الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل جامع في معراج النبي صلى الله عليه وسلم
قال اللَّه جل جلاله: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى * ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى* فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى * فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى * ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى * أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى * عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى * ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى * لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [ (1) ] .
قوله: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى، قسم، هوى، سقط، ما ضَلَّ، ما حاد عن الصواب، صاحِبُكُمْ، هو محمد صلى الله عليه وسلم، وَما غَوى ما تعلم بالباطل، وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، أي وما يتقول من هواه وشهوته، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى أي ما القرآن إلا وحي من اللَّه يوحى إليه.
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى، أي جبريل، ذو شدة وقوة، ذُو مِرَّةٍ، أي ذو إحكام للشيء، فَاسْتَوى، يعنى جبريل، وهو يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم، أي أيهما استويا بالأفق الأعلى ليلة الإسراء، وقيل: استوى جبريل وهو بالأفق الأعلى، على صورته التي خلقه اللَّه عليها، ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى، أي تدلى [فدنا] ، لأن التدلي سبب الدنوّ، وقيل: تدلى [للدنو] ، ودنا [للتدلى]، وقيل: دنا، أي قرب، فتدلى، زاد في القرب.
والمشار إليه، قيل: هو اللَّه، كما في الصحيح، من حديث أنس [رضى
[ (1) ] النجم (1- 18) .
اللَّه تعالى عنه] قال: دنا الجبار ربّ العزة، فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى. وهو اختيار مقاتل، ورواه أبو سلمة، عن ابن عباس [رضى اللَّه عنهما] .
وقيل: المشار إليه، هو محمد صلى الله عليه وسلم، دنا من ربه تعالى، قاله ابن عباس [والقرطبي] وقيل: ثم دنا محمد من ساق العرش، فتدلى، أي جاوز الحجاب والسرادقات، وهو قائم بإذن اللَّه، كالمتعلق بالشيء، لا تثبت قدمه على مكان، وهذا قول الحسين [بن] الفضل، وقيل: تدلى، [أي] هوى للسجود.
وقيل: المشار إليه، هو جبريل عليه السلام، أي دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض، حين كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بحراء، فطلع له جبريل من المشرق، فسدّ الأفق إلى المغرب، فخرّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مغشيا عليه، فنزل جبريل وتدلى [إليه] ، حتى قرب لإلقاء الوحي، فكان قربه منه قاب قوسين، أي لم يماسه، وهذا قول الحسن وقتادة.
وقيل: دنا جبريل ليلة الإسراء من [النبي] صلى الله عليه وسلم، وتدلى أي دنا، فإنّ دنا وتدلى بمعنى واحد، وقيل: دنا جبريل من ربه تعالى، [فكان] منه قاب قوسين أو أدنى. قاله مجاهد، والقاب، قيل: هو القدر، وقيل: ما بين مقبض القوس والسّية، ولكل قوس قابان، وسية القوس: ما انعطف من طرفها، يعنى قدر طول قوسين. قاله قتادة.
وقيل: بحيث الوتر من القوس. قاله مجاهد، وقيل: هو من مقبض القوس إلى طرفيها. قاله عبد الوارث، وقيل: ما بين الوتر إلى كبد القوس.
قاله عكرمة، وقيل: كان بينهما، أي بين محمد وجبريل عليهما السلام، قدر ذراعين. قاله عبد اللَّه بن مسعود، وسعيد بن جبير، والسّدى أَوْ أَدْنى أي أقرب.
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
أي أوحى اللَّه إلى محمد صلى الله عليه وسلم كفاحا ليلة المعراج، وقيل: أوحى جبريل إلى محمد ما أوحى اللَّه إليه. رواه عطاء عن ابن عباس، وقيل: أوحى اللَّه إلى جبريل ما يوحيه. روى ذلك عن عائشة، والحسن، وقتادة.
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى يعنى ما أنكر فؤاده ما رأته عيناه، وقيل: ما أوهمه فؤاده أنه رأى ولم ير، بل صدقه الفؤاد، وهذا إخبار عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه تعالى. قاله ابن عباس، وأنس، والحسن، وعكرمة.
قال ابن عباس: رآه تعالى بفؤاده، ولم يره بعينه، وعن أنس، وعكرمة، والحسن، أنه رآه بعينه، وقال السّدى: رآه في المنام، وعن أبى العالية، أنه رأى جلال اللَّه وعظمته، وعن أبى ذرّ، وأبى سعيد الخدريّ، ومجاهد، أنه رأى نورا، وعن ابن مسعود، وعائشة رضى اللَّه عنها، أنه رأى جبريل على صورته التي خلق عليها.
أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى؟ أي أفتجحدونه؟ قاله أبو عبيدة، وعن المبرّد، أفتدفعونه عما يرى؟ وقيل: أفتجادلونه وتدافعونه؟
لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، يعنى رأى محمد ربّه عز وجل، في قول ابن عباس وكعب، وقيل: رأى جبريل مرة أخرى، فسماها نزلة على الاستعارة، وذلك أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على صورته التي خلق عليها مرتين:
مرة بالأفق، ومرة عند سدرة المنتهى في السماء. وهذا قول عائشة وغيرها، اختاره الثعلبي.
وقال الواحدي: معنى [قوله:] نَزْلَةً أُخْرى: يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت له عرجات في تلك الليلة، لاستحطاط عدد الصلوات، فكل عرجة نزلة عند سدرة المنتهى، ففي حديث مالك بن صعصعة- المتقدم
ذكره- أنها فوق السماء السابعة، وقال مقاتل: هي عن يمين العرش، وتقدم في حديث مسلم، أنها في السماء السادسة، وبه قال الضحاك.
وعن هلال بن يساف: سأل ابن عباس كعبا عن سدرة المنتهى وأنا حاضر، فقال كعب: إنها سدرة في أصل العرش، على رءوس حملة العرش، إليها ينتهى علم الخلائق، وعن مقاتل: هي طوبى التي ذكرها اللَّه في سورة الرعد [وهي قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ] .
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى، أي عند سدرة المنتهى، [قال مجاهد: سِدْرَةِ الْمُنْتَهى، قال: أقصى الدنيا، وأدنى الآخرة، وعندها يجتمع الليل والنهار، وقال زهير بن محمد: المنتهى، قد انتهى علم الخلائق دونها] [ (1) ] .
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى، ففي حديث مسلم قال: غشيها فراش من ذهب، وفي حديث مالك بن صعصعة قال: لما غشيها من أمر اللَّه ما غشيها، تغيرت، فما أحد من خلق اللَّه يستطيع أن يصفها من حسنها، وعن الحسن ومقاتل: تغشاها الملائكة أمثال الغربان، حيث يقعن على الشجر، وعن الضحاك: غشيها نور العزة جل جلاله.
ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى، أي بصر محمد صلى الله عليه وسلم، ما عدل يمينا ولا شمالا، ولا زاد ولا جاوز ما أمر بالنظر إليه، وعن ابن عباس رضى اللَّه [عنهما] : ما مال بصره عن رؤية الآيات خوفا وجزعا، بل قوى على النظر في الآيات.
لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى، أي رأى من آيات ربه الآية الكبرى، يعنى أنه رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سدّ الأفق. قاله ابن مسعود، وقيل
[ (1) ] زيادة للسياق، الرعد:29.
أنه رأى جبريل عليه السلام، في صورته التي يكون عليها في السموات.
قاله ابن زيد، وابن عباس، في رواية أبى صالح ومقاتل بن حيان.
وقيل: رأى سدرة المنتهى. قاله الضحاك، وقيل: رأى ما غشي السدرة من فراش الذهب. قاله عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه عنه، وقيل: رأى [المعراج] وما مرّ به في مسراه وعوده. قاله محمد بن جرير الطبري، وقيل: ما رآه حين نامت عيناه ونظر فؤاده. وهذا قول حكى عن الضحاك، وقيل من التبعيض، أي رأى بعض الآيات، وقيل: هي زائدة، أي رأى آيات ربه الكبرى، وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي رأى الكبرى من آيات ربه عز وجل.
[و] خرّج مسلم من حديث سليمان بن فيروز الشيباني، قال: سألت زرّ بن حبيش عن قول اللَّه تبارك وتعالى: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى، قال: أخبرنى ابن مسعود أن النبي رأى جبريل عليه السلام، له ستمائة جناح [ (1) ] .
وخرجه البخاري، ولفظه، قال: سألت زرا عن قوله: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى * فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى قال: أخبرنا عبد اللَّه، أنه محمد رأى جبريل له ست مائة جناح. ذكره في كتاب التفسير [ (2) ] ، وفي كتاب بدء الخلق [ (3) ] ، وخرجه النسائي أيضا.
ولمسلم عن الشيباني عن زر، عن عبد اللَّه ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى،
[ (1) ](مسلم بشرح النووي) : 3/ 6، كتاب الإيمان باب (76) في ذكر سدرة المنتهى حديث رقم (280) .
[ (2) ](فتح الباري) : 8/ 784، كتاب التفسير، تفسير سورة النجم، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى، حديث رقم (4856) ، (4857) ، وفي باب فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى.
[ (3) ](فتح الباري) : 6/ 385، كتاب بدء الخلق، باب (7) إذا قال أحدكم: آمين، حديث رقم 3232.
قال: رأى جبريل عليه السلام، له ست مائة جناح [ (1) ] .
وفي حديث آخر له، عن سليمان الشيباني، سمع زر بن حبيش، عن عبد اللَّه قال: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى، قال رأى جبريل في صورته، له ست مائة جناح [ (2) ] . وذكره النسائي.
وللبخاريّ من حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه قال: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى قال: رأى رفرفا أخضر قد سدّ الأفق [ (3) ] . ذكره في التفسير. وفي كتاب بدء الخلق، ولفظه: رأى رفرفا خضرا سدّ أفق السماء [ (4) ] .
ولمسلم من حديث عطاء، عن أبى هريرة، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى قال:
رأى جبريل [عليه السلام][ (5) ] .
وله أيضا عن عطاء، عن ابن عباس رضى اللَّه [عنهما] قال: رآه بقلبه [ (6) ] . ولمسلم والنسائي من حديث الأعمش، عن زياد بن الحصين أبى جهمة، عن أبى العالية، عن ابن عباس [رضى اللَّه عنهما] ، ما كَذَبَ
[ (1) ](مسلم بشرح النووي) : 3/ 6، كتاب الإيمان، باب (76) في ذكر سدرة المنتهى، حديث رقم (281) .
[ (2) ](المرجع السابق) : حديث رقم (282) .
[ (3) ](فتح الباري) : 8/ 786، كتاب التفسير، تفسير سورة (53) ، باب لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى، حديث رقم (4858) .
[ (4) ](المرجع السابق) : 6/ 385، كتاب بدء الحلق، باب (7) إذا قال أحدكم: آمين، حديث رقم (3233) .
[ (5) ](مسلم بشرح النووي) : 3/ 7، كتاب الإيمان، باب (77) معنى قول اللَّه عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، وهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء؟ حديث رقم (283) .
[ (6) ](المرجع السابق) : حديث رقم (284) .
الْفُؤادُ ما رَأى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، قال رآه بفؤاده مرتين [ (1) ] .
وللبخاريّ من حديث ابن عون، قال: أنبأنا القاسم عن عائشة رضى عنها قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم [الفرية] ، ولكن قد رأى جبريل في صورته وخلقه سادا ما بين الأفق [ (2) ] . ذكره في بدء الخلق.
وللبخاريّ [ (3) ] ومسلم [ (4) ] من حديث زكريا، عن أبى الأشوع، عن عامر، عن مسروق قال: قلت لعائشة رضى اللَّه عنها: فأين قوله: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى* فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى؟ [ (5) ] قالت: ذاك جبريل، كان يأتيه في صورة الرجل وإنما أتاه هذه المرة، في صورته التي هي صورته، فسدّ الأفق. ذكره البخاري في كتاب بدء الخلق.
ولمسلم [ (6) ][والترمذي][ (7) ] ، من حديث إسماعيل بن إبراهيم بن علية، عن داود بن أبى هند، عن الشعبي، عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة رضى اللَّه عنها، فقالت:[يا أبا] عائشة، ثلاث من تكلم بواحدة منهن، فقد أعظم على اللَّه الفرية، فقلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمد
[ (1) ](المرجع السابق) : حديث رقم (285) .
[ (2) ](فتح الباري) : 6/ 385، كتاب بدء الخلق، باب (7) إذا قال أحدكم: آمين حديث رقم (3234) .
[ (3) ](المرجع السابق) : حديث رقم (3235) .
[ (4) ](مسلم بشرح النووي) : 3/ 14، كتاب الإيمان، باب (77) معنى قول اللَّه عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى وهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء؟ حديث رقم (290) .
[ (5) ] النجم. 9
[ (6) ](مسلم بشرح النووي) : 3/ 10- 12، كتاب الإيمان، باب (77) معنى قول اللَّه عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى وهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء، حديث رقم (287) .
[ (7) ](سنن الترمذي) : 5/ 245- 246، كتاب التفسير، باب (7) ومن سورة الأنعام، حديث رقم (3068) وفي آخره، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، ومسروق بن الأجدع يكنى أبا عائشة، وهو مسروق بن عبد الرحمن، وكذا كان اسمه في الديوان.
رأى ربه، فقد أعظم على اللَّه الفرية، قال: وكنت متكئا فجلست، فقلت:
[يا أم] المؤمنين! أنظريني، ولا تعجلينى، ألم يقل اللَّه عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ؟ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى؟ فقالت: إنا أول هذه الأمة،
سأل عن ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها، غير هاتين المرتين، رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض،
فقالت: أو لم تسمع أن اللَّه عز وجل يقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [ (1) ] ؟ أو لم تسمع أن اللَّه عز وجل يقول: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [ (2) ] ؟.
قالت: ومن زعم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب اللَّه، فقد أعظم على اللَّه الفرية، واللَّه عز وجل يقول: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [ (3) ] .
قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد، فقد أعظم على اللَّه الفرية، واللَّه عز وجل يقول: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [ (4) ] . اللفظ لمسلم. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ذكره في تفسير سورة الأنعام، وذكره النسائي في تفسير [سورة] النجم.
وذكر مسلم [ (5) ] بعقبه، حديث محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، حدثنا داود بهذا الإسناد نحو حديث ابن علية، وزاد، قالت: ولو
[ (1) ] الأنعام: 103.
[ (2) ] الشورى: 51.
[ (3) ] المائدة: 67.
[ (4) ] النحل: 65.
[ (5) ](مسلم بشرح النووي) : 3/ 13- 14، كتاب (الإيمان)، باب (77) معنى قول اللَّه عز وجل:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى وهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء، حديث رقم (288) .
كان محمد كاتما شيئا مما أنزل عليه، لكتم هذه الآية: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [ (1) ] .
وخرّجه النسائي بهذا الإسناد الأخير في كتاب التفسير كما قال مسلم، وخرّج أيضا من حديث ابن عليه، عن الشعبي، عن مسروق، قال: سألت عائشة رضى اللَّه عنها، هل رأى محمد ربه؟ فقالت: سبحان اللَّه! لقد قفّ شعرى لما قلت.. وساق الحديث بقصته، وحديث داود أتم وأطول [ (2) ] .
وخرّجه البخاري من حديث وكيع عن إسماعيل بن أبى خالد، عن عامرة عن مسروق، قال: قلت لعائشة رضى اللَّه عنها: [يا أمتاه] ! هل رأى محمد ربه؟ فقالت: لقد قف شعرى مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدثك بهن فقد كذب، من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ.
ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت: وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً، ومن حدثك أنه كتم فقد كذب، ثم قرأت: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، ولكن رأى جبريل في صورته مرتين. ذكره في تفسير سورة النجم [ (3) ] . وفي كتاب
[ (1) ] الأحزاب: 37.
[ (2) ](المرجع السابق) : حديث رقم (289) .
[ (3) ](فتح الباري) : 8/ 780، كتاب التفسير، تفسير سورة (53) سورة النجم، باب (1) حديث رقم (4855) .
قولها: «قف شعرى» أي قام من الفزع لما حصل من هيبة اللَّه واستحالة وقوع ذلك، قال النضر بن شميل: القف بفتح القاف وتشديد الفاء كالقشعريرة، وأصله التقبض والاجتماع، لأن الجلد
التوحيد [ (1) ]، في باب قول اللَّه عز وجل: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وفي تفسير سورة المائدة [ (2) ] ، وفي أول كتاب التوحيد [ (3) ]، في باب قول اللَّه: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً، لكن باختصار.
وخرج مسلم من حديث وكيع، عن يزيد بن إبراهيم، عن قتادة، عن عبد اللَّه بن شقيق، عن أبى ذر رضى اللَّه عنه، [قال] : سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال نور أنى أراه [ (4) ] .
ومن حديث همام عن قتادة، عن عبد اللَّه بن شقيق قال: قلت لأبى ذر:
لو رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لسألته، فقال: عن أي شيء كنت تسأله؟ قال:
كنت أسأله: هل رأيت ربك؟ قال أبو ذر: قد سألت فقال: رأيت نورا [ (5) ] .
وخرجه الإمام أحمد بهذا السند، ولفظه، قلت لأبى ذر، لو رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لسألته، قال: وما كنت تسأله؟ قال: كنت أسأله هل رأى ربه؟
قال: فإنّي قد سألته، فقال: رأيته نورا أنى آراه
. وقال: قال عفان: وبلغني عن ابن هشام- يعنى معاذ- أنه رواه عن أبيه كما قال همام: قد رأيته [ (6) ] .
[ () ] ينقبض عند الفزع فيقوم الشعر لذلك (فتح الباري) .
قولها: «أين أنت من ثلاث» ؟ أي كيف يغيب فهمك عن هذه الثلاث، وكان ينبغي لك أن تكون مستحضرها، ومعتقدا كذب من يدعى وقوعها. (فتح الباري) .
[ (1) ](فتح الباري) : 13/ 615، كتاب التوحيد، باب (46) قول اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، حديث رقم (7531) .
[ (2) ](المرجع السابق) : 8/ 349، كتاب التفسير، باب (7) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، حديث رقم (4612) .
[ (3) ](المرجع السابق) : 13/ 447، كتاب التوحيد باب (4) قول اللَّه تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً، حديث رقم (7380) .
[ (4) ]
(مسلم بشرح النووي) : 3/ 15، كتاب الإيمان، باب (78) قوله صلى الله عليه وسلم نور أنى أراه، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: رأيت نورا، حديث رقم (291) .
[ (5) ](المرجع السابق) : حديث رقم (292) .
[ (6) ](مسند أحمد) : 6/ 215، حديث رقم (20987) .
وله أيضا من حديث الأعمش، عن عمرو [بن] مرة، عن أبى عبيدة، عن أبى موسى قال: قام فينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: إن اللَّه عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور [ (1) ] .
وفي رواية أبى بكر بن أبى شيبة، عن أبى معاوية، عن الأعمش: النار لو كشفته لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه [ (2) ] .
ومن حديث جرير عن الأعمش بهذا الإسناد، قال: قام فينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات، ثم ذكر بمثل حديث أبى معاوية، ولم يذكر: من خلقه، وقال: حجابه النور [ (3) ] .
وخرّج البخاري من حديث سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس [رضى اللَّه عنهما] ، وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [ (4) ]، قال: هي رؤيا عين، أريها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به، وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ [ (4) ]، قال: شجرة الزقوم [ (5) ] .
[ (1) ](مسند أحمد) : 5/ 553، حديث رقم (19135) .
[ (2) ]
(مسلم بشرح النووي) : 3/ 16- 17، كتاب الإيمان، باب (79) في قوله صلى الله عليه وسلم: إن اللَّه لا ينام، وفي قوله: حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، حديث رقم (293) .
[ (3) ](المرجع السابق) : حديث رقم (294)، وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 5/ 536، حديث رقم (19036) .
[ (4) ] الإسراء: 60.
[ (5) ](فتح الباري) : 8/ 508، كتاب التفسير باب (9) وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ، حديث رقم (4716) .
قوله: «والشجرة الملعونة في القرآن قال: شجرة الزقوم» هذا هو الصحيح، ذكره ابن أبى حاتم عن بضعة عشر نفسا من التابعين، ثم روى من حديث عبد اللَّه بن عمرو أن الشجرة الملعونة: الحكم بن أبى العاص وولده، وإسناده ضعيف.
وخرّج الترمذي من حديث يحيى بن كثير العنبري، قال: حدثنا مسلم ابن جعفر، عن الحكم، عن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس [رضى اللَّه عنهما] قال: رأى محمد ربه، قلت: أليس اللَّه يقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ] ؟ قال: ويحك! ذاك إذا تجلى بنوره، الّذي هو نوره [وقال: أريه مرتين] [ (1) ] . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب [ (2) ] .
وقال يونس بن بكير: حدثنا عبد اللَّه بن لهيعة، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن، عن عروة عن عائشة، رضى اللَّه عنهما، أن نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم، كان أول شأنه يرى في المنام، فكان أول ما رأى، جبريل بأجياد، أنه خرج لبعض حاجته، فصرخ به: يا محمد! يا محمد! فنظر يمينا وشمالا، فلم ير شيئا، ثم نظر فلم ير شيئا، فرفع بصره، فإذا هو يراه ثانيا واضعا إحدى رجليه على الأخرى، على أفق السماء، فقال: يا محمد! جبريل، يسكنه، فهرب محمد صلى الله عليه وسلم حتى دخل في الناس، فنظر، فلم ير شيئا، ثم خرج من الناس، فنظر فرآه، فذلك قول اللَّه عز وجل: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * [وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى] .
[ () ] وأما الزقوم، فقال أبو حنيفة الدينَوَريّ في (كتاب النبات) : الزقوم شجرة غبراء تنبت في السهل، صغيرة الورق مدورته، لا شوك لها، زفرة، ولها نور أبيض تجرسه النمل، ورءوسها قباح جدا.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال: قال المشركون: يخبرنا محمد أن في النار شجرة، والنار تأكل الشجر، فكان ذلك فتنة لهم.
وقال السهيليّ: الزقوم فعول من الزقم، وهو اللقم الشديد، وفي لغة تميمية: كل طعام يتقيّأ منه يقال له: زقوم، وقيل: هو كل طعام ثقيل. (فتح الباري) .
[ (1) ] في (الأصلين) : «وقد رأى ربه مرتين» ، وما أثبتناه من (سنن الترمذي) .
[ (2) ](سنن الترمذي) : 5/ 386، كتاب تفسير القرآن، باب (53) تفسير سورة النجم، حديث رقم (3279) .
وقد اختلف سلف الأمة وخلفها، في رؤية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ربه تعالى ليلة الإسراء، بعد اتفاق جمهور أهل العلم، على أنه سبحانه وتعالى، يضح أن يرى، وقالت المعتزلة والفلاسفة: لا يصح أن يرى، وقالت الأشاعرة: يصح أن يرى، واحتج من أثبت الرؤية بقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ، وبقوله سبحانه: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ، وبقوله تعالى عن موسى عليه السلام: قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي.
ثم اختلف القائلون بجواز الرؤية، فذهب الأكثرون إلى جوازها في الدنيا، ومنهم من خصّها بالآخرة، وهو مذهب عائشة رضى اللَّه عنها، ونقل عثمان بن سعيد الدارميّ، إجماع الصحابة رضى اللَّه عنهم على قول عائشة في عدم وقوع رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، ربه تعالى ليلة الإسراء.
[وقد] اختلف القائلون بجواز الرؤية، فقالت [الكرامية] والمشبهة- خزاهم اللَّه-: رؤيته كرؤية غيره، بارتسام، واتصال، ومواجهة. وقالت الأشاعرة: معناها أن تحصل لنا حالة في الانكشاف والظهور، نسبتها إلى ذاته المخصوصة، كنسبة الحالة المسماة بالإبصار، والرؤية إلى هذه المرئيات.
فإذا تقرر ذلك فنقول: قد اختار إمام الأئمة محمد بن خزيمة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رآه سبحانه ببصره، وتبعه في ذلك جماعة من المتأخرين، وقد قال عبد اللَّه بن عباس رضى اللَّه عنه: أنه رآه بفؤاده، كما مرّ في رواية مسلم، وأنكرت عائشة رضى اللَّه عنها رؤية البصر، وإلى هذا مال جماعات من الأئمة قديما وحديثا، اعتمادا على حديث أبى ذرّ وأتباعا لقول عائشة رضى اللَّه عنها، وقالوا: وهذا مشهور عنها، ولم يعرف لها مخالف من الصحابة، إلّا ما روى عن ابن عباس [رضى اللَّه عنهما] ، أنه رآه بفؤاده، ونحن نقول به. وما روى من ذلك من إثبات الرؤية بالبصر، فلا يصح شيء
من ذلك، لا مرفوعا، ولا موقوفا.
وقال القاضي عياض: اختلف السلف والخلف، هل رأى نبيّنا صلى الله عليه وسلم ربه ليلة [الإسراء] ؟ فأنكرته عائشة [رضى اللَّه عنها] ، وجاء مثله عن أبى هريرة وجماعة، وهو المشهور عن ابن مسعود، وإليه ذهب جماعة من المحدثين والمتكلمين.
وروى عن ابن عباس أنه رآه بعينه، ومثله عن أبى ذر، وكعب، والحسن، وكان الحسن يحلف على ذلك، وحكى [مثله] عن ابن مسعود، وأبى هريرة، وأحمد بن حنبل، وحكى أصحاب المقالات عن أبى الحسن الأشعري، وجماعة من أصحابه، أنه رآه، ووقف بعض مشايخنا في هذا، وقال: ليس عليه دليل واضح، ولكنه جائز.
ورؤية اللَّه تعالى في الدنيا جائزة، وسؤال موسى عليه السلام إياها، دليل على جوازها، إذ لا يجهل نبيّ ما يجوز أو يمتنع على ربه تعالى، وقد اختلفوا في رؤية موسى عليه السلام ربه تعالى، وفي مقتضى الآية، ورؤية الجبل، جواب القاضي أبى بكر، ما يقتضي أنهما رأياه.
قال: وكذلك اختلفوا في قوله: ثُمَّ [دَنا] فَتَدَلَّى، والأكثرون على أن هذا الدنو والتدلي، مقسم بين جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم، أو مختص بأحدهما من الآخر، أو من السدرة المنتهى.
وذكر ابن عباس، والحسن، ومحمد بن كعب، وجعفر بن محمد، وغيرهم، أنه دنوّ من النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه تعالى، أو من اللَّه تعالى، وعلى هذا القول، يكون الدنوّ والتدلي منا ليس على وجهه، بل كما
قال جعفر بن محمد الصادق: الدنوّ من اللَّه تعالى، لا حدّ له، ومن العباد بالحدود،
فيكون معنى دون النبي صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه وتعالى، وقربه منه، ظهور
عظيم منزلته [لديه] ، وإشراق أنوار معرفته عليه، [وإطلاقه] من غيبه، وأسرار ملكوته، على ما لم يطلع سواه عليه.
والدنوّ من اللَّه تعالى، لهو إظهار ذلك له، وعظيم يده، وفضله العظيم لديه، ويكون قوله تعالى: قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى، على هذا عبارة عن لطف المحل، وإيضاح المعرفة، والإشراف على الحقيقة، من نبينا [صلى الله عليه وسلم] ، ومن اللَّه تعالى، إجابة الرغبة، وإبانة المنزلة، ونتناول في ذلك ما يتناول في
قوله صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى: من تقرب منى شبرا، تقربت منه ذراعا.
.. الحديث.
قال الشيخ محيي الدين أبو زكريا، يحيى النووي، رحمه الله: وأما صاحب التحرير، فإنه اختار إثبات الرؤية، قال: والحجج في هذه المسألة، وإن كانت كثيرة، لكنا لا نتمسك إلا بالأقوى منها، وهو حديث ابن عباس رضى اللَّه عنه: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم. وعن عكرمة، سئل ابن عباس: هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم [ربه] ؟
قال: نعم.
وقد روى بإسناد لا بأس به، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس رضى اللَّه عنه، قال: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه. وكان الحسن يحلف: لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه. والأصل في الباب، حديث ابن عباس حبر الأمة، والمرجوع إليه في المعضلات، وقد راجعه ابن عمر رضى اللَّه [عنهما] في هذه المسألة [وقد سأله:] هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فأخبره أنه رآه، ولا يقدح في هذا حديث عائشة رضى اللَّه عنها، لأن عائشة [رضى اللَّه عنها]، لم تخبر أنّها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لم أر ربى، وإنما ذكرت ما ذكرت، متأولة لقول اللَّه تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ والصحابي إذا قال قولا وخالفه غيره، لم يكن قوله حجة، وإذا صحّت
الروايات عن ابن عباس في إثبات الرؤية، وجب المصير إلى إثباتها، فإنّها ليست مما يدرك بالعقل، ويؤخذ بالظن، وإنما تلقى بالسماع، ولا يستجيز أحد أن يظن بابن عباس، أنه تكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد.
وقد قال معمر بن راشد حين ذكر اختلاف عائشة وابن عباس: عائشة ليست عندنا بأعلم من ابن عباس، ثم إن ابن عباس أثبت شيئا نفاه غيره، والمثبت مقدم على النافي.
قال النووي: فالحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء، لحديث ابن عباس وغيره مما تقدم، إثبات هذا لا يأخذونه بالسماع من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، هذا مما لا ينبغي أن يتشكّك فيه، ثم إن عائشة رضى اللَّه عنها، لم تنف الرؤية بحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولو كان معها فيه حديث لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط من الآيات، وسنوضح الجواب عنها.
فأما احتجاج عائشة [رضى اللَّه عنها] بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، فجوابه ظاهر، فإن الإدراك هو الإحاطة، واللَّه تعالى لا يحاط به، وإذا ورد النصّ بنفي الإحاطة، لا يلزم منه نفى الرؤية بغير إحاطة، وأجيب عن الآية بأجوبة أخرى، لا حاجة إليها مع ما ذكرناه، فإنه في نهاية من الحسن مع اختصاره.
وأما احتجاجها بقوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ، فالجواب عنه من أوجه:
أحدها: أنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حالة الرؤية، فيجوز وجود الرؤية من غير كلام.
الثاني: أنه عام، مخصوص بما تقدم من الأدلة.
الثالث: ما قاله بعض العلماء: أن المراد بالوحي، الكلام من غير واسطة، وهذا الّذي قاله هذا القائل، وإن كان محتملا، ولكن الجمهور على أن المراد بالوحي هنا، الإلهام والرؤية في المنام، وكلاهما سمّى وحيا.
وأما قوله تعالى: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، فقال الواحدىّ وغيره: معناه غير مجاهر لهم بالكلام، بل يسمعون كلامه سبحانه وتعالى من حيث لا يرونه، وليس المراد أن هناك حجاب يفصل موضعا عن موضع، ويدل على تحديد المحجوب، فهو بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب، حيث لم ير المتكلم، واللَّه أعلم. انتهى.
قال كاتبه-[عفى اللَّه عنه]-: قد تحصّل مما تقدم أن في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه رآه ببصره وعيني رأسه، وهو قول أنس بن مالك، وعكرمة، والربيع، وحكاه بعضهم عن عبد اللَّه بن مسعود، وهو المشهور عن عبد اللَّه ابن عبد اللَّه بن عباس، وحكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة: هل رأى محمد ربه؟ قال: نعم. وحكى النقاش عن الإمام أبى عبد اللَّه أحمد ابن محمد بن حنبل، أنه قال: أنا أقول بحديث ابن عباس بعينه رآه- رآه حتى انقطع نفسه، يعنى نفس أحمد بن حنبل- وإلى هذا ذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري، وجماعة من المتكلمين، أنه رأى اللَّه سبحانه ببصره، وعيني رأسه.
الثاني: أنه رآه بفؤاده وقلبه لا بعينه، وقد روى ذلك عن عبد اللَّه بن عباس، وأبى ذر، وإبراهيم التيمي، وأبى العالية، والربيع بن أنس، وحكى عن عكرمة، وقاله أحمد بن حنبل، قال: رآه بقلبه، وجبن عن القول
برؤيته تعالى في الدنيا بالأبصار، وعن الإمام مالك بن أنس قال: لم ير في الدنيا لأنه باق، ولا يرى الباقي بالفاني، فإذا كان في الآخرة، رزقوا أبصارا باقية، رأوا الباقي بالباقي.
قال القاضي عياض: وهذا الكلام حسن مليح، وليس فيه دليل على الاستحالة، إلا من حيث ضعف القوة، فإذا قوّى اللَّه تعالى من يشاء من عباده، وأقدره على القيام بأعباء الرؤية، لم يمتنع في حقه.
وقال القاسم أبو عاصم، محمد بن أحمد العبادىّ، في قول ابن عباس وغيره، رآه بقلبه: وعلى هذا رأى ربه رؤية صحيحة، وهي أن اللَّه تعالى جعل بصره في فؤاده، وخلق لفؤاده بصرا حتى رأى ربه رؤية صحيحة، كما ترى العين.
وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد: ومعنى الآية- يعنى قوله: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى - أن الفؤاد رأى شيئا فصدق فيه ما رأى، أي ما كذب الفؤاد مرئيه، وقرأ أبو عامر: ما كَذَبَ بالتشديد، قال المبرد:
معناه أنه رأى شيئا فقبله.
قال الواحدي: وهذا الّذي قاله المبرد على أن الرؤية للفؤاد، فإن جعلها للبصر فظاهر، أي ما كذّب الفؤاد ما رأى البصر، واللَّه أعلم.
الثالث: أنه إنما رأى ليلة الإسراء جبريل، ولم ير رب العزة تعالى، وهو مذهب عائشة، وعبد اللَّه بن مسعود، ويروى عن أبى هريرة، وأبى ذر، رضى اللَّه عنهم.
فظهر مما تقدم، أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام ليلة الإسراء على صورته، وكان قد رآه قبل ذلك في ابتداء الوحي، منهبطا من السماء إلى الأرض، على الصورة التي خلق عليها، وهو المعنيّ بقوله: عَلَّمَهُ شَدِيدُ
الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى * ثُمَّ [دَنا] فَتَدَلَّى* فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى، فالصحيح من قول المفسرين: أن المتدلى في هذه الآية، هو جبريل،
كما أخرجاه في الصحيحين عن عائشة، أنها سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:[ذلك] جبريل،
فقد قطع هذا الحديث النزاع و [أزاح] الإشكال، [واللَّه الحمد] .