الصَّلِيبِ لأيّ مَعْنًى

يُعَظَّم أوْ يُقَبَّحُ مَنْ رَمَاهُ

وَهَلْ تَقْضِي العُقُولُ بِغَيْرِ كَسْرٍ

وَإحْرَاقٍ لَهُ وَلِمَنْ نَعَاهُ

إِذَا رَكِبَ الإِلهُ عَلَيْهِ كُرْهًا

وَقَدْ شُدَّتْ لِتَسْمِيرٍ يَدَاهُ

(1)

لعل القصيدة للمؤلف.

ص: 1063

فَذَاكَ المَرْكَبُ المَلْعُونُ حَقًّا

فَدُسْهُ لا تَبُسْهُ إِذْ تَرَاهُ

يُهَانُ عَلَيْهِ رَبُّ الْخَلقِ طُرًّا

وتَعْبُدُهُ فَإِنّكَ مِنْ عِدَاهُ

فإِنْ عَظَّمْتَهُ مِنْ أَجْلِ أَنْ قَدْ

حَوَى رَبَّ العِبَادِ وَقَدْ عَلَاهُ

وَقَدْ فُقِدَ الصَّلِيبُ فإِنْ رَأَيْنَا

لَهُ شَكْلًا تَذَكَّرْنَا سَنَاهُ

فَهَلاّ للقُبُورِ سَجَدْتَ طُرًّا

لِضَمِّ القبرِ رَبّكَ في حَشَاهُ

فَيَا عبد المَسيحِ أَفِقْ فَهَذَي

بِدَايَتُهُ وَهذَا مُنْتَهاهُ

فصل

قد بانَ لكل ذي عقل أن الشيطان تلاعبَ بهذه الأمة الضّالة كلَّ التلاعُب، ودعاهم فأجابوه، واستخفهم فأطاعوه.

فتلاعب بهم في شأن المعبود سبحانه وتعالى.

وتلاعبَ بهم في أمر المسيح.

وتلاعب بهم في شأن الصليب وعبادته.

وتلاعبَ بهم في تَصْوير الصّور في الكنائس وعبادتها، فلا تجدُ كنيسة من كنائسهم تَخْلُو عن صورة مريم، والمسيح، وجرجس، وبطرس، وغيرهم من القديسين عندهم، والشهداء.

وأكثرهم يسجدون للصور، ويدعونها من دون الله تعالى.

حتى لقد كتب بِطْريقُ الإسكندرية إلى ملك الروم كتابًا يحتجّ فيه للسجود للصور: بأن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يُصَوِّر في قُبّة الزمان صورة الساروس، وبأن سليمان بن داود لما عمل الهيكل عمل صورة الساروس من ذهب، ونَصَبها داخل الهيكل.

ص: 1064

ثم قال في كتابه: وإنما مثال هذا مثال الملك يكتبُ إلى بعض عُمّاله كتابًا، فيأخذه العاملُ ويُقَبِّله ويضعهُ على عينيه، ويقومُ له، لا تعظيمًا للقِرطاس والمداد، بل تعظيمًا للملك، كذلك السجود للصور تعظيمٌ لاسم ذلك المصوّر، لا للأصباغ والألوان.

وبهذا المثال بعينه عُبِدَت الأصنام.

وما ذكره هذا المشركُ عن موسى وسليمان عليهما السلام لو صحَّ لم يكن فيه دليلٌ على السجود للصور، وغايتُه أن يكون بمثابة ما يُذكر عن داود: أنه نقش خطيئته في كفِّه لئلا ينساها، فأين هذا مما يفعله هؤلاء المشركون من التذَلّل، والخضوع، والسجود بين يدي تلك الصور؟

وإنما المثالُ المطابقُ لما يفعله هؤلاء المشركون: مثالُ خادمٍ من خُدّام الملك دخل على رَجُل قريب من مجلسه، وسجد له وعبده، وفعل به ما لا يصلح أن يُفعل إلا مع الملك، وكلّ عاقل يستجهله ويستحمقه في فعله إذ قد فعلَ مع عبد الملك ما كان ينبغي له أن يَخُصّ به الملك دون عبيده من الإكرام، والخضوع، والتذلل.

ومعلومٌ أن هذا إلى مَقْتِ الملك له، وسُقوطه من عينه أقربُ منه إلى إكرامه له، ورفع منزلته.

كذلك حالُ مَنْ سجد لمخلوق، أو لصورة مخلوق لأنه عَمَدَ إلى السجود الذي هو غايةُ ما يتوصل به العبدُ إلى رضا الربّ، ولا يصلح إلا له، ففعله لصورة عبد من عبيده، وسوّى بين الله وبين عبده في ذلك، وليس وراء هذا في القبح والظلم شيء. ولهذا قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].

ص: 1065

[161 ب] وقد فطر الله سبحانه عباده على استقباح معاملة عبيد الملك وخدمه بالتعظيم، والإجلال، والخضوع، والذل الذي يُعامل به الملك، فكيف حالُ مَنْ فعل ذلك بأعداء الملك؟

فإن الشيطان عدوّ الله، والمشرك إنما يشرك به، لا بِوَليِّ الله ورسوله، بل رسول الله وأولياؤه بريئون ممن أشرك بهم، مُعَادُون لهم، أشدّ الناس مقتًا لهم، فهم في نفس الأمر إنما أشركوا بأعداء الله، وسوَّوا بينهم وبين الله في العبادة والتعظيم، والسجود، والذل.

ولهذا كان بُطلانُ الشرك وقبحه معلومًا بالفطرة السليمة والعقول الصحيحة، والعلم بقبحه أظهر من العلم بقبح سائر القبائح.

والمقصود ذكر تلاعب الشيطان بهذه الأمة في أصول دينهم وفروعه كتلاعبه بهم في صيامهم فإن أكثر صومهم لا أصل له في شرع المسيح، بل هو مختلق مبتدع.

فمن ذلك: أنهم زادوا جمعة في بَدْء الصوم الكبير، يصومونها لهِرقل ملك بيت المقدس.

وذلك أن الفُرس لمَّا ملكوا بيت المقدس، وقتلوا النصارى، وهدموا الكنائس، أعانهم اليهود على ذلك، وكانوا أكثر قتلًا وفتكًا في النصارى من الفُرس، فلما سار هرقل إليه استقبله اليهود بالهدايا، وسألوه أن يكتب لهم عهدًا، ففعل، فلما دخل بيت المقدس شكا إليه مَنْ فيه من النصارى ما كان اليهود صنعوه بهم، فقال لهم هرقل: وما تريدون مني؟ قالوا: تقتلهم، قال: كيف أقتلهم، وقد كتبت لهم عهدًا بالأمان؟ وأنتم تعلمون ما يجب على ناقض العهد، فقالوا له: إنك حين أعطيتهم الأمان لم تَدْرِ ما فعلوا مِنْ قَتْل

ص: 1066

النصارى، وهَدْم الكنائس، وقَتْلُهم قُربانٌ إلى الله تعالى، ونحن نتحمَّل عنك هذا الذنب ونكفِّره عنك، ونسأل المسيح أن لا يؤاخذك به، ونجعل لك جمعة كاملة في بدء الصوم، نصومها لك، ونترك فيها أكل اللحم مادامت النصرانية، ونكتب به إلى جميع الآفاق، غفرانًا لما سألناك! فأجابهم، وقتل من اليهود حول بيت المقدس وجبل الخليل ما لا يُحصى كثرة.

فصيّروا أول جمعة من الصوم الذي يترك فيه المَلِكيّة أكل اللحم، يصومونها لهرقل الملك، غفرانًا لنقضه العهد، وقتل اليهود، وكتبوا بذلك إلى الآفاق.

وأهل بيت المقدس

(1)

وأهل مصر يصومونها.

وبقية أهل الشام والروم يتركون اللحم فيها، ويصومون الأربعاء والجمعة.

وكذلك لمَّا أرادوا نقل ذلك

(2)

إلى فصل الرّبيع المعتدل، وتغيير شريعة المسيح، زادوا فيه عشرة أيام عِوضًا وكفارة لنقلهم له.

ومن ذلك: تلاعبه بهم في أعيادهم، وكلها موضوعة مختلقة، مُحْدَثَةٌ بآرائهم واستحسانهم.

فمن ذلك عِيدُ ميكائيل، وسببه أنه كان بالإسكندرية صنم، وكان جميع مَن بمصر والإسكندرية يُعَيّدون له عيدًا عظيمًا، ويذبحون له الذبائح، فولَّى بَتْرَكةُ الإسكندرية واحدًا منهم، فأراد أن يكسره، ويبطل الذبائح، فامتنعوا

(1)

م: «الملك» . وهو تحريف.

(2)

كذا في م، وفي بقية النسخ:«الصوم» .

ص: 1067

عليه، فاحتال عليهم، وقال: إن هذا الصنم لا ينفع ولا يضرُّ، فلو جعلتم هذا العيد لميكائيل ملك الله تعالى، وجعلتم هذه الذبائح له، كان يشفع لكم عند الله، وكان خيرًا لكم من هذا الصنم! فأجابوه إلى ذلك، فكسر الصنم، وصيّره صُلبانًا، وسمى الكنيسة كنيسة ميكائيل، وسماها قيسارية، ثم احترقت الكنيسة وخربت، وصيّروا العيد والذبائح لميكائيل.

فنقلهم من [162 أ] كفر إلى كفر، ومن شرك إلى شرك.

فكانوا في ذلك كمجوسيٍّ أسلم، فصار رافضيًّا، فدخل الناس عليه يهنئونه، فدخل عليه رجل، وقال: إنك إنما انتقلت من زاوية من النار إلى زاوية أخرى.

ومن ذلك: عيد الصليب، وهو مما اختلقوه وابتدعوه فإن ظهور الصليب إنما كان بعد المسيح بزمن كثير، وكان الذي أظهره زورًا وكذبًا أخبرهم به بعض اليهود أن هذا هو الصليب الذي صُلب عليه إلههم وربهم.

فانظر إلى هذا السند، وهذا الخبر!

فاتخذوا ذلك الوقت الذي ظهر فيه عيدًا، وسمَّوه عيد الصليب، ولو أنهم فعلوا كما فعل أشباهُهم من الرافضة، حيث اَّتخذوا وقت قتل الحسين رضي الله عنه مأتمًا وحزنًا، لكان أقرب إلى العقول.

وكان من حديث الصليب: أنه لما صُلب المسيح على زعمهم الكاذب، وقُتل ودفن، رُفع من القبر إلى السماء، وكان التلاميذ كلَّ يوم يصيرون إلى القبر إلى موضع الصلب ويصلُّون، فقالت اليهود: إن هذا الموضع لا يخفى، وسيكون له نبأ، وإذا رأى الناس القبر خاليًا آمنوا به، فطرحوا عليه التراب والزبل، حتى صار مَزْبلة عظيمة، فلما كان في أيام قُسطَنطين الملك جاءت

ص: 1068

زوجته إلى بيت المقدس تطلب الصليب، فجمعت من اليهود والسكان ببيت المقدس والخليل مئة رجل، واختارت منهم عشرة، واختارت من العشرة ثلاثة اسمُ أحدهم يهوذا، فسألتهم أن يدلّوها على الموضع، فامتنعوا وقالوا: لا علم لنا بالموضع، فطرحتهم في الحبس في جُبٍّ لا ماء فيه، فأقاموا سبعة أيام، لا يُطعَمون، ولا يُسقون، فقال يهوذا لصاحبيه: إن أباه عرّفه بالموضع الذي تطلب، فصاح الاثنان، فأخرجوهما، فخبّراها بما قال يهوذا، فأمرت بضربه بالسياط، فأقرّ، وخرج إلى الموضع الذي فيه المقبرة، وكان مَزْبلة عظيمة، فصلى، وقال: اللهم، إن كان في هذا الموضع، فاجعله أن يتزلزل ويخرج منه دخان، فتزلزل الموضع، وخرج منه دخان، فأمرت الملكة بكنس الموضع من التراب، فظهرت المقبرة، وأصابوا ثلاثة صُلْبَانٍ، فقالت الملكة: كيف لنا أن نعلم صليب سيدنا المسيح؟ وكان بالقرب منهم عليل شديد العلة، قد أُيس منه، فوُضع الصليب الأول عليه، ثم الثاني، ثم الثالث، فقام عند الثالث، واستراح من عِلّته، فعلمت أنه صليبُ المسيح، فجعلته في غلاف من ذهب، وحملته إلى قسطنطين.

وكان من ميلاد المسيح إلى ظهور هذا الصليب: ثلاث مئةٍ وثلاث

(1)

وعشرون سنة.

هذا كله نقله سعيد بن بطريق النصراني في «تاريخه»

(2)

.

والمقصود: أنهم ابتدعوا هذا العيد بنقل علمائهم بعد المسيح بهذه المدة.

(1)

ش: «ثمان» .

(2)

انظر تاريخه المسمى «نظم الجوهر» .

ص: 1069

وبعدُ، فسند هذه الحكاية من بين يهودي ونصراني، مع انقطاعها، وظهور الكذب فيها لمن له عقل من وجوه كثيرة.

ويكفي في كذبها وبيان اختلاقها: أن ذلك الصليب الذي شفى العليل، كان أولى أن لا يُمِيتَ الإله

(1)

الرب المحيي المميت.

ومنها: أنه إذا بقي تحت التراب خشب ثلاث مئة وثلاث وعشرين سنة، فإنه يَنْخَرُ ويَبْلَى لدون هذه المدة.

فإن قال عُبّاد الصليب: إنه لما مَسّ جسم المسيح حصل له الثبات والقوة والبقاء!

قيل لهم: فما بالُ الصليبينِ الباقيينِ لم يَتَفَتَّتَا واشتبها به؟

فلعلهم يقولون: لما مَسّت صليبه مسَّها البقاء والثبات.

وجهلُ القوم وحمقهم أعظم من ذلك، والرب سبحانه وتعالى لما تجلّى للجبل تَدَكْدَكَ الجبل، وساخ [162 ب] في الأرض، ولم يثبت لِتَجلِّيه، فكيف تثبت الخشبة لركوبه عليها في تلك الحال؟

ولقد صدق القائل: إن هذه الأمة عارٌ على بني آدم أن يكونوا منهم.

فإن كانت هذه الحكاية صحيحةً، فما أقربها من حيل اليهود التي تخلَّصوا بها من الحبس والهلاك!

وحيل بني آدم تصل إلى أكثر من ذلك بكثير، ولا سيما لمَّا علم اليهود أن ملكة دين النصرانية قاصدة إلى بيت المقدس، وأنها تعاقبهم حتى يَدُلُّوها

(1)

«الإله» ساقطة من م.

ص: 1070